by طارق علي | Feb 12, 2025 | العربية, Training, All Reports, Articles - EN
في أحد أشدّ أيام سوريا حساسيةً وأكثر مفاصلها تعقيداً، تحديداً في اليوم الرابع والخمسين بعد سقوط نظام بشار الأسد، جاءت الكلمة المرتقبة لقائد العمليات السورية أحمد الشرع التي تضمنت إعلانه لنفسه من خلال اتفاق الفصائل ليكون رئيساً انتقالياً للجمهورية لكنه لم يجد منبراً إعلامياً سورياً رسمياً لنقل الخطاب، فاعتمد على القنوات والمنصات الخارجية لتنقل كلمته المقتضبة التي تحتوي على خارطة طريق واسعة، وتولت قنواتٌ قطرية وسعودية على رأسها “العربي الجديد” و”العربية” وغيرها نقل الخطاب للشعب السوري.
التوقيت الملائم
لا شكّ أنّ الشرع اختار بمنتهى الحكمة توقيت إعلان الكلمة، كإشارة رمزية ومعنوية بالغة الأهمية والدلالة، لكن كان ينقصها التعبير عن السيادة من خلال الإعلام الرسمي، أو بالأصح عن جزء من السيادة إذا ما اعتبرنا الإعلام شريكاً يقوم بالتعبير عن سيادة الدول كمراقبٍ ومنبرٍ ووسيلة إعلان وسلطة رابعة لا يضاهيها في مكانتها أحد.
الإعلام الغائب
حتى اليوم لم تنجح الدولة السورية الجديدة )المتحولة من الحالة الفصائلية إلى عقلية بناء الدولة كما جاء على لسان الشرع( بمعالجة ملف الإعلام وإعادة البثّ للقنوات السورية، وهي فعلياً كثيرة “السورية – الإخبارية – دراما – سما – نور الشام – التربوية – إذاعة دمشق – صوت الشباب وغيرهم”، ولا إعادة بثّ الروح في مبنى الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون وهو الذي يدير معظم هذه القنوات والإذاعات ضمن القطاع العام.
ورغم أنّ التحرير حملَ معه سريعاً تعيين فريق وإدارة للهيئة، لكنّها لم تنجح حتى الآن في الضلوع بدورها في رسم بيئة وبنية وهوية جديدة للمنظومة الإعلامية، فيما خلا أنّها صرفت مئات العاملين أو منحتهم إجازات غير مدفوعة.
منظومة مهترئة
لا يخفى على السوريين أنّ الهيئة العامة واحدةٌ من كبرى قطاعات الفساد في سوريا، إذ تضمّ بين أروقتها زهاء 8 آلاف موظف وهي لا تحتاج أكثر من ربعهم على أكثر تقدير لإدارة كامل المنظومة، ولكنّ ذلك ليس سبباً كافياً لتعطيل العمل الإعلامي. فهل سمع أحدٌ يوماً ببلدٍ قائمٍ لا توجد فيه مؤسسات إعلامية! بل وهل سمع أحدٌ ببلد قامت فيه ثورةٌ ولم يترك كل شيء ليعوّم الإعلام أولاً وليتلو بيانه الأول من خلال السيطرة على الإعلام الرسمي! وهذا كان عرفاً في سوريا التي شهدت انقلابات كثيرة بين 1946 و1970، وكلّها كانت تكتسب شرعيتها من “البيان رقم 1”.
اهتمام عالمي وفقر داخلي
نجح الرئيس السوري الجديد وبالضربة القاضية بالاستحواذ على الاهتمام العالمي الإعلامي، فترى القنوات الغربية والعربية مستنفرةً لنقل تصريحاته وكلماته ولقاءاته، فيما خسر الإعلام المحلي وسط شكوكٍ تحوم في مكانها حول أهلية من عهد إليهم بإدارة الملف وإعادة تشكيل قنواتٍ تعدّ الأقدم في البث التلفزيوني على مستوى العالم العربي. وهناك انتقادات تُشير إلى تسليم الملف لشبانٍ صغار ينعكس عليهم نقص الخبرة بحكم العمر، وبحكم مسؤولياتهم السابقة المحدودة في نطاق إدلب.
ورغم أنّ تولية ملفٍ بهذه الضخامة لهؤلاء الأشخاص يعاب على الإدارة الجديدة، لكنّه في ذات الوقت قد يحمل بشائر خيرٍ معه إذا ما تمكنوا من ضخّ حماس الشباب في المشروع ومفاجأة السوريين بمنظومة جديدة لها رونقها الخاص، الرونق الذي ينعكس جمالاً بعد انقطاع طويلٍ في جدول البث ومواعيده ومواقيته.
ماذا عن الرعيل القديم؟
تحمل تلك التصورات مخاوف جمّة للموظفين الأساسيين، المذيعين والمحاورين والمعدّين منهم على وجه الخصوص، فأولئك الذين باتوا بلا عمل ولا مورد رزق منذ سقوط النظام، وهم الذين تكفلوا لسنواتٍ بنقل “انتصارات” نظامهم وأخباره، فكيف سيتم التعامل معهم؟ هل سيتم اعتبارهم فلول نظامٍ غير مرغوبٍ به.
في هذا الإطار، وصلتنا تصريحات من مصادر موثوقة من وزارة الإعلام السورية في حكومة تصريف الأعمال أنّه سيجري تعيين إدارات مهنية لكلّ قناةٍ وسيجري تأهيل كوادر جديدة وتدريبها، وهنا سؤال آخر أكثر إلحاحاً، من سيدرب تلك الكوادر!
