تدريباتنا

يوميات سورية: يوم عادي في مشفى خاص

by | Jan 21, 2019

أضواء زينة أعياد الميلاد تملأ فضاء الحي حيث يقع مشفى خاص ذائع الصيت في دمشق، وفي داخله أشجار ميلاد مزينة وعمال يتوافدون لتهنئة إدارة المشفى وتقبّل الهدايا، في أجواء احتفالية لا يعطلها حضور المرضى المتعبين مع أوجاعهم ومرافقيهم.

وقد شهدت المشافي الخاصة زيادة في عدد روادها بعد الحرب، العديد منهم لا يدفعون تكاليفها بنفسهم وإنما يتكلون على مساعدة الجمعيات الأهلية، إذ أصبح الاستطباب على حساب هذه الجمعيات الآن وضعاً طبيعياً ومكرراً، بعد أن كان سابقاً علامة نقص وإشارة لأن متلقي تلك المساعدة فقير وغير قادر على دفع نفقات علاجه بنفسه. وتشمل هذه المساعدات الطبية العلاج والعمليات الجراحية، وقيمة الوصفات الطبية، وخاصة للأدوية اليومية والاعتيادية التي توصف لعلاج أمراض كالقلب والسكري والأمراض العصبية وغيرها.

وأما أسباب تحول المساعدات الطبية المطلوبة من الجمعيات الخيرية أو من لجان الكنائس فأمر طبيعي ومتواتر فهي: بسبب عجز المشافي الحكومية عن تأمين خدمات العلاج للعدد الكبير من المرضى، ولانشغالها بمعالجة جرحى الجيش أو الحوادث الإسعافية الناجمة عن تفاصيل الحرب الدائرة، وثانياً بسبب الارتفاع المضاعف لتعرفة أي إجراء طبي، حتى لوكان يقتصر على شراء حبوب مسكنة لوجع الرأس أو مرهم خاص بترطيب الأنف.

 وقد تضاعفت قيمة نفقات العلاج لأكثر من عشرة أضعاف، في ظل  حالة فقر شبه عامة وعجز في القدرة الشرائية وفقدان السيولة. يضاف إلى ماسبق ازدياد الحاجة للخدمات الطبية، نظراً لازدياد الأمراض في ظل انعدام أسس الوقاية والحماية، وكثرة التعرض للأسباب الممرضة، ونقص الخدمات، وزيادة الشدات النفسية والخوف والتهجير والوحدة، وانعدام الأمن الشخصي والعام والغذائي والدوائي والوقائي.

ويبدو التعامل سهلاً وسلساً مع الحالات المرسلة أو المتكفلة من قبل الجمعيات، فطلبٌ محددٌ من المريض مؤكد برأي الطبيب المعالج، يليه موافقة، فتمرير للمحاسبة، ثم موعد وتنفيذ للمداخلة الطبية المطلوبة. لكن اللافت في مشهد المشفى هو الانفراط الواضح للعقد الاجتماعي لحالة المرافقة إلى المشافي، وفقاً للتقليد المتعارف عليه والثابت حضوراً وتعاملاً وتكيفاً.

رجلٌ مع زوجته التي قدمت للولادة، زوجة مع زوجها المقيم في جناح كبير للرجال الذين أجروا عمليات جراحية مختلفة، شاب لم يتجاوز الثالثة عشرة يسند جده العاجز عن تحريك ظهره، جارة مع جارتها العجوز المصابة بحالة ارتفاع بالسكر،  صديقة مع إحدى الصديقات التي ستخضع لتنظير هضمي.

أما قبل الحرب، فقد كانت حالات الولادة تشهد حضور العائلة الكبيرة مع الأم المستقبلية ماعدا الزوج، أم الولاّدة وأم الزوج والشقيقة وشقيقة الزوج والعمة الأكبر و..، والزوج آخر القادمين كي لا يستمع لأنين زوجته وصراخها، وكي لا يرى تفاصيل الولادة التي تعتبر طقساً نسائياً خالصاً. اليوم شاب ثلاثيني برفقة زوجته الولاّدة، تتأبط ذراعه ويحمل حقيبة الطفل ومتاع زوجته وينتظران قدوم الطبيب الموّلد، يبدو أنهما غريبان عن  المكان، أو  أنهما من مدينة بعيدة، وربما بقي أهلهما في الريف البعيد، وتشتت أوصال العائلة ليسكن الزوجان هنا معاً بعيدين عن الجميع، بدافع العمل أو الالتحاق بخدمة محددة. فرض هذا الواقع أن يكون الزوج وحده معها، وربما قد قام ببعض التجارب المسبقة لكيفية تغسيل الطفل لوحده، وكيفية العناية به في أيامه الأولى حيث تكون الأم غير قادرة على ذلك، المهم أنهما حالة تخالف كل التقاليد العائلية التي كانت تحصل وقت الولادة.

