على الرغم من مرور أكثر من عقدين على بدء التعليم الافتراضي الجامعي في سوريا، وما وفره من خصائص تتصف بالمرونة والحداثة النسبية، يواجه الطلاب والمدرسون على السواء عوائق بسبب ضعف البنى التحية واللوجستية اللازمة.
تسوغ آية أسباب التحاقها بكلية الحقوق الافتراضية؛ منها ما يتعلق بخصوصية الأمومة وتربية الأطفال. تقول آية لـ (صالون سوريا): “اخترت الدراسة في الجامعة الافتراضية بسبب قدرتي على اختيار الأوقات التي تناسبني، كما أنني غير مقيدة بالحضور الدائم لكوني أم لطفلين. علاوة على ما سبق، أجد كل ما يلزمني من ملفات ومحاضرات وملخصات وغير ذلك على موقع الجامعة”.
خصائص جديدة
في عام 2002، أُحدثت أول هيئة عامة علمية باسم الجامعة الافتراضية السورية تتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري مقرها دمشق، لكن التعليم الافتراضي في سوريا يواجه تحديات مرتبطة بتوفر البنى التحتية اللازمة من إنترنت وإنشاءات وأجهزة ذكية.
من وجهة نظر آية تتضمن محاسن هذا النوع من التعليم المعدل المطلوب المناسب للالتحاق بالجامعة إلى جانب أن ساعات الدراسة مريحة للطلاب والطالبات. تضيف آية: “يمكن للطالب أو الطالبة التواصل مع المدرس بغرض الاستفسار أو السؤال بسرعة نسبياً”.
ينسحب واقع التعليم الافتراضي على آمال وتطلعات المدرسين والمدرسات أيضاً، حيث فرض التعليم عبر الإنترنت الـتكيف مع خصائص جديدة بما تحمل من ميزات وصعوبات.
مارست نور التدريس عبر الإنترنت. خلال حديثها مع (صالون سوريا) تفرّق المدرّسة الجامعية بين ميزات ومساوئ كل من التعليم الافتراضي والصفي، فمثلاً: بيئة التعليم الافتراضية تتيح للطلاب التعلم من أي مكان؛ بينما يمنح التعليم الصفي المدرس والطالب التفاعل المباشر فيما بينهم. من ناحية أخرى، يتيح التعليم الافتراضي تنظيماً أكبر للوقت ومرونة في اختيار المدة الزمنية المناسبة لكل من المدرس والطالب، إلا أنه لا يسمح كثيراً بالتفاعل وتكوين العلاقات الاجتماعية بين الطلاب.
يتحلى التعليم الافتراضي بالمرونة الزمنية، توضح نور أن المدرسين يحددون جداول زمنية مناسبة للدروس، ما يسهل عليهم الموازنة بين العمل والحياة الشخصية، وكذلك الوصول إلى مراجع ومصادر تعليمية منوعة بهدف إثراء المحتوى المقدم؛ فضلاً عن أنه فرصة للتدريب على المهارات التكنولوجية والتعليمية الجديدة.
من الإيجابيات أيضاً، تشيد نور بالقدرة على توسيع القاعدة الطلابية، حيث يمكن للمدرسين جذب طلاب من مناطق مختلفة، مما يوسع شبكة التعليم ويزيد عدد المتعلمين.
افتراضي أم صفي!
ازدهر التعليم الافتراضي مجدداً أثناء انتشار فيروس كورونا والإغلاق المؤقت للمؤسسات التعليمية التقليدية، دفعت هذه الحالة الطارئة رنيم الحموي (طالبة إعلام) إلى دخول التعليم الافتراضي، تروي الحموي لـ (صالون سوريا): “كان هناك خوف من الاختلاط بسبب الجائحة، فوددت أن أضمن استمرار العملية التعليمية من دون انقطاع”.
تلعب عوامل سهولة التواصل مع المدرسين والمدرسات إلى جانب البعد الاقتصادي أدواراً في اختيار نوع التعليم، وهو ما حثّ الحموي على التعليم الافتراضي، تكمل الطالبة الجامعية حديثها: “التواصل مع المدرسين والمدرسات أسهل وأسرع”.
وتضيف الحموي: “التعليم الافتراضي أكثر اقتصادية من التعليم الصفي لأنه يتيح الدراسة من المنزل بشكل يخفف من تكاليف التنقل، وخاصة في الأوضاع الراهنة التي تمر بها البلاد، ومنها أزمة المواصلات”.
تفضل آية التعليم الافتراضي أكثر من التعليم الصفي التقليدي، تشرح موقفها: “كل شيء من حولنا بات معتمداً على الإنترنت، بحيث أحصل على ما أريد متى شئت. يضاف إلى ذلك سرعة الحصول على أية أوراق إدارية عبر الانترنت، وتتصف المناهج الدراسية بالتحديث الذي يواكب روح العصر“.
عقبات في الطريق
يواجه الطلاب والطالبات مشاكل لوجستية وعوائق مادية مختلفة ربما تحرمهم من إكمال تعليمهم الجامعي، تورد آية بعض هذه الصعوبات وهي ارتفاع ثمن باقات الإنترنت، بما لا يسمح لكثير من الطلاب بالاشتراك، ناهيك عن بطء الإنترنت أثناء المحاضرات (Online)، وارتفاع أسعار الحاسوب المحمول.
يعتمد التعليم الافتراضي بشكل أساسي على جودة شبكة الإنترنت، بيد أن الاتصال بالشبكة المحلية غير مستقر ويتعرض لمشاكل تقنية مزمنة، يفاقم المشكلة انقطاع الكهرباء لساعات طويلة. وهنا تخبرنا آية عن هذه المعاناة ومحاولتها لخلق الحلول: “إن ضعف الإنترنت والانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي يؤثران على العملية التعليمية أثناء المحاضرات (Online) بشكل كبير، لذا أستمع إلى المحاضرات المثبتة من قبل المدرس (Offline) في الموقع الإلكتروني”.
عدم توفر الحواسيب لا يتوقف على الطلاب وحدهم، بل حتى على المدرسين. لم يتمكن عمر وهو مدرّس جامعي من العمل في التعليم الافتراضي لعدم توفر الأدوات المادية الأساسية ومنها الحاسب المحمول، يقول: ”منذ تعطل الحاسوب السابق وفشل محاولة إصلاحه، لم أتمكن من اقتناء حاسوب جديد حتى الآن نظراً لارتفاع أسعار هذه الأجهزة في السوق بما لا يتناسب مع دخلي، لكني أحاول جاهداً تأمين المبلغ المطلوب لاقتناء الجهاز”.
تنطلق نظرة نور في تقييم التعليم الافتراضي في سورية من الظروف التي تمر بها البلاد كالبنية التحتية التكنولوجية، حيث إن الوصول إلى الإنترنت يشكل تحدياً يؤثر في قدرة الطلاب والمعلمين على المشاركة في التعليم الافتراضي.
وتشير نور إلى التفاوت في توفر الحواسيب مما يعوق وصول بعض الطلاب إلى منصات التعليم الافتراضي؛ فضلاً عن عقبات أخرى تؤثر على التفاعل بين المعلمين والطلاب وبالتالي على فعالية التعليم نفسه.
يمتاز التعليم التقليدي بقدرة المدرس والمدرسة على حض الطلاب والطالبات على المشاركة وإبداء الآراء والإجابة على التساؤلات أثناء الحصة الدرسية، في حين تنوه نور إلى عيوب تتعلق بفقدان التفاعل الشخصي والاتصال المباشر مع الطلاب، ويعاني المدرسون من صعوبات تقنية مثل عدم استقرار الإنترنت أو نقص المعدات اللازمة، مما يضر بعملية التدريس.
ترى نور أن التعليم الافتراضي يفرض على المدرسين المزيد من الوقت والجهد في إعداد الدروس والتفاعل مع الطلاب عبر المنصات الرقمية، كذلك يصعب تحفيز بعض الطلاب للحضور والمشاركة في الدروس الافتراضية في بعض الأحيان.