وأكد المصدر أنه: “الآن مطلوب من كل وسيلة إعلامية تريد العمل في الأراضي السورية، سواء كانت تبث لصالح المعارضة أو الموالاة سابقاً، داخلاً أم خارجاً، التقدم بطلب ترخيص جديد للعمل ليتم النظر فيه واتخاذ قرارٍ بشأنه”.
حريّة الإعلام!
بالتزامن كانت السلطات السورية الجديدة قد وضعت يدها على إذاعة شام إف إم وقناتها الفضائية مع ترخيصها، وقامت بطرد مديرها ومالكها مع موظفيها مستحوذةً على حسابات الإذاعة على مواقع التواصل الاجتماعي، وهي الإذاعة الأكثر رواجاً في سوريا خلال سنوات الحرب.
ولشام إف إم قصتها، حيث أنّها كانت موضع شراكةٍ بالتناصف بين مالكها الأساسي سامر يوسف ورجل الأعمال الشهير رامي مخلوف ابن خال الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد، قبل أن يتم إقصاء مخلوف من المشهد وتتحول إدارة النصف العائد له إلى سيرياتيل، ما خلق مشاكل بين الشريكين يوسف وسيرياتيل على صعيد شكل الإدارة حينها، أي في عام 2020.
مع سيطرة الحكومة على الإذاعة أقفل يوسف هواتفه واحتجب عن الردّ على المكالمات والرسائل بأنواعها، وبعد محاولات حثيثة تمكّن “صالون سوريا” من التواصل معه وإقناعه بالتعقيب على الموضوع لكنّه اكتفى بالقول: “لن أعلق بأي شيء في المرحلة الراهنة”.
كذلك حصل مع قناة سما التي جرى صرف موظفيها والاستحواذ عليها بتهمة عودة ملكيتها لرجل الأعمال محمد حمشو المتورط بدعم النظام السابق مالياً وعسكرياً، وخصوصاً بعد فشل محاولة التسوية بينه وبين الحكومة السورية.
تكبيل صاحبة الجلالة
يرى صحافيون\ات كثر على اختلاف التوجهات السياسية أنّ حريّة الإعلام يجب أن تكون مصانة ومكفولة وفق شرعة الأمم المتحدة وحقوق الإنسان وحرية التعبير وكل ما جاء في الإعلان العالمي للحقوق والحريات.
ويعتبر بعضهم أنّه في حال تورط مالك وسيلةٍ ما في أمرٍ يضر بمصلحة البلد السياسية عبر الدعاية والتزييف والتزوير وغير ذلك، فهذا لا يعني مصادرة الوسيلة وإغلاقها ومحاسبة فريقها كاملاً، بل محاسبة المتورطين قضائياً لا عرفياً.
كل ذلك التخبط، وكل تلك القضايا، أتاحت من جديد المكان لوسائل التواصل الاجتماعي لتلعب دورها وفق أجنداتٍ متباينة، فبين التحريض والموضوعية تاه المواطن السوريّ وصار عاجزاً عن فهم ما يحصل من حوله منتظراً شاشاتٍ وطنيةً موثوقة تقول له الحقيقة كاملةً وتقربه من إداراته الجديدة ليفهم معها شكل البلاد المتجدد.
by وداد سلوم | Feb 9, 2025 | Culture - EN, Reports - EN, العربية, بالعربية, All Reports, Articles - EN
حاولت السينما السورية إضاءة الواقع وأثر الحرب الطويلة على الناس والبلاد، فكان هناك ما انتجته المؤسسات الرسمية وكان هناك في المقابل ما اعتمد على مؤسسات مدنية وجمعيات أو جهود المخرجين بشكل مستقل.
يتناول المخرج السوري حسام حمو في فيلمه فطام وهو أيضاً من إنتاجه وتأليفه، عينة من الأسر السورية في الداخل (اللاذقية) والتي وصلت كغيرها إلى حالة من انعدام الأفق وفقدان الإمكانيات، ما دفع جيل الشباب عموماً إلى الهجرة حتى كادت البلاد تفرغ من شبابها وذلك سواء هرباً من وقائع الحرب أو من قبضة السلطة الأمنية والتضييق على الحريات، أو هرباً من أداء الخدمة الإلزامية التي صارت كابوساً على جيل الشباب كله، أو للبحث عن عمل في الفترة الأخيرة.
وفطام فيلم قصير لا تتجاوز مدته 27 دقيقة وقد عرض في مهرجان فاميك للفيلم العربي في فرنسا، وسيعرض في مهرجان أفلام البحر المتوسط (كان – ميلان – أثينا) ومهرجان الإبداع العربي في مصر ومهرجان داكا السينمائي في بنغلادش ومهرجان سينمانا في سلطنة عمان.
زمن الفيلم القصير هو سهرة عائلية تجمع أسرتين على العشاء بينما يتجهز الابن للسفر الذي يصبح أمراً واقعاً بعد اتصال السائق الذي سيقله. لتصبح تلك السهرة آخر ما يحمله الشاب من ذكريات وكأنه العشاء السوري الأخير له.
سهرة عائلية بسيطة تعكس حياة السوريين جميعاً من تلك العتمة التي تطغى على كل الحياة نتيجة انقطاع التيار الكهربائي بينما في الحقيقة تلك الظلمة تعشش في الحياة العامة وتصبغها، وكيف يسارع الجميع عند وصل التيار لشحن كل الأجهزة من البطاريات والموبايلات التي صارت نافذتهم الوحيدة على العالم وصلة الوصل مع أحبة في الطرف الآخر من الجغرافيا، لكن زمن وصل التيار القصير يجعل كل هذا غير ممكن.
