تدريباتنا

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

by | Dec 18, 2024

تمر سوريا اليوم بمرحلة فارقة في تاريخها، حيث يقف الجميع أمام اختبار صعب: هل يمكن تجاوز إرث القهر والاستبداد لبناء دولة جديدة قائمة على الحرية والكرامة؟ أم أننا سنتعثر مجددًا في أخطاء الماضي، التي صنعها الخوف، الصمت، وصناعة الأصنام؟

اليوم، نحن في حالة فراغ سياسي ودستوري، يمكن وصفها بـ”مرحلة اللادولة”. بغياب رئيس الجمهورية، وتعليق عمل السلطة التشريعية، ووجود حكومة تسيير أعمال محدودة الصلاحيات، لا قوانين تُسنّ ولا قرارات مصيرية تُتخذ. الحديث عن تعديلات دستورية أو تشكيل جمعية تأسيسية يبقى كلامًا نظريًا، طالما لا توجد آليات واضحة أو قوى سياسية حقيقية على الأرض تقود هذا التحول.

ما يثير القلق أكثر من غياب الرئيس أو تعطل المؤسسات هو غياب الرؤية السياسية والتنظيم المؤسسي القادر على قيادة الجماهير وتنظيم العمل السياسي. لا يمكن بناء دولة على أحلام فردية أو قرارات مرتجلة. الشعب بحاجة إلى قوى سياسية منظمة تمثله، تضع أولويات وطنية جامعة، وتدير المرحلة الانتقالية بحكمة وشفافية.

حتى الآن، لم يُعلن عن تشكيلة وزارية واضحة، ولا عن لجان مكملة في الوزارات الموجودة. حكومة تسيير الأعمال تبدو وكأنها مجرد كيان شكلي، غير قادر على تفعيل مقدرات الدولة أو رسم سياسات عامة تلبي احتياجات الشعب. أكثر من ذلك، لا توجد منصة رسمية تجمع مختلف الأطراف لطرح خطط واضحة حول المستقبل.

الإعلام في سوريا، الذي لعب دورًا كبيرًا خلال الثورة، يحتاج الآن إلى إعادة هيكلة وتوظيف مؤسسي. لدينا وكالات رسمية مثل “سانا”، ومحطات فضائية وإذاعات، لكنها ما زالت تعمل بأدوات الماضي، بعيدة عن الواقع اليومي للمواطنين. لماذا لا يتم تفعيل الإعلام ليصبح لسان حال الشعب؟ لماذا لا يتم استخدام هذه الإمكانيات الضخمة لتوثيق الحياة اليومية في المحافظات، ورصد التحديات الحقيقية؟

الثورة تجاوزت مرحلة الأفراد كمحطات إعلامية أو رموز للخطاب الثوري. الآن، نحن بحاجة إلى إعلام مؤسسي يوثق الواقع، يبني رواية جماعية، ويرسخ مفاهيم الرقابة والمساءلة الشعبية. العمل الإعلامي يجب أن يتحول إلى جزء أساسي من بناء الدولة، يعكس تطلعات الناس، ويكون أداة ضغط على المؤسسات لتحقيق الشفافية.

المجتمع المدني اليوم أمام مسؤولية كبيرة. في ظل غياب القيادة السياسية الواضحة، يجب أن يصبح المجتمع المدني حاضنة للنقاشات حول الحقوق والواجبات. الشعب السوري بحاجة إلى فهم عميق لما تعنيه دولة المواطنة والديمقراطية. هذا لا يمكن تحقيقه إلا من خلال نشر ثقافة الحوار والنقد البنّاء، بعيدًا عن العواطف والشعارات.

هناك حاجة ملحة لتحويل النقاشات إلى خطط عملية، تعكس أولويات الشعب. على الجميع أن يدرك أن السياسة ليست مجرد صراع على السلطة، بل هي وسيلة لتحقيق العدالة والمساواة والحرية. المرحلة الحالية تتطلب صراعًا حقيقيًا على الأولويات الشعبية الجامعة، وليس مجرد تنافس على الخطابات الرنانة أو الشعارات.