تقطن أم عمر مع أولادها الثلاثة في منزل ضمن بناء كان يفترض إكمال بنائه وإكسائه لكنّ الحرب عاجلت مدينة دوما في ريف دمشق فتوقفت أحوال الاستثمار فيها كما سائر البلاد. قُتل زوج أم عمر خلال سنوات الحرب، وصار منزلها ركاماً لأسباب يطول شرحها وتبدو محاولة شرحها نكأ لجراح عقد انقضى على دمار المنزل الذي كان لسوء حظها- مجاوراً لغرفة عمليات تتبع فصيلاً مسلحاً. ورغم خسارتها لجنى العمر، إلا أنّ أم عمر ممتنة أنها وأطفالها خرجوا أحياء.
البحث عن مأوى
هامت أم عمر على وجهها في الشوارع لياليَ طوالاً لم يكن لينير عتمتها سوى سماء مشتعلةٌ بصنوف القذائف والمدافع والرصاص المخطط. قصدت جمعيات خيرية اصطفت على الطرف الآخر من النزاع بحكم التموضع الجغرافي والسياسي لكل طرف، لكنّها لم تفلح في العثور على المأوى. طردها قائد فصيل عسكري راحت تلتمس منه سكناً، ولو غرفةً، أيّ شيءٍ يقيهم أمطار شباط الغزيرة. قَبِل صديقٌ سابق لزوجها استضافتهم مؤقتاً، لكنّ زوجته رفضت غيرةً. بحثت في بيان قيدٍ عائلي تمتلكه بين أسماء إخوتها عالمةً مسبقاً بالنتيجة، وحدها هناك، من مات مات، ومن هاجر في وقتٍ سابقٍ نجا بنفسه.
ضاقت بأمّ عمر الدنيا واستحكمت حلقاتها وما انفرجت، على مضضٍ طلبت الإيواء من ابنة خالتها، وجرت العادة أن يسمع المرء عن زوجة أب تهين أولاده، عن زوج أم يهين أولادها، وهكذا، ولكن عن زوج ابن خالةٍ، فتلك كانت معاناةً أخرى، كان يهينها، يحقرها، جعل أولادها الصغار يعملون بـ “الفعالة” على صغر عمرهم، ضربها مراراً، حاول الاعتداء عليها أخيراً، فهربت من جديد لتهيم على وجهها في أضيق حيزٍ جغرافي يستحيل الخروج منه تحت وطأة إطباق حصار عسكري معلوم الأسباب.
الخيار الأخير
لم يبق أمام أم عمر إلا الالتجاء إلى إحدى كتل البناء الكثيرة التي لم يكتمل إنشاؤها في دوما وغيرها، حيث استقرت أم عمر وأطفالها في الطابق الثالث ببناء قريب من ساحة المدينة. تقول أم عمر: “يوم قررت ولا أدري كيف سأقولها، الاستيلاء على هذا المنزل وهو على”العظم “. كنت أعلم أنّ أصحابه هاجروا جميعهم ولن يعودوا، الآن على الأقل، هكذا قلت وقتها، وبعد كل هذه السنين لم يعد أحد منهم فعلاً، كان المنزل مقطّعاً ولكنّه غير مكسو، بلا نوافذ أو أبواب أو خدمات صحية وكهربائية، كان جدراناً فقط، جدراناً بلا طينة حتى”.
خلال الأشهر والسنوات التالية عملت أم عمر في الكثير من الأشغال بين الخياطة والحياكة والمياومة وشيئاً فشيئاً تمكنت من إنجاز العديد من الأمور لصالح المنزل الذي لا تملكه أساساً، ومشهد المنزل اليوم يبدو مغرقاً في سريالية عجيبة.
أين تلك السريالية؟ هي في جدار مطلي وآخر لا، في جدار بطينٍ وآخر لا، في جهة من المنزل لها نوافذها وأبوابها وأخرى لا، في مطبخ شبه مكتمل بنصف الأغراض، من كلّ شيء نصفه، حتى الخدمات الصحية، إلا أنّها تمكنت فعلياً من إتمام الشؤون الكهربائية، والمفارقة الأخرى أنّها استنزفت مدخرات تعبها على إتمام تمديدات الكهرباء في بلد لا كهرباء فيه.
في نهاية المطاف تدرك أم عمر أنّ هذا المنزل ليس لها، ولن يكون ولو حولته لقصر، وإذا ما عاد أصحابه فستلقى شرّ طردةٍ منه ولن يعوضها أحدٌ بقرشٍ واحدٍ، ولكن هل تملك أم عمر رفاهية الاختيار لئلا يكون هذا خيارها الوحيد بكل ما بذلته من أجل جعله صالحاً للسكن!
تشير في حديثها أنّها تعرف كل ذلك، وتضيف: “منذ أول يومٍ في الحرب هذه البلد ما عادت للفقير، كيف يمكن أن تكون البلد لأولادها الذين يحلمون بامتلاك منزلٍ فيها، بأبسط حقوقهم؟ كيف ترى السوريّ اليوم يتدبر أمر معيشته كلّ يومٍ بيوم؟ كذلك أفعل أنا منتظرة اليوم الذي سأطرد فيه من هذا المنزل، ولكنّي حينها لن أخاف كما كنت قبل سنين، فأولادي حينها سيكونون رجالاً”. تغالب دمعتها وتكمل: “ما لم يتركوني ويهاجروا كما يفعل الجميع”.
عقدة مركبة
يعاني السوريّ عقدةً مركبةً تقف حائلاً في وجه كل ما يمكن أن يفكر فيه تجاه مستقبله، فتلعب دوراً مركزياً وأساسياً في قراره بالهجرة، وفي سياق الهجرة من الضرورة التذكير أنّها لا زالت تتنامى باضطراد.
وتمثل مدينة حمص المدمرة بأكثر من نصفها مثالاً عن حلم السكن، فما بقي من أحياء من حمص، ومن بينها عكرمة على سبيل المثال تتراوح أسعار العقارات الجيّدة فيها بين 700 مليون و5 مليار، نعم 5 مليار في مدينةٍ لا شيء مغرٍ فيها للسكن، وفي حيٍّ ليس أبو رمانة ولا المالكي أو الشعلان في دمشق، مجرد حيٍّ عادي. ومن يعتقد أنّ الأحياء الشعبية أقل ثمناً يكون واهماً في ثورة جنون العقارات أمام العرض الوفير والطلب ما دون الشحيح، ضمن واحدةٍ من أغرب معادلات الاقتصاد.
“استبدلوني بمنزل بريء الذمة”
كان المهندس أحمد المنجد يريد الزواج من زميلته في الكلية بعد قصّة حب دامت سنوات عدّة، لكنّ والدها اشترط عليه امتلاك منزلٍ قبل الزواج. رغم ما مرّ به أحمد من ظروف وجدانية متعارضة لكنّه يبدو أنّه لم يفقد شيئاً من طرافته التي يعبر عنها بأنّها الشيء الوحيد الذي لا زال متمسكاً به، إذ قال لوالد الفتاة: “لنسكن لديك، أنت أصلاً ورثت منزلك من والدك، هل يمكنك شراء منزل الآن”.
يقول أحمد إنّه قضى أشهراً مبتسماً وهو يفكر في معضلة الحصول على البيت ساخراً في كلّ لحظة من فوضوية المنطق الذي قوبل به من طرف الوالد، فالمهندس الذي تخرج قبل سنوات قليلة، لم يكن ليجمع ثمن منزل، ولو كان يعمل بالمخدرات، كما يقول.
