تدريباتنا

الانتخابات في تركيا ووزن أصواتنا

by | May 22, 2023

ما تزال رحى المعركة الانتخابية دائرة في تركيا بين مرشح حزب العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان وزعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو الذي أعلن تحالف الأمة المعارض عن تسميته مرشحاً له. يمكن أن يُقال الكثير عن هذه الانتخابات وأن تُسلّط الأضواء على تفاصيلها، ما خفيَ منها وما ظهر، واستعراض الرهانات والتوقعات الأوربية والأمريكية والعربية غير أنّ المشهد في حد ذاته، بالنسبة للناظرين إليه من الجغرافيا العربية، ساحرٌ إلى حد كبير، ذلك أن هناك أشخاصاً لهم أصوات، وهذه الأصوات مُحْترمة، يُحسب لها حساب، وتلعب دوراً في العملية السياسية، ولها خيار انتخابي بين شخصين يحملان برنامجين مختلفين. ومهما كان ضباب السياسة حاجباً للتفاصيل، وبصرف النظر عن إن كنتَ لا تحب أردوغان وحزبه إلا أن العملية الديمقراطية في حد ذاتها جديرة بالاحترام وتعني أن النخب والقوى السياسية والأحزاب وجماعات المصالح في تركيا تطورت وصارت تؤمن بتداول السلطة، وبأن الأفراد لهم حقوق أحدها هو حق التصويت والاختيار، وأن من يختارونه ممثلاً وحاكماً لهم يحصل على دوره هذا عن طريق عملية الاقتراع. قد يحدث تزويرٌ في الانتخابات، أو خطأٌ مُتعمَّد في فرز الأصوات أو قد يتم التلاعب بها، إلا أن كل هذه تفاصيل ثانوية وجوهر المسألة هو أن هناك  عملية انتخابية  ديمقراطية في هذا البلد فيها خاسر ورابح بحسب عدد الأصوات التي يحصل عليها، وأن أحدهما، إذا ما خسر، لن يفرض نفسه بالقوة ويدمر ويقتل كي يظل جالساً على الكرسي.

متى سنذهب إلى صناديق الاقتراع كي نُدْلي بأصواتنا؟ وهل سيحدث هذا قبل أن يموت جيلنا، الذي يسمع عن الانتخابات في العالم، وعن صناديق الاقتراع وفرز الأصوات والحملات الانتخابية، والخطابات الحماسية والمناظرات التلفزيونية التنافسية بين المرشحين، ويرى كل هذا على الشاشات؟ أم أنه مكتوب علينا أن نشعر بقيمة صوتنا في البلدان التي نهاجر إليها بعد أن نصبح من مواطنيها فقط؟ يأتيني الجواب المقيت على الفور من الواقع السياسي العربي والذي يُثبت يوماً بعد آخر أن تداول السلطة أمر غير وارد، وأن الديمقراطية لن يُفْتح لها الباب كي تدخل إلى عواصمنا، كما أن جيلنا المسكين عاش مثل الأجيال التي سبقته، محروماً من هذه النعمة، ولم يعاصر التجارب الديمقراطية الحقيقية في أي شكل من أشكالها، بل دفع ثمناً باهظاً في جحيم الحروب الأهلية والانقلابات الدموية والصراع العنيف على السلطة والتدهور الاقتصادي ولم يعش لحظة ديمقراطية حتى على مستوى بلدية أو مدرسة، وكم هي ضيقة وتعيسة حياة لا يَشْهد فيها المرء تحقّقَ الحلم الديمقراطي، لأنها ستمر كالكابوس وتدفعه إلى حضيض اليأس، غير أنني من الذين يؤمنون بأن اليأس مرحلة عابرة في تاريخ الشعوب، وأن تحولاً ديمقراطياً سيحدث يوماً ما تقوده الأجيال العربية الجديدة ولو في المستقبل البعيد يمنح لصوت الناس قيمة، كأفراد لهم خيارات سياسية في الحياة، وينبغي ألا نتجاهل هذا الحق الديمقراطي المقدس، أو أن نتنازل عنه قيد أنملة تحت أية ذريعة لأنه حق يعني بأن هويتنا الإنسانية كأفراد في المجتمع لها قيمة ومحترمة ويُصْغى إليها ولا تُلْغى برصاصة أو بدفنك حياً في السجون دون محاكمة. وهو حقّ يبني الأوطان ويحول السلطة إلى وسيلة لخدمة المواطن وليس إلى غاية. ورغم اللعب الانتخابي في الديمقراطيات والتزوير وكل المشاكل المرتبطة بالعملية إلا أن التنافس الشريف على كرسي الحكم، وعلى المسؤولية التاريخية الكبرى للجلوس عليه، يعني أن كل من انتخبوا يتحملونها جماعياً ويضعون ثقتهم بمن سيقودهم إلى بر الأمان، أو بمن لديه برنامج يخدمهم بطريقة وأخرى، ويَعِدُ بتحسين أوضاعهم المعيشية ورفع دخلهم وتأمين الضمان الاجتماعي والصحي لهم وإنارة ظلمة ليلهم بالكهرباء، وتشغيل محركات سياراتهم بالنفط، وتأجيج ألسنة لهب مدافئهم بالوقود حين يشتدّ برد الشتاء ومنحهم جواز سفر تفتح له كل المطارات أبوابها، إلا أن التجربة العربية، بعيدة كل البعد عن الديمقراطية، فكراسي الحكم وراثية ومطوبة كما لو أنها حق مقدس للبعض بينما الغالبية محرومة منه، وكل من تسول له نفسه الاقتراب من الكرسي مصيره التحييد. 

