تدريباتنا

يوميات سورية: الأطفال والتسول

by | Apr 4, 2018

في كل البلاد جياعٌ ومتسولون، المشكلة تبدأ عندما يربط الجمهور مشكلة الجوع بتقصير الأفراد عن تأمين الحد الأدنى من مقومات العيش فتتحول المسؤولية المباشرة من الجهات المسؤولة إلى من يحتاج الدعم، وتصير الفئات الأكثر ضعفاً مدانةً ومتهمةً فيزيد الحيف وتهرب الحلول.

عندما يتعامل الجميع مع الجوع والتسول وكأنهما متلازمتان قطعيتان يتداخل السبب والنتيجة في عمقٍ إقصائيٍ يُبرّر الهروب من مسؤولية التصدي للمشكلة بشكلٍ عميقٍ ومتوازن وليس من مجرد باب الإحصاء والأرقام والسخرية، بل إن دراساتٍ كثيرة يوافق عليها أغلب الجمهور تجعل من هؤلاء المستضعفين سبباً بارزاً للتخلف وتراجع جدوى الخطط الوطنية للنهوض بأحوال الأفراد .

على زاوية حديقة العدوي تقف طفلة متسولة، آثار خرمشةٍ قاطعةٍ ونازفةٍ على رقبتها، بشعرٍ صبيانيٍ وعيونٍ شبه ميتة وبنطالٍ مهترئٍ وجاكيت رياضية تشد على تفاصيل جسدها الأنثوي. أسألها عن اسمها؟ فتقول “أحمد” وتشد سترتها الضيقة لتخفي ظلال برعمين يتفتحان على صدرها، هكذا طلب منها والدها: “أن تقدّم نفسها كصبيٍ درءاً للتحرش”! من قال أن التحرّش بالصبية نادر، فهو متفشٍ وبغزارة دنيئة لا تفرّق بين جسدٍ وآخر إلا بغريزة الفريسة والمفترس.

***

على باب أحد المولات الكبيرة في حيٍ غني وآمنٍ تمنح إحدى السيدات سُكرةً طريةً لطفلةٍ بعمر السنتين بحضن أمها المتسولة وبجانبها أختها ذات الأعوام الأربعة. السكرة كبيرة الحجم على الفم الطفولي، تسقط منه مبللةً بلعابٍ مشتاقٍ لنكهة السكر، فتغتنم الطفلة الأكبر فرصة السقوط وتلتقطها معفرة بالتراب وتدسها في فمٍ يتسع لها ويستطعم بنكهتها. تبكي الأصغر، تضرب الأم الابنة الكبرى ضربة قوية على ظهرها، تخرج السكرة من فمها. تبكي البنت وتقول: “والله كنت عم غسلها ياها من التراب!”

أجل ثمة اختناقٌ يحرمُ الفم الطفولي من التنعّم بقطعة حلوى، صراعُ حقوقٍ هنا، والكل خاسر، والأم غير عابئة بحزن الطفلتين ولا ببكائهما، تتركهما وتغيّر مكانها إلى الزاوية الأخرى فغلة اليوم خاوية حتى الآن.

***

يتلبس التسول ألف وجهٍ، باعة ُمحارمٍ عند إشارات المرور، ماسحو زجاج السيارات، باعة علكٍة وحمالون بأجسادٍ ضئيلة وظهور منحنية، تتفاوت الشفقة ما بين مانحٍ أو شاتمٍ للأهل أو للحرب والفقر معاً. وأكثر المظاهر تناقضا كشكلٍ احتياليٍ على التسول هو بيع الآيات القرآنية على إشارات المرور وعلى أبواب الحدائق والمولات الكبيرة. ذات مرة رفض متسولٌ صغير أجبروه على تلبّس حالة الإيمان خمسمائة ليرة دفعة كاملة من قبل سيدة فقط لأنها قالت “يا لطيف على هذا الاحتيال!” لابل لاحقها بشتائمه وقال لها “لا أريد نقوداً من كافرةٍ مثلك.”