أخيراً قرر أحمد الهجرة إلى ليبيا، هناك حيث يتقاضى الآن ثلاثة آلاف دولار شهرياً، وهذه الطريقة الوحيدة ليتمكن من العودة يوماً ما وشراء منزل، لكنّ حبيبته تزوجت، فقرر أن يسمي ما حصل معه بأنّه: “جرى استبداله بمنزل عقاري مفرز 2400 سهم بريء الذمة ولا ضرائب عليه”.
لولا الحرب!
يتداول السوريون مراراً مقولة تنسب لحاكم الإمارات السابق وبأنّه قالها في ثمانينيات القرن الماضي في ذكرى تأسيس دولتهم ومفادها: “كيف سأطلب من مواطن إماراتي واحد الولاء لدولته وهو يقطن بالإيجار؟” وعليه بدأت مشاريع تمليك كل المواطنين لمنازل لتصل تلك الدولة منذ سنوات مرحلةً لا يوجد فيها مواطن دونما منزل.
تسترعي هذه المقولة الانتباه بشدّة، فهي تحمل بعدين، سياسياً واقتصادياً، ومن المجحف القول إنّ سوريا مع بداية الألفية الحالية لم تكن تسير في طريق مشابه عبر القروض الميّسرة والمسهلة التي تفضي لامتلاك شقة، عدا عن إنشاء مئات المجمعات السكنية في كلّ المحافظات وبأقساط شهرية تكاد لا تذكر أمام راتب شهري كان مجزياً وكافياً.
بنوكٌ شريرة
أما اليوم فقط تغيّر كل شيء، ولكن ما زال يمكن الحصول على قرض لشراء عقار، أعلاه ما يمنحه البنك العقاري وهو مئتا مليون ليرة سورية، يجري سدادها على عشر سنين، وبفوائد كبيرة بالطبع، وبالمحصلة سيحاج القرض وساطة وفوقها بضع مئات ملايين أخرى وربما مليارات لشراء عقار.
في حين تمنح البنوك الخاصة قروضاً أيضاً، بعضها يمنح قرضاً نصف مليار ويسترده ملياراً ونصفاً، فيما يُمكن وصفة بعملية سرقة وابتزاز منتشرة بشكل واسع في قطاع البنوك الخاصة وعلى رأسها البنوك الإسلامية التي وجدت طريقتها للحصول على أرباح خيالية دون استخدام الفوائد، بل تحت مسميات أخرى تجعلها أكثر شرعية وخنقاً للمواطن في آن.
مخاطر اعتياد المهانة
انقضى قرابة أربعة عشر عاماً على الحرب السوريّة، شيئاً فشيئاً اعتاد السوريّ في الداخل المهانة في كل مفصل وجزء من حياته. ناس كثيرون اعتادوا تناول الخبز والشاي، ومن الممكن قرص من البندورة وفلافل في مناسبات ليست كثيرة. وهناك الكثير الكثير من الباحثين عن الطعام في حاويات القمامة. ولكن كلّ ذلك يمكن بشكل أو بآخر معالجته في مشاريع التعافي المبكر أو الشروع بإعادة الإعمار أو إعادة هيكلة السياسة الاقتصادية وتحقيق انفتاح ليبرالي نحو العمل الحر والسوق الجماعي الذي يدمج بين المعسكرين الكلاسيكيين في الاقتصاد، الاشتراكية والرأسمالية.
ولكن من يؤمن منازل يسكنها أولئك المشردون، وبالمناسبة فحتى المستأجرون هم مشردون تحت وطأة ابتزاز الارتفاع المستمر للإيجار وهم ما يزالون يقطنون ذات العقار، فعلامَ يكون إيجار منزل في حمص 5 ملايين شهرياً، وفي طرطوس 6 ملايين شهرياً، وفي دمشق قد يصل إلى أكثر من 10 ملايين شهرياً. وأما أفقر الفقراء فلا يستطيعون إيجاد منزل غير مفروش بأقل من 500 ألف، وهو رقم يمثل ضعف راتب الموظف الحكومي.
تحقيق حلم يداوي جراح المقهورين
ثمّة شيء وحيدٌ يمكن قوله للإيضاح: إذا كان متوسط ثمن عقار متواضع في حيٍّ جيد نحو مليار ليرة، وكان من سيشتريه موظفاً، فإنّه سيحتاج جمع مرتبه لـ 300 سنة دون أن يصرف منه قرشاً واحداً! وهل يعلم القائمون على الأمر أن أسعار العقارات في دبي وبيروت وماليزيا باتت أرخص من دمشق!
لذا يسكن الناس، الكثير منهم، في بيوت على الهيكل، وبأفضل الحالات بالتشطيبات الأولية، مستغنين عن كل ما أمكن من تمديدات كهربائية وصحية، هؤلاء لا يريدون سوى حلم السقف والجدران والباقي تحلّه الأيام.
ياسين الحافظ كاتبٌ ومفكر سياسي سوري من الطراز الرفيع، يعدُّ من المؤسسين والمنظرين للتجربة الحزبية العربية. اشترك في العديد من الأحزاب القومية واليسارية، ويعدُّ الحافظ في طليعة المفكرين التقدميين في العالم العربي، اتسم فكره بالواقعية النقدية، تحت تأثير منشأه الجغرافي والاجتماعي. حيث ولد ياسين الحافظ في عام 1930 بدير الزور السورية كما يروي هو في سيرته الذاتية، بل الأيديولوجية والسياسية، التي سطرها في كتابه: الهزيمة والايديولوجيا المهزومة.
عاش الحافظ في بيئة صحراوية عشائرية تقليدية، بقي تأثيرها عليه مدى الحياة، لكن اتصاله عبر والده بالشيخ محمد سعيد العرفي(1896- 1956)، مكَّنه من تجاوز تلك العشائرية، وكان ذلك أيضاً مناسبة للتعرف على إسلام سني نُزعت منه قشرته الصوفية – على حد تعبيره – وطُرِدت منه الخرافات، إسلام متزن، متوازن، بسيط إلى حد البداوة، وعلى استعداد للتصالح مع بعض منجزات العلم، وقد ساعده ذلك على الانعتاق الكلي المبكّر من التقليد العشائري، والانتقال إلى ممارسة سياسية حديثة، تتجاوز الممارسات السياسة القبائلية. وقد كان النضال ضد الاستعمار الفرنسي المدخل الأولي الذي قاده إلى ميدان السياسة، وبالتالي كان شغله وانشغاله منذ صغره يتعدى المصلحة الشخصية أو العائلية أو العشائرية، فكان الحافظ ممن أسهموا في بلورة التجربة الحزبية في دير الزور، بل في سورية والعالم العربي، في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. (الحافظ، 1978، الهزيمة والايديولوجية المهزومة، ص6).
يُذكر على هذا الصعيد أن الحافظ انتسب إلى الحزب الشيوعي السوري عام 1955، ثم تم فصله منه بعد عام تقريباً بسبب انتقادات الحافظ للحزب، ثم شارك في صياغة المنطلقات النظرية لحرب البعث في مؤتمره السادس عام 1963، لكنه سرعان ما انشق عن الحزب وشكَّل ما عرف باسم حزب البعث اليساري، وقد انبثق عنه حزب العمال الثوري العربي 1965، وقد كان الحافظ أميناً للحزب حتى وافته المنية عام 1978. لم تكن التجربة الفكري لدى الحافظ وليدة تأمل فكري بحت، فقد تشكلت بنية الوعي لديه ارتكازاً على تجربة شخصية كانت بمثابة الحاضنة التي عملت على تفتق روائز الوعي التقدمي لديه، فموقفه من المرأة ومن مسألة تحررها التي تعدُّ – حسبما يرى – رائزاً ومحكاً لتحرر المجتمع وتقدمه ككل. هذا الموقف قد ساهم في إبرازه وتأصيله، ما عاناه الحافظ من التمييز بسبب العرق والدين، فوالدته، كانت أرمنية مسيحية، وسط بيئة تقليدية محافظة، فعانت ما عانت من تمييز ورفض مجتمعي، مما انعكس بشكل غير مباشر على الحافظ، فكانت مواقفه الفكرية مبنية على خبرة حياتية مريرة، لاسيما أنه تم سجنه لمدة عام تقريباً غادر على إثر ذلك سورية إلى لبنان ليمضي فيه بقية حياته. قضية والدته جعلت قضية تحرر المرأة في طليعة الأفكار التقدمية التي تبناها الحافظ، كذلك ساعدته في تجاوز الحدود الفاصلة بين البشر سواء أكانت عرقية أم دينية، الأمر الذي جعله منفتحاً على الآخر الغريب، وبالتالي كانت تجربته الفكرية والسياسية محكومة بهاجسين عميقين، وهما الديمقراطية الغربية والاشتراكية الشرقية.
