تدريباتنا

“ماويّة” حكايات اليباب الشاسع ومتعة السرد المزدوج

by | Sep 3, 2024

“قصص في اتجاه واحد” عنوان فرعيّ أرفقه القاص أنس ناصيف بالعنوان الرئيس “ماويّة”. وماويّة، بحسب الكاتب، قرية تقع شرق مدينة سلميّة في محافظة حماة. وبحسب معرفتي، فإنّ مفردة ماويّة باللهجة العاميّة، تطلق في مناطق من الريف السوريّ، لوصف كلّ ما هو نديّ ورطب، وكأنّ فيه ماء. وقصص هذه المجموعة_ منشورات المتوسّط، إيطاليا 2024_ تنبع من ماويّة، ثمّ تمضي في اتجاه واحد، وهو مصير هذه القرية في الحرب السوريّة الراهنة.

ماويّة المكان الرئيس الحاضر دائماً، حيث يرصد أنس ناصيف في متوالية قصصيّة سيرورة عديد من أهلها وصيرورتهم، قبل الحرب وانتهاء بها. في هذه المتوالية تتوافر الأحداث، وتتكاثر الشخصيّات بين عابرة وثابتة، يتكرّر حضور بعضها في القصص مع إضافة فكرة عنها أو أكثر لتملأ حيّزها السرديّ المحدّد لها. للقصص سارد وحيد، يحكي بضمير المتكلّم “أنا”، هو ابن ماويّة، مقيم فيها، وله دوره الخاصّ في قصص عدّة، لتأكيد المصداقيّة وقوّة التأثير.

يتجاور الزمن السردي والزمن الواقعي ويتشابكان باتساق متقن، يبدأ الزمن السرديّ عندما:”وصلت المعارك إلى ريف حماة الشرقيّ، وأصبحت ماويّة إلى جوار جبهة قتال عريضة بين النظام وعدد من التنظيمات، بدأت بقوّات تتبع للمعارضة وانتهت بداعش.” وصولاً إلى يوم هجوم داعش وارتكاب مجزرة أخرى فيها. أمّا الزمن الواقعي فهو بشقّين الحاضر والماضي، يتناوبان في حضورهما في القصص برمّتها. الماضي مثقل بالحياة والعيش رغم الضيق، والحاضر مثقل بالموت والضيق الأشدّ! ومحظوظ هو من استطاع الهرب والنزوح، بحقيبة ملابس وصور العائلة.

يتماشى السرد سلساً، عفويّاً، وممسوكاً بإحكام واتزان، فلم يترهّل رغم تعدّد الشخصيّات والأحداث في القصّة الواحدة. سرد حيويّ رشيق، وغنيّ شيّق، يكتظّ بحكايات حاضر الشخصيّات وماضيها، بطباعها وأمزجتها، وانشغالاتها المختلفة. الماضي آمن إنّما غير بهيج، وكأنّما “ماويّة” مولودة من رحم الفقر والتهميش، وأهلها منذورون للكفاح الدؤوب، يعملون في مهن مختلفة؛ مزارعون، تجّار مواشي، دكنجيّة… شخصيّات عاديّة ومهمّشة، رافضة للفساد والظلم لكنّها عاجزة، بينها نورس ذو الإعاقة الذهنيّة، وقد ساعدته إعاقته في إبراز شجاعة لا يجرؤ عليها العقلاء من حوله. يحبّه الجميع ويتعاطفون معه، حتّى أنّ الكاتب أفرد له قصّة جميلة وقاهرة بعنوان “المجانين يصيبون منذ المرّة الأولى”، وجعلها فاتحة القصص.

