تدريباتنا

بائعات الخبز في دمشق

by | Feb 7, 2022

لا يمكن الادعاء أنّ البحث عن الفتيات، صغيرات أو كبيرات، بائعات الخبز بالأمر الصعب والمعقد. الأمر لا يتطلب إلّا جولة في السيارة على أفران العاصمة السورية دمشق، أو ببساطة يمكن تحديد خط سير الباحث عن الفتيات وقصصهنّ بالمرور على فرن باب توما، ثم “أفران ابن العميد” في برزة، فـ “فرن الشيخ السعد”، وثم إلى “الأفران الاحتياطية” في نهاية أوتوستراد المزة. وهذه الأفران ليست إلّا عينة يتطابق معها حال عشرات الأفران في العاصمة وريفها.
في النهار أو الليل، المشهد هو ذاته. لا تتغير مواعيد تواجد الباعة الغلابة، إلا بحسب الوقت الذي سيخبز فيه الفرن الخبز، وبمطلق الأحوال هذا لا يعني أنّ هذه المهنة المستجدة هي حكر على الأطفال والنساء. فالرجال، وهم كثر، ينتشرون مع النساء والأطفال على الأرصفة، في الشوارع، ونواصي الطرق، وجميعهم لا يخبئون أنفسهم، فعملهم يقتضي وقوفهم في أمكنة مكشوفة، لعرض بضاعتهم، وبضاعتهم تلك، قوت السوريين وموضع رفاهيتهم الذي لم يحرموا منه، حتى الآن، على الأقل.

مريم الخائفة
تقف مريم، وهو اسم مستعار لفتاة ستصل عامها الثامن عشر في منتصف العام الجاري بحسب ما قالته لـ “صالون سوريا” إثر محادثة قصيرة نسبية، قضتها الفتاة تتلفت حولها خائفةً. نسألها عن السبب، وتجيب باختصار يحمل ما يحمله من الخوف: “ولاد الحرام كتار!”. يبدو الجواب معقداً على بساطته، ترفض أن تشرح، تقول فقط إنّها غير مرتاحة ولا سعيدة، “ألف نعمة البيع بالنهار، بالليل بتشوف العجب، بتشوف ناس ع حقيقتن”، تستخدم مريم ذات الأجوبة المختصرة، وترفض بعد كل جواب أن توضح ما قصدته، تباغتنا بسؤال: “بدك تشتري ولا تتسلى؟”.
شرحت لها أسباب أسئلته، لم تعر أي انتباه للحديث، تبدو كمن لم يفهم الغاية من أساسها، “شوف لقلك، من كم يوم، إجا شب بالليل بسيارتو، ضل ياخد ويعطي معي ربع ساعة وما اشترى مني، بتعرف شو بدو، قلي: تروحي معي تعمليلي عشا بالبيت وبعطيك 10 آلاف، أي أنا فقيرة، وعم اشتغل غصب عني، بس أنا ماني بنت وسخة، مو يعني إذا عم بيع خبز بالشوارع إني بنت مو منيحة، لأ، أنا كلني شرف وبوزعو ع كل الدنيا، هاد واحد من كتار بيجو ليتسلوا ويقلولي روحي معنا، أي شفت قدام عيني بنات طلعوا بسيارات، شفت بنت عمرا ما وصل 15 سنة عم تبيع بالشيخ سعد طلعت مع سيارة وقفت حدها لتشتري خبز، الله أعلم وين راحت معو وشو صار بعدها، أنا أصلا ما بعرفها لأسأل عنها، وما كان فيي امنعها، أنا شو دخلني؟، أنا بدي مين يحميني”، تختم مريم حديثها: “مرة تانية بسألك بدك تشتري ولا تتركني أعرف بيع؟”.
لا يمكن تصوير ما يحصل من انتشار هؤلاء الباعة إلا بالسر، هذا بديهي، هم مضطرون وغير راضين عما يفعلونه، ولكنّها الحاجة، هذا ما أجمع عليه كثر من الباعة الذين حادثهم “صالون سوريا”، لذا كان لا بد في مكان من اللجوء للطريقة التقليدية في تصوير الأفلام التوثيقية الشائكة، مع الأخذ بعين الاعتبار الأخلاقيات المهنية التي تحتم تغطية أوجه الأشخاص الظاهرين، فالمهم هو توثيق الحالة، لا فضح احتياجات الناس، وهذا متفق عليه في الحد الأدنى من العمل في التحقيقات الصحفية، وعلى خلاف هذا العرف يمضي البعض غير آبهٍ بعرض الوجوه، مستغلاً حاجة هؤلاء الغلابة الذين لا يملكون تلفازاً ولا يتابعون باهتمام مواقع وصفحات الأخبار على شاشة هاتفهم الصغير، هذا إن امتلكوه أصلا، وفي الإطار وبرغم أنّه من البديهي ف”صالون سوريا” متمسكٌ باحترام خصوصية هؤلاء الناس.