تقول سيدة لأخرى قدمت مع زوجها “سيعيقك حجابك أثناء إجرائك لتنظير المعدة”، خاصة وأن حجابها مفروش على كامل صدرها ومثبت بدبابيس من الجهتين تشد على ذقنها ورقبتها، تتحفظ وتحافظ على صمتها. لكن الزوج يرد: “لا مشكلة، أصلاً أنا أعرف أن من سيجري التنظير هو طبيب،” ويكمل “أفترض أن خطراّ مسها وأسعفوها حتى دون حجاب، حينها لا ذنب لها، ولا ثمن تسدده جراء وضع إسعافي خاص.” ترتاح قسماتها وباللاشعور تبدأ بإزالة تلك الدبابيس الواخزة والمقيدة.

***

يطلب رجلٌ موجوع المساعدة من موظف في المشفى قائلاً له: “هات يدك أسندني” فمن يقوده هو حفيده البالغ ثلاثة عشر عاما  فقط، وهو غير قادر على التحكم بجسد جده الضخم. دونما سؤال يتلو الرجل قصته: “الرجال إما في الجيش أو خارج البلاد” نسمع غصته  النافرة من صدره. سيدة متقدمة في العمر تقول: “حسبنا حساب كل شيء في حياتنا إلا رحيل الرجال.”

في المشهد أيضاً شباب “هلاليون”، أي مجموعة إسعاف من  طاقم الهلال الأحمر، يحملون النقالة الإسعافية متجهين نحو سيارتهم بعد أن قاموا بنقل سيدة متقدمة في  العمر ووحيدة تعاني من ضيق حاد بالتنفس ومن فقدان جزئي للتوازن. تحتفظ العجوز برقم طوارئ الهلال الأحمر على جوالها، كما تمنحه الرقم واحد في ترتيب الأرقام الخاصة المدونة كميزة للاتصال المباشر السريع دون كتابة الأرقام في ذاكرة الهاتف الأرضي.  وحيدة هي والإسعاف مشغول وسياراته قليلة العدد، لا تلبي الحاجة  المتزايدة والفورية .

تسأل سيدة عن عنوان مخبر التشريح المرضي الذي كتبه الطبيب الجراح على ورقة خاصة، لتأخذ إليه العينة التشريحية لفحصها بعد استئصالها من قدم ابنتها، وتقول: “سأترك ابنتي لوحدها ريثما أذهب إلى المخبر وأعود”. فتتطوع سيدة بنقل العينة إلى المخبر، لكن الأم ترفض و تقول وبرجاء “إذا ممكن أن تبقي قريبة من ابنتي؟” مشيرة بيدها إلى غرفة الابنة، تودع السيدة المتطوعة للمساعدة بعينين دامعتين وترحل شبه راكضة.

كان يوماً عادياً في مشفى خاص، المرض عادي وكذلك الشفاء، والمال اللازم للإنفاق الطبي والجمعيات الخيرية والمدنية والمجتمعية. كل شيء عادي في الحرب، إلا الحرب ذاتها. فهي تقلب الأدوار بجذرية  سريعة وقصيرة الأمد، تغيير كبير، لكنه كان يحتاج لزمن أطول  في زمن مختلف.

 هل نهلل للتغييرات؟ أم نقول إنّ الحرب قد مرت من هنا؟ أم نتلمس التغيير الحقيقي والمنطقي للوظائف الاجتماعية التي يفرضها المجتمع في ظل تغيرات بنيوية لا نملك ردها، المهم هو البناء على ما قد يتكثف ويتركز كتغير حقيقي، قد يقلب الأدوار، ولكنه قد يضعها على المسار الصحيح.

مواضيع ذات صلة

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

 "كنت أحلم بلوحةٍ تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، لوحة تستطيع تجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفل الافتتاح لأي معرض". ربما توضح تلك الكلمات، وهي للفنان نذير نبعة، مدى تبنيه وإخلاصه للفن، الذي كان رفيق دربه لأكثر من ستين عاماً، فهو الفنان الذي...

مواضيع أخرى

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

بقي الريف السوري محروماً من المسرح إلى أن أنشأت مديرية المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة ما أسمته "المسرح الجوال" عام ١٩٦٩، والذي بدأ عروضه بنشر الوعي المسرحي في الريف والمناطق الشعبية والنائية. صارت الصالة في كل مكان  والجمهور ضمنها، وكان كسر الحواجز بين...

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

ينتظر السوريون في الأسابيع المقبلة بفارغ الصبر وفق تصريحات حكومية انطلاق المشغل الخلوي الثالث "وفا تيليكوم" المرتبط بإيران التي ستدخل على خط الاستحواذ في قطاع الاتصالات الحساس والذي ظلّ حكراً على متنفذي السلطة لعقود. من خلال التواصل المباشر مع مصادر متعددة من داخل...

تدريباتنا