مآلات التغريبة الفلسطينية

by | Jun 20, 2024

دعونا من البديهية القانونية والإنسانية والأخلاقية في حق الشعوب في مكافحة المحتلين، وبالتالي دعونا من المبررات القانونية والسياسية والعسكرية والأخلاقية لطوفان الأقصى. ولنسلِّم جدلاً بالرواية الصهيوأمريكية بأن طوفان الأقصى كان البداية وأن الفلسطينيين هم الذين باشروا في الإثم والعدوان. وإن من حق الدولة السامية البريئة والمسالمة، أن تدافع عن نفسها، وأن تعاقب المعتدين، وتسترد الأسرى الإسرائيليين، ولأن الفلسطينيين هم المعتدون – حسب هذه الرواية – فإن البادئ أظلم، والصاع يجب ان يرد لهم صاعين. لكن ما حدث يفوق أي منطق حسابي، لأن الصاع يُرد هنا ألف صاع، بلا وازع من قانون أو ضمير.

وطالما أن الأمر متعلق بالعم سام، ورأس ماله الذي يُغرِق الغرب ويتحكم بقراراته، فلا راد لأمره، ولا اعتراض على حكمه، ولا على جرائمه، لذا رأينا مواقف معظم الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية، على قلب رجل واحد في دعمها المُخجل للمحتل.

أعلنت إسرائيل منذ البدء أهداف الحرب، وهي القضاء نهائياً على حماس وعلى كل من شارك بالقتال ضدها، وحينما أعطى الغرب لها الحرية التامة والحق التام في الدفاع عن النفس، عبَّرت الدوائر الإسرائيلية بأن أهداف الحرب مسح غزة عن الخريطة، وقتل الغزيين عن بكرة أبيهم، أو ترحيلهم إلى سيناء، أو رميهم في البحر. كل هذا عمل أخلاقي غايته النبيلة هي الدفاع عن النفس، ليس ضد بشر عاديين، بل ضد وحوش بشرية، مأساة الهنود الحمر بالقارة الأمريكية تتكرر هنا في غزة، ليس فقط على مرأى العالم الحر والديمقراطي والإنساني، بل بدعم مباشر من هذا العالم عبر إرسال آلاف الأطنان من أحدث الأسلحة الفتَّاكة، وفي دعم لوجستي ومخابراتي وعملياتي من قِبَل أعظم دول العالم.

والمضحك المبكي أن أمريكا التي تتسيَّد العالم الحر والديمقراطي، لم يكن أمامها لكي تستمر بمسرحية الديمقراطية والإنسانية، إلا أن تعتمد تكتيكاً مفاده: تقديم كل أنواع الأسلحة والدعم العسكري لإسرائيل، مقابل تقديم كيس من الطحين أو خيمة ورغيف خبز للفلسطينيين، يا لها من نزاهة وحيادية، السلاح مقابل الخبز، إنه المكيال الواحد  للولايات المتحدة الأمريكية، المكيال الواحد الذي تحدث عنه وزير خارجيتها، هكذا من دون أن يشعر بأي حرج أو خجل، ولا أقول عذاب ضمير، ففاقد الشيء لا يعطيه. أمريكا لا تكيل بمكيالين، هذه حقيقة، لكن هذا المكيال يكيل بالقمح للصهاينة، وبالعلقم للفلسطينيين.

والمضحك المبكي أيضاً، أنه يتم التسويق لجيش الاحتلال المغوار بأنه جيش أخلاقي، وأن حربه في غزة هي حرب نبيلة ومقدسة، فمن جهة مقدسة فهي كذلك لأن دولة الاحتلال برمتها، قامت وتقوم على مغالطات تلمودية، وتحريفات وتأويلات توراتية، قائمة ابتداءً على أساس ديني عنصري. ولا تتجلى حربهم النبيلة إلا في مسح غزة عن وجه الأرض، وفي عدد شهداء تجاوزوا ثمانية وثلاثين ألفاً، وجرحى زادوا عن ثمانين ألفاً، إضافة إلى تدمير المستشفات، كما لم يحدث في التاريخ، وأخيراً قصف و حرق الخيام وقتل وجرج العشرات النازحين. الأمر الذي يدل دلالة رفيعة المستوى على درجة النبل والشرف المفقودين أساساً، وإنما البيِّنة على من ادعى بدون خجل أو وجل.  