في حيّ قريبٍ جداً اسمه “الرز”، يتجمع عددٌ كبيرٌ من المتسولين الأطفال لينطلقوا إلى عملهم اليومي، تقودهم تراتبية عالية الاحتراف. الزعيمة بحدود الخامسة عشرة أو أكثر بقليل من عمرها بكحلٍ أسودٍ في عينيها وبأساورٍ وخواتم معدنية في أصابعها ويديها، هي الصندوق  أو الخزنة بالمعنى الفعلي، تجلس جانبا تراقب الجميع وتحمل حقيبةً جلديةً تعلّقها على صدرها بشكل متصالبٍ كي تأمن من النشالين. تتلهى “الزعيمة” بدعوة بعض النساء المغمورات بالخيبة أو الهجران لقراءة الطالع والتحايل على أحزانهن ببعض الوعود الكاذبة لتحتفظ بغلّة التنجيم لها شخصيا بعيدا عن عيون الأكبر سناً والمراقبين والمحصلين ضمن البنية التراتبية ذاتها. بين المتسولين طفلة بجاكيتٍ جميلٍ، لكنها وحين تصل إلى ساحة العمل للبدء بالتسول، ترميه جانباً كما تخلع جوربيها وجزمتها لترتدي شحاطة بلاستيكية عتيقة توحي بالبرد وتثير الشفقة وتستدر العطاء من الجيوب.

***

يُحكى أنّ طفلتين متسولتين قد عبرتا بأسمالهما البالية وجسديهما النحيلين مكاناً أهله أغنياء، فنادتهما امرأة من شرفتها واعدةً إياهما بفطورٍ صباحيٍ غنيٍ ومشبعٍ وشهيٍ. صعدتا إلى الطابق الثامن في بناءٍ برجيٍ سيراً على الأقدام لأنهما تخشيان استعمال المصعد كما أنهما وحينما حاولتا استخدامه ذات مرة صفعهما ناطور البناء لأنهما غير جديرتين باستخدامه أصلاً. المهم وصلت الطفلتان إلى عتبة منزل السيدة المضيفة التي وقفت بانتظارهما مع ابنتها، لتقول لابنتها: “شفتي هيك يللي ما بياكول موز وما بيشرب حليب بيصير نحيف ووسخ وشحاد!”

***

على أبواب المشافي ثمة أطفال يحملون بأيديهم المرتجفة وصفاتٍ طبيةٍ وقد تكون محمولة بالمقلوب لجهلهم بالكتابة أصلاً. يثبتون الوصفة في  وجه العابرين مكررين ديباجة فارغة وكاذبة: “هادا الدوا لأمي، هي جوا بالمشفى وما معنا حق الدوا”. لا تحاول التدقيق في أسماء الأدوية فهي حكما ليست للحالة المذكورة، ولا تحاول تكذيب الرواية أو الاكتفاء بعبارة “الله يشفيها،” لأنك حينها ستتلقى صفعةً كلاميةً على شاكلة: “الله لا يعافيك، أو انشا الله بتمرض وما بتلاقي حق حبة دوا بجيبتك.” وقد تكون الرواية صحيحةً وحقيقيةً لكن فرص التأكد واهيةٌ جداً وما عليك سوى الدفع كي لا تقع في شراك الندم.

***

بالقرب من إحدى إشارات المرور وعند زاوية الرصيف طفلةٌ يافعةٌ وفي حضنها رضيعٌ يبكي، تسعى جاهدةً لإسكاته بدسّ اللهاية أو رضاعة الحليب في فمه لكنه لا يتوقف عن البكاء. تمطر فجأة، يشتد المشهد حلكة، لا الطفلة اليافعة مدربة بخبرة الأم للهرب أو النجاة ولا الجو الماطر يحتمل البقاء، تمنحها إحدى السيدات العابرات ألف ليرةٍ كاملة وتقول لها باكية: “هذه غلّة اليوم!خذي أخاكِ وانصرفي!” وتعقب “لم تعد قلوبنا تحتمل كل هذا الظلم،” لكنّ مرافقة السيدة تعترض بشدة على تصرفها وتحاججها بأنها بذلك تكرّس عملية استغلال الرضع لجني المال. أتركهما غارقتين في نقاشٍ بلا أدنى توافق، فكل التحليلات صحيحة لكنها دون جدوى، والحل لا يكمن في آلاف الليرات ولا في توفر التعاطف أو غيابه، القصة أكبر من مسألةٍ قابلةٍ للتحليل والتوصيف وحسب، هي نتاجٌ منسجمٌ ومتوافقٌ مع غياب كافة آليات الحماية للطفلات والأمهات والرجال من التسول. فآليات الحماية يجب أن تكون مجتمعية التوجه ومجتمعية المحصلة النهائية للحلول أو غيابها.