سوريا المظلمة
في تمام الثانية ليلاً كانت تقف علا ذات الثلاثة عشر عاماً في “حي الشيخ سعد” الدمشقي قرب فرن الحي. تحمل بيديها أربع ربطات خبز، تعرضهنّ للبيع دفعةً واحدة، صمت مطبق في الشارع، صمتٌ يخرقه أحياناً مرور سيارات عابرة في تلك الساعة المتأخرة من ليل العاصمة التي باتت تغفو باكراً على أوجاع سكانها الذين صاروا في عام الحرب هذا ينامون جياعاً، الأمر لا يندرج في إطار المبالغة الكلامية، فأولئك الذي يلتحفون السماء ويفترشون الأرصفة، صاروا كثراً، أيضاً لحظهم لن يتطلب الكثير من البحث، الشوارع فيها ما فيها من فقر وبرد ومرض وتعب، أهل يصدق عاقل أنّ هذي البلاد ستصل يوماً تمتلئ مجامع القمامة فيها بأشخاص باحثين عن لقمة عيش؟، وبالنباشين أيضا؟ً، أولئك الذين يتسيدون جانباً خاصاً من سوريا المظلمة.
أما عن علا ذات الربطات الأربع، فلا تبدو عليها ملامح “التعتير”، تبدو الفتاة أنّها بمكان ما تنحدر من طبقة عادية الفقر، وهذا أمر آخر، فالفقر صار درجات، منه المدقع ومنه الذي لا زال يناضل أناسه لئلا يطحنهم.
صغيرةٌ علا على هذه المهمة الشاقة، هذا أول ما يتبادر للذهن، تقول ل “صالون سوريا”: “أنا عم اشتغل ببيع الخبز لأسند عيلتي، صرلي أكتر من سنة بهالشغلة، أبي عاجز، وأمي بتشتغل بشطف الدراج، وأمورنا الحمد لله أحسن من غيرنا”.
ليكسب “صالون سوريا” أطول وقت من الحوار معها، اشترى منها الخبز، رفضت أن تبيع ربطة واحدة، تصرّ أنّ البيع كل ربطتين معاً وفي كيس واحد، وبفضول البحث عن القصة خلف كل هذا، تبين أنّ الكيس فيه اثني عشر رغيفاً فقط، فيما يفترض أن يكون فيه أربعة عشر رغيفاً، وحين سؤالها، ضحكت: “كيف بدها توفي لكن إذا بدي بيعك نظامي؟”، علماً أنّ الصغيرة تقاضت مبلغ ألفي ليرة مقابل الربطتين الناقصتين، أي بربح إجمالي يساوي ألفاً وخمسمئة ليرة سورية، لذا تبدو هذه التجارة مربحة، وهذا يدلل على استمرار هؤلاء الباعة بعملهم.

