في أحد أشدّ أيام سوريا حساسيةً وأكثر مفاصلها تعقيداً، تحديداً في اليوم الرابع...
تدريباتنا
ورشة تدريب صالون سوريا
أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...

تقول الأرقام الواردة من دمشق، إنّ ما يقارب مليون سوري وسورية قد عادوا إلى بلدهم بعد سقوط النظام. لقد شكل هذا السقوط المدوي صدمة عاطفية دفعت كل قادر على العودة للسفر فوراً. انقسم العائدون إلى شريحتين: شريحة مدفوعة بالعاطفة وتمتلك وثائق تمكنها قانونياً من العودة؛ وشريحة من الصحافيين\ات السوريين\ات العاملين\ات في محطات إعلامية عربية ودولية ممن عادوا فعلياً للعمل على الأرض السورية فحققوا استجابة عاطفية وحضوراً عملياً، وكانوا خير بداية للإعلام المنقول من على الأرض في جو عارم من الزخم المهني والعاطفي.
لكن السؤال الأهم بعد هدوء العاصفة العاطفية وتصديق واقع رحيل النظام إلى غير رجعة، هو ماذا عن باقي عودة السوريين\ات المنتشرين\ات في بقاع الأرض؟
تجدر الإشارة إلى أن عدداً كبيراً تجاوز المائتي ألف سوري من النازحين\ات السوريين\ات في لبنان وخاصة من النساء والأطفال قد عادوا إلى سوريا في الأشهر الأخيرة وحتى قبل سقوط النظام بحوالي خمسة أسابيع تزامناً مع الضربات العسكرية الإسرائيلية.
هل يعود السوريون؟ إنها محطة جديدة من الأسئلة المستجدة والتي تتصارع الأجوبة عليها، لأنها أكبر وأوسع من الإجابة بالنفي أو بالإيجاب.
ترتبط الإجابة على سؤال العودة بظروف كل شخص وحالته القانونية والمالية والعائلية. وترتبط أيضاً وبشكل أساسي بالعمل وبالتوصيف الاقتصادي المهني، كما ترتبط بالبعد العاطفي الوجداني أو العائلي المتشابك ما بين سوريا وما بين البلد المقيم فيه.
لكن وللأسف الشديد وتطبيقاً للمثل العامي الشهير (راحت السكرة وإجت الفكرة)، تبدو موجبات العودة أقل من موانعها. فعلى سبيل المثال يعيش وليم وهو مهندس سوري في ألمانيا، ولم يتمكن بسبب اللغة والتقدم في العمر من تعديل شهادته، وهو يعمل الآن كسائق باص للنقل الداخلي في إحدى المدن الألمانية، يروي وليم حكايته مع العودة قائلاً: “بعد خمسة أيام من سقوط النظام سألني المشرف على العمل وبصورة رسمية هل سأعود إلى سوريا؟ كان السؤال صادماً لأنه ورد من المشرف أولاً، ولأن صدمة الفرح بسقوط النظام لم تسمح لي بتوجيه هذا السؤال حتى لنفسي!” ربط المشرف سؤاله بحقيقة صادمة لوليم وللمشرف أيضاً، وهي أن ستة عشر سائقاً من أصل أربعين سائقاً يعملون في شركة النقل هم من السوريين. من المؤكد أن وليم يعرف هذا، وأن كافة السائقين السوريين يعرفون بعضهم البعض، لكن توقيت السؤال يتضمن حرص الشركة وربما ألمانيا على ضرورة ترتيب جدولة العودة إلى سوريا حتى كزيارة. تتعادل وجوه الصدمة هنا، إذ تطفو على السطح مصلحة العمل، بينما يغرق السؤال عميقاً في وجدان وليم وشركائه في العمل من السوريين.
الصدمة الأكبر حول سؤال العودة كانت في البيوت، بمشاورات انفعالية، مترددة ومركبّة جرت بين أفراد العائلات وخاصة بين الزوجين، وصلت بعض الصدامات إلى طلب الطلاق إن لم يوافق الزوج أو الزوجة على العودة أو إن قرر العودة تم بشكل منفرد.
ثمة قطب مخفية وغير معلنة تجعل من عدم العودة قراراً مؤكداً، مثل التبدلات الشخصية التي اتخذها أصحابها وخاصة صاحباتها مثل الزواج من أجنبي، أو خلع الحجاب. وللأمانة وفي بعض الحالات وبعد مرور أكثر من سنوات عشر على اتخاذ هكذا قرارات شخصية يبدو أن بعض الأشخاص لم يعلنوها في بيئاتهم العائلية، بل وقد تُخفى حتى عن الأب والأم، رغبة بعدم فتح أي نقاش وتداركاً لأي عتب أو مساءلة قد تصل إلى درجة القطيعة.