إنّ التعوّد البصري على الأعداد الكبيرة من المتسولين هي قضيةٌ مؤسفةٌ وتُعمّق جذور المشكلة، فالاعتياد بداية التجاهل، وبداية التجاهل هي بداية لوم الآخر (الأضعف)، وبداية لومه هي إعفاء للجميع من المسؤولية أفراداً ومؤسساتٍ وحكوماتٍ.

جرّبتُ ذات يوم ٍأن أكون حكماً بين طفلين متسولين يتشاجران على أحقيتهما بسيارة سباقٍ معدنيةٍ صغيرةٍ سوداء اللون، لكن عبثاً. بل نابني بعض الشتائم وركلة ودعوات للانصراف من قبل الحاضرين حفاظاً على سلامتي الشخصية واصفين عملي بالحالم والأحمق.

***

تتعرّف إلى المتسول الجائع فوراً من طريقة تعامله مع السندويشة أو الفطيرة التي تمنحها له، لكن ماذا أنت بفاعل إن قال  لك: “بدّي كمان لأختي! أو لأمي.”ّ

موجودون بكثرة، ينامون من شدة التعب والجوع، يتشاجرون، ينشلون ويسرقون، ويتلقون الصفعات والشتائم كما الليرات وسقط الطعام أو المتاع.

المتسولون الأطفال أكبر من مشكلة وأقل من خطة للمعالجة أو التجاوز نحو الخطوة التالية ،لا خطواتٌ  تلوح في الأفق، لا خطط ولا إحصاءات، مجرد ترحيل للأزمة كما كل التدابير، والكلام أقل من أن يكون ذا معنى، هذا عن الكلام أما الأفعال فغائبة تماما كما كل الآمال.

مواضيع ذات صلة

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

إحدى وثلاثون سنة من الغياب مضت على انطفاء فارس السرد "هاني الراهب" ومازالت نصوصه تتوهج وتمارس سطوتها وحضورها الآسر على أجيال أتت من بعده تتقرى معانيه وتتلمس خطاه رغم التعتيم والتغييب الذي مورس بحقه على مر الزمن الماضي ومحاصرته في لقمه عيشه بسبب من آرائه ومواقفه،...

الواقعية النقدية لدى ياسين الحافظ

الواقعية النقدية لدى ياسين الحافظ

ياسين الحافظ كاتبٌ ومفكر سياسي سوري من الطراز الرفيع، يعدُّ من المؤسسين والمنظرين للتجربة الحزبية العربية. اشترك في العديد من الأحزاب القومية واليسارية، ويعدُّ الحافظ في طليعة المفكرين التقدميين في العالم العربي، اتسم فكره بالواقعية النقدية، تحت تأثير منشأه الجغرافي...

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

مواضيع أخرى

زكريا تامر بوصلة التمرد الساخرة

زكريا تامر بوصلة التمرد الساخرة

"أكثر قصصي قسوة هي أقل قسوة من الحياة العربية المعاصرة، وأنا لا أستطيع وصف السماء بجمالها الأزرق متناسياً ما يجري تحت تلك السماء من مآس ومجازر ومهازل.. صدّقني الأسطورة أصبحت أكثر تصديقاً من واقعنا المرير" بهذا التوصيف العاصف يلخص الكاتب السوري زكريا تامر (1931) تجربته...

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

إحدى وثلاثون سنة من الغياب مضت على انطفاء فارس السرد "هاني الراهب" ومازالت نصوصه تتوهج وتمارس سطوتها وحضورها الآسر على أجيال أتت من بعده تتقرى معانيه وتتلمس خطاه رغم التعتيم والتغييب الذي مورس بحقه على مر الزمن الماضي ومحاصرته في لقمه عيشه بسبب من آرائه ومواقفه،...

افتحوا النوافذ كي يدخل هواء الحرية النقي

افتحوا النوافذ كي يدخل هواء الحرية النقي

يصدمنا الإعلام الاجتماعيّ كل يوم بمقاطع فيديو وأخبار حول امتهان كرامة الإنسان في سورية عن طريق استفزازات لفظية وعنفٍ جسديّ يُمارَس ضد أشخاص تصنّفهم الآلة الإعلامية للمرحلة الانتقالية على أنهم من "فلول النظام“ السابق. ولقد سمعنا عن أشخاص تُقتحم بيوتهم...

تدريباتنا