والملفت أن شيئاً من الأهداف المعلنة من الحرب، من قِبل حكومة الاحتلال لم يتحقق، فلم يستطع جيش الاحتلال أن يحرر أسيراً واحداً بالقوة، وما تم تحريره بالمفاوضات كان يمكن تحريره حتى بدون حرب، وقد أعلن الفلسطينيون استعدادهم لذلك قبل بدء الحرب، لكن حتى لو أطلق الفلسطينيون الأسرى قبل الحرب، كانت إسرائيل ستشن حربها، لأن طوفان الأقصى أفقد دولة الاحتلال هيبتها،  فكان لا بد من استعادة هذه الهيبة، وهذا يستلزم – حسب الاعتبارات الاسرائيلية – نصراً يقضي على حماس وربما على كل الغزيين أو الفلسطينيين، وأهمية تحرير الأسرى كانت تأتي لاحقاً، وربما أخيراً، وإن كان يتم الإعلان خلافاً لذلك. وما يؤكد ذلك هو عدم جدية إسرائيل في المفاوضات من أجل تحرير الأسرى. ولعمري أن حكومة نتنياهو ونتنياهو شخصياً يتمنى لو مات جميع الأسرى لكي يخسر الفلسطينيون ورقة ضغط في المفاوضات.   

الدعم اللامحدود الذي تلقاه الصهاينة من الغرب، دفعهم للغطرسة والتمسك بخيار عدم إيقاف الحرب، لكن هذه الغطرسة لم تكن بلا ثمن، وثمن ذلك هو فقدان وخسارة أعداد تفوق عدد الأسرى المراد تحريرهم، وفشلهم في تحقيق أي هدف، فلم يحقق الاحتلال في غزة هدفاً إلا قتل الشعب الأعزل، وكل انتصاراته إنما هي أوهام يسطرها الإعلام المضلل. منذ الأيام الأولى للحرب أعلن الاحتلال تحرير شمال غزة ثم وسطها، ومع ذلك كل يوم نسمع عن عمليات بطولية لأبطال غزة في الشمال والوسط، ثم وبعد عجز نتنياهو عن تحقيق أي نصر حقيقي، أراد أن يصنع نصراً وهمياً، فراح يعلن أن حربه ستتكلل بالنصر المطلق في رفح، في غباء منطقي وعسكري، حيث أراد إيهام العالم بأنه انتصر بغزة ولم يتبقَ إلا رفح، في حين أن جيشه المغوار لم يتمكن من حسم المعركة في شبر واحد من قطاع غزة.      

أما بخصوص المواقف الدولية، فقد تغيَّرت نسبياً من الحرب، وصورة إسرائيل حمامة السلام التي تدافع عن نفسها، لم تعد تنطلي على أكثر دول العالم، باستثناء الموقف الأمريكي المتماهي أساساً مع دولة الاحتلال، ومسرحية الخلافات الأمريكية الإسرائيلية لم تعد تنطلي على أحد. الموقف الأمريكي لم تغيّره عشرات الآلاف من القتلى والجرحى الفلسطينيين، ولم تغيره قرارات الجنائية الدولية، التي ورغم أهميتها فقد ساوت بين الضحية والجلاد، كما لم يتغيَّر تحت وطأة المواقف العربية الضاغطة، لأنها بالأساس مواقف هزيلة لم ترتقِ  لمستوى الفاجعة الحقيقية، لا شعبياً ولا رسمياً. وما يؤكد ذلك هو مواقف بعض الدول غير العربية، ابتداءً بالمبادرة الرائعة من جنوب أفريقيا في الجنائية الدولية، مروراً بالمظاهرات الطلابية، وصولاً إلى اعتراف بعض الدول الأوربية بالدولة الفلسطينية.

لكن ثمة سؤالاً يكشف عن سخرية الواقع العربي شعبياً وسياسياً، فعلى المستوى السياسي لماذا لم تتقدم الدول العربية، أو دولة واحدة منها، إلى الجنائية الدولية بدلاً من جنوب أفريقيا أو معها ؟ هل جنوب أفريقياً أقرب إلى الفلسطينيين من العرب ؟ أم أن استقلال القرار السياسي لساسة جنوب أفريقيا، قد كشف العجز والتبعية لدى أنظمتنا العربية. لماذا لم تجرؤ دولة عربية واحدة، على الاعتراف الرسمي بالدولة الفلسطينية، كما فعلت إسبانيا والنروج وأيرلندا ؟ واكتفى البعض من العرب بالشكر والتقدير والإعجاب بما فعلته تلك الدول الأوربية. كإشارة إلى الموافقة الضمنية من قِبل الأنظمة العربية، على قيام الدولة الفلسطينية. الحق ينبغي أن نشكر الدول العربية على هذه النية الطيبة، وعلى هذه الشجاعة في الدعم الضمني للقضية الفلسطينية !!، حيث لم ولن نتوقع منهم أكثر من ذلك. ونرجو أن يكونوا قد تعلموا الدرس من أبطال غزة الذين أذلوا كبرياء الكيان الذي لا يقهر.

