أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...
تدريباتنا
ورشة تدريب صالون سوريا
يعلن فريق #صالون_سوريا، التحضير لدورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة...
لا تكمن أهمية الشاعر السوري محمد أحمد عيسى الماغوط -12 كانون الأول 1934- 3 نيسان 2006- ولا يمكن اختزالها فحسب في تأسيسه للقصيدة الحرّة أو عباراته الانفجاريـــّة في شعره ونثره ومسرحه التي صاغتها ظروف التشرّد والحرمان أو مكانتِه في نقلِ “القصيدة العربية في الخمسينات من الذهني والميتافيزيقي والتأمليّ الصرف لليومي”1
بل في البعد الفكريّ والفلسفيّ لأعماله الأدبية أيضاً. وفي الوقت الذي تمَحوَر فيه الوعي العربي حول مقولات ومفاهيم غنائيّة وشعارات خلبيّه شوّشت على هويته التي فتتّتها الواقع، أتى الماغوط ووضع الركام الذي يتشكل منه الإنسان العربي أمام عيني الأخير تحت مجهر الشعر والنثر والمسرح؛ وكان سؤاله مزدوجاً وموجَّهاً للفاعل والمفعول به، للسلطة والشعوب التي لا تتقدم إلا حين تضع ذاتها موضِعَ سؤال.
لذلك كان سهمه مشدوداً في عدة اتجاهات، ضد النخب والسلطة بكافة أشكالها الدينية والثقافية والسياسية المضللة والمراوغة والحداثة الخادعة والإنسان البسيط الذي ينخدع بسهولة جراء توحّشّ الجهل؛ فقد أراد في كتاباته أن يحرك –ومن خلال-الجملة الشعرية المتفجّرة-الغضب كما أراد أن يثير في نثره الأسئلة وفي مسرحه السخرية. ولم ينجُ المثقف العربي وهو رهين المحبسين (السُلطة والملعقة) من المسؤولية؛ فالأخير يحمل شوكته لاقتسام الدجاجة لكن لا يعثر في صحنه سوى على العِظام! يذكرنا محمد الماغوط بالمفكرين الفرنسيين في الخمسينيّات والذين شَّرحوا حاضر فرنسا بحثاً عن مستقبلها.
ومنذ ديوانه حزن في ضوء القمر رفض الشاب القادم من سلمية،-والذي تنقل بين دمشق وبيروت وعمل في الصحافة ليحترف الأدب السياسي الساخر،-أشكال التقدم الخلبيّ الذي يقوم على انتهاك الفطرة النقيّة للحياة الإنسانية، فلا معنى لأي تطوّر لا يستند للوعي والحرية والكرامة؛ ورغم أنّه كان حداثيًّا في اللغة، إلاّ أن روحه البريّة وحياته التي رضَّها الجوع والتشرد لم تمنعا سؤاله عن ماهية الحداثة بكونها جعجعة بلا طحين.
إنّ مكانة الماغوط في المنعطف السوري كمسرحي ألف العديد من المسرحيات الناقدة التي أسهمت بتطوير المسرح السياسي في الوطن العربي وكتابته للرواية وريادته في القصيدة النثرية أسّسوا للقطيعة المعرفيّة عبر النقد الذاتي والأفكار التي تفكك البنية الذهنية للإنسان العربي والمسؤول العربي والتراث العربي، هذه الكتابة المتمردة شكلت نوعاً من الصدمة أو يمكن أن نطلق عليها ما يسميه غاستون باشلار القطيعة الايبستمولوجيّة مع إرث كامل، ، فقد وضع الماغوط في سلة جميع أسباب القهر وسخر منها بكوميديا واقعيّة فكان نثره ومسرحه كاختراق عمودي لزمن أفقي وراكد.
يذكرنا في أصالة تفكيره وواقعيته وخياله المارق بأريستوفان رائد المسرح الإغريقي. وفي مسرحيته “غربة” يسخر من شعر القافية والوزن في واقع بلا قافية ولا وزن فكان مسرحه رصداً للعوائق القائمة في ثلاثية أطرافها كلها مُدانة.
لقد صور بشكل كاريكاتوري المختار والأستاذ العاجز والسلطوي المتحذلق والمتلاعب بالكلمات، ووضع المواطن البسيط في مسرحياته (ضيعة تشرين-غربة-شقائق النعمان-كاسك ياوطن) أمام مرآة، ولعل مسرحية غربة أشدها عمقاً ووضوحاً فكرياً.
إن نقد الذات حاضر في نصوص الماغوط فشخصياته المسطّحة تفتقر لأي بعد مستقبلي أو نمو درامي، قد تتغير أدوار الشخوص بين فصل وآخر كما في مسرحية غربة لكن ثباتها في كينونة لا تتبدل لم يكن حيلة فنيّة فقط بل دلالة على حال الإنسان العربي الذي لا يتغير ولا يسائل نفسه، ولذلك ثمن باهظ سيدفعه مستقبلاً.
