تدريباتنا

مستقبل سوريا بعد سقوط النظام: ما يقوله المثقفون

by | Dec 24, 2024

مع سقوط النظام السوري يوم 8 ديسمبر 2024، تنفتح البلاد على مرحلة جديدة مليئة بالتحديات والتطلعات. بعد عقود من الاستبداد والصراعات، يواجه السوريون مسؤولية جسيمة لبناء دولة تعكس تطلعاتهم للحرية والكرامة. 

إن تحقيق هذا الهدف يتطلب تجاوز إرث طويل من الانقسامات العرقية والدينية التي تشكلت بفعل النظام السابق وسطوة القوة العسكرية على السياسة، والسعي من أجل إعادة تشكيل المؤسسات الوطنية على أسس جديدة.

التحدي الأول يتمثل في كيفية تحقيق توافق داخلي بين المكونات المتنوعة وصياغة رؤية وطنية جامعة تضمن المشاركة العادلة لكل الأطياف، بما في ذلك الأقليات التي تحمل مفاتيح حيوية لتوحيد البلاد.

 كما يبرز دور القوى المحلية المسلحة في هذا السياق، إذ يمكن أن تكون إما حجر عثرة أمام بناء الدولة، أو شريكًا إذا أُدرجت ضمن مؤسسات وطنية. غياب الحلول الحقيقية للانقسامات الداخلية قد يدفع سوريا نحو سيناريوهات قاتمة تُكرس الفوضى. لذا، يحتاج السوريون إلى حوار شامل يتجاوز الماضي، ويؤسس لمستقبل يليق بطموحاتهم. 

رغم الترحيب الذي لاقته بعض الفصائل المسلحة، مثل هيئة تحرير الشام ذات التاريخ العسكري المختلف، في العديد من المدن السورية عقب سقوط النظام، فإن التخوفات منها تظل قائمة لدى شريحة واسعة من السوريين، خصوصًا من الطوائف الأخرى. هذه المخاوف ترتبط بتاريخ الهيئة المليء بالتشدد وأدلجتها ذات الجذور العميقة، بالإضافة إلى وجود عناصر أجنبية في صفوفها، مما يعزز شعور القلق حول طبيعة المرحلة المقبلة. 

على الرغم من أن إسقاط النظام تم دون إراقة دماء تُذكر في معظم المدن، باستثناء إعدامات قيل إنها طالت من تلوثت أيديهم بالدم السوري تزامنت مع اندلاع بعض الحوادث الثأرية في مناطق سورية، مما يستدعي ضرورة عاجلة لسن أسس قانونية واضحة لمحاسبة الجناة قبل ازدياد المخاوف وفقدان السيطرة عليها. هذه المخاوف لا تقتصر على الداخل السوري فقط، بل تمتد إلى أعين العالم التي تراقب يوميًا تعامل هذه الإدارة الجديدة في سوريا مع مختلف الثقافات والعادات والظواهر، ما يزيد من تعقيد التحديات في مرحلة إعادة البناء الوطني. 

تسعى هذه المقالة لتقديم قراءة نقدية عبر أسئلة، تستند إلى رؤى متعددة ومقترحات عملية، لعلها تساهم في توضيح الطريق أمام السوريين في هذه المرحلة الحاسمة.

كيف يمكن للسوريين تحقيق توافق داخلي في ظل تنوع عرقي وديني واسع وتاريخ طويل من الاختلافات؟

توجهنا بالسؤال إلى الكاتب السوري، نجيب نصير، والذي قال لـ “موقع صالون سوريا” مجيباً: ربما يبدو من المعيب أن أجيب على سؤال بسؤال آخر، ولكن متى كان السوريون، أو غيرهم من التجمعات السكانية العربية، في حالة توافق؟ بالأساس، لا تعبر كلمة “توافق” عن العيش المجتمعي (ولا أقصد الاجتماعي هنا تحديداً)، فهي تشير فقط إلى نوع من الترتيبات المؤقتة لتسيير الأمور، مما يعكس أحد الأعطاب الجذرية في مفهوم العيش المشترك. هذا الترتيب المؤقت تدعمه “الدولة” وتدرّب عليه الأفراد باعتباره شرطاً للعيش في مجتمع معاصر، لتفرض الهوية الجامعة كقاسم مشترك ظاهري بين الجميع. ومع ذلك، يبقى هذا الهدف بعيد المنال طالما ظل مفهوم “التوافق” هو الغاية المرجوة، لأنه يقف في تعارض صريح مع المساواة، العامل التأسيسي الأول لأي مجتمع حقيقي.