فالتجربة السياسية للحافظ، كانت ذات طابع قومي فرضته وقائع الاستعمار الأوربي من جهة، وقضية فلسطين من جهة أخرى، ويتحدث هو نفسه عن هذه التجربة التي بدا بها راديكالياً ورومانسياً، وقد تمثلت راديكاليته بموقفه العدائي ممن تسبب في نكبة فلسطين، وهم الحكَّام العرب المتواطئون مع الاستعمار الذي مكن لإسرائيل احتلال فلسطين، أما مثاليته فكانت تتجلى بإيمانه بأن الحل يكمن في الإطاحة بالنخب الحاكمة واستبدالها بحكام أشبه بأنبياء صغار، فكان موقفه وأحكامه السياسية بادئ ذي بدء سطحية أو مسطحة، وقد استغرق هذا التسطيح قرابة عقد ونيف، حتى أدرك الحافظ أن الأزمة الحقيقة تكمن في العمق أو ما قبل أو ما تحت السطح، ويقصد بذاك الشعب؛ القاعدة العريضة لأي نخبة سياسية أو ثقافية. وبالتالي فالعيب ليس محصوراً بالنخب، بل يتسع لشمل المجتمع الذي أفرز هذه النخب، والمجتمع العربي بالذات هو المهزوم الحقيقي، وقد فاته اللحاق بموكب التقدم والحضارة، والفوات التاريخي مصطلح خاص بالحافظ، ويعني عدم اللحاق بالنهضة العصرية.
وقد ترافق هذا الانتقال الفكري السياسي من السطح إلى العمق –عند الحافظ – بانتقال اعتقادي من معتقد لآخر، فمن إسلام صوفي سطحي إلى إسلام عقلاني علماني متزن، ثم انتقال إلى معتقد جديد قوامه القومية العربية التي فرضتها القضية الفلسطينية، مع تلاوين يوتوبية، ما لبث أن انتقل إلى معتقد جديد وهو العقيدة الماركسية، دونما تجاوز كامل للقومية، فقد كانت ماركسيته متصالحة مع قوميته، كما يصرح هو: لم أعد قوماوياً بل قومياً (أو أموياً) وبالتالي لم تعد الأممية دعوة إلى تخل عن القومية، بل دعوة إلى فهم المصلحة القومية في سياق عالمي رحب وأكثر توازناً وواقعية، وأخيراً دعوة إلى تجاوز النرجسية القومية، وإلى تواضع في فهم الذات القومية… من هنا كنت على الدوام، وعلى درجة متفاوتة من الوعي، أضع الثورة القومية الديمقراطية في المكان الأول والأولي في سيرورة المجتمع العربي وتقدمه.” (الحافظ، 1978، الهزيمة والايديولوجية المهزومة، ص11-12).
ومن هنا كان الحافظ يدعو إلى تعريب الماركسية، أو تكييف الماركسية للأوضاع العربية الملموسة، ولم يكن يرى من تناقض بين القومية والماركسية، وأن كل ما يبدو من تناقض بينهما إنما مردَّه إلى الوهم، وما إن تجاوز الحافظ هذا التناقض حتى تفوقت ماركسيته على قوميته، وبدا المنطق الماركسي مُحكماً متسقاً، بينما بدا المنطق القومي العربي مفككاً ساذجاً. والحديث هنا عن الماركسية غير المؤسساتية وغير السوفيتية، التي انتقدها الحافظ على مدار سنوات، لكنه سرعان ما وجد نفسه ضمنها متجاوزاً نقده لها، في تناقض يبدو غريباً إلى حد ما.
وينتقد الحافظ منهج السياسات العربية، ويرى أنها إما سياسيات ثورية رومانسية أو واقعية محافظة. والنتيجة في كلتا الحالتين تكمن في النزوع المحافظ الذي يحكم الرؤية السياسية العربية. فالواقعية المحافظة تتنكر بالنتيجة للقوى الكامنة أو الممكنة لدى الأمة، ولذا تتجه تلقائياً إلى الخنوع والمصالحة، وبالمقابل فإن الثورية الرومانسية تجد نفسها بالنهاية عاجزة عن الفعل السياسي، فتقع إثر سلسلة من الإخفاقات، في نزوع يائس واستسلامي ومحافظ سياسياً. (الحافظ، 1997، التجربة التاريخية الفيتنامية، ص145) وينتقد الحافظ أيضاً الفكر العربي التقدمي بفرعيه القومي والماركسي، ويرى أنه ” فكر مستريح، بلا إشكاليات ولا هموم، لذا فهو متفائل، وهو متفائل لأنه فكر أيديولوجي، فكراني، يعيش مع نفسه لا مع الحقيقة الواقعية… الفكر القومي العربي الذي ما زال فكراً تقليدوياً في جوهره ( وبالتالي هو قوماوي وليس بالقومي) … وقد اختزل ( وبالتالي سطح) المسألة القومية إلى مسألة الوحدة العربية واستراح، في حين أن مسألة الوحدة العربية رغم أنها التتويج والمآل، تشكل جانباً من جوانب المسألة القومية، وتظاهرة من تظاهراتها.( (الحافظ، 1997، التجربة التاريخية الفيتنامية، ص132-133).
ويرى الحافظ أن ثمة عوامل عدة ساهمت في إفشال كل التجارب النهضوية، في بلادنا العربية، بما فيها التقدمية الماركسية، ومن بين تلك العوامل مثلاً عدم بزوغ ثقافة ليبرالية عربية حديثة، وعدم ولادة أنتلجنتسيا عربية حديثة ثورية، أضف إلى ذك أن الماركسية العربية قَدَّمت نفسها للشارع العربي كطبقة متعالية؛ وهي طبقة خواجات أو متخوِّجة، وهذا ما جعلها معزولة ومنبوذة، خلافاً للماركسية الفيتنامية التي شكلت حركة شعبية واسعة؛ لأن نشوؤها بالأساس كان قومياً لا محلياً. (الحافظ، 1997، التجربة التاريخية الفيتنامية، ص91-92). وليس كما الماركسية العربية، تحمل نفس الشعارات القومية والأممية، لكنها تمثِّل على الأرض نخبة معزولة من الأنتلجنتسيا. أدرك الحافظ الدور الذي يلعبه العامل الأيديولوجي في نجاح أو فشل أي تجربة ثورية، ومن هنا رأى أن الناصرية قد أخفقت؛ ليس لأنها برجوازية صغيرة، بل لأن أيديولوجيتها متأخرة ومحافظة، وتفتقر إلى وعي كوني تاريخي. لقد كان عبد الناصر فرصة تاريخية ضاعت على الأمة العربية، لأن الأنتلجنتسيا العربية والمصرية خصوصاً لم تكن تملك وعياً مطابقاً لحاجات التقدم العربي، لهذا فشلت التجربة القومية الناصرية.