من مستلزمات الديمقراطية توفّر المعلومات، والقدرة على الرؤية في ضباب القصف الإخباري المتواصل الذي يحجب الحقيقة، وأعني بتوفر المعلومات هنا ضرورة وجود معلومات دقيقة متاحة عن البرنامج الانتخابي وعن كل مرشح، وهذه المعلومات يجب أن تكون موثوقة وصحيحة لأنها تلعب دوراً جوهرياً في العملية، وتزداد أهمية دقة المعلومات في عصر الإعلام الرقمي الذي تتحول فيه الأخبار إلى حجاب على ما يجري، ويصبح من الضروري أن نرفع هذا الحجاب عبر جهد فردي وبحث عن المنابر الصادقة.

وها نحن نشهد عرساً ديمقراطياً في تركيا على الشاشات، وهو عرس تركي بامتياز، ولم يكن عربياً في أي وقت من الأوقات، ذلك أن الديمقراطية لم تدخل قواميسنا السياسية حتى الآن، وفي المشهد التركي نرى الجماهير، سواء المُعبَّأة أو الآتية طوعاً، تُدْلي بأصواتها بحرية، وهذا المشهد في حد ذاته تاريخي ومهيب، ويكفي أن نرى مشهد الانتخابات الذي حُرمنا منه كي نسكر بخمرته، غير أن الرهان على أحد الطرفين يعني أنه ليست لدينا إرادة، ونعيش سياسياً على خبز الوعود، وأننا سنواصل انتظار سفن القمح والنفط.

لن أدخل في تفاصيل ودهاليز الانتخابات التركية، ولكنني سأنظر إليها كصورة، وأقول إن هذه الانتخابات يجب أن نراها كمُلْهمة لنوع من الحل، أي أن مشاكلنا المستعصية قد تُحل من خلال تجربة انتخابات ديمقراطية حقيقية، لكن هذا يحتاج إلى جو من الحريات العامة واشتغال في السياسة وقوى سياسية فاعلة، ومعارضة حقيقية مستقلة وغير تابعة إقليمياً أو دولياً، وإلى الوقوف في وجه القوى الخارجية التي ستحاول وأد العملية الديمقراطية في مهدها، ذلك أن الغرب الذي يصوّر نفسه كحارس للديمقراطية وعراب لها وناطق باسمها لا يتردد في دعم الاستبداد والنزعات الفاشية حين تخدم مصالحه، خارج حدوده.

