تدريباتنا

“دروع بشرية” ما بين قطاع غزة والساحل السوري

by | Mar 16, 2025

بعد سقوط نظام البعث وهروب قادته، كان الساحل السوري هادئاً. لا خوف، لا تنكيل، لا اعتقالات، لا تهديدات، لا اغتيالات، لا قتل. أصبحت سوريا موحّدة وهادئة، دون نعراتٍ طائفية أو عنصرية. حسناً، حدثت بعض الحوادث هنا وهناك، لكنّها كانت فردية ومحدودة ولا يمكن اعتبارها معياراً. هكذا تقول سردية قنوات وصحف النفط العربي، وأفواج دعم الجولاني، رغم القصص اليوميّة واحتلال سوريا من ثلاث دول: تركيا وأميركا والكيان الصهيوني! 

فجأةً، ظهر “فلول النظام” وقتلوا رجال الأمن في حادثة خارجة عن كل السياقات، ما عدا وجود مؤامرة خارجية يقودها داعمو النظام السابق. انفجر الفضاء في الساحل السوري على أشدّه، وفاضت الدماء في القرى والمدن. ومع فيضان أجساد المدنيين ووسم أسمائهم بنعي الأرض، لم تكن وحوش القاعدة ونسل داعش وسرايا الذبح التكفيري الطائفي، المتمثلين برداء الدولة و”الثورة”، من فعلها. بل كانوا “فلول” المجرمين المتآمرين من استخدم المدنيين “دروعاً بشرية”. هذا ما تؤكّده قنوات وصحف النفط العربي على لسان “مسؤولٍ أمني”، ويسوّقه ناشطو السلطة القائمة في مواقع التواصل الاجتماعي لتكريس رؤية واحدة للمشهد. 

ربما، لم تجد هذه القنوات والصحف أيّة مصادرٍ تنقض السردية المعلنة دون دليل. وربما لم يتعلم مراسلوها المسؤولون عن تغطية أحداث الساحل السوري أسس الصحافة. وربما نسي المسؤول الأمني شحن هاتفه، ففاتته عشرات الفيديوهات والصور الملتقطة من “رجال الأمن” أنفسهم. وربما لعبت الخوارزميات لإخفاء نداءات أهالي الساحل السوري من صفحات الناشطين في العالم الرقمي. 

وفقاً للمرصد السوري لحقوق الإنسان، حتى الثالث عشر من مارس/آذار 2025، وصلت حصيلة الشهداء إلى 1476 شهيداً مدنياً، منهم ما يتجاوز 1390 شهيداً من الطائفة العلوية. كما حذر المركز من آلية دفن الضحايا في مقابر جماعية، خشية استغلال المقابر كذريعة لتغطية الجرائم وطمس الحقيقة. 

قبل عام ونصف، ومنذ الساعات الأولى من شن الكيان الصهيوني حرب الإبادة على غزة، بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، وظّف المسؤولون والسياسيون في العالم الغربي ذريعة استخدام حركة حماس المدنيين دروعاً بشرية كأحد أبرز الاتهامات والمزاعم التي مرّروا من خلالها حجّة موقفهم السياسي والأخلاقي من عدد الضحايا والشهداء الفلسطينيين. 

 بعدها بثلاثة أسابيع، قرر الكيان الصهيوني ضرب مستشفى الشفاء، بحجة وجود مركز عسكري لكتائب القسام. هُجّر الآلاف من محيط المستشفى، وأخرج مئات المرضى والمصابين. اكتشفت بعد إفراغ المستشفى وهجوم جيش الاحتلال جثث ١٧٩ شهيداً. كانت حجة جيش الاحتلال أن حماس استخدمت المدنيين دروعاً بشرية. 

بعدها اشتد قصف جيش الاحتلال وتوحشّه على القطاع كله ضُربت البيوت والمدارس والمساجد والكنائس والمستشفيات ومراكز الرعاية والخيام. ازداد عدد الشهداء؛ آلاف تعلوها آلاف، غالبيتهم من الأطفال والنساء. كرر الكيان الصهيوني المبرر ذاته مجدداً: كانوا دروعاً بشرية.

 يعرف مصطلح “الدروع البشرية” استخدام الأشخاص المحميين من القانون الدولي الإنساني – المدنيين والأسرى – أو حركة المدنيين لحماية الأهداف والعمليات العسكرية من الهجوم أوالإعاقة. هناك نوعان من الدروع البشرية: الطوعية حيث يعرض الأشخاص أنفسهم للخطر بهدف حماية أو إعاقة شيء ما، وغير طوعية حيث يستخدم الأشخاص جبراً لأغراض عسكرية. 

حسب القانون الدولي، استخدام الدروع البشرية جريمة حرب تتحمل مسؤوليتها القانونية والأخلاقية الجهة أو الجماعة التي توظّف المحميين من القانون الدولي الإنساني لأغراض عسكرية. 