وفي لبنان حيث كانت محطته النهائية، تعرَّف خلال تواجده هناك على أعمال المفكر المغربي عبد الله العروي (1933-1971)، وقد ساعدته تلك الأعمال على تجاوز الأيديولوجيا بمعناها التقليدي، كما ساعده العروي على وعي البعد التاريخي للواقع العربي، حيث كان العروي ينشد التاريخانية كأساس وحيد للتقدم العربي، وهذا التقدم لا بد أن يتم على خطى أوربية ليبرالية، فحاضر أوربا هو مستقبل الأمة العربية، ومن هنا ندرك كيف أن الحافظ جمع بين القومية والماركسية والليبرالية، برغم كل الواقعية والنقدية التي اتسم بها فكره. وهذا مصير كثير من الكبار الذين انتهوا إلى توليفة تجمع المتناقضات في أطروحة واحدة.
رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع أنصار العالم الافتراضي نقل إلا جزء يسير من الكتب المطبوعة ورقيا أو الصحف، للأسف حتى المكتبات الضخمة غير قادرة على جمع وعرض كل ما طبع.
من هنا كانت الأرصفة في دمشق المكمل الحقيقي لهذا العنصر المعرفي، ولا يمكن تجاهلها في أي مكان من العالم. فمن ناحية هناك تنوع كبير في ما تعرضه من كتب التي تشمل كافة ميادين الثقافة والعلوم والفنون، والأهم من ذلك هي أن بسطات الأرصفة هي المالك الوحيد للطبعات النافدة من السوق والإصدارات القديمة من دون أن تفعل ما تفعله بعض المكتبات إذ لا يوجد اصطفاف سياسي ولا قطيعة مع أي مؤلف، كما أنك تجد على الأرصفة كتباً خاصة بالجامعات وكتب الأطفال واليافعين وقصصهم التي قرأتها الأجيال السابقة من سوبرمان إلى تان تان، المواد التي لا تمكن مشاهدتها في المكتبات الأنيقة، لكنك تضطر لجمع أجزاء الكتب والمجلات من أكثر من مكان كما يحدث حين تريد اقتناء كتاب العقد الفريد.
قرار محافظة دمشق الأخير (يوم الأربعاء 16 تشرين الأول 2024) والقاضي بإزالة بسطات الكتب المتواجدة منذ سنوات تحت جسر الرئيس، المنطقة الأشهر لبيع الكتب، بذريعة تجميل المكان أثار حفيظة شريحة كبيرة من المثقفين والعاملين في هذا المجال حتى أن البعض وجه عبر منصة فيس بوك دعوة للتوقيع بالاسم والصفة لتوجيه رسالة مفتوحة إلى السيدة وزيرة الثقافة السورية ومحافظ دمشق فحواها “أنه بهذا القرار سِدت آخر رئة لتنفس هواء المعرفة، الهواء الذي يميز كل عواصم العالم من باريس الى القاهرة وبغداد وبيروت، وكأن مثل هذا القرار الجائر قدر دمشق كي تحتضر أكثر فأكثر”. وأشاروا إلى بسطات الرصيف المشهورة في تلك العواصم ومن أبرز الأسماء التي وقعت على هذه الرسالة المخرج السينمائي محمد ملص، والروائي خليل صويلح، والكاتب والمخرج المسرحي سامر محمد إسماعيل والشاعر أوس أسعد وآخرون كثيرون.
أبو طلال، المحارب القديم المتقاعد، الذي بحث عن عمل يحقق له دخلاً مادياً وسعادة لا يرى أن المقاطعة الثقافية التي صنعتها الحرب وغياب الإصدارات الجديدة مشكلة فمن وجهة نظره هناك الكثير من الكتب المهمة والقيّمة التي تستحق القراءة، والتي لم نطلع عليها بعد. وهناك كتب قيّمة، لا يمكن أن تجدها في أهم وأشهر المكتبات السورية، لكنها متوفرة في بسطته بأسعار زهيدة مقارنة بأسعار الكتب الجديدة التي صدرت خلال السنوات الماضية. أضاف بنبرة جازمة: “لا تمكن المقارنة بين أمهات الكتب وكتب التنفيعة التي تصدرها الجهات الرسمية أو بعض دور النشر الخاصة”، وهناك الكثير من الكتب التي يرفض شراءها، أو وضعها ضمن المجموعة التي يقتنيها، لكنه يعتب على بعض الأشخاص الذين ينظرون إلى مكتبة الرصيف بتعال خاصة من أطلق عليهم اسم (البروليتاريا الجديدة)، كما انتقد الحكومة التي رفضت ترخيص أكشاك خاصة لبيع الكتب مثلما فعلت مع أكشاك بائعي التبغ ومشروبات الطاقة. واعتبر قرار إزالة البسطات جائرا بحق باعة الكتب والمواطن غير القادر على اقتناء نسخة جديدة بسبب ارتفاع سعرها بينما بقيت بسطات حمالات الصدر الصينية والثياب المستعملة وورق اليانصيب التي لم يطالها قرار تجميل المكان.
عماد، بائع الكتب الرصيفية، يؤكد أنه كان يعيش وعائلته من مهنة بيع الكتب والصحف والمجلات لكن الحرب السورية دمرت بيته الذي كان مخزنا لما يزيد عن خمسة آلاف عنوان في منطقة دوما وهو اليوم يضع كمية محدودة من الكتب والمجلات القديمة ونادرا ما يجد طالبا لها. يقول: “المجلات القديمة أهم من المجلات المطبوعة حديثا، بالنسبة لي لا يمكن أن أقارن مجلة شعر أو الآداب مع ما يأتينا اليوم. إن القيمة الثقافية مختلفة ومضمون النص أهم”. أما عن قلة الكتب لديه فقال: “كان عملنا خلال الحرب أشبه بعمل أي محل مجوهرات، يعرض علينا أن نشتري مجموعات من الكتب وموسوعات أكثر مما يطلب منا كتاب، مجموعات فاخرة، تجليد فني، وأسعار زهيدة، لكن لا أحد يسأل عنها (الجمل بليرة وما في ليرة). المهتمون بالقراءة والمثقفون مفلسون”. وفيما يخص القرار الأخير أعلن أن مورده المادي توقف بشكل كامل.
تحت جسر فكتوريا يفاجئك أبو مهيار (محمود بوكس) كما يسميه أصحاب البسطات المجاورة له فهو ليس مجرد بائع كتب مستعملة بل يمكن أن تطلق عليه اسم (غوغل) فما أن تسأله عن كتاب حتى يعطيك شرحا وافيا عن محتواه وعن مؤلفه ولمحة عن الكتب التي صدرت بخصوص هذا الموضوع، ويرشدك ماذا يجب أن تقرأ ولماذا، لتكتشف بعدها أنه خريج كلية الآداب قسم اللغة العربية. وما يميزه عن أقرانه هو أن لديه خدمة التوصيل، واللافت أنه يتسوق كتبه من البسطات كأي مقتن للأشياء القيمة، ويواظب على حضور معارض الكتاب في سورية ولبنان. الأرشيف الذي يمتلكه يضم مجلات كروز اليوسف، والآداب، ومجلة شعر ومجلات أخرى مختصة في المسرح والسينما والصحف التي تعود لعام ١٩٢٠. أما ثروته الحقيقية (مكتبة المنزل) التي كانت تحتوي على خمسة عشرة ألف كتاب فقد التهمتها الحرب مع ابنه ومنزله بالكامل. أبو مهيار متمسك بمهنته ويرفض الهجرة خارج البلاد. يضحك قائلاً: “صار بيع الكتب مثل الدعارة، أو بيع الدخان المهرب. يجب أن تتواصل مع القارئ على الهاتف وتعطيه موعد بالخفاء وتنتبه من أن يراك أحد فيصادرون الكتب”.
أكثر ما يثير شجونك عناوين الكتب التي لن تراها بعد اليوم فقرار الإزالة بدأ ومن لم يجمع كتبه ويرحل تقوم الجرافة بتجريفها كأية أنقاض أو قمامة. ولم يعد بإمكاننا لوم أبي حيان التوحيدي على حرقه لكتبه، ولا لوم الداراني الذي ألقى بمؤلفاته في التنور.