تتأرجح النصوص بين الفنّ القصصيّ وبين الفنّ الروائيّ، تقارب النوفيلا/الرواية القصيرة أحياناً كثيرة. ففي هذه النصوص تغيب شروط القصّة القصيرة الأساسيّة: زوايا التقاط الأحداث الرئيسة، الخواتيم التي تشكّل لحظة التنوير، وحضور عدد قليل من الشخصيّات والأحداث. استعاض عنها القاصّ بسرد تقليديّ جاذب، وتكثيف واقتصاد لغويّ لافت، وحداثة في الشكل. توزّع السرد في نصوص بعناوين منفصلة، إنّما ليست فصولاً روائيّة، بل حافظ كلّ نصّ فيها على فرادته وخصوصيّته، ليجسّد قصّة قصيرة تامّة. قصص جمعها ناصيف بخيط سرد روائيّ يخصّ وحدة المكان والزمان وظهور بعض الشخصيّات في نصوص عدّة. سرد تقليدي يتوهّج في ازدواجيّته المدهشة، طافح بحكايات الناس في ماويّة، أحداث كثيرة وتفاصيل اكتظّت بها حياتهم، بعضها يثير السخرية والضحك أحياناً، والسخرية هنا بقصد إبراز مفارقات الحياة البشريّة عامّة، وحسب. نتابع الأحداث بعين تصدّق ونفس تتأثّر، وصولاً إلى النهايات المريعة من نزوح، وإعاقة، وموت كثيف؛ قُتلت أغلب الشخصيّات. تتطوّر الشخصيّات بتطوّر الأحداث، وإن ورد تصوير لحدث ما يخصّ الحرب وكوارثها، فليس المقصود عرضه لذاته، إنّما وظّفها ناصيف بإتقان في سياق السرد، فهي تشكّل الركيزة الأساسيّة في تطوّر الشخصيّات، وانقلاب نمط حياتها المفاجئ رأساً على عقب، وفي تحديد مصائرها في النهاية. 

أمّا القصّة الطويلة والمؤثّرة “ومضت لتنطفئ” وهي الأطول بين القصص، فإنّها تشمل عناصر النوفيلا وتجسّدها بامتياز. فبطلها “نعيم” شابّ عاديّ يسعى للعيش ببساطة وكرامة، خجول ومسالم، يعاني من مشاعر اليتم والوحدة، يحلم منذ الصغر بالسفر إلى خارج البلاد كي يرى العالم. تعترض حياته عراقيل وخيبات عديدة، يجتازها من دون صخب أو استسلام. تظهر حوله شخصيّات عديدة، بينها من حضر في قصص أخرى، فتجري أحداث جديدة، من خلالها تبرز جوانب أخرى من شخصيّته، وتطول سيرته. ذات يوم يطلّ الأمل على نعيم، ليدبّ الحماس فيه ويخرجه من قوقعته ماويّة للمرّة الأولى، فيذهب إلى مدينة سلميّة لتأمين مستلزمات دكانه الذي تطوّر هو الآخر من بيع الفلافل وتوابعها وحسب إلى مطعم لخمس خبراء صينيّين. يعزّز مجيء هؤلاء حلم نعيم بالسفر إلى الصين. لكنّ الحرب جعلت الأمل مجرّد وميض سرعان ما انطفأ! وينتهي نعيم إلى ما لم يكن متوقّعاً! فنلمس المفارقة في اسمه، والتلميح إلى الواقع الأليم عبر العنوان المخاتل “ومضت لتنطفئ”، واقع يشمل البلاد كلّها!

يتناوب خطّا السرد الروائيّ والقصصيّ باقتدار في رسم لوحة جداريّة لـماويّة، وتصوير بعض من عاداتها وطقوسها والمعتقدات، الأحلام الصغيرة والأشغال، النجاحات الضئيلة والانكسارات الكثيرة، ومواكبتها للحداثة والتكنولوجيا، شخصيّات تتكاثر وأحداث تتناسل، وصولاً إلى اليوم المأساويّ الرهيب، وزّعها ناصيف بحذاقة فنّيّة على سطح اللوحة بأكمله، حيث تبرز حكاياتها متّصلة ومنفصلة في آن معاً. قصص واقعيّة صيغت بأسلوب تقليديّ تخلّلته حوارات مدروسة ومقنعة، وللمصداقيّة، ورد بعضها بلهجة عاميّة ماويّة إنّما مفهومة، ومن دون مغالاة. وبخيال يحلّق فوق أرض الحكايات، وبقليل من التلميح وكثير من التصريح، يمسك الكاتب بتلابيب القارئ حتّى النهاية، يأسره بمتعة الفنّ، بتوهّج السرد التقليديّ، بتماسكه وحيويّته، بالصدق، وبساطة اللغة، بالحبّ الكبير لماويّة، بحلوها ومرّها ومفارقاتها المضحكة والمبكية، أدرجها ناصيف بإسهاب غنيّ وشيّق، لا شطط فيه أو لغو. يحكي بلغة أنيقة وشفيفة، يعرّفنا ببعض الشخصيّات كلّ على حدة، عن بساطتهم وطيبتهم، تحرّكاتهم وأعمالهم، نزقهم وشجاراتهم، ذكائهم وجهلهم، فقرهم وقلّة حيلتهم، صبرهم وتآزرهم، محبّتهم للغناء وترديد العتابا، وتفضيلهم الحياة الهادئة الرتيبة الآمنة. ونساء ماويّة مكافحات، كرامتهنّ وحفظ العائلة فوق كلّ اعتبار، ذوات أكتاف تحمل أطناناً من المسؤوليّة وقوّة التغلّب على الضنك في الظروف كلّها، مثل عزيزة، في القصّة البديعة “دائرة أمّ محمّد عزيزة”، وهي وغيرها من الشخصيّات الرئيسة تلتصق بذاكرة القارئ.