لقد أثمر اليأس والخوف في جعلها شخصيات ثابتة في الزمان. فالنماذج التي يختارها في مسرحه والأمكنة مجرد ماكيت مصغّر للوطن العربي والإنسان العربي أراد من خلاله للمتلقي اأن يراقب هويته وتفكّكها.
شكّك بالمثالية دافعًا الكلمة لأقصى حدودها محمومًا بتثوير الوعي ضدّ ذاته عبر قياس المسافة بين الأقوال والأفعال، وكان حداثيًّا ساخراً من الحداثة وشاعراً يائساً من الشعر والشعراء، يهجو اليمين واليسار (ما أذربَ ألسنتنا في إطلاق الشعارات، وما أرشق أيدينا في التصفيق لها، وما أعظم جلَدنا في انتظار ثمارها، ومع ذلك فإن منظر ثائر عربي يتحدث عن آلام شعبه للصحفيين وهو يداعب كلبه الخارج للتو من الحمام، لا يهزّنا).2
ألا يحتاج الإنسان للانقلاب على نفسه حتى يتحرر قبل أن ينقلب على السلطة بكل أشكالها السياسيّة والثقافيّة والدينيّة!
إن التأمل في مسرح الماغوط يثير الأسئلة الفلسفيّة والوجوديّة التي يتجاهلها الإنسان العربي المقهور، يفكك أسباب قهره. فيكتب في قصيدة بدوي يبحث عن بلاد بدوية:
آه كم أتمنى، لو أستيقظ ذات صباح
فأرى المقاهي والمدارس والجامعات
مستنقعات وطحالب ساكنة
خياماً تنبح حولها الكلاب
لأجد المدن والحدائق والبرلمانات
كثباناً رملية
آباراً ينتشل الأعراب ماءهم منها بالدلاء.
كيف أمكن فتننا عبر الكلام فالمصيبة أمامنا ولا نراها!
يدور الفصل الثاني من مسرحية غربة حول عيد الكذب وكأن المواطن العربي حصان رابح في رهان الكذب الذي يشربه علقماً ويحسبه ماء.
أبو ريشة في المسرحية رجل مكلوم يريد الهرب، تنصحه غربة: ولما بتهاجر لبعيد إنسى الكذب. (ياترى هل استطاع-أبو ريشة الحالي الذي هاجر عبر البحر-أن يتخلص من بنية زائفة شكلت وعيه وهل أمكنه أن يراجع قناعاته؟).
إنّ ما يمنح أهمية وقيمة مسرح الماغوط في المنعطف السوري هي قربه من النبض العام للإنسان، وتركيزه على التناقضات التي شكّلت وعيه، وعلى سرياليّة الواقع العربي التي صبغت مسرحه بالفانتازيا السوداء. يقول في حوار معه: (فماذا يعنيني من السفن الفينيقية التي كانت تعبر المحيطات، وأنا لا أستطيع أن أعبر زقاقاً موحلاً طوله متران؟).3
وتكمن أهمية تجربته في المنعطف السوري في كشفه الغطاء عن المفارقات الواقعية الهزليّة ووضعها أمام الحس النقدي عبر روح سقراطيّة شكاكة وساخرة.
كان سقراط قد أنزل الفلسفة من التفكير المجرد بالكون والطبيعة نحو الذات الإنسانية ومع الماغوط لم يعد الشعر متعالياً ونخبويـًّا بل تحول إلى فعل يوميّ، في انحيازه لكينونة الإنسان.
في مقطع من قصيدة حريق الكلمات من مجموعة حزن في ضوء القمر يكتب:
سئمتك أيها الشعر، أيها الجيفة الخالدة
لبنان يحترق
يثب كفرس جريحة عند مدخل الصحراء
وأنا أبحث عن فتاة سمينة
أحتك بها في الحافلة
عن رجل عربي الملامح، أصرعه في مكان ما.
بلادي تنهار
ترتجف عارية كأنثى الشبل
وأنا أبحث عن ركن منعزل
وقروية يائسة، أغرر بها.
ياربــّة الشعر
ببلاد خرساء
تأكل وتضاجع من أذنيها
أستطيع أن أضحك حتى يسيل الدم من شفتيَّ
كان الماغوط في شعره ونثره انفجارياً ولا يساوم:
لقد آن الأوان
لتمزيق شيء ما
….
يا أرصفة أوربا الرائعة
أيتها الحجارة الممدّدة منذ آلاف السنين
تحت المعاطف ورؤوس المظلات!؟
أما من وكرٍ صغير
لبدويّ من الشرق
يحمل تاريخه فوق ظهره كالحطّاب
إن تحرير العقل العربي لن يكون إلا بوضع الذات أمام مرآة، والاعتراف بالهزيمة والضعف وكمثقف يعرّي الماغوط حقيقة المثقف ذاته. يكتب في سياف الزهور “: حيث تبين لي أن كل آرائي ومواقفي الحازمة ضد هذا الإغراء أو ذاك، ماهي إلاّ أوهام وترّهات وأن ثقتي بنفسي ليست عمياء وصماء، بقدر ماهي مضحكة وبلهاء”.