ومهما كانت سلبيات نظام الحكم في تركيا يجب الاعتراف أولاً بأن تركيا كدولة حققت إنجازات مهمة وأن المُتنافسَيْن في الانتخابات للفوز بكرسي الحكم يطرحان برنامجين انتخابيين واضحين تصب كل بنودهما في مشروع بناء الدولة التركية المتواصل، كما أن دخول الطرفين في العملية الانتخابية، مهما تنوعت التفاصيل، دليل على أن تركيا، تلعب اللعبة الديمقراطية على النقيض من المنطقة العربية برمتها. 

انحدرت شعبية أردوغان وتكشّفت ميوله التسلطية هو وحزبه حتى قبل أن يسدّد  زلزال كهرمان مرعش لكمته الموجعة والمؤسفة لتركيا، وأشار باحثون أتراك إلى تورط مسؤولين من حزب العدالة والتنمية في الفساد من خلال الفوز بعقود لبناء عدد كبير من الأبنية المغشوشة التي لا تتمتع بمواصفات الأمان وانهارت من الهزة الأولى، ولكن تركيا بنت اقتصاداً قوياً ومدناً حقيقية وشيدت مصانع أنتجت السيارات والطائرات المسيّرة وحاملات الطائرات وأسست جيشاً قوياً يمتلك عتاداً وسلاحاً جعله من أقوى الجيوش في المنطقة، كما أن تركيا صارت قبلة السائحين في وقت تبدد فيه الجيوش العربية ميزانيات الدول لشراء الأسلحة من الغرب أو الشرق وتستخدمها في حروب مدمرة.

يعرف القاصي والداني الوضع في البلدان العربية، التي يشهد بعضها صراعاً عنيفاً على السلطة كما يحدث في السودان مثلاً، حيث تدور حالياً رحى حرب ضروس بين الجيش وقوات الدعم السريع، ويبدو أن القرار والحسم فيها سيكون لفوهات المدافع وجنازير الدبابات والمنتصر سيدخل إلى القصر الجمهوري بدبابته ثم يجلس فوق الدبابة كي يظل مهيئاً نفسه لحماية الكرسي حتى لو قتل نصف شعبه، وها نحن نرى المدنيين في السودان وخاصة الأطفال والنساء والعجائز يدفعون ثمناً باهظاً ذلك أن من سيحكمهم لا يهمه إن نصّب نفسه فوق أشلائهم وأنقاض بيوتهم. 

وبصرف النظر عن النعرات العنصرية وكراهية الأجانب والظلم التاريخي الذي تعرض له الأكراد وتسهيل دخول الإرهابيين عبر الحدود مع سوريا إن منظر الحشود التي تتدفق في المدن التركية، للإدلاء بأصواتها في الانتخابات الديمقراطية في جو من الحرية والتمدن كفيل بأن يُلهم الروح المدنية كي تواصل نضالها إلى أن تتحقق الديمقراطية ويصبح لصوتنا كمواطنين وزن في المعادلة. 

مواضيع ذات صلة

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

 "كنت أحلم بلوحةٍ تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، لوحة تستطيع تجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفل الافتتاح لأي معرض". ربما توضح تلك الكلمات، وهي للفنان نذير نبعة، مدى تبنيه وإخلاصه للفن، الذي كان رفيق دربه لأكثر من ستين عاماً، فهو الفنان الذي...

مواضيع أخرى

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

بقي الريف السوري محروماً من المسرح إلى أن أنشأت مديرية المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة ما أسمته "المسرح الجوال" عام ١٩٦٩، والذي بدأ عروضه بنشر الوعي المسرحي في الريف والمناطق الشعبية والنائية. صارت الصالة في كل مكان  والجمهور ضمنها، وكان كسر الحواجز بين...

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

ينتظر السوريون في الأسابيع المقبلة بفارغ الصبر وفق تصريحات حكومية انطلاق المشغل الخلوي الثالث "وفا تيليكوم" المرتبط بإيران التي ستدخل على خط الاستحواذ في قطاع الاتصالات الحساس والذي ظلّ حكراً على متنفذي السلطة لعقود. من خلال التواصل المباشر مع مصادر متعددة من داخل...

تدريباتنا