تدريباتنا

صُعلوكٌ عربيٌّ جاهليٌّ بزيٍّ مُعاصِرٍ أنيقٍ وبعِطرٍ فرنسيٍّ جذّاب

by | May 30, 2023

(شهادةُ الشَّاعر اللُّبنانيّ طلال حيدر عن الشّاعر السُّوريّ علي الجندي)

في إطار عمَلي على إنجاز كتاب موسوعيّ عن سيرةِ الشَّاعر السُّوريّ الكبير علي الجندي (1928 _ 2009) الحياتيَّة والشِّعريَّة، وهوَ المشروع الذي بدأتُ بهِ برفقةِ علي الجندي شخصيَّاً منذُ العام 2001 في مدينة اللَّاذقيَّة، حيثُ قضَى آخِرَ سنواتِهِ فيها، حاوَلَ الصَّديق العزيز الكاتب والصحفيّ (المُنذر الدِّمنيّ) _الذي كانَ يُساعدني في جمع بعض موادّ الكتاب وبعض شهاداتِهِ بصفة (باحث مُساعِد) بحُكم وُجودِهِ في بيروت_ أنْ يحصَلَ على شهادة خطِّيَّة لكتابي وباسمِي من الشَّاعر اللُّبنانيّ الكبير (طلال حيدر)، ولظُروفٍ مُختلِفة، منها صحِّيَّة، اعتذرَ شاعرُنا وأرجَأَ الشَّهادةَ مرَّاتٍ عدَّة.

ولأنَّ من طبيعتي الإصرار و(يباسة الرأس)، ولخبرتي الطَّويلة بمِزاجيَّة المُبدعين، ولا سيما مع تقدُّمِهِم في السِّنّ (على ألّا يعتقدَ أحدٌ منَّا أو يُخدَعَ بفكرةِ أنَّ أمثال علي الجندي أو طلال حيدر يتقدَّمونَ في السِّنّ…)، قرَّرتُ أنْ أُجريَ مُحاوَلةً (نجحتُ بتطبيقِها معَ شخصيَّاتٍ عدَّة من قبْل)، فملأتُ جوَّالي برصيدٍ كبير، وأجريْتُ اتِّصالاً على جوَّال طلال حيدر مُباشَرَةً في يوم الجمعة 18/ 11/ 2022، وعرَّفتُهُ بنفسي بعدَ أنْ ردَّ عليَّ، وبأنَّني أُحدِّثُهُ من دمشق، وذكَّرتُهُ بطلبِ الصَّديق المُنذر، وبشهادتِهِ المَوعودة عن علي الجندي، ففاجأني بحجم الدِّفء والعاطفة والاستقبال الحميميّ، مُردِّداً منذُ البداية: “أهلاً وسهلاً بمازن وبجميع أهل سوريَّة الحبيبة”.

حاولتُ أنْ أُورِّطَهُ بالموضوع تحتَ دعوى: “هل لديكَ دقيقتان فقط لا أكثَر للحديث عن أبي لهب؟”، فأجابَ بسَعادةٍ غامِرة: “خُذِ الوقتَ الذي تُريدُهُ”.

كنتُ قد جهَّزْتُ أمامي بضعَ وريقاتٍ وقلَمٍ، ورحتُ أطرَحُ أسئلتِي، وأُدوِّنُ خلفَهُ كُلّ كلمةٍ يتفوَّهُ بها. 

وفي الحقيقة، شعرْتُ أثناءَ المُحادَثة، وبعدَ أنْ أنهيْتُ المُكالَمَةَ أيضاً، حيثُ رحتُ أقرأُ ما دوَّنتُهُ خلفَهُ، أنَّها لم تكُنْ مجرَّدَ شهادةٍ تقليديَّةٍ، بقدرِ ما كانتْ شِعراً مُدهِشاً وسلِسَاً ألقاهُ طلال حيدر بصوتِهِ وبهُوِيَّتِهِ الجَماليَّة المَعروفة، فكأنَّهُ كانَ يُلقِي قصيدةً عذبةً وشفَّافةً وهوَ يحكي عن صديقِهِ أبي لهب.

أضَعُ، هُنا، نصَّ الشَّهادة، آمِلاً أنْ يصُبَّ هذا الجهدُ المُتعلِّقُ بكتاب علي الجندي، في إطار الوفاء لهُ ولرحلتِهِ الحياتيَّة والإبداعيَّة، وللشِّعر السُّوريّ، والثَّقافة العربيَّة والإنسانيَّة.

قالَ طلال حيدر:

“علي الجندي لم يكُنْ غريباً إلّا عن نفسِهِ.. 

هوَ الجَمالُ المجنونُ الذي تفجَّرَ بحثاً عن روحٍ مفقودةٍ لا يُمكِنُ أنْ تُوجدَ أبداً، فتمزَّقتْ ذاتُهُ أوَّلاً وأخيراً..

حينَما جاءَ إلى بيروت في الخمسينيَّات من القرن المُنصرِم لم يكُنْ هارِباً أو مُغترِباً، بقدرِ ما كانَ مُنقِّباً بنهَمٍ استثنائيٍّ عن هُوِيَّتِهِ المُختلِفةِ في الحياةِ والإبداع.

كانَ سبَّاقاً في حركةِ الحداثةِ الشِّعريَّة، ولا يُمكِنُ تجاوُزُهُ أو تجاوُزُ تجربتِهِ المُتفرِّدة عندَ أيَّةِ قراءةٍ موضوعيَّةٍ صادقةٍ للشِّعر العربيّ الحديث.

علي لم (يتباسَط) أو يتبهلَل في مَوقفِهِ الشِّعريّ، وفي الوقتِ نفسِهِ، لم يتفلسَف ويتفذلك كالكثيرين غيره..

كانَ صاحبَ رُؤيا مُستقبَليَّةٍ في شِعرِهِ، وكانتْ لهُ قصائدُ شاهِقةٌ، وصوَرٌ وتراكيبُ جديدةٌ ومغايِرَة. واستطاعَ أنْ يُمسِكَ بأهمّ ثلاثة عناصر في الإبداع الشِّعريّ: ألّا تُرينِي ما يُرَى _ ألّا تُعطينِي فكرةً أعرِفُها _ أنْ تكونَ ذاكرةَ المُستقبَل.

هذهِ العناصِرُ ظلَّتْ ضارِبَةَ الجُذورِ في تجرِبةِ علي، ولهذا فهوَ ينتمي في شِعرِهِ إلى ما فوقَ الزَّمنيِّ والتَّاريخيِّ، فكَم من شاعرٍ عربيٍّ قديمٍ كانَ حداثيَّاً وأصيلاً في تُراثِنا الشِّعريّ، وكم من شاعرٍ عربيٍّ عاشَ في عصرِنا الحديثِ، وكانَ بائِسَاً ومُفلِساً في فنِّهِ..

في حُضورِهِ الحياتيِّ كانَ شاعراً عظيماً أيضاً.. لا بل كانَ مُبدِعَ أكثَر من حياةٍ في حياةٍ واحدة، وكانَ مُبتكِرَ حياتِهِ الفريدة من دونِ ادِّعاءٍ، وخلَّاقَ حُرِّيَّةٍ لا تُشبِهُ ولا تُحاكي إلّا الحُرِّيَّة التي في ذهنِهِ الحزين، وفي تصوُّرِهِ المُستحيل.

هوَ البوهيميُّ المُتسكِّعُ في ليالي دمشق وبيروت والقاهرة وبغداد وباريس، يشحذُ سَهَراً وجُنوناً وأهواءً، ويُلاحِقُ حياةً يُريدُها ألّا تنفدَ، فيقتُلُها وتقتُلُهُ رُويداً رُويداً..

لم يكفَّ لحظةً واحدةً عن هَوَسِ العيْشِ، ولم يكُنْ قنوعاً يعرِفُ الشَّبَعَ، ولهذا كانَ يلهَثُ باستمرارٍ مثلَ مُتشرِّدٍ باختيارِهِ، مُهروِلاً بلا مَأوىً وبلا انتماءٍ طلَباً للجَمال والمُتَعة والانعتاق.

هوَ، باختصار: صُعلوكٌ عربيّ جاهليّ بزيٍّ مُعاصِرٍ أنيقٍ، وبعِطرٍ فرنسيٍّ جذّاب.

أينَما كنتَ تلتقي بعلي كنتَ تعرِفُ من فوركَ أنَّكَ قدِ التقيْتَ للتَّوِّ بهديَّةٍ تحمِلُ ما تحمِلُ منَ الدَّهشةِ؛ فكُلُّ شيءٍ كانَ يغدو أبهَى بحُضورِهِ، وبرفقتِهِ كانتْ تتضاعَفُ متَعُ الوُجودِ على نحْوٍ لا يُوصَفُ سهَراً وخَمراً وشِعراً وامرأةً..

كانَ كُلَّما بعثَرَ الحُدودَ من حولِنا، منَحَ الحياةَ ومنَحَنا قداسةً أجمَل..

ذاتَ يومٍ في تكريمٍ أُقيمَ لهُ في معهد العالَم العربيّ في باريس بمُناسبةِ بلوغِهِ سنّ السِّتِّين، سافرْتُ من بيروت إلى فرنسا خصِّيصاً لأحضُرَ تكريمَهُ هذا، وحينَما دُعيتُ إلى المِنصَّة لم أكُنْ قد حضَّرتُ كلمةً، فصعدتُ، وقلتُ عبارةً واحدةً فقط ألهبَتِ الحفلَ تصفيقاً وضَحِكاً وتأثُّراً: “لقد جئتُ من بيروت إلى باريس فقط كي أُقبِّلَ (هالأخو الشَّرموطة)”، ثُمَّ نزلتُ عنِ المِنبر، وذهبْتُ كي أُعانِقَ علي الجندي بحرارة *“. 

هامش:

*هذهِ الحادثة كانَ يرويها علي الجندي بفرَحٍ وسعادةٍ بالِغة، مَقرونةً، كعادتِهِ طبعاً، بسلسلة شَتائِمَ بذيئةٍ وضاحكةٍ لصديقِهِ طلال حيدر، وكانَ يُردِّدُ باستمرارٍ أمامي: “طلال كيفما رمَى وبعثَرَ كلماتِهِ، تَخرُجُ شِعراً مُدهِشاً”. 

تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

في وقت فراغي: ستَّة نصوص لِـ(أديبة حسيكة)

في وقت فراغي: ستَّة نصوص لِـ(أديبة حسيكة)

(1) في وقت فراغي كنتُ أملأ الأوراق البيضاء بالحقول كان يبدو الفجر أقرب و السحاب يمرّ فوق الطرقات بلا خسائر..  وكان الماضي  يمتلئ  بالألوان. لا شيء مثل اللحظة حين لا تجد المسافة الكافية لتخترع أجنحة تكاد تنمو كزهرة برية.  بدأتُ أجمع صوتي من الريح و أفسّر...

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

لم يكتفِ الناس في سوريا من معاناتهم وأوجاعهم اليومية، التي فرضتها ظروف الحرب وما تبعها من أزماتٍ متلاحقة وتردٍ في الواقع الاقتصادي والمعيشي، حتى أتى فصل الصيف، الذي سجل هذا العام ارتفاعاً كبيراً وغير مسبوق في معدلات درجات الحرارة، وكان الأقسى على البلاد منذ عقود،...

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

تدريباتنا