لن يعود السوريون\ات ممن لديهم أطفال لا يعرفون حروف اللغة العربية ولا الأرقام ولا التحية ولم يتحدثوا بها مطلقاً منذ ولادتهم. كما يمكن القول إن سقوط النظام قد شكل صدمة وجودية للجميع خاصة أن أحداً لم يتوقع سقوطه رغم الأمل الكبير بذلك ورغم الجروح النازفة شوقاً ورغبة بلم الشمل. إن سقوط الأبدية أربك الجميع وخلق حالة من اختلال التوازن الوجودي والعاطفي، تغيرت فجأة خارطة الأولويات لدى الجميع، حزمة من القرارات الفجائية والارتجالية التي طغت على تفاصيل الحياة اليومية.
بدأت بعض اللاجئات بالتزام قرار جديد، قرار عاصف بالتوقف عن شراء أي شيء جديد حتى لوكان قطعة ملابس منعاً لتراكم الأغراض التي سيشكل تصريفها أو التخلص منها عائقاً أمام إجراءات العودة. كما أن البعض منهن وفوراً قُمن بالتخلص من الكثير من قطع الملابس الفائضة وحتى قطع منزلية مثل الحرامات والأغطية أو بعض أدوات المطبخ. وبعض الأشخاص كسلمى، فقد كان قرار العودة لهن حاسماً وممكناً ولو كان مؤجلاً، لذا فقد افتتحت سلمى حقيبة كبيرة وألصقت عليها بطاقة كبيرة مكتوب عليها (شنتاية سوريا)، وبدأت بتوضيب كل الأشياء التي تراها ضرورية لاصطحابها معها إلى سوريا في رحلة العودة النهائية.
لن يعود كل السوريين\ات، ولن تكفي الصفحات للإجابة على هذا السؤال، وعنوان العودة يبدو موازياً تماماً للسؤال السابق، إلى أين سيكون اللجوء؟
الأهم هو أنه بات للسوريين\ات وطناً، يفرض التفكير به كمساحة متاحة للزيارة مهما كانت قصيرة، وطن استعاد السوريون والسوريات فجأة تفاصيله بزخم عاطفي غير مسبوق. تقول لي صديقة: “فور إعلان السقوط والدموع تغمر وجهي انتابتني موجة حنين لا يطفئها ماء البحار كلها”، لكنها أردفت قائلة: “تخيلي أن رائحة سوق باب الجابية تسربت من أنفي، وكأنها كانت كتلة مخزنة في الأعماق وانفجرت فجأة، بت محاطة بها وكأنني أقف هناك، أوسع صدري وحواسي كلها لاستنشاق هواء حُرمنا منه مع أنه كان ملوثاً، كان عصياً حتى على الحضور في يوميات اللجوء الممتدة والطاعنة في قسوتها وفي مرارتها المتسارعة.”
هناك ملايين من السوريون والسوريات ممن لجؤوا في أوروبا وتركيا وكندا ومصر ولبنان والأردن، فعلى الأقل أصبح ثلث سكان سوريا خارج بلادهم منذ سنة ٢٠١١. هذا عدا عن ملايين السوريين\ات المقيمين في أوروبا ودول الخليج و أربيل والعراق منذ قبل الثورة السورية، فهل سيعود هؤلاء أيضاً؟ لا أحد يمتلك جواباً حاسماً، تبدو الأسئلة كما الأجوبة متفاوتة الأهمية، متقلبة، غير حاسمة وعدوانية في بعض تفاصيلها، لكنها تستحق الإنصات، تستحق التمعن بجدية بالغة وبحنان يليق بالسوريين والسوريات وبسوريا.
يسعى العديد من السوريين\ات الآن إلى الحصول على جنسيات بلاد لجوئهم، فقط لضمان إمكانية زيارة سوريا مراراً والعودة إلى بلدان لجوئهم التي صارت تعادل بلدانهم الأصلية في التوصيف القانوني لحضورهم، ربما لن يعود الكثير ممن يتمنوا العودة لأنهم يفتقدون إمكانية تغيير صفة اللاجئ فقد فاتهم سن العمل والمقدرة على تعلم اللغة الجديدة، سيعيشون حلماً مريراً أزاحوه جانباً واستسلموا لفكرة أنهم بلا وطن! لكن الازدواجية الحاصلة اليوم تشكل اختباراً قاسياً، مرهقاً وشديد المرارة للعاجزين عن تجاوز واقع أن بلدهم صار مباحاً للعودة، وأن فرق التوقيت بات عاملاً حاسماً يؤكد اللا عودة، خاصة أنهم في البلد بلا دعم مادي وبلا ضمان صحي وبلا بيوت وربما بلا أهل أو جيران، وربما أبناؤهم هنا في بلاد اللجوء لكن بظروف لا تشبه اللمة العائلية، لكنهم غارقون في العجز وفي الخيبة.
البلدان لا تزول ولا تسقط مهما طالت الأزمنة، لكنها تضيّع أبناءها في كل سياقاتها الثابتة والمتحولة سلباً أم إيجاباً.
لك السلام وعليك السلام يا بلد، سوريا يا بلدنا.
مواضيع ذات صلة
مواضيع أخرى
تدريباتنا
فوضى الإعلام والحاجة إلى شاشاتٍ وطنيةٍ موثوقة
في أحد أشدّ أيام سوريا حساسيةً وأكثر مفاصلها تعقيداً، تحديداً في اليوم الرابع...
ورشة تدريب صالون سوريا
أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...