في كتابه “تطور المجتمع السوري 1831 – 2011″، الصادر موخراً عن “دار أطلس للنشر والترجمة” في بيروت، يقدّم الكاتب السوري نشوان الأتاسي قراءةً في التاريخ السياسي والاجتماعي لسوريا عند نشأة كيانها ثم دولتها بعد انهيار السلطنة العثمانية وقيام الانتداب الفرنسي وما رافق ذلك من مفاوضات وانتفاضات أفضت حدوداً واستقلالاً وطنياً، محاولاً تقريب تاريخ سوريا الحديث إلى القراء دفعة واحدة بأحداثٍ متسلسلة كثيفة مترابطة على مدى قرن ونصف دون محاولات لإخفاء حقائق أو أدلجتها، عبر تشخيصٍ دقيقٍ للتحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي مرّت بها سوريا وقاطعها مع التاريخ وعلم الاجتماع السياسي.
يرصد نشوان الأتاسي (مواليد حمص عام 1948، والمقيم حالياً في باريس)، في كتابه الأول، الذي وضعه في العام 2013 واستغرق تحريره حوالي العام والنصف ليرى النور في أيلول 2015، يرصد التطوّرات التي طرأت على المجتمع السوري سياسياً واجتماعياً بين أربعينات القرن الماضي وبدايات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، مقدّماً محاولة هي الأولى ربّما لكاتب سوري للخوض في تاريخ سوريا الحديث بمراحله المختلفة وصولاً إلى مرحلة حكم حزب البعث والرئيسين الأسد الأب والأبن، وانتهاءً باندلاع ثورة السوريين في منتصف آذار 2011.
وفي (375 صفحة) يستعرض المؤلف أهم الاستراتيجيات التي أسست تناقضات وبؤر الانفجار في المجتمع السوري بما فيها تشويه العلاقة بين المدينة والريف والخلافات المذهبية والطائفية والإشكاليات المناطقية دون إهمال هيمنة العنصر الاقتصادي والصراعات الطبقية.
أربع حقبات زمنية وسياسية..
يبين الكاتب والباحث السياسي اللبناني زياد ماجد، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأمريكية بباريس، في توطئته للكتاب أن الأتاسي قسم دراسته إلى أجزاء أربعة.
جاء الجزء الأول تأسيسياً، ينطلق بعد تمهيد تاريخي من أحداث النصف الثاني من القرن التاسع عشر اللاحقة لحملة إبراهيم باشا على سوريا، ليصل إلى الحرب العالمية الأولى ثم الثورة العربية (1916) اللتين ستُخرجان سوريا من السلطنة العثمانية المتهالكة.
أما الجزء الثاني فيخوض في تطوّر المجتمع السوري بين حدثَين: حدث وصول فيصل ومحاولته تأسيس دولته في دمشق ثم هزيمته أمام الفرنسيّين وبسط سلطة انتداب الأخيرين، وحدث نهاية الانتداب وجلاء القوات الفرنسية عن سوريا المستقلة العام 1946.
وفي الجزء الثالث يعالج الأتاسي العناوين الأعرض للتاريخ السوريّ الحديث، أي التالي على استقلال 1946، حيث تحضر في المقدّمة الانقلابات العسكريّة، من حسني الزعيم في 1949 إلى حافظ الأسد في 1970. مبرزاً أهم المواضيع المتّصلة بالحياة السياسية السورية وبأحوال المجتمع بين ما يعتبره “انتدابين”، الانتداب الفرنسي الآفل و”الانتداب البعثي” المقبل العام 1963.
ووفقاً للباحث اللبناني فإن مؤلف الكتاب تعامل في دراسته مع التاريخ السوري بوصفه “ملكاً للسوريين”، فهو (الأتاسي) يخرق الحظر المسدل على رواية الأحداث منذ العام 1970 من خارج سير النظام الرسمية، أي تلك النافية لوقائع والمستبدلة إياها بأخرى مخترعة أو محورة لتناسب المشروعية المراد كسبها، وهو يعيد الاعتبار إلى مرحلة من التاريخ (لاسيما مرحلة الخمسينات) وهو في كل ذلك يضيف إلى المراجع العربية أو المكتوبة لمؤرخين عرب واحداً تغطي صفحاته المدى التاريخي الأرحب بعد أن كانت أعمال أسلافه ألبرت حوراني وفيليب خوري وحنا بطاطو وكمال ديب وآخرين معنيّة بحقبات سابقة أو متخصّصة ومتوسّعة في مراحل محدّدة.
ويأتي نصّ الأتاسي بالتالي كنصّ جديد يبني على ما سبقه، ويكمل كرونولوجيّاً الفراغات والنواقص متعرّجاً في التحليل وفي المقارنات ليُبيّن الأبعاد الداخلية والخارجية للأحداث، وليقابل بين الدولة والمجتمع وجدليّات علاقاتهما ونزاعاتهما في منطقة “شرق أوسطية” حبلى بالأزمات، وفي سياق دولي من الحرب الباردة ثم من العالم الأحادي القطبية.