أما على الصعيد الشعبي، فإن الجماهير العربية، تحديداً الطلابية منها، خذلت هي أيضاً الفلسطينيين، فلماذا تشهد جامعات الولايات المتحدة الأمريكية  وأوروبا مظاهرات مستمرة واعتصامات داعمة للفلسطينيين، في حين يكتفي طلابنا وجماهيرنا بدعم الفلسطينيين على الفيس بوك ومواقع التواصل الاجتماعي، وبتجمعات خجولة يوم الجمعة نتيجة احتشادهم التلقائي للصلاة.           

وعلى كل حال فإن ما تلقاه الفلسطينيون وما سيتلقونه من دعم  لم يكن ليحدث لولا البطولة الأسطورية للشعب الفلسطيني، فبعد ثمانية أشهر، ما يزال أبطال غزة يسطرون ملاحم بطولة أسطورية، كل شيء هالك إلا شجاعة وبطولة قوم كنا منذ عهد قريب، نظن أنهم خاملون يائسون، لكنهم كانوا كنار تحت رماد، ما لبثت أن شبت فألهبت وأبهرت عقولنا وقلوبنا، وأشعلت حدائق الغازين وجناتهم الموعودة كذباً وزوراً، وقد أقامها هؤلاء العابرون، القادمون إلينا من شتات المعمورة، راسمين صورة للقدر الجائر.

المشهد الفلسطيني رغم كل سوداويته، وكل الخسائر والنكبات، يمكن أن نقرأه إيجابياً على أكثر من صعيد، فطوفان الأقصى يمثِّل أقسى انتكاسة عسكرية تتعرض لها دولة الاحتلال باعترافات قادتها ومسؤوليها، ما فعله أبطال غزة في أيام، لم تفعله جيوش كاملة على مدار عقود، كل يوم وحصاد طوفان الأقصى يزيد،  ونحن على موعد مع الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ولعمري لو لم يحصد الفلسطينيون غير قيام دولتهم، تحت أي شرط أو رهان، لكفاهم ذلك عوضاً عن التغريبة الفلسطينية. 

مواضيع ذات صلة

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

 "كنت أحلم بلوحةٍ تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، لوحة تستطيع تجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفل الافتتاح لأي معرض". ربما توضح تلك الكلمات، وهي للفنان نذير نبعة، مدى تبنيه وإخلاصه للفن، الذي كان رفيق دربه لأكثر من ستين عاماً، فهو الفنان الذي...

مواضيع أخرى

مهن سوريّة تُبعث من رمادها

مهن سوريّة تُبعث من رمادها

للعمل الحرفي في سوريا - سيما العاصمة دمشق – مكانة خاصة وتاريخ قديم يذهب بنا عميقاً في ردهات الزمن، حِرف أصبحت مع الوقت وجهاً من وجوهِ دمشق، وسوراً من أسوارها، وعطراً لاذعاً تفوحُ مقتنياته من زوايا بيوتها الدافئة كما تفوح روائحُ التوابل من أسواق ساروجة ومدحت باشا، شأن...

الحرية وأطيافها المشعة في رواية “زهر القطن” لخليل النعيمي

الحرية وأطيافها المشعة في رواية “زهر القطن” لخليل النعيمي

في بادية مترامية الأطراف لا تلحظ بداية لها أو نهاية يستشعر خليل النعيمي جماليات الحياة العفوية والفطرية في بيئة قاحلة وجافة، إذ يراها مزركشة بالشمس والندى والهواء في روايته العاشرة "زهر القطن" الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، بسرد يحاكي السيرة الذاتية...

سوريا: صحة الفم والأسنان ليست على قائمة الأولويات

سوريا: صحة الفم والأسنان ليست على قائمة الأولويات

على مدار سنوات، عانت دليلة (68 عاماً- ريف دمشق) من تسوس ونخر ظاهرين في عدد من أسنان الفكين السفلي والعلوي، مع ذلك لم تقدم على زيارة الطبيب بسبب تردي الوضع المادي للعائلة، غير أنها قررت أخيراً الخضوع لسلطة الأمر الواقع نتيجة ألم مباغت في ضرس سفلي مكسور، بقي جذره عالقاً...

تدريباتنا