في هذه السهرة البسيطة يتجادل الآباء في السياسة ويمتد النقاش بينما يكتفي الآخرون بالاستماع غالباً لأن البعد بين الكلام النظري والواقع بات شاسعاً ولا يمسهم أو يعبر عن الحالة التي يعيشونها. خاصة وقد تطور الحديث إلى الانتماء ومفهوم الهوية، بينما في الواقع يشهدون جميعاً تمزيقها عن كثب، حيث في الطرف الآخر من الطاولة شاب سيغادر بعد ساعات إلى المجهول.
يذكر أن لحسام حمو فيلمان، “سبات” المنتج عام 2023 والحاصل على ثلاث جوائز عالمية منها جائزة لجنة الافلام الروائية العربية في مهرجان البحرين السينمائي ومدته 13 دقيقة، و الثاني فيلم “فراغ” ومدته 7 دقائق وهما فيلمان يعتمدان على الموسيقا أكثر من الحوار لكنهما حسب قوله يشكلان مع فيلمه الجديد فطام مشروعاً واحداً هو رؤيته للواقع السوري المهترئ والمتردي قبل سقوط النظام والشخصية السورية التي وسمت بالفقدان على كل الأصعدة فقدان العائلة وفقدان الأمل وفقدان الحب.
وقد اعتمد في فيلمه الجديد فطام على شخصيات خارج الوسط الفني لكن بعضهم من مثقفي مدينة اللاذقية إذ قامت بدور الأم الكاتبة القصصية مي عطاف وقام بدور الأب الكاتب والرسام عصام حسن وشاركت أيضاً سوسن سليمان الراهب وكانت الشخصيات بشكل عام في دورها الأول. يقول المخرج إنه كان حريصاً في اختياره لهم وفق معايير معينة وإن دافعهم للعمل كان إيمانهم بالفكرة والمشروع الذي يقدمه.
رغم أهمية أفكار الحوار لا يتوقف المشاهد عنده إذ تأخذه تعابير الوجوه والتعليقات التي ترمى خلال ذلك إلى عالم الشخصيات الحقيقي الذي يلتقطه بسرعة، حيث يعيش الجميع حالة الترقب ثم الحزن والانتظار في وداع الشاب الذي حزم أمتعته، الموسيقا التي تكمل حالة الانتظار وتمنح البعد العميق لهشاشة الإنسان بينما نجد الرجال عالقين في النقاش السياسي والفكري سنرى أن النساء يتفاهمن ويتبنين رأياً واحداً بشكل غير متفق عليه.
وهذا يأخذنا إلى معاناة الأم السورية الواحدة التي تتجلى فيها محنة البلاد التي وصلت إلى القاع أو الجحيم وكأنها إنانا (عشتار) في رحلتها إلى العالم السفلي بعد أن وصلت إلى الدرك الأسفل بسبب واقع المعاناة جراء فقدها لأبنائها وعالمها وحريتها، وهو ما يعبر عنه حسام حمو صراحة إذ يقول إن الفيلم مستوحى من أسطورة هبوط إنانا إلى العالم السفلي.
والعالم السفلي عالم الأموات هنا أبعد من الموت الجسدي إنه المجاز حيث يتحول الفرد إلى مجرد جسد على قيد الحياة.
في بداية الفيلم نرى الأم في الحمام وقد نسيها الأبناء في العتمة مستسلمة لواقع الظلام في أكثر الأماكن انعزالاً في الحياة الشخصية ودون أي رد فعل وكأنها في القبر وحين ينتبهون لذلك و يشعلون لها الضوء تبدو كأنها في عالم آخر ثم تبدأ بخلع زينتها وأساورها وأقراطها وغسل وجهها وكأنها (إنانا) في رحلتها إلى العالم السفلي حيث يتم تجريدها وبشكل تدريجي من زينتها كشرط لدخولها إليه، وتنفذ صاغرة بعد ان بدأت رحلتها تلك، تخرج مي عطاف (الأم) بعد ذلك ساهمة عن كل شيء حولها فتعيش غربتها الخاصة وانفصالها عن الحياة وكأنها الأمهات السوريات كلهنّ وربما سوريا التي تعيش غربتها بين أبنائها.
وبينما تدور النقاشات والأحاديث في السهرة تقوم الأم (إنانا) باستحضار الذكريات من ماضي العائلة وذكرياتها مع ابنها الذي سيذهب بعد حين في هجرة لا تستوعبها حد الإنكار فهي لا تستطيع احتمال هذا الانفصال عنها إذ لم تزل كأي أم ترى أبناءها بعين الأمومة صغاراً يحتاجون الرعاية، فتنتبه إلى صحنه وتناول طعامه، في الوقت الذي سيغادر بعد حين إلى المجهول، وهو ما يأخذنا إلى عنوان الفيلم “فطام”، والذي يبدو هنا فطاماً قسرياً مزدوجاً في ابتعاد روحي ونفسي عن الانتماء الطبيعي للأم البلاد.
تدور الكاميرا في البيت فنرى الباب المقفل والأبواب المغلقة كتعبير عن حالة العزلة والوحشة المحتشدة في حياة الأشخاص حيث اللاأفق يحكم حياتهم جميعاً وكأن السفر صار هو الحل او النافذة الوحيدة المفتوحة على الحل.