في مقالة بعنوان “مبرر قانوني للإبادة الجماعية” يذكر الباحثان نيف غوردن ونيكولا بيروجيني، صاحبا كتاب “دروع بشرية: تاريخ بشر على خط النار”، استخدام الكيان الصهيوني ذريعة الدروع البشرية كمبرر لقتل الفلسطينيين في غزة، مستتراً وراء غطاء “قوانين الحرب” وفجوات القانون الدولي للنفاذ من تبعات جرائمه. لم تكن حجّة الكيان حديثة. فمنذ الانتفاضة الثانية حتى اليوم، تذرّع الكيان الوحشي بالدروع البشرية لتبرير جرائمه. غير أن عشرات تقارير المؤسسات الحقوقية والتحقيقات الصحفية فضحت كذب الكيان وأدانته مباشرة. 

في حرب الإبادة على غزّة، ابتكر جيش الاحتلال شكلاً جديداً من الدروع البشرية، حيث أرغم المدنيين الفلسطينيين على ارتداء بدلات جيش الكيان العسكرية وإدخالهم إلى الأنفاق والمباني والبيوت في غزة لكشف مواقع مقاتلي الفصائل الفلسطينية. وفي حال موت المدنيين، يلقي جنود الكيان عاتق القتل على رصاصات الفصائل! 

عودةً إلى الساحل السوري، ليست هذه المرة الأولى التي تظهر فيها تهمة الدروع البشرية في سوريا. فقد وثّق استخدام “جيش الإسلام” نساءً سوريات في أقفاص حديدية كدروع بشرية. كما اتهم النظام السوري السابق ايضاً استخدام المدنيين دروعاً. تقاذفت الفصائل المتحاربة على مدى سنوات اتهام بعضها بذات الجريمة. 

تكمن خطورة استخدام تهمة/حجة الدروع البشرية في المعارك والحروب في تعقيدات تبعاتها القانونية، لأن التحقيقات الجنائية والحقوقية لها ضوابط وشروط خاصة. أما في خضم التناحر الطائفي، فإن آلية دمج الفتاوى الفقهية والمبررات القانونية لإباحة الدماء عواقب مهولة ومخيفة قد تتجاوز فظاعاتها ومآلها ما يستوعبه العقل. 

ريم، ابنة الساحل السوري، كانت تحتضن ابنتيها بخوف الأم وذاكرة أربعة عشر عاماً من الحرب، مراقبةً الباب الذي قد يخلعُ بأي لحظة. قد تكون قذيفة. قد يدخل جنود النحر وأكلة الأكباد. “إن القتلة يمتلكون الحكاية والشاشة والجمهور” هذا ما قالته ريم في لقاء صحافي.

مواضيع ذات صلة

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

إحدى وثلاثون سنة من الغياب مضت على انطفاء فارس السرد "هاني الراهب" ومازالت نصوصه تتوهج وتمارس سطوتها وحضورها الآسر على أجيال أتت من بعده تتقرى معانيه وتتلمس خطاه رغم التعتيم والتغييب الذي مورس بحقه على مر الزمن الماضي ومحاصرته في لقمه عيشه بسبب من آرائه ومواقفه،...

الواقعية النقدية لدى ياسين الحافظ

الواقعية النقدية لدى ياسين الحافظ

ياسين الحافظ كاتبٌ ومفكر سياسي سوري من الطراز الرفيع، يعدُّ من المؤسسين والمنظرين للتجربة الحزبية العربية. اشترك في العديد من الأحزاب القومية واليسارية، ويعدُّ الحافظ في طليعة المفكرين التقدميين في العالم العربي، اتسم فكره بالواقعية النقدية، تحت تأثير منشأه الجغرافي...

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

مواضيع أخرى

حول وهم الديمقراطية في سورية

حول وهم الديمقراطية في سورية

يتوهّم كثيرون أن الديمقراطية صارت قاب قوسين أو أدنى في سورية، وأن الدول العربية والإقليمية، وقوى الداخل المنتصرة، ستقبل بتعدد الأحزاب وبإنشاء نظام ديمقراطيّ قائم على تداول السلطة وعلى الأغلبية السياسية، لا الطائفية، وأن البيانات الختامية للمؤتمرات ستُطبق على أرض...

هل طغى الاتفاق على صوت المجزرة؟

هل طغى الاتفاق على صوت المجزرة؟

بعد أربعة أيام دامية في مناطق الساحل السوري وبعد صرخات الموت التي بلغت الآفاق والتي طغت على المشهد العام، أكد كثيرون أن ما يجري نوع من الإبادة الجماعية، حيث لم يتح للناجين دفن موتاهم ومازال أغلبهم لغاية اللحظة يهيم على وجهه في الأحراش والغابات والتلال. وعلى وقع أصوات...

فرق الموت الإنكشارية في الساحل السوري وجباله

فرق الموت الإنكشارية في الساحل السوري وجباله

يبدأ الرعب والترقب بعد موعد الإفطار مباشرة وهو الوقت الذي يقوم فيه المجاهدون بقرع أبواب البيوت وتفتيشها. الاتصالات بالأمن العام لم تُجد نفعاً. كان ردهم يأتي قاطعاً: ”لا نستطيع أن نفعل أي شيء معهم“. رصاصات تخترق النوافذ وتُهشّم البلور، أصوات مهدِّدة على...

تدريباتنا