عندما يبدأ الحديث عن “الأقليات” الدينية أو الثقافية، يفقد المجتمع معناه الأساسي، ويصبح عقيماً غير قادر على إنتاج دولة حديثة بالمعنى المعاصر. بدلاً من ذلك، يتم إنتاج سلطة غير قابلة للمساءلة أو تحمل المسؤولية، مع استمرار تدريب الشعب على ثقافة النفاق والتملق والفساد، والتغني بقيادة “استثنائية وفريدة”.

منذ عام 1958، لم يعد الشعب السوري يمتلك مجتمعاً بالمعنى الحقيقي، وبالتالي لم ينجح في بناء دولة بالمعايير المتفق عليها بين الأمم. في المجتمعات التي تنتج دولاً، لا يظهر التنوع الديني أو العرقي كعائق أمام الدساتير والقوانين، بل يتم تجاوزه لصالح المساواة، حيث يُنظر إلى هذه الاختلافات كجزء من الفلكلور الذي يجب احترامه دون أن يطغى على الدستور، الذي يُفترض أن يعبر عن إرادة المجتمع بأسره، في حال وجود مجتمع فعلي.

إن التوافق بطبيعته هش ومؤقت، ولا يعبر سوى عن مصالح الأقوى أو الأكثر عدداً، الذين يفرضون رؤيتهم ومصالحهم على حساب المصلحة العامة. هذا ما حدث منذ عام 1958، حيث تم تجاهل المساواة كشرط أساسي لتحرير الإرادة المجتمعية. ومن دون مساواة، لا يمكن تحقيق عدالة، ناهيك عن مفاهيم أعقد، كالحرية، التي تتجاوز بكثير التوافق كمفهوم وأداة.

كما توجهنا بالسؤال للكاتب والصحفي السوري علي سفر، حيث قال لـ “موقع صالون سوريا”: لا يمكن تحقيق توافق حقيقي في أي مجال دون جمع الأطراف المعنية على طاولة حوار. ومن هنا تبرز أهمية الدعوة إلى مؤتمر وطني شامل، حيث يجتمع الجميع لمناقشة القضايا العالقة والشائكة بصراحة ووضوح. وإذا لم تُحسم النتائج في الجلسات الأولى، يُمكن تمديد النقاشات حتى الوصول إلى حلول شاملة. يُذكر أن فكرة المؤتمر الوطني ليست جديدة على سوريا؛ فقد شهدت المملكة السورية عام 1919 انعقاد مؤتمر مشابه أثناء صياغة دستورها الأول، قبل أن تقضي سلطة الانتداب الفرنسي على أولى التجارب الديمقراطية في البلاد. ومن الطبيعي ألا يبادر الجميع بالمشاركة الفورية في المؤتمر، إلا أنه يبقى القاطرة الأساسية التي تقود نحو المسار السلمي والديمقراطي.

ما هو الدور المتوقع للقوى المحلية المسلحة في إعادة بناء الدولة؟ وهل يمكن احتواؤها ضمن مؤسسات وطنية؟

يقول الكاتب نجيب نصير: السلاح يحسم النقاش ويطفئ النضال الدستوري. في حضوره، يُلغى الفارق بين الجبان والشجاع، والذكي والغبي، والوطني والعميل. السلاح ليس مجرد أداة قهر؛ إنه وسيلة تُسكِت شعوباً بأكملها، وتجعلها تعيش تحت وطأة الخوف، حتى عندما تُضرب مصالحها الأساسية. والمصالح، كما نعلم، هي من الأسس الجوهرية لبناء المجتمع وتأسيس الدولة.

في ظل سيطرة السلاح، لا مكان لفكرة “الاحتواء”، سواء في المؤسسات الوطنية أو الشعبية. فالسلاح هو الذي يفرض تعريفه على حامله، لا العكس. وعليه، فإن الخضوع الفوري والواضح لدستور عادل وشامل هو ما يمكن أن يمهد الطريق للتسالم الاجتماعي، وهو شرط لا غنى عنه للعبور إلى مفهوم المجتمع المعاصر.

لكن مع وجود المجموعات المسلحة، يُجبر الشعب على اختيار ما يخدم بقاء هذه المجموعات واستمرارها. هذا الإذعان لا ينبع من إرادة حرة، بل نتيجة تربية ممتدة على الخضوع والخوف، تجعل الشعب عاجزاً عن مواجهة السلاح. 

فيما يجيبنا الكاتب على سفر: تلعب القوى المسلحة دورًا بالغ الأهمية، خاصة في المرحلة الانتقالية، حيث تكون الضامن والحارس للأمن. ومع ذلك، يجب أن تسهم في تأسيس جيش وطني، وشرطة، وأجهزة أمن عامة. إذا لم تندمج ضمن هذا الإطار المؤسسي، فإن المستقبل قد يتحول إلى مشهد مليشياوي يهدد الاستقرار، حيث تخضع البلاد لأهواء تلك القوى ومصالحها الضيقة. وهذا يعني الانحراف عن أهداف الثورة الأساسية والإخلال بالأمن الشخصي لكل مواطن سوري. 

من الضروري أن يدرك المقاتلون أنفسهم أهمية دورهم في بناء سوريا المستقبلية، وهو إدراك ينبع من الحاجة الملحة لاستعادة الحياة المدنية والتركيز على التنمية. بالمثل، تقع مسؤوليات مشابهة على عاتق السياسيين، لضمان تكامل الأدوار وتحقيق شعور مشترك بين الجميع بأنهم يسهمون في صياغة مستقبل البلاد.

إلى أي مدى يمكن للأقليات العرقية والدينية أن تسهم في صياغة رؤية وطنية جامعة، بعيداً عن الاستقطاب الحالي؟ 

يجبنا الكاتب نجيب نصير: لا يمكن للأقليات أن تقدم شيئاً ذا قيمة طالما بقيت محصورة تحت وسم “الأقلية”، حيث إن المساواة القانونية لا تشملها بشكل كامل. ربما يوفر الدستور بعض الحماية، ولكن القوانين التنفيذية وتعليماتها غالباً ما تستهدفها بشكل مباشر وتُصيبها في مقتل.

نعاني من فقر شديد في علماء الاجتماع والإحصاء، الذين كان يمكن أن يسهم وجودهم في فهم أعمق لواقع الأقليات وعوائق إدماجها في المجتمع بشكل أفضل. لا توجد إحصائيات أو دراسات اجتماعية تسلط الضوء على هذه الأقليات، التي يتم التذكير بها في كل مناسبة تقريباً، وكأن هناك نوايا عامة للتعامل معها بطريقة استثنائية، وهو أمر يتناقض مع مفهوم الدولة الحديثة.

خذ على سبيل المثال السريان، الذين هُجِّروا جماعياً من كيليكيا في جنوب الأناضول عام 1924 لأسباب تتعلق بكونهم أقلية، ثم أعيد تهجيرهم مرة أخرى عام 1969 للسبب ذاته إلى السويد وأستراليا، رغم أنهم مواطنون سوريون. لم تُجرَ أي دراسة أو إحصاء حول مصيرهم منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا.

وحتى الآن، لا توجد أي دراسة اجتماعية أو إحصائية عن هجرة أي من الأقليات المحلية، مما يجعل الحديث عن إشراكهم في المجتمع، من باب المجاملة الوطنية، تعبيراً واضحاً عن فشل عميق في الرؤية إلى الاجتماع السوري ومفهوم الدولة.

فيما يجيبنا الكاتب علي سفر على نحو: بالطبع، يمكن لجميع المكونات أن تسهم في بناء وجود إيجابي إذا تم الاتفاق على صيغة شاملة للحكم وللدولة. وأعتقد أن تحقيق الشعور بالمساواة يبدأ بتجاوز مفهوم الأكثرية والأقلية، واستبداله بمفهوم المواطنة. هذا النهج يتطلب إعادة بناء المفاهيم التي ترسخت بفعل النظام والقوى الإقليمية والدولية، والتي غالبًا ما نظرت إلى المجتمعات الشرقية من منظور نمطي، وافترضت أن الانقسام المجتمعي أمر ثابت وكأنه صفة جينية. 

إلا أن الواقع يشير إلى أن هذا الانقسام هو نتيجة للاستبداد وأحد أدوات السيطرة التي اعتمدها الطغاة.صحيح أن بؤر الانقسام موجودة في كل المجتمعات، لكن أسلوب تعامل الدولة المدنية والديمقراطية مع الأفراد والجماعات هو العامل الحاسم في صنع الفرق. وتاريخ الشعوب مليء بالتجارب التي تقدم دروسًا ومقاربات مهمة في هذا المجال.