يمتد إنكار مي عطاف (الأم) للواقع ولسفر ابنها الذي صار شاباً، فحين الوداع تصعد على كرسي لتعانقه لتحتفظ بذلك الموقع المشرف من الأعلى وكأنها تتحايل على الزمن الذي جعله شاباً أطول منها وتدس في جيبه مالاً إضافياً مستذكرة أيام الطفولة والخرجية التي يأخذها الأولاد من الأهل، بينما تتردد أغنية التهويدة مع أمي أصحو وأنام كأنها تشبع روح الأم المتشبثة بأبنائها والتي تريد المغادرة معهم فالمكان دونهم ليس مكاناً، كأنه ذلك العالم السفلي الذي وصلته مرغمة فهو ليس عالمها ولهذا ربما أراد المخرج في إشارته تلك إلى سحب المشاهد نحو الأمل بالقيامة التي ترافق عودة إنانا إلى عالم الأحياء وانتصارها على عالم الموت والجحيم وانتظار تلك العودة .
يسجل لحسام حمو أنه استطاع إدارة الممثلين في ظهورهم الأول والوصول للمشاهد مع جدل متقن لعمق الفكرة والتماس المباشر مع معاناة السوريين جميعاً.
by أسامة إسبر | Feb 4, 2025 | Cost of War - EN, Culture - EN, العربية, بالعربية, Articles - EN
بين اللطم المشهديّ في الشوارع “ولبّيك يا حسين” إلى “أعزّنا الله وأذلّكم”، و”الشام عادت إلى أهلها أمويّة أمويّة رغم أنف الحاقدين”، وفي ظلّ حملةٍ أمنية متبّلة، في بعض تصريحاتها، ببهارات الانتصار الطائفية، ومشهدية صارخة لمعاملة الآخر المعتقل كحيوان وإجباره على النباح أو العواء، وفي غياب شكل تمثيليّ واضح للحكم في سورية، تأفل بلاغة المهزومين، الذين يُخْتزلون بكلمة فلول، وتسود بلاغة المنتصرين، الذين يحكمون شفوياً ببلاغة المنتصر على غيره. تُمْحى شعاراتٌ، وتُطْلقُ شعارات جديدة ، تُزال المساحيق عن هويّات، وتنفضُ هويات أخرى عن نفسها غبار الكبت والتهميش وتستيقظ، لكنّ الثقافة التي تقود الحياة هنا لم تتغيّر من حيث الجوهر، كمثل جدران المدينة التي وقعت في شبكة هندسة عمارة عشوائية في متنها وهوامشها. وفيما تنبري الأقلام للحديث عن “نظام الأبد” وسقوطه، وما بعده، يطلُّ وجه المدينة المعماريّ المدمّر في بعض أجزائه، والمتآكل والمتسخ والمتشقق، على مجهولٍ يصعب اكتناهه، وتبقى مرحلتها الانتقالية طحيناً يحتاج إلى من يعجنه كي يخبز رغيف التمدّن والمواطنة، ويقدمه على مائدة الحاضر بينما تستيقظ ثقافة الاتباع المقموعة وتكشّر عن أنيابها.
اختُزلت دمشق في السياسة وصراعاتها، في الدين وتمذهباته، في الانقلابات والتهميش والتفرد بالسلطة والأيديولوجيات الإلغائية الأحادية، في التنكيل الأمني والبراغماتية المزدوجة، وغابت دمشق الثقافة والمواطنة والحرية والديمقراطية، لكن دمشق ليست سياسة فقط بل جيل جديد مختلف من الشبان والشابات جائع للحياة الكريمة، هي ماض وحاضر ومستقبل وعمارة واجتماع وحداثة وتخلّف وتقدّم ورجعيّة وسلفيّة وراديكاليّة، هي سنة وشيعة وعلويون وأكراد وشركس وأرمن وتركمان ومسيحيون ودروز وإسماعيليون، وهي أيضاً علمانيون ويساريون وقوميون وسلفيون وأصوليون ومتدينون غير مسيسين وملحدون وصوفيون وبشر عاديون لا يُصنّفون في هذه القوالب، وهي شعراء وسينمائيون ومسرحيون ونحاتون ورسامون وصحافيون ومفكرون وموسيقيون ورياضيون ونساء يناضلن من أجل قضايا النساء وجمهور متعطش إلى أن يعيش حياةً مدنية، أن يتنفّس هواء الحرية، التي حُرمَ منها على مدى عقود.
قضى حزبُ البعث على الثقافة، وقاد الدولة والمجتمع إلى الخراب. وفي ظلّ نظامه العسكريّ لم يعبر في سوريا وزيرُ ثقافةٍ واحد صنعَ ثقافةً حقيقيةً، ولم يعبر وزير تربيةٍ بنى مدرسة حقيقية، أو وضع مناهج تواكب العصر وتطور المعرفة، ولم يُعيّن وزير دفاع انتصر في معركة حقيقية، أو وزير إعلام صنع صحيفة حقيقية تستحقّ القراءة، أو يمكن تُقارن، على سبيل المثال، بالصحف اللبنانية الرائدة. ولم يستقل أي من هؤلاء احتجاجاً حين لم يحدث ذلك. كانوا كلهم قابلين بالوضع القائم ومتنفعين من سلطة الوظيفة. وكان السوريون، الذين يحملون فكراً مغايراً، ينشرون في صحف خارج البلاد، والقراء الحقيقيون يهرّبون ما يقرأونه لأن مدينتهم لم تكن مدينة ثقافة، كانت مدينة سياسة مراقبة أمنياً، ومفصّلة على مقاس “القائد الخالد” ووريثه. وفي هذه الظلال كانت دمشق تخون المدينة كتمدّن وتحضرّ وانفتاح وعمران، تتوسع عشوائياً وتزدحم وتضيق بسكانها، وتنتقل من هوية قسرية إلى أخرى في إعلانات استعراض القوة والهيمنة على شاشة السياسة. ونسمع اليوم عبارات وتصريحات مفخّخة مفادها أن دمشق عادت إلى أهلها، فهل الأهل الذين عادت إليهم ديمقراطيون ومنفتحون يؤمنون بدولة المواطنة أم أيديولوجيون ومذهبيون، لا يجسّدون دولة المدينة، ولم ينتظموا بعد في شكل حكم يعكس التنوع والتعدد السوري؟
ثمة من يصوغ في دمشق سرديةَ صراعٍ بين هويتي الغالب والمغلوب، ويشحنها بالأيديولوجيا، وكلتاهما قسرية ومستعادة، ماضوية وسلفية، لا وجود فيها للآخر، المُخوّن والمكفّر. تتواشجُ هذه السردية مع قبح الهوية المعمارية، ذلك أن جمال العمران في دمشق موضع شبهة، ليس فيها فنّ عمارة يمنحها هوية جمالية، كما أن خصرها مطوّق بأحزمة بؤسٍ من بيوت مرتجلة وعشوائية مخالفة بُنيت بين عشية وضحاها، ومهددة حتى بالهزات الخفيفة على مقياس ريختر.
في كتابها (حياة وموت المدن الأمريكية الكبيرة) الصادر سنة ١٩٦١ تحدثت جين جاكوبس (١٩١٦-٢٠٠٦) عن هوية المدن، ودعت إلى تصميم معماريّ أكثر عضويةً للمدينة يتمحور حول الإنسان لأنّ هوية مدينة ما ليست نتاج هندسة عمارة مهيبة، أو تصميمات تذكاريّة فحسب، بل تُبنى من خلال التفاعلات اليومية لسكانها. وتحدّث باحثون آخرون عن مدن تتوحّد فيها البشرة البيضاء مع السمراء، ويتجاور مطعم إثيوبي مع آخر ياباني وصينيّ وعربي ومكسيكي وإيطالي، ويتجاور معبد بوذيّ مع مسجد أو كنيسة أو كنيس، وهناك أيضاً البار والمقهى، ويعيش في المكان الملحد والمؤمن واللاأدري، والراديكالي وغير المكترث بهذا كله، وتسير المرأة محجبةً أو سافرة دون خوف. وتولد في المدينة حياة شارع حية، بوجود جماعات متنوعة تنغمس في أنشطة يومية، تكوّن بذلك هويتها. فالتنوع الثقافي والعرقي والقومي والديني، في تجلياته الحضارية والثقافية المنفتحة والمعانقة للآخر، هو الذي يصنع المدينة، ودمشق لا قيمة لها إلا في إطار العناق بين ابن الريف وابن المدينة، ابن الشمال وابن الجنوب، ابن الساحل وابن الداخل، ابن البادية وابن السهول والجبال، وبين الكردي والعربي، وبين المسيحي والمسلم، ولا قيمة لها من دون خصوصية درزية وخصوصية إسماعيلية وخصوصية شيعية وخصوصية سنية وخصوصية مرشدية وخصوصية علوية وخصوصية مسيحية، شرط ألا تتعدى هذه الخصوصيات حدود الإيمان والعلاقة بين الذات وخالقها، وألا تفرض نفسها على الآخر من خلال السياسة القمعية. وهذا لا يتحقق إلا في دولة مواطنة، تمثل الفروق، وتحميها، وتنطق باسمها من أجل مصلحة الجميع.
إن دمشق خلطة قابلة للتطوير مفتوحة على مزيد من التنوع وهذا ما يمكن أن يمنحها هوية جمالية وثقافية وحضارية استثنائية، وبسبب هذه القوة الحضارية الكامنة فيها لم تصمد الدكتاتورية العسكرية، ولن تصمد الدكتاتورية الدينية، ولهذا لم تصبح مدينة للطم، كما لن تصبح مدينة أموية بالمعنى الأيديولوجي. لن تكون دمشق النقية الصافية التي لوّثها غبار الأرياف، الذي تحدثت عنه جمعيات أرستقراطيي دمشق، الذين كانوا يعيشون في منازل فخمة ويرتادون الفنادق والمطاعم الفاخرة ويظنون أن أفقهم هذا هو المدينة الحقة. إن ما يمنح دمشق عظمتها هو هذا الخليط العجيب، الفسيفساء السورية الإبداعية، التي يجب أن تصنعها الآن بالمعنى السياسي والثقافي، ذلك أن الهوية مستقبل وليست ماضياً، إبداع ينطق بمكونات الحاضر، ويقودها نحو أفق جديد من الانسجام، وليست استعادة لشكل من الماضي. وإذا كان لونٌ قد طغا على آخر في لعبة السياسة، وبفعل الاستبداد ودكتاتورية الأسد العسكرية المتوحشة، التي قامت على التغول الأمني، فإن لوحة دمشق بحاجة إلى إعادة رسم بألوان متعددة تعكس تنوعها الثقافي الفريد. ولهذا لن تكون دمشق سنية ولا علوية ولا شيعية ولا مسيحية ولا درزية ولا إسماعيلية، لأنها القلب الذي يجب أن ينبض بهذا التعدد كله، وبمن يصنعون لوحتها الفريدة في شكل حكم متطور وديمقراطي، ما يزال حلماً، شكل حكم يحتضن المواطنة الحقة، المحمية بالحقوق. وإذا كانت دمشق ستعود إلى أهلها يجب أن تعود إلى أهلها مواطني دولة المواطنة والقانون، إلى من يجعلون منها مدينة فريدة بتعددها وألوانها الثقافية، تزهو بين الأمم، لا إلى أهلها المفرغين في قوالب مذهبية وأيديولوجية أحادية التوجّه والبعد، لهذا يجب ألا يُنظر إلى دمشق كمدينة مكتملة تعيش في الماضي، يمكن أن تُسْرَج وتُلْجَم مذهبياً، أو ”نوستالجياً“، بل بوصفها مشروعاً مفتوحاً على البناء والتطوير المتواصل في أفق الحرية.
لقد دمّر عنف السلطة الاستئثاري بكرسي السلطة دمشق على الصعيد العمراني والاجتماعي، ولهذا تحتاج إلى علاجٍ في غرفة العناية الفائقة لأبنائها المؤمنين بها كمدينة للجميع، وإعادة نظر في هويتها كمدينة معمارياً، ذلك أن نظام البعث لم يكن يهمه إلا ”تماثيل القائد الخالد“ وتماثيل ابنه، ولم يصرف على الارتقاء بجمال العمران، وحين ثار عليه ريفها دمّره دون رحمة. وما يبدو جلياً في دمشق هو تشوهها المعماري واتساخها وضيق شوارعها وتخلخل بيوتها وغياب أفق التنفس والمواصلات المريحة والحياة الكريمة. أما في دمشق القديمة على سبيل فليس هناك انسجام جمالي بين العمارات، وتهيمن عليها النزعة التجارية الاستهلاكية، وتحولت البيوت القديمة فيها إلى مطاعم وحوانيت وبارات. ويفتقر القسم الحديث من دمشق إلى تناغم معماري، إذ تختلط المباني التي تعود إلى الحقبة الاستعمارية مع العمارة العثمانية والمباني الحديثة من حقبة ما بعد الاستقلال، ما شوّه وجزأ هويتها المعمارية.
ما يريده السوريون عموماً في النهاية هو مدينة جميلة ونظيفة يسودها التمدن وتزدهر فيها الثقافة والصحافة الحرة ويسكنها المواطن، ابن دولة المواطنة، التي يتم فيها تداول السلطة ديمقراطياً بانتخابات نزيهة، مدينة لا تختزل أبناءها في طوائف، ولا تقولبهم في توجهات سياسة أو مذهبية أحادية، وتحرس حريتهم كي يعاودوا رسم هويتهم الفردية، وابتكار انتماءاتهم في هذا الضوء. بالتالي لا شيء إلا فضاء الحرية هو الذي يسمح للذوات التي تعكس التعدد والتنوع الثقافي بأن تكبر بنفسها وبمنجزها وتتناغم حضارياً وسياسياً وثقافياً، وتبدع وجودها المدنيّ، وتبني المؤسسات والمعايير الاجتماعية المشتركة، وأنظمة التعليم التي تعزز الهوية المدنية وتنتقل من الإنسان المتمذهب والمفرغ في قوالب إلى الإنسان المتمدن، العام، المتجاوز للحدود العشائرية والطائفية والعرقية، والمتمرد على القوالب التي يفصّلها عميان الأيديولوجيا.
by Noura Aljizawi | Jan 31, 2025 | All Reports, Articles - EN, Culture - EN, Reports - EN, Reviews - EN
In a world marred by conflict and displacement, the concept of ‘home’ takes on profound significance. Dr. Ammar Azzouz, a Syrian British architect, delves into the question, “What does it mean to lose home?” in his exceptional book, “Domicide: Architecture, War and the Destruction of Home in Syria.” Through this work, he provides a bold analysis of the ongoing crisis in Syria, focusing particularly on the city of Homs, a microcosm reflecting the challenges faced by a nation torn apart by war.
At the heart of Dr. Azzouz’s exploration lies the thought-provoking concept of ‘domicide’, encapsulating the deliberate destruction of homes during the conflict. ‘Domicide’ embodies the suffering of those whose homes have been decimated by the ravages of war. Azzouz takes readers through the pain and anguish experienced by those uprooted and whose dwellings have been ravaged, all within the context of Homs—a city they hold dear. Homs, being the third-largest city in Syria and referred to as ‘the capital of the revolution’ during the uprising, mirrors the broader struggles of a nation grappling with post-conflict challenges. It serves as a lens through which to examine the intricate process of reconstructing lives, homes, and communities.
What distinguishes ‘Domicide’ is Dr. Azzouz’s intimate connection to his subject. Hailing from Homs himself, he infuses his analysis not only with academic rigor but also with a deeply personal understanding of the emotional landscape. Homs transcends being just a case study; it becomes a part of the author’s identity, lending authenticity and resonance to his words that are both tangible and profound.
The book offers a comprehensive exploration of the Syrian crisis, focusing its lens on Homs. Core to the text is the notion of ‘domicide,’ resonating powerfully within Homs, a city affected by the complex interplay of wartime and peacetime dynamics. Azzouz effectively challenges conventional paradigms of displacement, destruction, and reconstruction analysis.
By entering the narrative on the concept of ‘home,’ the book investigates the profound ramifications of domicide on internally displaced residents and Syrians scattered across foreign lands. Through this lens, the author transcends surface-level assessments of monumental site destruction, considering the intricate realm of physical and sociocultural trauma—the visceral aftermath of being uprooted from cherished abodes.
This work examines not only the process of rebuilding lives, dwellings, and sanctuaries within and beyond Syria’s borders but also presents a holistic view of the ordeals faced by those forcibly torn from their homes by conflict. Furthermore, the book shines a light on overlooked aspects of everyday existence during the conflict, highlighting the resilience and everyday struggles that often fade into obscurity when viewed solely through the refugee-focused lens.
Azzouz’s meticulous exploration within the context of Homs poses a stark challenge to the dehumanizing impact of citywide destruction—a trauma experienced both in peacetime and conflict. Amidst the wreckage and the subsequent journey of reconstruction, the author underscores the need to prioritize communities within these efforts. The narrative advocates for a pivotal shift, one that encompasses the narratives of refugees and also those who tenaciously uphold their cities amidst the tumultuous backdrop of conflict and rebuilding.
Azzouz’s immersive narrative takes readers deep into Homs, capturing its essence both before and during the tumultuous events of 2011. Through his skilled storytelling, he introduces the concept of ‘domicide,’ illustrating its impact through the lens of ‘slow violence.’ This perspective adds a haunting layer to the narrative as it becomes evident that the destructiveness experienced by Homs transcends wartime, extending into times of ‘peace.’
Homs’ history of suffering extends beyond conflict. Azzouz traces the city’s evolution from subtle waves of slow violence to the intense, radical destruction defining the post-2011 era. This pattern of violence dates back decades, with the city’s traditional homes and cultural heritage systematically erased under the guise of modernization and development. The city’s architectural legacy and cultural identity eroded, replaced by towers, governmental buildings, and car parks. The removal of ancient trees exacerbates the loss of Homs’ historical memory.
In this evolution, the battle extended beyond physical structures. The city’s identity-shaping trees, like Acacia in Al-Ghouta Street and Palm in Hamra Street, fell victim to peacetime ‘domicide.’ Uprooted and replaced with foreign trees, this transformation occurred without the consent of the people, leading to what Suad Jarrous, a Syrian writer and journalist, termed the ‘assassination’ of Homs’ urban heritage in the name of modernization. The redesign seemed to prepare the city for war, “making these streets wide enough for tanks, and to clear the views from the trees for the snipers to kill.”
Significant changes in Homs began with proposed projects in 2007, part of the former governor Mohammed lyad Ghazal’s vision. However, these plans, known as ‘The Homs Dream,’ were controversial and led to social, cultural, and environmental upheaval. The project aimed to replace parts of the city with high-rise buildings, attracting Gulf investors and erasing the city’s fabric. Homsis called it the ‘Homs Nightmare.’ Grassroots groups and impacted communities opposed the transformation that would replace their lands with golf clubs and skyscrapers, leading to demonstrations and a rejection of the project.
The first sparks of the uprising ignited in Homs in March 2011. Protests organized by grassroots activists and dissenters echoed their yearning for ‘Freedom, Dignity, and Justice.’ However, it was the collective resistance that defined the revolution, with the ‘New Clock Square’ embodying the collective strength to reshape the city. On April 18, 2011, thousands gathered peacefully for a sit-in at the square, which turned into the ‘Clock Massacre,’ resulting in loss of life and disappearances.
Attempts to reclaim this symbolic space were violently suppressed, particularly after April 2011. The regime’s strategy shifted, gradually dividing the city into pieces by obstructing roads and limiting movement, “space was weaponized. As divisions restricted people’s movement, each neighborhood started to become like a city within the city.” Violence reshaped the city irreversibly, and divisions transformed into cement walls and checkpoints, segregating neighborhoods. The war zone expanded into a siege, denying access to aid and medicine. The obliteration of homes became a tool of forced displacement, erasing communities.
Years of siege followed by forced displacement shattered the city’s fabric, dislodging people from their homes and erasing identities. A once-familiar city became disorienting, inducing a sense of exile even among those who chose to remain. This feeling of estrangement isn’t confined to those forcibly displaced; even those who stayed in Homs share this sentiment.
The discourse on conflict-induced displacement in Homs overlooks critical perspectives. The international focus often fixates on historical sites, overshadowing the voices of those who lost their homes. Internally displaced people (IDPs) are similarly marginalized. Furthermore, there’s a tendency to perceive the destruction as an isolated incident, ignoring its orchestrated nature.
Forced displacement and losing ‘home’ have profound emotional implications. The interplay of community, neighborhood, and personal connections becomes disrupted. This intricacy is challenging to express, as ‘home’ encompasses our families, emotions, and fears. In the words of Zankawan, a forcibly displaced woman from the old city of Homs, every form of loss is a tragedy.
Amidst the journey of thousands migrating toward Old Homs, the desolation is palpable, leaving an indelible imprint on the psyche. Hanan, a pseudonym of an exiled Syrian Palestinian architect, provides an account that encapsulates the visceral experience of displacement, where the familiar fabric of a once-vibrant community morphs into a ghostly echo of what was. Amidst the ruins, memories remain unattainable artifacts, forever etched in the mind.
A central question surfaces: “How to resist forgetting?” Azzouz delves into the challenges faced by displaced Syrians as they strive to preserve memory and narratives. Memory projects emerge as a means of fighting to remember and not forget. The book raises questions about how memory can withstand time, conflict, and manipulation. The regime’s attempts to “erase the memory of the war and pretend that nothing has happened”, through narrative manipulation and memorials are scrutinized.
Preserving the memory of struggles should be woven into the urban fabric and cultural essence of Syria’s cities. Syrians in exile actively resist forgetting, safeguarding their history, and reconstructing their identities. Through various rituals, traditions, and artistic expressions, they uphold symbols of home, such as the New Clock Tower. These rituals and traditions include ceremonies to commemorate significant events in the city’s collective memory, like the sit-in in Homs’ New Clock Square. This sit-in not only holds immense historical significance but also gave the New Clock Tower a symbolic value as a representation of the sit-in in Homs’ New Clock Square and the collective peaceful struggle of Homsis to reclaim this symbolic space and their right to be heard. These gatherings serve as a powerful means of sharing stories and experiences, strengthening bonds within the community, and reaffirming their connection to their homeland. Some exiled Syrians also express their feelings through paintings or sculptures that feature the New Clock Tower, a prominent landmark in Syria, as a symbol of their longing for home. Initiatives dedicated to preserving memories play a pivotal role in supporting these efforts.
