تدريباتنا

مفاتيح ادلب

by | May 30, 2022

يا قلب جدك هذا مفتاح البيت الذي ربيّتُ فيه أباك وعماتك، وكنت أتمنى أن تتربي فيه مع أخوتك ولكن حدث التهجير وشاء الله أن تولدي هنا في إدلب يقول أبو عبد الوهاب لحفيدته الأولى وهو يهديها عقداً ذهبياً كهدية لمولدها (النقوط) كما جرت العادة لديهم، مستبدلاً تعليق حرف اسمها بمفتاح منزله.

ترك أبو عبد الوهاب منزله بريف دمشق منذ تهجيره مع عائلته نحو الشمال السوري منذ عدّة سنوات.

المفتاح الذي يمثل الأرض والوطن في عاطفة أبو عبد الوهاب هو ذاته مصدر لرزق عدد من الناس الذين يعملون في مهنة صناعة المفاتيح في إدلب.

 محمد العلي (60 سنة) أحد الذين يعملون بمهنة المفاتيح اليوم، صبّ أول مفتاح داخل دكان والده قبل سبعة وأربعون عاما قبل أن يفتح دكانه المستقلّ بالقرب من دوار المتنبي، يقول لـ “صالون سوريا”: “دخلت العديد من التغييرات على مهنة صناعة المفاتيح”، كما تغيرّت معها مدينته إدلب كثيراً خاصة خلال العشر سنوات المنصرمة، إلا أن محمد استطاع مواكبة تلك التطورات رغم كل الظروف التي مرت بها مدينته ومهنته ليستمر في المدينة والمهنة التي هي آخر ما تبقى له من الزمن الجميل بعد وفاة زوجته كما يقول.

يشرح محمد لـ “صالون سوريا” أسرار صناعة المفاتيح قائلا: “تحتاج المهنة للكثير من الدقة والتركيز والتدريب، بالإضافة إلى الرغبة في تعلمها”، وتعلّم محمد هذه الصناعة من مراقبة حركات يد والده وهي تفرط الأقفال، أو تصب المفاتيح، ليبدأ بعدها بتقليده إلى أن اكتسب السرعة والحرفية في استخدام المفكات وإعادة تجميع الأقفال.

وعلى مقربة من دكان محمد باتجاه حي الناعورة، أحد احياء إدلب القديمة، كشك صغير على حافة الطريق يعمل به منصور (32 سنة) المهجّر من مدينة حمص، بعد أن حمل منصور معه سرّ مهنته المتوارثة في نسخ المفاتيح في قوافل التهجير نحو الشمال، فكانت مهنته صمام أمانه الاقتصادي رغم قلة مردودها، فهي على الأقل تمكّنه من دفع آجار الغرفة التي يقطنها مع عائلته.

زيّن منصور جدران هذه الغرفة بعدد من مفاتيح متنوعة الأحجام والأشكال جمعها خلال عمله، يتوسطهم مفتاح منزله الذي يحلم بالعودة إليه، رغم معرفته بأن منزله قد تدّمر.

مفاتيح دون أصحاب

قرب ساعة مدينة إدلب يجلس عبد القادر في مكتبه العقاري يومياً، بجوار لوحة تحوي مفاتيحا لبيوت ومتاجر عدد من أبناء المدينة الذين غادروها نحو تركيا أو أوربا.

يروي عبد القادر لـ “صالون سوريا” كيف ترك أصحاب تلك المفاتيح ممتلكاتهم بحوزته بغية تأجيرها والحفاظ عليها بعد سفرهم نحو تركيا أو أوربا منذ سنين.

ويضيف عبد القادر ” هذه المفاتيح غالية على قلبي، أحبها بقدر حبي لأصحابها، معارفي وجيراني، وأعامل بيوتهم كما أعامل بيتي، هذه المفاتيح أمانة والأمانة صعبة”.

وأخرى عابرة للحدود

على أطراف مدينة أطمة شمالاً، تعيش هند في إحدى المخيمات العشوائية برفقة ابنها وعائلته، تجلس يومياً على باب خيمتها ويتحلق حولها أطفال المخيم بفضول لتريهم مجموعة مفاتيحها المتنوعة، وهي “أغلى مقتنيات خيمتها” على حد وصفها.

هند فلسطينية سورية (45 سنة) كانت تقيم في مخيم الرمل الجنوبي باللاذقية قبل نزوحها منها لمدينة درعا ثم لمخيم أطمة، وهي ماتزال تحتفظ بمفاتيح كل البيوت التي سكنتها سابقاً، بالإضافة لمفاتيح منزل أهلها وبيت جدها في فلسطين قبل نزوحهم منها إلى سوريا.

تقول هند “لكلّ مفتاح قصة من الوجع والنزوح، ومع كل مفتاح مجموعة من الذكريات الجميلة التي قضيتها بتلك المنطقة مع أهلي”، ولهذا ورغم معرفتها ان أبواب كل تلك البيوت لم تعد موجود بفعل الزمن والحرب، ولكنها مصرّة على توريث تلك المفاتيح لأولادها وأحفادها من بعدها.

أما جارتها فاطمة الخليف (50سنة) النازحة من ريف حماة فهي ترى في تلك المفاتيح “بصيص ضوء بأمل الرجوع لمنازلهم عما قريب” بحسب قولها.

بعد أحد عشراً عاماً عن بدء الانتفاضة السورية وما عاشه السوريين فيها من خسارات متتالية تغيرت علاقة السوريين بتفاصيل لم تكن تعني لهم الكثير من قبل، ومنها المفاتيح فخلال العقود الماضية كان المفتاح مجرد أداة يحمون به أملاكهم أو يبعدون المتطفلين عن حياتهم الشخصية، ولكن هذا الأمر تغير في العقد الأخير حيث أضحى المفتاح نافذة لأزقة الذاكرة وعتبات الروح.

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

النساء ومعاركهن المتجددة

النساء ومعاركهن المتجددة

 يتم تسويف قضايا النساء بذرائع متعددة على الدوام، مرة بذريعة الحرص على الأخلاق العامة، ومرة أخرى بذريعة عدم المواجهة مع قوى الأمر الواقع، ومرات بذرائع تنبع فجأة من خبايا السنين وتصير حاضرة بقوة مثل طبيعة المرأة البيولوجية، أو التشريح الوظيفي لدماغ المرأة، وصولاً...

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

تمر سوريا اليوم بمرحلة فارقة في تاريخها، حيث يقف الجميع أمام اختبار صعب: هل يمكن تجاوز إرث القهر والاستبداد لبناء دولة جديدة قائمة على الحرية والكرامة؟ أم أننا سنتعثر مجددًا في أخطاء الماضي، التي صنعها الخوف، الصمت، وصناعة الأصنام؟ اليوم، نحن في حالة فراغ سياسي...

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

شهدت سوريا خلال أربعة عشر عامًا من الصراع تحولًا جذريًا في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية. بدأ الحراك شعبيًا وسلميًا، لكنه انتهى بصراع مسلح معقد ومدعوم خارجيًا، في ظل غياب قوة سياسية مؤثرة ميدانيًا. وبينما ساندت روسيا وإيران النظام السوري، مما أطال أمد...

تدريباتنا