الماغوط واقعي وحين يسأل عن المبادئ يجيب “ماذا أفعل؟ الفم يساري والمعدة يمينّية”.
إن رثاؤه وألمه هو لحال المواطن العربي صانع التاريخ وما آل إليه: “منذ سبعة آلاف سنة بنيت الأهرامات ونقلت حجارتها على ظهري من أسوان إلى الجيزة، تحت لسع السياط وحريق الهاجرة، والآن أتألم وأشكو ضآلة الأجر وسوء المعاملة”.
لقد وضع تحت عدسة مكبرة وعبر مسرحه الذي هو مسرح أفكار ازدواجيتنا العميقة.
وفي نص بعنوان: حوار بين مسؤول عربي وكاتب نجد أن ممثل اليسار سافر لأداء مناسك الحج وأن حملة القضايا هم أكثر من أساؤوا لها. وحين يُسأل عن مستقبل الشاعر العربي يجيب: (في ملعقته).4
فأمراضنا مستعصية على العلاج والريبة التي تسم علاقتنا ببعض كبشر أولاً وكمثقفين ثانًيا داء عضال: وفي كتابه سأخون وطني وفي نص بعنوان يا شارع الضباب يصف حال المثقف العربي بحيث يخوِّن التقدمي شاعراً آخر ويصفه بالرجعي ثم يأتي آخر ويخوّن الأول باعتباره من جماعة سياسيّة وينظر له كمرتهن ومشبوه، ثم ثالث متطرف يخوِّن الاثنين.
في أحد حواراته يتساءل الماغوط: إذا لم يستطع الكاتب العربي أن يعبر عن رأيه في أدق مرحلة تمرّ بها أمته، فماذا يكتب؟
يجيب: عن وحام الأميرة ديانا.
(ولذلك ما جدوى إصدار كتب جديدة؟
وشق طرق جديدة؟
وركوب سيارات جديدة.
وإجراء انتخابات جديدة
بل ما جدوى أن ننتعل أحذية جديدة
ونرتدي معاطف جديدة
ومايوهات جديدة
والوطن عتيق…. عتيق.5
عاش غريباً وحزنه لم يكن شخصياًّ. إنه حزن على مستقبل وقف العسس في طريقه ومنعوه من المرور، ويبدو أنهم نجحوا لا لأن العيب فيهم بل لأننا كنا شركاء في تدمير هويتنا وركودها لزمن طويل.
كان الماغوط مسرحيًّا وشاعراً برتبة مفكر، وفي كل سطر من شعره ونثره وعبارة في مسرحه سؤال ورجّة ولا يهم أن تأتي الفلسفة عبر المنطق أو اللامنطق بالإقناع أو الفكاهة من نافذة المسرح أو الشعر أو حتى الجنون.
ربما يمكننا إلى جانب التعريفات الكثيرة للفيلسوف أن نضيف أن الفيلسوف هو من لا يعرف أنه فيلسوف، والماغوط مفكر لم تغرِه الألقاب ولم يسعَ لها.
كتب محمود درويش في شهادته عنه” كان، دون أن يقصد، أباً روحيًّا لأكثر من جيل من شعراء قصيدة النثر”6.
ولعلنا نقول إن أبوّة الشعر ليست الوحيدة، لقد استطاع أن يمنح البسطاء مرآة لمشاهدة واقعهم وشاهدوا أنفسهم فوق الخشبة وضحكوا عليها ومنها، لكن لم يرغبوا بتغييرها، تركوا حاضرهم راكداً فنجح العسس في سرقة مستقبلهم.
ثمة حكمة تقول: إذا حدقت في نكتة لوقت طويل سوف تبكي.
لقد تبقت لنا الغصّة، وها هو حزن الماغوط يسافر في البحر، تائـهاً في أزقة أوربا أوهائماً على وجهه في العراء، السوريون الآن أحزان متنقلة ومحمد الماغوط: نائم الآن…. لكن حزُنـــَه حرٌ طليق.
هوامش
1-العاشق المتمرد، شهادات، إعداد على القيم، منشورات وزارة الثقافة، دمشق .2006
2-المرجع نفسه
3-المرجع نفسه
4-محمد الماغوط اغتصاب كان وأخواتها، حوارات، تحرير وتقديم خليل صويلح، دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع، عمان، الأردن .2021
5-المرجع نفسه.
6-العاشق المتمرد، شهادات، إعداد على القيم، منشورات وزارة الثقافة، دمشق 2006
*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”
مواضيع ذات صلة
مواضيع أخرى
تدريباتنا
ورشة تدريب صالون سوريا
أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...
ورشة تدريب صالون سوريا
يعلن فريق #صالون_سوريا، التحضير لدورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة...