تدريباتنا

الأمهات في سورية: عيد ناقص

by | Mar 21, 2024

غدت الأمومة في سورية مهمة قاسية ومثقلة بالهموم واكتسبت أوجهاً كثيرة، إذ انتزعت الحرب دور “الأم” الأولي المناط بالعطاء والتربية والمساند المادي الثانوي، وبدأت كثير من الأمهات يلعبن دور المعيل الأساسي ومصدر الدخل الوحيد لتحمل نفقات الأسرة في ظل غياب قسري أو اختياري للرجل. باتت معظم الأمهات يكافحن وحيدات في ساحة الحياة من أجل لقمة العيش، فتحولن إلى نساء مثخنات بلوعة الفراق والقهر والحنين.

تخلت لينا (40 عاماً) منذ قرابة سبع سنوات عن لقب “الأم” بوصفه الدور الوحيد الذي كانت تمارسه قبل وفاة زوجها، غير أن ألقاباً كثيرة ألصقتها بها الحياة عنوة لتتنقل بين أدوار “الأب” تارة و”المعيل” تارة أخرى و”الأخ” و”المنقذ” في أحيان أخرى. تقول لينا عن تجربتها: “نسيت أنني أم منذ سنوات؛ تلك الأم التقليدية التي كانت تقوم بمهام الاعتناء بالأطفال والإشراف على طعامهم ودراستهم فقط دون الالتفات لأمور أخرى. دور الأب هو الطاغي حالياً، أعمل دوامين من أجل تأمين لقمة العيش.” تقر لينا أن وفاة زوجها حملتها مسؤوليات تفوق قدراتها الجسدية ووضعتها تحت ضغوط نفسية ومادية، خاصة أنه ترك خلفها لائحة من الديون غير المسددة. تشرح وضعها: “كان زوجي كثير الدين من أصدقائه، اعتاد أن يسدد شهرياً من عمله الإضافي في تعهدات البناء، لكنه لم ينته من تسديد ديونه كلها وأقوم أنا بالسداد”.

ليست فقط الأعباء المالية هي التي تؤرق كاهل لينا، بل هناك حمولة فائضة، ثمة شعور بالأمان تفتقده منذ وفاة زوجها، ففكرة غياب العنصر الذكوري في حياتها يشعرها بانعدام التوازن وفراغ كبير وتوضح مشاعرها: “افتقد شعور الأمان والسند الذي ضاع مني، أحتاج كتفاً اتكأ عليه كلما اختل توازني، كما يحتاج طفلاي هذا السند أكثر مني”.

وجدت نهال (30 عاماً) نفسها بين ليلة وضحاها أماً لأربعة أطفال، لطفلتها ذات الست سنوات، وأشقائها الثلاثة بعد وفاة والدتها، لتوزع عاطفة الأمومة بين الجميع بحصص عادلة، تقول: “توفيت والدتي مبكراً مخلفة وراءها أخوتي الذين مازالوا صغاراً، أعتني بهم وكأنهم أطفالي أسوة بابنتي، أحاول قدر الإمكان تعويضهم حرمان الأم كي لا يشعروا بالألم “.

تصالحت أحلام (50 عاماً) مع فكرة تحول زوجها من المعيل الأساسي إلى شخص غير منتج في المنزل بسبب مرض السكري الذي تلاه إجراء عملية قلب مفتوح، وبالتالي انتقلت جميع المهام إليها بدءاً من تأمين حاجيات البيت والإشراف على دراسة بناتها الثلاث، مروراً بالقيام بأعمال صيانة المنزل وتركيب أنبوبة الغاز، ناهيك عن عملها الصباحي كمدرسة في المرحلة الابتدائية، لتضاف إليها الدروس الخصوصية كمصدر دخل إضافي، تقول:”أشعر بأنني الرجل في البيت، وليس زوجي، كل شيء يقع على عاتقي لدرجة أنني فقدت شعوري بأنوثتي وأنه يجب الدلال والاعتناء بنفسي، لا وقت لدي لذلك، ضغوطات الحياة تثقل ظهري”.

قرار مصيري

أرغمت خلود (28 عاماً) على إيداع ابنها ذي الأعوام السبعة عند والدتها والسفر إلى أربيل بحثاً عن حياة أفضل لها ولطفلها بعد أن تخلى عنها زوجها وتنصل من مسؤوليته كأب. كلفها هذا القرار ساعات طويلة من الوحشة والدموع واللهفة لطفلها تحاول أن تبددها بمكالمة هاتفية يومياً. وتشرح قصتها: “لم يكن القرار سهلاً عليّ، بل ترددت كثيرا، لكن تركت عاطفتي جانباً واتخذت القرار بعد أن سدت الطرق كلها أمامي وتهرب طليقي من مسؤولياته المادية والعاطفية لابنه، لا فرص عمل هنا تكفي للعيش بكرامة.” تعمل خلود طباخة في أحد مطاعم أربيل ودخلها جيد لكنها تنتظر عدة أشهر إضافية كي تستطيع لم شمل ابنها بعد أن وافق والده على إذن السفر مقابل مبلغ مادي، وتعقب: “تفاوضت مع طليقي من أجل السماح لابني بالسفر معي، أتحضر لإحضاره إلى هنا مع أمي للعيش سويا”.

أمهات على قارعة الطريق

تتوقف يداك عن الجمع وأنت تحصي أعداد الأمهات الجالسات على قارعة الطريق وعتبة العوز والحسرة، تراهن في كل مكان وأنت تتجول في شوارع دمشق. تلتمس نظرات التعب التي تعلو الوجه الشاحب والابتسامة الخجولة لسيدة تركن كرسيها البلاستيكي في زاوية لمحل خضار تفرم حزم البقدونس وتقشر حبات الثوم لتشتريها صاحبات الأيادي الكسولة التي لا تمتد إلا لتناول الطعام أو تلوين الأظافر. تمشي عدة أمتار فتستوقفك أم بمنزلة طفلة تحمل رضيعتها التي لا تعلم كيف تربيها وتمد يدها لتناولها ثمن علبة حليب، ثم تعاود المشي لتناديك بائعة التين والزبيب المجفف  بعد أن أخذت طفلتها قيلولة قصيرة، وحين تدخل أحد محلات الألبسة المستعملة تجد سيدة تتسول سترة مطرية أنيقة تليق بابنتها وهي  ذاهبة إلى الجامعة. 

الاحتفال وحيدات

تغيرت الصورة النمطية للاحتفال بعيد “الأم” إذ فقدت رونقها الخاص وشرطها الحميمي، فتفرق الأبناء والبنات وبات لم الشمل حلماً تنتظره الكثير من الأمهات. بينما يضطر العديد من الأبناء ممن سافروا خارج البلاد إلى إعادة ترتيب أولوياتهم والتقليص من عدد الزيارات بسبب الكلفة المادية المترتبة عليهم، والاكتفاء بزيارة سنوية أو في بعض المناسبات الكبيرة كعيد الفطر والأضحى. هناك أمهات يحتفلن وحيدات وبعيدات عن حضن أبنائهن، ليكتفين بمكالمة “فيديو” وقبلات افتراضية لا تشبع صبوة الأم وتطفئ لهيب شوقها.

حتى الهدايا أخذت شكلاً مختلفاً عما ألفه السوريون، كانت في السابق ترتبط بقطعة ملابس من ماركة ممتازة أو هدية جماعية يتشاركها الأبناء لاقتناء قطعة ذهبية كانوا قد وفروا ثمنها طيلة الأشهر السابقة، أما الآن فقد صار طابعها فقيراً وملحاً يندرج تحت الاحتياجات الدوائية والجسدية والغذائية، كإحضار علبة دواء، أو جهاز لقياس الضغط، أو حذاء طبي يخفف عن الأم أوجاع الدوالي، وربما كنزة مستعملة مازلت محافظة على جودتها، أو وشاح مصنوع يدوياً لأمهات أخريات طرزنه بعرق جبينهن وأصابعهن الباردة لإطعام أولادهن.

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

في وقت فراغي: ستَّة نصوص لِـ(أديبة حسيكة)

في وقت فراغي: ستَّة نصوص لِـ(أديبة حسيكة)

(1) في وقت فراغي كنتُ أملأ الأوراق البيضاء بالحقول كان يبدو الفجر أقرب و السحاب يمرّ فوق الطرقات بلا خسائر..  وكان الماضي  يمتلئ  بالألوان. لا شيء مثل اللحظة حين لا تجد المسافة الكافية لتخترع أجنحة تكاد تنمو كزهرة برية.  بدأتُ أجمع صوتي من الريح و أفسّر...

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

لم يكتفِ الناس في سوريا من معاناتهم وأوجاعهم اليومية، التي فرضتها ظروف الحرب وما تبعها من أزماتٍ متلاحقة وتردٍ في الواقع الاقتصادي والمعيشي، حتى أتى فصل الصيف، الذي سجل هذا العام ارتفاعاً كبيراً وغير مسبوق في معدلات درجات الحرارة، وكان الأقسى على البلاد منذ عقود،...

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

تدريباتنا