التحرش المرّكب
اتفق “صالون سوريا” مع أحد الأشخاص الثقة أن يأخذ دور الشخص الذي سيعرض مشواراً على إحدى هاته الفتيات، بعد أن اجتمعت العديد من الخيوط والمؤشرات حول أنّ هذا الأمر ذاته، صار مثار سمسرة وخبرة لفتيات عدة، وفعلاً نجحت القصة من أول محاولة، توقف الشخص الذي سنسميه سامر بسيارته قرب فتاة لا تبدو عليها علامات البلوغ، تبين لاحقاً أنّ عمرها خمسة عشر عاماً.
إذن، توقف السائق قربها، حادثها من نافذة السيارة: “مرحبا، قديه عم تبيعي الخبز؟”، بهذه الطريقة بدأ الحوار ثم طال وامتد لقرابة خمس دقائق، واختصاراً للقصة، طلبت الفتاة فوق ثمن الخبز خمسة آلاف ليرة سورية لتذهب معه مشواراً في السيارة فقط، أعطاها سامر المبلغ المطلوب، لتقول له: “انطرني دقيقة وبرجع بس لخبر رفيقتي”، ورحلت الصغيرة بعكس اتجاه السيارة، ولم تعد، كان هذا متوقعاً، ف “صالون سوريا”، استمع للعديد من الروايات التي تتطابق مع ما حصل، أنّ فتيات كثر صاروا يطلبون مبالغ مقابل الذهاب مع سائق السيارة، بعد تقاضيهم المال سلفاً، منهنّ من تهرب، وأخريات يصعدن فعلاً، وغيرهنّ يزجرن المفاوض وقد يصرخن عليه.

ليسوا شحاذين
على المقلب الآخر ثمة من يبيع الخبز بثمن أكثر رحمة، وبمصداقية ونزاهة أعلى، فتيات دون السن القانوني، وأطفال صغار دون العاشرة، يمكن لحظهمّ أكثرّ من الفتيات، الطفل علي ذو الثمانية أعوام يبيع كل ربطتين ب1400 ليرة، وحين يحاول أحد الزبائن أن يترك له مبلغاً إضافياً يرفض بشدة، لوهلة يبدو هذا الطفل رجلاً كبيراً، ومثله حالات كثيرة، يكتفون بالبيع لجني لقمة عيشهم لا أكثر ولا أقل، بيد أنّ ما بين الحالتين ما بينهما، هي ظاهرة غامضة ومكشوفة في آن، بين لقمة شريفة وبين تجارة رابحة، تنقسم نفوس وأخلاق هؤلاء الباعة، إلّا أنّه بالمحصلة ثمة شيء أكبر بكثير من كل هذا، الأكبر هو الضحية، والضحية سوري، اعتاد يوماً أن يعيش عزيزا، أما اليوم فالسبل قد ضاقت، يكفي أن نقول أنّ صناعياً من حلب وتاجراً من حمص افتتحوا بسطات على الأرصفة بعد أن كانوا أصحاب معامل قبل عام 2011.
.

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

في وقت فراغي: ستَّة نصوص لِـ(أديبة حسيكة)

في وقت فراغي: ستَّة نصوص لِـ(أديبة حسيكة)

(1) في وقت فراغي كنتُ أملأ الأوراق البيضاء بالحقول كان يبدو الفجر أقرب و السحاب يمرّ فوق الطرقات بلا خسائر..  وكان الماضي  يمتلئ  بالألوان. لا شيء مثل اللحظة حين لا تجد المسافة الكافية لتخترع أجنحة تكاد تنمو كزهرة برية.  بدأتُ أجمع صوتي من الريح و أفسّر...

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

لم يكتفِ الناس في سوريا من معاناتهم وأوجاعهم اليومية، التي فرضتها ظروف الحرب وما تبعها من أزماتٍ متلاحقة وتردٍ في الواقع الاقتصادي والمعيشي، حتى أتى فصل الصيف، الذي سجل هذا العام ارتفاعاً كبيراً وغير مسبوق في معدلات درجات الحرارة، وكان الأقسى على البلاد منذ عقود،...

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

تدريباتنا