ربما أكبر درس يمكن أن نتعلمه من المرحلة الماضية هو خطورة صناعة الأصنام، سواء كانوا رموزًا سياسية أو اجتماعية. لا أحد يجب أن يكون فوق النقد أو المساءلة. سوريا الجديدة لا يجب أن تكون مكانًا لتقديس الأفراد أو المؤسسات، بل فضاءً للنقد الحر والمراقبة الشعبية الحقيقية.

الحرية لا تتحقق فقط بإسقاط نظام، بل بإرساء ثقافة لا تقبل بالاستبداد بأي شكل. هذا يعني أن كل شيء يجب أن يكون تحت المجهر: القرارات الحكومية، السياسات العامة، وحتى أداء القوى الثورية والمعارضة. الشعب السوري يجب أن يكون هو الحَكَم النهائي، وهو مصدر الشرعية الوحيد.

سوريا الحرة التي نحلم بها لن تتحقق بين ليلة وضحاها. بناء الدولة يعني الانتقال من مرحلة الفوضى إلى مرحلة المؤسسات. هذا يتطلب تفعيل كل مقدرات الدولة وإعادة هيكلة المؤسسات القائمة. لدينا وكالات إعلامية، مؤسسات حكومية، وموارد بشرية هائلة، لكنها بحاجة إلى إدارة واعية، تؤمن بالعمل الجماعي والمؤسسي.

لا يمكن ترك الساحة للعواطف أو الخطابات العاطفية. هذه مرحلة السياسة الفاعلة، التي تعتمد على التخطيط والالتزام بأولويات الشعب. المجتمع السوري يجب أن يتحول إلى قوة ضغط مستمرة، تضع معايير للمساءلة وتفرض أجندتها على كل من يتصدر المشهد.

إن كنا نحلم بسوريا ديمقراطية، متنوعة، وحرة، فعلينا أن نعمل بجدية على تحقيق هذا الحلم. بناء الدولة ليس مجرد شعار، بل عملية طويلة ومعقدة، تتطلب تضحيات وصبرًا. المسؤولية تقع على عاتق الجميع: القوى السياسية، المجتمع المدني، الإعلام، وحتى كل مواطن يؤمن بأن سوريا تستحق الأفضل.

مرحلة اللادولة ليست نهاية الطريق، بل بداية جديدة.

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

النساء ومعاركهن المتجددة

النساء ومعاركهن المتجددة

 يتم تسويف قضايا النساء بذرائع متعددة على الدوام، مرة بذريعة الحرص على الأخلاق العامة، ومرة أخرى بذريعة عدم المواجهة مع قوى الأمر الواقع، ومرات بذرائع تنبع فجأة من خبايا السنين وتصير حاضرة بقوة مثل طبيعة المرأة البيولوجية، أو التشريح الوظيفي لدماغ المرأة، وصولاً...

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

شهدت سوريا خلال أربعة عشر عامًا من الصراع تحولًا جذريًا في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية. بدأ الحراك شعبيًا وسلميًا، لكنه انتهى بصراع مسلح معقد ومدعوم خارجيًا، في ظل غياب قوة سياسية مؤثرة ميدانيًا. وبينما ساندت روسيا وإيران النظام السوري، مما أطال أمد...

قلعة من الورق المقوى

قلعة من الورق المقوى

حين تُفْقَد الشرعية، وينهار الاقتصاد، وينحسرُ الدعم الشعبي، ويتفشّى الفساد والمحسوبية، وتُفْرضُ العقوبات والعزلة الدولية، ويشتدّ التغوّل الأمني وسوء الإدارة والرشوة، ويُفْقد دعم النخبة وتتفكك، أو تُصادَر أموالها وتُهَمَّش، ويتحوّل الجيش إلى حرس خاص وتسود الفئوية،...

تدريباتنا