ما هي السيناريوهات المحتملة لمستقبل سوريا إذا استمرت الانقسامات الداخلية دون حلول حقيقية؟

يقول نجيب نصير: تأسيس المجتمع يبدأ من تعريفه على أساس الاشتراك في المصالح الدنيوية فقط، وهو الدور الأساسي للقوى السياسية. علينا إعادة صياغة مفهوم الوجود الجماعي للأفراد، ونشر هذا المفهوم وتطبيقه من خلال الدستور. 

هذا النهج يقودنا إلى سيناريو وحيد منطقي: التنمية. أما خارج هذا الخيار، فهناك مئات السيناريوهات المحتملة، ولكن معظمها لا يخرج عن الفوضى أو الركود. فالعالم ليس ساحة خيرية تدعم الإعمار لأجل الإعمار فقط؛ إنه فضاء مفتوح على المنافسة. ولكي تكون جزءاً من هذا العالم، عليك أن تكون منافساً، ذا إرادة قوية، ومتخلصاً من أعباء التخلف.

الثورات، في جوهرها، ليست فقط محاولات للتغيير، بل هي فرصة لتربية الشعوب على التطلع إلى مكانة أعلى مما كانت عليه. ومع ذلك، تبقى الانقسامات الداخلية واحدة من حقائق سوريا القدرية، كما هي حال العديد من دول العالم. الفرق أن هناك أدوات ووسائل في أماكن أخرى للتعامل مع هذه الانقسامات وإدارتها. أما في سوريا، فإما أن هذه الأدوات غائبة، أو أن الرغبة في استخدامها معدومة.

الكلام عن القوى الخارجية صحيح وحقيقي، وكذلك الحديث عن علاقة الحاكم والمحكوم، التي عاشها السوريون لعقود حتى باتت جزءاً من وعيهم الجمعي. لكن فكرة التدرج الزمني للوصول إلى غاية محددة باتت خرافة في عصرنا الحالي. تأسيس مجتمع وتوليد دولة حديثة لم يعد لغزاً؛ نحن نعيش في عالم تحوّل إلى قرية صغيرة، والوصفة السحرية لتحقيق ذلك هي “الدستور”. دستور ينظم صفوف الشعب كمجتمع حي ومعاصر، قادر على الإنتاج والمنافسة على الساحة الدولية.

أن تكون سياسياً، وربما براغماتياً، وتتقدم خطوة خطوة، هذا نهج المجتمعات المؤسسة والمستقرة، التي تعرف دولتها أولوياتها الداخلية والخارجية. أما الثورات، فهي لحظة فارقة تتطلب قرارات حاسمة وإرادة جماعية لإحداث قفزة حقيقية نحو مستقبل أفضل.

فيما يرى على سفر أنه: في مرحلة ما، كان البعض يرى أن التقسيم قد يكون الحل الأفضل في مواجهة الاستعصاء الدموي الذي فرضه الأسد على السوريين، حيث بدا الانفصال وكأنه السبيل الوحيد للتصدي لعصابات القتل التي استباحت حياة البشر. لكن مع سقوط النظام والمجرم وزوال عصابته، أصبح هذا الخيار خلف ظهور السوريين. اليوم، بات من الضروري التفكير في أن الانقسامات الداخلية يجب أن تشكل دافعًا للتفهم والحوار. ومع ذلك، يجب الإقرار بأن الحلول السحرية غير واردة؛ فبدون الحوار لن نتمكن من تحقيق أي نتائج، حتى لو أعدنا المحاولات مرارًا وتكرارًا.

توجهنا إلى الصحفي والشاعر زيد قطريب وطرحنا عليه الأسئلة السابقة، حيث قال لـ “موقع صالون سوريا”: 

“دعونا لا نقبل تكرار نماذج فاشلة مثل دستور بريمر في العراق أو دستور لبنان واتفاق الطائف. التنوع أمر طبيعي في المجتمعات، فهل يعقل أن نسأل ‘أحمد’ عن ردة فعله إذا فاز ‘طوني’ بالانتخابات؟ وهل يحق لإلياس أن يغضب إذا كان محمد مديراً عليه؟