تتسيّد بطولات فرديّة القصصَ، باستثناء القصّة اللافتة “باص الشام” فالبطولة فيها جماعيّة. عشرات الركّاب يسافرون إلى العاصمة كلّ لمبتغاه، بينها تبرز شخصيّات عديدة، يسلّط القاص السرد عليها، وكعادته، يثير القاص الضحك والإحساس بالأسى والقهر معاً. ركّاب يجمعهم المنبت الواحد، والشعور الواحد بالخوف من تكاثف الثلج ومن الحواجز الأمنيّة، وبالرعب حين عبورهم الطريق الذي، يتربّص فيه عادة أحد قنّاصيّ المعارضة المسلّحة بوسائط النقل القادمة من مناطق محسوبة على النظام! ليجمعهم المصير الواحد أيضاً. يختم السارد قائلاً:”عشرات القلوب كانت تخفق فوق أربع عجلات، خفّضت رأسي، ورحت أفكّر كيف سينتهي هذا الطريق المخيف، ومتى سنعبر.” سؤال يُجمع عليه السوريّون حتّى اليوم، وقصّة تشملهم جميعهم!  

في خضمّ حياتهم المعتادة وسعيهم لتأمين كفاف العيش، يجد الأهالي أنفسهم بغتة وسط حرب تقود مصائرهم، وترسم خواتيمهم القاسية والمرعبة. قرية لا ناقة لها أو جمل في هذه الحرب، فنأت بنفسها عمّا يجري منذ انطلاق الانتفاضة في البلاد، الأمل الذي لم يتعدّ الوميض، إذ سرعان ما تحوّلت الثورة إلى حرب. ذاك النأي لم يشفع لماويّة المسالمة، فانهالت عليها الكوارث من ضفّتيّ الاقتتال! وهي كما يقول السارد:”القرية الصغيرة عليها أن تكابد ذلك الموت كلّه.” يحكي السارد تفاصيل ما حدث لماويّة من دون إطلاق أحكام تخصّ أيّاً من طرفي النزاع، ففيما يبدو يؤثر الرؤية بعينيه الاثنتين، ليحقّق اتزان المنطق الموضوعي وإقناعه. فالحرب لا شكّ، تطحن الجميع!

وسط ذلك الإبهام والعماء المرعب، لم يتوقّف الأهالي عن أعمالهم اليوميّة، وتبعاً للسارد: “امتصّت ماويّة الحرب دون أن تفهمها، فراح يناور سكّانها داخل متاهة الممكن لتحصيل لقمة العيش، وللمضيّ قُدماً وإن برؤوس أطرقت في الأرض من شدّة الفقد والخوف.” حين سئلت أم محمد عزيزة الخمسينيّة عن رأيها في الثورة، أجابت:”رأيي لا بيقدّم ولا بيأخّر عدم المؤاخذة.” وبثلاث كلمات فقط أجاب علي المدلّل الثمانينيّ سائله عن رأيه بإسقاط الرئيس، فقال:”حاج بقا، تعبنا.” تعب هذا العجوز الذي عاش طول عمره محتمياً في ماويّة وراضياً، بعيداً عمّا يحدث خارج بيته، لا يأبه بأيّ تغيير، لتأتي الحرب التي لن تكتفي فقط بأن:”هشّمت أشياء يومه الرتيبةّ.”

