تدريباتنا

العيش في سوريا…فصول من الغربة

by | Dec 8, 2021

لا تقتصر الغربة في سوريا اليوم على السفر خارج بلاد مزّقتها الحرب.  إذ تحوّلت إقامة السوري في محافظة خارج “الحدود” الصغيرة لمسقط رأسه، بمثابة غربة داخلية فُرضت على من بقي داخل مناطق الحكومة السورية.

منذ سنوات، يعيش سهيل العامل بمديرية الاتصالات بدمشق، في غرفة مستأجرة في حي المزة، بعيداً عن أهله المقيمين في حمص. يزور أهله مرتين بالسنة، إلا إن حصل طارئ ما، وذلك لارتفاع أجور النقل بين المحافظات السورية، حيث تُكلّفه تلك المسافة القصيرة نسبياً ما يقارب العشرين ألف ليرة!

ورفعت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك التابعة للحكومة السورية أجور النقل بين المحافظات عدة مرات، تزامناً مع رفع أسعار المحروقات.

معاناة سهيل لا تقتصر على دفع أجور النقل، فهو يعطي عائلته أيضاً بعض المال مما يضطره للاستدانة من زملائه ليتمكن من الصمود حتى نهاية الشهر. يقول سهيل: “أشعر بالحرج من أهلي. لا أستطيع إعطاءهم المال، لهيك قررت ما سافر إلا مرتين بالسنة، لأن كل مرة بسافر بصرف أقل شي 70 ألف ليرة وأنا راتبي 90 ألف”.

إن كانت هذه هي معاناة المسافر من دمشق إلى حمص، فكيف هو حال من يسافر إلى دير الزور إذاً؟ عبد الجواد من منطقة الميادين بريف دير الزور، يسكن في دمشق منذ عشر سنوات هرباً من ويلات الحرب، ومنذ ذلك الحين لم يزر أهله سوى مرة واحدة ويقول: “توبة ما بقا عيدها”. يتذكّر عبد الجواد كيف قرّر زيارة أهله بصحبة عائلته عام 2018، بعد أن ادّخر القليل من المال هو وزوجته. وبعد ساعات طويلة من السفر وكانوا في منتصف الطريق الفاصل بين دمشق والميادين، بدأت تتوالى الحواجز من مختلف الأطراف المتنازعة.

ألف وألفين وألف؛ “شعرت أنني في ملهى ليلي أوزّع الأموال على الراقصات ولكن خارج إرادتي”، يقول عبد الجواد إن الحواجز تطالب الركاب بدفع الأموال لتسمح لهم بالمرور. ويضيف “في النهاية ما ضل معي مصاري وهددني أحد ضبّاط الحواجز بإبني، بعدين عطيتهم ساعتي ومن وقتها حرمت سافر لعند أهلي”. يؤكد عبد الجواد أن توزيع الأوراق النقدية تكرّر معه في رحلة العودة، بعدما استدان من أهله مبلغاً كبيراً ليتمكن من تسديد فاتورة الحواجز والسفر.

من جهة أخرى، ترتفع حالات سلب الأموال عند الحواجز على اختلافها في الطرقات التي تفصل المحافظات السورية بعضها عن بعض، وأغلب تلك الحواجز يلجأ إلى ابتزاز المسافرين بمسألة التخلّف عن الخدمة العسكرية الإلزامية، حتى وإن كانت بحوزة المسافر أوراق تأجيل نظامية.

الغربة الداخلية في سوريا لا تقتصر على صعوبة التنقل بين المحافظات، بل وصلت إلى الخوف من الوقوع كضحية بين طرفين متنازعين في الحرب السورية.  أحمد من محافظة إدلب، عسكري في القوات النظامية، بعد أن ألقى القبض عليه حاجز مع انتهاء تأجيله الدراسي قبل خمس سنوات. “كنت أخطط للعودة إلى إدلب ثم السفر إلى تركيا، لكن أحد الحواجز على طريق دمشق – حمص أوقف الباص وقام بالتفتيش بشكل كبير”. ويوضح أحمد أنه منذ ذلك الحين لم يتمكّن من الذهاب إلى ضيعته في إدلب كونها خاضعة لسيطرة المعارضة، وفي حال سفره إلى هناك يتوقع أن يتم اعتقاله. يقول بحرقة: “لم أر أمي وأهلي من خمس سنوات ونحن بنفس البلد.. ما في كلام بيوصف هي الحالة”.

سهيل وعبد الجواد وأحمد ليسوا إلا جزءاً من مئات آلاف السوريين، الذين يعانون من الغربة داخل وطنهم. فالغربة ليست محصورة بمن قرّر الهرب من ويلات الحرب العسكرية والاقتصادية إلى شتى أصقاع العالم، وقد صل عدد اللاجئين السوريين في العالم إلى أكثر من 5.6 مليون؛ أبرزهم في تركيا والأردن ولبنان وألمانيا حسب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.

أما أولئك الذين يعيشون داخل سوريا، فكثير من بينهم ينتظر فرصة للسفر ويحاول بشتى الطرق، في ظل تراجع المستوى الاقتصادي والمعيشي بشكل كبير، وكانت آخر الواجهات بيلاروسيا للوصول إلى أوروبا.

وصل آلاف المهاجرين من سوريا إلى بيلاروسيا في الشهور الأخيرة على أمل الوصول لبولندا، ومن ثم إلى دول الاتحاد الأوروبي، لكنهم اصطدموا بإجراءات مشدّدة من الشرطة البولندية وسط البرد والإذلال والجوع، ليكون قدر السوري “التعتير” داخل الوطن وخارجه.

مواضيع ذات صلة

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

 "كنت أحلم بلوحةٍ تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، لوحة تستطيع تجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفل الافتتاح لأي معرض". ربما توضح تلك الكلمات، وهي للفنان نذير نبعة، مدى تبنيه وإخلاصه للفن، الذي كان رفيق دربه لأكثر من ستين عاماً، فهو الفنان الذي...

مواضيع أخرى

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

لم يكتفِ الناس في سوريا من معاناتهم وأوجاعهم اليومية، التي فرضتها ظروف الحرب وما تبعها من أزماتٍ متلاحقة وتردٍ في الواقع الاقتصادي والمعيشي، حتى أتى فصل الصيف، الذي سجل هذا العام ارتفاعاً كبيراً وغير مسبوق في معدلات درجات الحرارة، وكان الأقسى على البلاد منذ عقود،...

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

بقي الريف السوري محروماً من المسرح إلى أن أنشأت مديرية المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة ما أسمته "المسرح الجوال" عام ١٩٦٩، والذي بدأ عروضه بنشر الوعي المسرحي في الريف والمناطق الشعبية والنائية. صارت الصالة في كل مكان  والجمهور ضمنها، وكان كسر الحواجز بين...

تدريباتنا