يجب الانتقال الآن من عقلية القبيلة إلى عقلية المجتمع الواحد، والقوانين هي الضامنة لذلك. في الآونة الأخيرة، اجتاحت إسرائيل حدود اتفاقية الهدنة بحجة حماية الأقليات، وهو ذات الخطاب الذي تكرره أمريكا دائماً. في الواقع، عندما نسمع مثل هذه التصريحات، يبدو الأمر كإنذار بهجوم وشيك، وكأنك تُدفع لحمل السلاح قبل وقوع الخطر.للأسف، الغرب هو المسؤول عن هذه النظرة. فرنسا جاءت بحجة حماية المسيحيين الموارنة، والإنجليز للدروز، وروسيا للأرثوذكس. كل هذا كان مجرد أكاذيب هدفها تفتيت المجتمع السوري تاريخياً وإضعافه. وعندما يقال اليوم إننا لا نستطيع الاتفاق بسبب التنوع الطائفي والعرقي، فهذا يعني ببساطة أننا مهددون بالتفتت. ما أثبته السوريون خلال الأسبوع الماضي بعد سقوط النظام يؤكد أن المجتمع السوري يسير في مسار طبيعي وموحد. إنه مجتمع متنوع مثل المجتمعات الأوروبية والأمريكية، التي لا تنتمي لطائفة أو عرق واحد، لكنها تدير شؤونها بوعي ومواطنة. رعاة سايكس بيكو يتحملون وزر هذا المرض الذي زرعوه في منطقتنا. 

لقد عملوا على تقسيمنا طائفياً وعرقياً، بتبرير أننا عاجزون عن إدارة أنفسنا أو أننا نتعامل مع بعضنا كالأعداء. المجتمع السوري عاش بهذه التركيبة منذ آلاف السنين، فلماذا يُفترض الآن أنه عاجز عن الاتفاق؟ هذه فكرة غربية وأمريكية تهدف إلى تفتيت المنطقة خدمة لمصالحهم. اليوم، هناك قيادة سورية جديدة أمام امتحان مصيري: هل تريد بناء دولة ديمقراطية تحتكم لصندوق الانتخابات؟ أم أنها ستختار الحكم العسكري؟ هل يقبلون تداول السلطة عبر صندوق الانتخابات؟ بكل صراحة، الشعب لم يعمل على الخروج من حكم الأسد البائد، إلا أملاً في الحرية ومواكبة العصر والحداثة. 

وسوى ذلك سيكون عودة للوراء. الإجابة على هذه الأسئلة ستحدد مواقف الجميع، وفق طبيعة الدولة التي سيتم إقرارها.. الغرب متهم بالنسبة لنا. لم يعتذر عن جرائمه بحقنا، سواء أثناء الثورة السورية الكبرى أو الثورة الجزائرية وثورة المليون شهيد. لم يعتذر عن وعد بلفور، ولا عن اتفاقية سايكس بيكو التي قسمت أوطاننا. التنوع في المجتمعات طبيعي، لكن المستعمرين أرادوا استغلاله لتقسيمنا وجعلنا وليمة سهلة. الحل الوحيد يكمن في صياغة قوانين ودستور يساوي بين جميع أبناء المجتمع في الحقوق والواجبات.

أما إذا لجأنا إلى الاستئثار بالسلطة، فسنكرر أخطاء الماضي. سوريا قادرة أن تكون دولة لجميع أبنائها، لكن أي محاولة لفرض الهيمنة ستؤدي إلى الانقسام. من غير المقبول تجزئة المجتمع. فإذا حاولت الأكثرية فرض رؤيتها بالقوة، فلن يكون هذا إلا استنساخاً لنهج بشار الأسد، ولن نحقق أي تغيير. الأنباء القادمة من المحافظات فيها بعض التجاوزات، وربما يعود هذا إلى وجود كتائب متعددة في المدن السورية. دعونا لا ننسى أن المبدعين السوريين مثل أدونيس والماغوط ونزار قباني، لم يكونوا رموزاً أدبية بسبب انتمائهم الطائفي، بل بسبب إنجازاتهم.

 هذه التصنيفات الطائفية تُسخّف الواقع ولا تخدم مصلحة المجتمع. من يملك السلطة، هو المسؤول عن وضع القوانين والدستور المساوي بين الجميع. فإذا نجح في ذلك، سيكون الجميع معه. أما إذا فشل، فسيبقى المجتمع مشوشاً ومنقسماً. بالنسبة إلي كمواطن عادي، إذا شعرت أن القوانين تحميني وتدفعني للمشاركة، سأنهض للمشاركة دون تردد. أما إذا شعرت أنني مجرد بيدق يمكن أن يتعرض للأذى إذا تكلم، فسأنعزل. لنوسع دائرة الحوار، فليس لنا سوى بعضنا، نحن أبناء الجسد السوري الواحد“.