ثمّة إحساس خانق بعزلة ماويّة جرّاء إهمال العاصمة لها، وستحدث المجزرة ثانية، وثانية وسط تجاهل وسائل الإعلام الوطنيّة، وصمتها المطبق! كما في قصّة “دكّان علي المدلّل”. وثانية أيضاً، لم تمدّها بتعزيزات عسكريّة، رغم الوعود الدائمة! كما ورد في قصّة “السقوط نحو القمر”، فأسقط في يد الأهالي فتكفّلوا بالدفاع عن قريتهم بأسلحتهم البسيطة. وبات الشباب يقضون الليالي على الأسطح للحراسة، بينهم نبيل الردّاد، لم يكن بلغ العشرين بعد، فحين هجم الدواعش، بوغت بنفسه يهرب في اتجاه معاكس عوض تنفيذ قراره بمشاركة الأهالي الدفاع عن القرية، ليختار “السقوط نحو القمر”، وينام بسلام في قلب القمر المكتمل المعكوسة صورته على سطح ماء البئر!

أطبق الموت على ماويّة والبلاد عامّة، وتبعاً لقول السارد: “الشباب كانوا يموتون من دون أن يدري أهلهم من أجل ماذا يموتون.”ويقول في قصّة أخرى:”شبّان لم تتح لهم البلاد أن يكبروا ويضيفوا على ألبوماتهم صوراً تُظهر شيب شعرهم وتجاعيد وجوههم…” فمن الشبّان من قتل، ومنهم من خُطف، وآخرين عُذّبوا في السجون تحت الأرض!

ورد في مقدّمة القصّة الثانية” بيت العتابا الضائع” الوحيدة الخالية من حديث الحرب: “لقد استغرق منّي عشر سنين حتّى وجدته، بيت العتابا الذي غنّته جدّتي في المساء اللاحق لجنازة أخيها سليمان، ولم تعد تتذكّره.” فبات يشكّل له وسواساً لعقد من الزمن بحثاً عنه، لكنّ السارد لم يصرّح بم يحتاجه، واكتفى بإخبارنا بأنّه وجده عندما اصطحب جدّته التسعينيّة لزيارة قبر أبيه/ابنها، وهناك باغتت حفيدها بتذكّره وغنائه لابنها. ليخمّن القارئ، بعد قراءته  القصص الثمانية المتبقّية، أنّ السارد كان يريده لينشجه لماويّة في مقتلها!  

أنس ناصيف حكّاء بارع، يؤبّد ماويّة وقد جفّت عروقها في قصص يانعة وبديعة رغم الأسى العميق عمق جراحها، قصص لا يجيز غناها الآسر اختصارها أبداً. تغوي قارئها حتّى النهاية، تعلق في وجدانه عميقاً، وتنحفر في  ذاكرته مديداً.

مواضيع ذات صلة

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

 "كنت أحلم بلوحةٍ تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، لوحة تستطيع تجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفل الافتتاح لأي معرض". ربما توضح تلك الكلمات، وهي للفنان نذير نبعة، مدى تبنيه وإخلاصه للفن، الذي كان رفيق دربه لأكثر من ستين عاماً، فهو الفنان الذي...

مواضيع أخرى

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

بقي الريف السوري محروماً من المسرح إلى أن أنشأت مديرية المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة ما أسمته "المسرح الجوال" عام ١٩٦٩، والذي بدأ عروضه بنشر الوعي المسرحي في الريف والمناطق الشعبية والنائية. صارت الصالة في كل مكان  والجمهور ضمنها، وكان كسر الحواجز بين...

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

ينتظر السوريون في الأسابيع المقبلة بفارغ الصبر وفق تصريحات حكومية انطلاق المشغل الخلوي الثالث "وفا تيليكوم" المرتبط بإيران التي ستدخل على خط الاستحواذ في قطاع الاتصالات الحساس والذي ظلّ حكراً على متنفذي السلطة لعقود. من خلال التواصل المباشر مع مصادر متعددة من داخل...

تدريباتنا