ويبين الكاتب السوري في هذا الجزء (الثالث) بتحليل عميق، الاصطفافات والتحالفات وأدوار الجيش وبعض الأحزاب أو التيارات الرئيسية والزعامات الوطنية والمحلية. وكيف هيمن حزب البعث على المجتمع والدولة والسلطة، هيمنة وصفها الكاتب بأنها “انتداب ثان”، قضى على التعدّد السياسي والتجربة الليبرالية التي عاشتها سوريا في الخمسينات قبل أن توهنها الانقلابات العسكرية، وكذلك على تجربة الوحدة مع مصر التي قضى عليها النظام البعثي.
أما الجزء الرابع والأخير فخصصه الأتاسي لدراسة “العصبية والدعوة والمُلك” بوصفها دعامات حزب البعث وقوام نشاطه وتنظيمه المُفضي بعد انقلابه العسكري سيطرةً على سوريا و”قيادةً للدولة والمجتمع فيها” لغاية العام 2011 تاريخ بدء الثورة الشعبية ضدّه.
كما يستعرض الكاتب مرحلة حكم الرئيس حافظ الأسد وتأثيره على الحرب الأهلية اللبنــانية، وعــلاقته بإيران، والاتحــاد السوفييتي ومن بعده روسيا، ومن ثمّ تطييفه الجيش والأمن، وصراعه مع أشقائه على السلطة وتأهيله لأولاده لوراثة الحكم، وهذه المرحلة بالذات هي من المراحل التي حاول الكثير من الكتّاب السوريين تجنبها، غير أن الأتاسي خاض فيها وفي وقائعها بتوسع معرّجاً على الخمس عشرة سنة من حكم ابنه بشار الأسد، ومن ثمّ إلى السنتين الأخيرتين من الثورة السورية وتشكيل تنسيقياتها وتياراتها السياسية وعسكرتها. دون أن يفوته تناول استراتيجية حافظ الأسد المستندة إلى جعل عدد كبير من مضموني الولاء ينتسبون إلى البعث، وتزيينه الحكم بما عرف بـ(الجبهة الوطنية التقدمية)، وإقراره لدستور منحه صلاحيات تنفيذية وتشريعية وقضائية كافة، جعلت منه شخصياً حاكماً بأمره. وكيف حوّل تدريجياً البلاد في عهده إلى “دولة أمنية” تسيطر عليها فروع الاستخبارات وقوات الوحدات العسكرية الرديفة للجيش النظامي، كالحرس الجمهوري والوحدات الخاصة.
وفي هذا المبحث اعتمد المؤلف المنهج “الخلدوني” في مقاربة الحقبة البعثية، من خلال اعتبار العصبية مدخلاً لفهم الولاءات والخصومات والتضامن داخل دوائر حزب البعث وقيادته وداخل الطائفة العلوية.
كما وثقت صفحات الكتاب لمحاولات تأسيس منتديات للمجتمع المدني وحلم البعض من المثقفين بترسيخ حرية الرأي والتعبير، وكيف وأد بشار الأسد هذه المحاولات.
كذلك يستعرض الكتاب علاقة نظام الأسد الأب السلطوية الإملائية ما بعد حكم البعث بالمنظمات الفدائية الفلسطينية، ورفعه شعار “الصمود والتصدي والتوازن مع العدو الصهيوني” كعنصر من عناصر شرعيته، متطرقاً في هذا الصدد إلى مفاوضات السلام مع “إسرائيل”، وموقف الرئيس حافظ الأسد من اجتياح العراق للكويت وحرب الخليج، والتحسن السريع في العلاقة السورية التركية زمن الأسد الابن ومن ثمّ انهيارها بنفس السرعة.
كما يتعرض الأتاسي لـ”ورطة” اغتيال الحريري في لبنان التي أجبرت القوات السورية على الخروج منه والقيام بتغييرات عسكرية داخلية أطاحت بالرعيل الأول لتستقدم شريحة جديدة أكثر فساداً وطائفيةً، وكيف أن كل المحاولات للانفتاح على المجتمع الدولي باءت بالفشل.
إماطة اللثام عن قصة اغتيال المالكي..