أمّا بالنسبة للكاتبة والناقدة د. لمى طيارة، الحاصلة على دكتوراه في الإعلام السياسي، فقد أخبرت “موقع صالون سوريا” بأنها لا ترغب في الخوض في فرضيات غير مؤكدة أو تبنيها. ومع ذلك، أكدت أن هذا لا يعني أنها متفائلة بمستقبل مشرق لسوريا في ظل كل هذه التجاذبات القائمة.

وعلى الصعيد الشخصي، أوضحت د. لمى أنها واجهت تحديات كبيرة ككاتبة وناقدة على عدة مستويات. أحد أبرز تلك التحديات كان خوفها من الكتابة في صحف أو مجلات كانت تُعتبر “معادية” للنظام السابق، مما يعني تعرضها للتساؤلات والمضايقات. حتى عندما كانت تكتب مقالات ثقافية أو فنية، كانت تمارس الكتابة بحذر شديد، وكأن “حارس البوابة” يجلس فوق رأسها، يراقب كلماتها، يصحح مسار قلمها، ويحدّ من حريتها.

وأضافت أن النصوص المسرحية التي كتبتها، والتي نالت جوائز واستحسان النقاد والمسرحيين العرب، لم تكن بمعزل عن تلك العقبات. فقد واجهت رفض الرقيب ولم تتمكن من نشرها أو عرضها، بحجة أن “لا أحد يريد الآن التحدث عن أزمات المواطن مثل الكهرباء أو الغاز”. وأكدت أن هذا السلوك كان ممنهجًا للتعتيم الكامل على الواقع ومنع أي صورة حقيقية من الوصول إلى الناس. وأشارت إلى أن هذا التوجه وصل إلى حد إغلاق مكاتب القنوات الفضائية العربية ومنعها من تغطية الأحداث في سوريا. ونتيجة لذلك، ترى أن كثيرًا من أشقائنا العرب، بمن فيهم الإعلاميون، يجهلون الكثير عن واقعنا خلال السنوات الأربع عشرة الماضية.

أما اليوم، فتقول د. لمى إن الخوف أخذ طابعًا مختلفًا، خاصة مع انتشار دعوات لإلغاء وزارة الثقافة وأنشطتها. وتعتبر أن مثل هذه الدعوات تمثل خطرًا كبيرًا، حيث ترى أن الثقافة ليست مجرد خيار، بل ضرورة حتمية وأولوية لهذه المرحلة، وليست أمرًا يمكن تأجيله إلى مرحلة لاحقة.

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

السوريون يحتفلون بسقوط الأسد لكنّ المشهد العام لا يدعو إلى التفاؤل

السوريون يحتفلون بسقوط الأسد لكنّ المشهد العام لا يدعو إلى التفاؤل

(مقابلة  تلفزيونية مع بسام حداد على: Democracy Now!) ترجمة وتحرير: أسامة إسبر إيمي غودمان: نواصلُ تغطية سقوط نظام عائلة الأسد في سوريا بعد أكثر من نصف قرن من الدكتاتورية الوحشية، وذلك في أعقاب التقدم السريع للمقاتلين...

النساء ومعاركهن المتجددة

النساء ومعاركهن المتجددة

 يتم تسويف قضايا النساء بذرائع متعددة على الدوام، مرة بذريعة الحرص على الأخلاق العامة، ومرة أخرى بذريعة عدم المواجهة مع قوى الأمر الواقع، ومرات بذرائع تنبع فجأة من خبايا السنين وتصير حاضرة بقوة مثل طبيعة المرأة البيولوجية، أو التشريح الوظيفي لدماغ المرأة، وصولاً...

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

تمر سوريا اليوم بمرحلة فارقة في تاريخها، حيث يقف الجميع أمام اختبار صعب: هل يمكن تجاوز إرث القهر والاستبداد لبناء دولة جديدة قائمة على الحرية والكرامة؟ أم أننا سنتعثر مجددًا في أخطاء الماضي، التي صنعها الخوف، الصمت، وصناعة الأصنام؟ اليوم، نحن في حالة فراغ سياسي...

تدريباتنا