بقي الريف السوري محروماً من المسرح إلى أن أنشأت مديرية المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة ما أسمته “المسرح الجوال” عام ١٩٦٩، والذي بدأ عروضه بنشر الوعي المسرحي في الريف والمناطق الشعبية والنائية. صارت الصالة في كل مكان والجمهور ضمنها، وكان كسر الحواجز بين العناصر المسرحية من أهداف هذا النوع الجديد. وجاءت طريقة العرض والاتصال بالجمهور في موقع عمله وحياته اليومية كتلبية لنداء المسرح الجماهيري الفقير الذي حرص على التواصل مع الناس وطرح مشاكلهم، وما لبث أن تحول إلى مسرح آخر يعرض على الخشبة مسرحيات عالمية وعربية ثم يجول على مسارح المدن ذات الشروط الفنية المكتملة، إلى أن بدأ نشاطه ينحسر ويتحدد في المناطق القريبة من دمشق العاصمة، وفي النهاية اقتصر على عرض واحد كانت طبيعته مختلفة عن المسرح الجوال وخالفته من حيث البنية وشرط المكان أو الاقتراب من الواقع الراهن.
كان المسرح الجوال عبارة عن عروض مسرحية مكتوبة بلغة بسيطة وأسلوب فني سهل هدفه مخاطبة الجمهور ببساطة وعمق، أما مهمته الأساسية فتكمن في تطوير الحياة وتغييرها بيد أبنائها وأن يزيد من رقعة جمهوره بشكل مستمر، أما الشكل المسرحي فهو أقرب إلى حلم الشاعر السريالي”أنطونين أرتو” بإزالة جمود العلاقة بين المتفرج والعرض وتغيير العلاقة بين العرض والصالة. ولقد عمل كل من غروتوفسكي ومنوشكين ضمن حلم أرتو فأدخلوا المتفرج في سياق العرض بتحريضه على المشاركة واللاحيادية، فقام غروتوفسكي في مسرح المختبر بالتخلي عن المعماريات والأدوات المسرحية التقليدية، كما تخلى عن تقسيم الفضاء بحدود القاعة والخشبة. وقام لوكا رانكوني الكاتب والمخرج الإيطالي بتحويل سيرك برلين إلى مسرح واسع بلا ستائر ووحّد الحلبة والقاعة التي اتسعت حينها لحوالي ثلاثة آلاف متفرج.
بناء على هذا لا يمكن أن نطلق على المسرح الجوال لقباً جديداً بما أنه جامع للتجارب الذي سبقته وطور على أساسها بما يخدم هدفه. وكان يبدأ عروضه في المناطق السورية التي يذهب إليها بكلمة مدير المسرح ويليها العرض، وفي نهايته يفتح المدير حواراً مع الجمهور حول المشاكل التي شاهدها، وكانت المواضيع متنوعة لكنها تتعلق بحياة الفلاح بشكل رئيسي مثل الهجرة من القرية إلى المدينة، والثقافة الفلاحية، والخوف من السلطة، والمهور والزواج وغيرها.
أعطى المسرح الجوال صورة واضحة عن وضع الحركة المسرحية في سورية، إذ كان ينتقل بالعروض الجديدة من مدينة إلى مدينة ومن ساحة قرية إلى باحة مدرسة أو بهو صالة. لم يكن المكان شرطاً في حد ذاته، فالمهم كان الاتساع وإمكانية الاندماج مع الجمهور ومشاركته في العرض بشكل أو بآخر. وكان العاملون في المسرح الجوال يعدونه من التجارب المثيرة والمهمة، سواء للجمهور أو للمشاركين فيه، فهو يلاقي جمهوره دون أية إضافات أو تزويق يجتلب إيهام المسرح، فهو عبارة عن مسرح مكشوف من دون خشبة أو ستارة أو ديكور أو ملابس أو ماكياج، والشرط الرئيس، بعد ابتعاده عن الديكور والسينوغرافيا والصنعة المسرحية، أنه هو من يذهب إلى الناس والتجمعات بأنواعها الفلاحية والعمالية والطلابية، حتى اكتسبت هذه التجربة ملامحها من المشكلات التي تطرحها بلغة الجمهور نفسه، فكان يتحول أحياناً للتوعية والإرشاد.
غير أن أهمية المسرح الجوال جاءت من تنقله بين القرى التي لم تعرف المسرح إلا عن طريق الفنون الشعبية التي لازمتها كالأعراس والمآتم، وذلك من دون أن تدرك تلك الجموع أن ما تقوم به هو أحد أشكال المسرح والفرجة.
قبل أن يحضر المسرح الجوال كان الريف السوري عموماً محروماً من فن المسرح لعدم وجود الصالات أو الفِرق، سواء المحترفة منها والهاوية، إضافة لغياب الإمكانيات الفنية بشكل كامل. في الوقت ذاته وصل المسرح إلى نصف سكان سورية، وأطلق حواراً بين الفلاحين أنفسهم وبين الفلاحين والمسرح، فاعتبره الفلاح في مرحلة ما وجهاً من أوجه السلطة. وكان يترك الجمهور يواجه نفسه بالبحث عن حلول تناسب قضاياه دون الاتكال على الآخر، لأن المشاكل تختلف بين قرية وقرية، بحسب قربها أو بعدها عن المدينة، وتضاريسها ومناخها، فضلاً عن الالتحام الذي كان يحصل بين المشاهد والممثل من خلال طريقة العرض.
كان القائمون على هذا النوع من المسرح يكيفون عروضهم مع متطلبات البيئة وواقع الحال في الريف السوري وبيئاته الشعبية، فكان الكاتب يختار المشاكل اليومية والراهنة في بعض الأحيان، وعروضاً كوميدية وترفيهية أو اجتماعية أو سياسية أحيانا أُخرى. الفكرة الأساسية تعنى بالإرشاد القومي، ثم يسردها في حوار يتناسب مع لغة المتلقي من حيث قاموس المفردات وأسلوب الطرح وطرق المناقشة، وفي بعض العروض كان الجمهور شريكاً حقيقياً يشارك الممثلين في حواراتهم، فيتحول العرض إلى ما يشبه الندوة الفكرية، حتى بات للمسرح الجوال خصوصيته المكانية والزمنية والتقنية، فتحرر من شرط الصالة والوقت والقراءة الواحدة للعرض.
قدّم المسرح الجوال قرابة ألف عرض مسرحي في سبعمائة قرية سورية، حتى أنه في عام 1976 حطَّ رحاله في دمشق وقدم عرضاً باسم “الدنيا أخد وعطا” من تأليف أحمد قبلاوي وإخراج حسين إدلبي. أما السبب الرئيس لتقديم عروضه في العاصمة فقد كان لفت الأنظار إليه. وكان العرض الأول للمسرح الجوال بمثابة عرض تجريبي. كما قدّم عرضاً في قرية “بدا” محافظة دمشق، وكانت التجربة ناجحة، وتلقاها الفلاحون بشغف، فاندمجوا مع العرض، وتدخلوا في مجرى الأحداث، وبدأت مناقشة بعد العرض بشكل تلقائي، فطالبوا بأن تتكرر زيارات المسرح الجوال لقريتهم، علماً أن العرض لم يتجاوز الثلاثين دقيقة. وخلال شهر واحد قدّم أربعة وستين عرضاً في أربع وستين قرية.