من أهم القصص التي أماط الأتاسي عنها اللثام في كتابه هذا، قصة اغتيال الضابط السوري عدنان المالكي في منتصف خمسينات القرن الماضي. كاشفاً في الصفحتين (214 – 215) من الكتاب تفاصيل القصة الحقيقة –كما يدعي- والتي يرويها لنا على النحو التالي: “كانت إحدى نتائج الإطاحة بالشيشكلي إعادة بعض الضباط الذين سرّحوا من الخدمة في عهده، وكان أبرزهم عدنان المالكي، حيث تم تكليفه بمنصب معاون رئيس هيئة الأركان. وفي شهر نيسان 1955، وأثناء حضوره لمباراة في كرة القدم، قام رقيب في الشرطة العسكرية يدعى يونس عبد الرحيم (علوي) باغتياله، وعلى الفور قام شرطي آخر (علوي) بإطلاق النار على عبد الرحيم فأرداه قتيلاً، وبذلك طُمست معالم الجريمة ولم تُعرف دوافعها. لكن حزب البعث اعتبر اغتيال المالكي ضربة موجهة له على اعتبار أنه كان صديقاً لهم، كما كان شقيقه رياض عضواً في الحزب، لكن عدنان نفسه لم يكن بعثياً.
كان ممن شاركوا في عملية الاغتيال ثلاثة من عناصر الشرطة، أحدهم الرقيب محمد مخلوف (شقيق زوجة الرئيس السابق حافظ الأسد وخال الرئيس الحالي بشار، ووالد رجل الأعمال السوري الذائع الصيت رامي مخلوف). ولما كان الثلاثة أعضاء في الحزب القومي السوري الذي كان يسعى لإلحاق سورية بحلف بغداد، فقد اُعتبر الاغتيال جزءاً من محاولة عراقية لقلب نظام الحكم في سورية. كما وجهت التحقيقات أصابع الاتهام إلى زعيم الحزب الذي خلف أنطون سعادة، اللبناني جورج عبد المسيح، لأن حزبه كان قد وجه سابقاً اتهاماً للمالكي بأنه كان وراء تسريح رفيقهم المقدم غسان جديد (الشقيق الأكبر لصلاح جديد، عضو اللجنة الخماسية العسكرية البعثية، والرجل الأول في سورية بين عامي 1966 و1970)، وكان المالكي قد سرّحه فعلاً متهماً إياه بالتعامل مع الأميركيين. وعلى هذا شُنّت حملة تصفيات واسعة ضد الحزب أدت إلى انتهاء دوره ووجوده في سورية، وحُظر الحزب قانونياً، كما حُكم على مخلوف بالسجن المؤبد ولم يُفرج عنه إلا إثر انقلاب البعث عام 1963. وجرى اغتيال غسان جديد في بيروت. وبذلك تمكن البعثيون من التخلص نهائياً من أكثر منافسيهم خطورة على الساحة السياسية والعقائدية في سورية.
وقد ظهرت لاحقاً نتائج تحقيقات متعددة، نفت ضلوع الحزب في عملية اغتيال المالكي، وعزتها إلى المخابرات المصرية، في إطار الصراع بين العراق من جهة ومصر والسعودية من جهة أخرى. كما أن الحزب نفسه نفى بشدة ضلوعه في العملية واعتبرها ذريعة لتصفيته سياسياً وتنظيمياً. وفي مطلق الأحوال، فقد أدت العملية، وبغض النظر عن هوية مدبريها الفعليين، دورها كاملاً، بحيث أطلقت يد البعث في توجيه السياسة السورية، بتعاون – مرحلي – مع الحزب الشيوعي”.
وقد قسّم الأتاسي في سياق اطروحاته، الحقبة البعثية إلى مراحل ثلاث: مرحلة محمد عمران (1963 – 1966)، فمرحلة صلاح جديد (1966 – 1970)، ثم مرحلة حافظ الأسد الذي خلفه ابنه بشار (2000 – حتى يومنا هذا). مستعرضاً كيف تخلّلت هذه المراحل تبدّلات في القيادة البعثية وفي الهويات المناطقية والطائفية للضباط البعثيين، كما تخلّلتها حربا العام 1967 و1973 مع “إسرائيل” وجرى خلالها اجتياح لبنان وتطوير تحالفات إقليمية مع إيران. ومع انتهاء الحرب الباردة وسقوط الحليف السوفياتي، تبدّلت بعض أدوار سوريا الخارجية وبدأت التحوّلات الاقتصادية داخلها، واستُبدلت لاحقاً القيادات السياسية بأُخرى أكثر ارتباطاً بالعائلة بعد توريث بشار الحكم العام 2000. فحكَم الأخير عقداً من الزمن قبل أن تبدأ الثورة على حكمه في أول العقد الثاني وتفتتح تاريخاً جديداً.
وتجدر الاشارة إلى أن الكاتب نشوان الأتاسي، ضمّن كتابه مجموعة من الملاحق (ديمغرافية وجغرافية واقتصادية)، حاشداً مراجع مهمّة وحواشي غنية بالتفاصيل والمعطيات، مستنداً على كم كبير من المراجع والأبحاث ومذكرات عدد من السياسيين السوريين الراحلين الذين كان لهم أثر كبير في الحياة العامة السورية، من أمثال خالد العظم وأكرم الحوراني وبشير العظمة.