كان من أهم عوامل نجاح المسرح الجوال ذهابه إلى الناس والفلاحين والبسطاء الذين لم يفكروا يوماً في السفر إلى المدينة لحضور عرض مسرحي، فلا التوقيت مناسب للذهاب والعودة، ولا أحد يعلمهم بتاريخ وتوقيت العروض المسرحية في المدن، ناهيك عن العبء المادي. وكان الاندماج الحاصل بين الممثلين والجمهور من حيث مكان الجلوس أحد عوامل النجاح، فكان الممثل بعد أن يؤدي دوره يعود للجلوس ببساطة وسط الجمهور، سواء في مضافة أو مرج أو ساحة، فلا يختفي الممثل في هذا النوع من الفرجة خلف الكواليس. وكان الجمهور يشارك أيضاً في الحوار الذي يلي العرض، وتتفاعل فيه الآراء المتناقضة، إذ كان يتيح العرض الجوال لكل فرد إبداء رأيه، إضافة لبساطة الإخراج ومحلية النص والمضمون على مستوى اللغة أو الموضوع.
كان أبرز من عمل في المسرح الجوال ممدوح عدوان ومحمد الماغوط وعبد اللطيف فتحي وأيمن زيدان، وهذا الأخير أخرج للمسرح الجوال نص “رحلة حنظله” المستند إلى نص لسعد الله ونوس. كما قدم سهيل شلهوب عرض “المهرج ” للراحل محمد الماغوط ثماني وعشرين مرة، وقدم المخرج يوسف حرب “حكايات للريف”-وهو نص لأسعد فضة إحدى وثلاثين مرة. وكانت بعض النصوص تنتمي للأدب العالمي مثل “المجنون” للروائي والمسرحي ميخائيل بولغاكوف، و”المنافقون” للكاتب المسرحي الإنكليزي بن جونسون، و”المحقق” للكاتب الروائي والمذيع جون بي بريستلي. وقدم المخرج صلاح الهادي بدوره نصاً بعنوان “مأساة مضحكة” كان قد اقتبسه عن نص مسرحي بعنوان “الكوميديا السوداء” للكاتب البريطاني بيتر شافر. ومن النصوص العربية قدم عرض “المهزلة الأرضية” للقاص يوسف إدريس.
لم يعلن توقف المسرح الجوال، واستمر الاسم من غير مضمون، وأخذ الاسم على عاتقه تقديم الأعمال الكوميدية كونها تجذب جمهوراً أوسع. والجدير بالذكر أن الفنان أيمن زيدان كانت له تجربة جيدة فيما قدمه لكنها لم تستمر طويلاً.
تعثر المسرح الجوال منذ انطلاقته في السبعينات، ربما لأن القائمين عليه لم يدركوا طبيعته ما جعلهم يبتعدون عن أهدافه. وبدأ عدد العروض ينخفض ففي عام ١٩٨١ كان ضمن برنامجه عرض وحيد فقط هو “مهاجر بريسبان” تأليف جورج شحادة وإخراج طلال الحجلي، لكن مكان العرض لم يكن في الأرياف والساحات، بل على خشبة مسرح القباني في العاصمة دمشق. وبدأ اختيار عروض لا تتناسب طبيعتها وطبيعة المسرح الجوال، لا من حيث خصوصية العرض المسرحي ولا مخاطبة الجمهور فالعرض المذكور لجورج شحادة كان عبارة عن مسرحية شعرية تنتمي إلى تقاليد المسرح في الغرب، ولا بد من توافر عدة شروط أولها الخشبة وجانب الإيهام في التلقي واللغة المسرحية، وكل الشروط كانت تخالف الطريقة التي انتهجها المسرح الجوال.
بتوقف النواة المسرحية الأولى انعدمت الحركة المسرحية والفنية في القرى والمدن التي ليس فيها مسارح أو صالات عرض سينمائية. ولم يعد متاحاً أمام الموهوبين الفرصة الأولى لتلمس طريقهم، الأمر الذي أثّر على رفد الحركة المسرحية بعناصر جديدة. وبدلاً من أن يبقى على وضعه الأول أو تتم زيادة كوادره غاب المسرح الجوال بشكل كامل، وذلك بعد أن بات له جمهور ينتظر عروضه من مختلف الأعمار واستطاع أن يتجاوز عدة إشكاليات أهمها العلاقة بين المسرح ووسائل التواصل، وبعد أن كان دوره هامشياً بالنسبة للجمهور صار محورياً، وبدلاً من أن يكون الجمهور متلقياً تحول إلى مشارك، وهو نوع من التكافؤ الإبداعي، فلا النص ولا صناع العرض مارسوا الدور القمعي المتسلط ولا الجمهور مارس هذا الدور، لأن الاتصال المباشر جرد الطرفين من سلطتهما القمعية.
في النهاية إن توقف هذا الشكل المسرحي الحي صادر إمكانية تغيير الواقع الحياتي والمسرحي، أو احتمال حدوث فعل تغييري في الجمهور، وعادت الجماهير السورية لتكريس الموروث وحراسة المقدس والقفز نحو الاستهلاكي من وسائل الفرجة.
ينتظر السوريون في الأسابيع المقبلة بفارغ الصبر وفق تصريحات حكومية انطلاق المشغل الخلوي الثالث “وفا تيليكوم” المرتبط بإيران التي ستدخل على خط الاستحواذ في قطاع الاتصالات الحساس والذي ظلّ حكراً على متنفذي السلطة لعقود.
من خلال التواصل المباشر مع مصادر متعددة من داخل الشركة ووزارة الاتصالات والهيئة الناظمة للاتصالات، فقد علمنا اقتراب الأمر بصيغته النهائية التنفيذية، والذي سيتيح لأول مرة خدمة 5G في سوريا. ويأتي ذلك التأخير بعد سنين من وعود إطلاقه، على أن تنطلق الخدمة في دمشق أولاً بشكل تجريبي.
الحلم في مواجهة الواقع
إلا أنّ ذلك الوعد القطعي قد يصطدم بجملة عوامل قسرية أبرزها تدهور البنى التحتية وأزمة موارد الطاقة وغياب الكتلة البشرية المؤهلة للعمل كخبرة في التشغيل والصيانة، خصوصاً مع نية الشركة الجديدة الاستناد على موارد ودعائم الشركتين الوحيدتين المتدهورتين في سوريا أساساً (سيرياتيل وام تي ان) من أبراج ومحولات وبطاريات وأطقم تنفيذية لديها خبرة لوجستية في المرحلة الأولى.
تجدر الإشارة إلى أن المصادر الرسمية السورية تتحدث اليوم عن خطة تحول رقمي مدروسة على كافة الأصعدة وتشمل البلاد بأكملها، وهي ببطاقة ذكية تمكنت من إحداث فجوة خيالية بين الفكرة والتنفيذ ورمت البلاد وساكنيها في متاهة فرضيات لا حصر لها. فمثلاً هناك مشهد الجموع تفتح حسابات بنكية لتتلقى فرق قيمة الخبز المدعوم دون أن تدري تلك الشريحة ماذا يحصل حولها بالضبط ولا من أي باب ستخرج من متاهتها منتصرةً على التجارب الحكومية التي انقضى عهد وزرائها بدخول حكومتهم حقبة تصريف الأعمال وعلى جدولها لا زالت مئات الملفات العالقة.
الجشع القادم
ينتظر السوريون بفارغ الصبر المشغل الثالث لا لأنّهم تخلصوا من همومهم وصاروا يبحثون عن لون جديد لشرائح هواتفهم الخلوية، بل لينقضي عهد شركتين “ذبحتا” الناس بالأسعار والجودة في تنافسية حثيثة عالية خلاصتها أي شركة منهما ستتمكن من سحب راتب الموظف أسرع من الأخرى لقاء ثمن باقة انترنت صارت خيالية للناس، وتلك الباقة بطبيعة الحال تسرق الشركة أكثر من نصفها، وأحياناً كلّها حتى دون أن يستخدمها المشترك.
في رحلة الانتظار تلك يغفل السوريون\ات أنّ قطاع الاتصالات هو “بترول” البلاد بعدما فقدت سوريا مواردها النفطية المادية الحقيقية، وبأنّ تلك الشركة ليست المنقذ والبطل الخيّر في الرواية الذي سينقذهم من تغوّل الشركتين إياهما، وهي بالنهاية ليست إلّا شركة إيرانية بغطاء سوري، وهذا صار معروفاً ويمكن شرحه. الموضوع أن لإيران ديوناً مليارية على سوريا، ديوناً فاقت الـ 50 مليار دولار، وستحصلها باللين أو القوة، بالهدوء أو الضغط، كذلك يقول صقور السياسة الإيرانية ومعهم يقول شارع بلادهم، وقد تم تسريب جزء من تلك الديون والاستراتيجية الإيرانية تجاه سوريا عبر ما سربته مجلة “المجلة” السعودية استناداً لما اسمته مجموعة “قراصنة” معارضين، لتتولى المجلة ترجمة الوثائق ونشرها كاملة على عدّة أجزاء.
سوريّةٌ خالصة
تقول الشركة معرفةً عن نفسها في موقعها الالكتروني الذي أبصر النور قبل عامين: “في وفا استلهمنا اسمنا من التزامنا العميق وولاءنا ومحبتنا لبلدنا وشعبنا وقيادتنا. إن هذا الوفاء هو الذي يشكل أساس رؤيتنا، ومهمتنا، ورحلتنا نحو سورية المزدهرة، فكان التأسيس في عام 2022 وحصولنا على الترخيص الحصري لتقديم تقنية الجيل الخامس في سورية.”
ويبدو التعريف الذي تقدّمه الشركة عن نفسها منطقياً كشركة “سوريّة” خالصة، وخاصةً أنّ مصادر خاصة أفادت أنّ واجهتها التنفيذية هي من الموظفين السوريين وعلى رأسهم محمد أسدي رئيس مجلس الإدارة، ونائبته كارولين زلقط، وغسان سابا مديراً للمدراء التنفيذيين. المصادر ذاتها أوضحت تفاصيل عن تاريخ تأسيس الشركة ليتبين أنّها حصلت على موافقتها الأولية في عام 2020 من قبل وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك ضمن القرار /2590/ كشركة مساهمة مغفلة، وفي العام التالي عادت ذات الوزارة لتعادل على نظامها الداخلي بموجب القرار /4751/، ذلك بالتزامن مع التراخيص اللازمة من الهيئة الناظمة للاتصالات، وهو ما يوضح تأخراً ظلّ طوال تلك السنين غير مفهوم لشركة قدمت أوراقها واستكملتها وجرى اعتمادها بل وأجرت مقابلات كثيرة في سياق التوظيف.
الكذبة التي لم تكتمل
رغم أنّ حكومة دمشق روّجت ولا زالت تروّج أنّ المشروع وطني بالكامل وبأيدٍ سوريّة إلا أنّ الأمر قد تم فضحه عبر تحقيق أعدّه مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية مع مؤسسة مكافحة الجريمة المنظمة والفساد، وخلص التحقيق إلى أنّ ملكية المشغل الثالث تعود بقسم كبير منها لشركة ماليزية مملوكة لإيراني بالشراكة مع الحرس الثوري الإيراني في محاولة مبكّرة للتهرب من العقوبات.
وما زاد الطين بلّة وأحرج نظام دمشق هو تصريح وزير الطرق والتنمية العمرانية الإيراني -رئيس اللجنة المشتركة للتعاون الاقتصادي الإيراني – السوري “مهرداد بازار باش” عبر وكالة “إسنا” الإيرانية، إذ قال نصّاً خلال اجتماع مع المدراء في اللجنة ذاتها: “إن مشغل الهاتف المحمول الذي أطلقه الجانب الإيراني سينشط قريباً في سوريا، وسيمكن السياح والحجاج الإيرانيين من الاستفادة من هذه الخدمات.”
وأكمل: “أحد مستويات التعاون هو إنشاء مشغل للهاتف المحمول، والذي تم إنجازه بالتعاون الجيد بين وزارة الاتصالات الإيرانية ووزارة الاتصالات السورية، ويتم تنفيذ هذا المشروع. وفي هذا الصدد، سيتم قريباً إطلاق بطاقات SIM للمشغل الثالث من قبل الجانب الإيراني في سوريا، ويمكن للسياح والزوار الاستفادة منها”.
الإمبراطور الكسيح
رامي مخلوف، ابن خال الرئيس السوري بشار الأسد، وجد التاج فجأة منزوعاً عن رأسه دون سابق إنذار، وصودرت أملاكه ووضع تحت الإقامة الجبرية، وتحول من إمبراطور يؤثر في اقتصاد دول ناميةٍ حليفة إلى رجل لا أحد يعرف إن كانت الدولة سمحت له باستبقاء حارسٍ شخصي له أم لا.
قابل مخلوف الانقلاب عليه بشنّ حربٍ واسعةٍ لا يراعي فيها أبناء عمومة ولا خؤولة، وبدأ ينشر فيديوهات متواترة على صفحته الخاصة في موقع فيس بوك ويشرح فيها بقدر ما يستطيع من صراحة وإيلام واقع ما حصل، ومن جملة ما رواه في فيديو بثّه بتاريخ 30 يونيو/ حزيران 2021 كان حول قضية استبعاده ومحاصرة سيرياتيل لصالح المشغل الثالث الذي قال علانيةً إنّه إيراني.
آنذاك كان الشارع المؤيد يترنح في موقفه بين التعاطف معه والوقوف ضده امتثالاً لأوامر السلطات فلم يحصل ذاك الفيديو على كثير من الاهتمام، خاصةً أنّ ما يعرف بـ “الذباب الالكتروني” ميّع مضمونه وتفهه إلى أبعد الحدود، وقد يكون إفشاء ذاك السر في ذاك الوقت واحداً من أسباب تأخر وضع المشغل في الخدمة، إلى أن جاءت الضربة الإيرانية الفجّة عبر التصريح المباشر، علماً أنّ مخلوف ذكر أنّ إيران تريد استرداد ديونها مستفيدةً من هذا المشغل كذراع في الجباية.
هل تصبح سوريا محافظة؟
قد تبدو تفاصيل الشركة الجديدة في سوريا وتأخيراتها ملفاً تقنياً بحتاً، ولكن بالتأكيد فإنّ الأمر أبعد بكثير من أن يكون تقنياً ليتخطاه نحو عوالم السياسة المظلمة والمحكومة بالحوكمة الاقتصادية لبلد يدير بلداً ممسكاً إياه من ذراعه التي تؤلمه مستحوذاً على أهم ما فيه وهو قطاع الاتصالات.
ومن يملك الاتصالات يملك الأرض، والفضاء، والتنصت والجاسوسية وقاعدة الأرقام والتعداد، ومن بين كل ذلك تبرز الأرقام كمسألة إحصائية خطيرة تندرج ضمن إطار الأمن القومي الذي لا يجب أن يطلع عليه أقرب الحلفاء العسكريين والسياسيين، بل هم تحديداً من يجب إبعادهم عنه لئلا تتوسع دائرة نفوذهم وتهيمن من ثم تطغى؛ فبالتأكيد “الشقيق” الإيراني لا ينام جائعاً لأجل ملياراته تلك، ولكنّه يريد عوضاً عنها بلداً بحاله، أو ما بقي منه على الأقل. والأمر بسيط هنا إذ يكفي الاطلاع على محضر توقيع اتفاقيات رئيسي والأسد ببنودها الـ 16، وكيف بعد ذلك تسللت إيران من شقوق أبواب المدن إلى شركات القطاع العام وصارت شريكاً، وستظلّ تشارك إلى أن يسأم طرفٌ ويقول: كفى.
وتلك الـ “كفى” بعيدةٌ للغاية في ظلّ تراكبية المشهد السوري وتعقيده واستحالة وضع جدول زمني يحمل حلاً من الداخل السوري، ليبقى المصير مرتبطاً بالخارج، وقد يكون ذلك المصير فكّ ارتباط وتغيّر تموضعٍ وقبول واقع إقليمي جديد بداعمين جدد وقرارات أممية جديدة.