Azzouz examines construction projects unfolding in Syria even before the resolution of the war. He perceives an unbroken chain of domicide spanning periods of tranquility and conflict. The Syrian government introduced contentious legislation, Laws No 10 and No 42, threatening the property rights of those forcibly uprooted. A new phase of assault on inhabitants’ existence emerges through reconstruction, it is a “war of a different kind”. This new dimension compounds the affliction imposed on the populace.
Amid these circumstances, the ‘Homs Dream Project’ casts its shadow. Proposals driven by political and economic elites aim to reconfigure Homs’ urban layout, social fabric, and cultural identity. The justification often hinges on viewing the city as a “dead body”, warranting the construction of contemporary markets and hotels as replacements. This stance prolongs the pattern of domicide, both preceding and following the conflict. Throughout these deliberations, marginalized communities find their voices absent from the discourse.
‘Domicide’ is more than a book; it’s a call to action that beckons readers to engage with the narrative as participants in a movement. This movement seeks to reclaim home, rebuild lives, and rewrite the shattered story of a nation. Dr. Azzouz’s words transcend the pages, inspiring us to ask not just “What does it mean to lose home?” but also “What can we do to reclaim it?” Embarking on a reading journey through the pages of this remarkable work, readers will find themselves not only as a witness to a story but also as an agent of change. The book’s emotional depth is coupled with a compelling roadmap for the future, where small steps amass into transformation. This roadmap urges us to unite, bridging the divide between those who have fled and those who remain, architects and communities alike, in order to construct a Syria that belongs to all.
In the end, ‘Domicide’ is a symphony of emotion and intellect, a testament to the power of scholarship to ignite action, of words to guide us through darkness, and of memory to shape a brighter future. This book is a must-read for anyone who believes in the resilience of the human spirit and the potential for change. Dr. Azzouz’s work inspires readers to not only understand but also actively participate in the journey of reclaiming home.
Note: reposted from UntoldStories
by عمر الشيخ | Jan 31, 2025 | Cost of War - EN, العربية, بالعربية, All Reports, Articles - EN
حين نعود بالزّمن إلى ما قبل سقوط نظام الأسد في سوريا، نجد أنفسنا أمام مشهدٍ ثقافيٍّ ضعيفٍ يخفي خلفه واقعًا قمعيًّا. كانت الكتب والمجموعات الشّعريّة الصّادرة عن الهيئة السّوريّة للكتاب، إلى جانب الرّوايات والمجلاّت، مجرّد واجهةٍ تروّج للإبداع المزيّف تحت سيطرة السّلطة. منذ أوائل ثمانينيّات القرن الماضي، فرضت القيود القمعيّة على الحرّيّة الثّقافيّة، ما أدّى إلى تدجين الإبداع السّوريّ. تفاقمت هذه الأزمة الفكريّة حتّى بلغت ذروتها مع عجز المؤسّسات الثّقافيّة عن مواكبة صرخات الثّورة السّوريّة في آذار/مارس ٢٠١١.
وعلى مدى عقودٍ من حكم آل الأسد، تحوّلت المؤسّسات الثّقافيّة في سوريا، إلى جانب الجمعيّات والأفراد، إلى أدوات دعايةٍ تخدم السّلطة وتروّج لروايتها الرّسميّة. هذه المؤسّسات شوّهت المشهد الثّقافيّ السّوريّ من خلال تصنيف أيّ معارضةٍ على أنّها “إرهابٌ”، بينما كانت الحقيقة تعكس واقعًا مأساويًّا تجلّى في استهداف المدنيّين، وتهجير العائلات، والزّجّ بالمعارضين في السّجون. بدلًا من أن تكون المؤسّسات الثّقافيّة مناراتٍ للإبداع ومساحاتٍ حرّةً تعبّر عن آلام النّاس وأوجاعهم، أصبحت أداةً لقمع الحقيقة وإقصاء الأصوات المستقلّة.
افتقدت هذه المؤسّسات لأيّ محاولةٍ جادّةٍ لتبنّي قراءةٍ بديلةٍ أو لتوثيق معاناة الضّحايا، ممّا حوّلها إلى وسيلةٍ لطمس الحقائق، بدلًا من أن تكون منبرًا للحرّيّة والدّفاع عن الشّعب.
وفي الوقت الحاليّ، يستمرّ المشهد الثّقافيّ السّوريّ في التّقوقع داخل إطارٍ مهادنٍ يتماهى مع الواقع المفروض، بعيدًا عن الاحتكاك الحقيقيّ مع القضايا الكبرى الّتي أثارتها التّجربة الثّوريّة. هذا التّراجع يعكّس عجز المؤسّسات الثّقافيّة عن مواكبة التّطلّعات الشّعبيّة لإسقاط النّظام وإقامة دولةٍ جديدةٍ تقوم على الكفاءة وتحرير الإبداع من قبضة الولاءات السّياسيّة، كما كان الحال خلال حكم البعث.
بدلًا من أن تصبح الثّقافة منبرًا لإعادة بناء الهويّة السّوريّة وتجديد روح المجتمع، لا تزال محصورةً في أطرٍ مكرّرةٍ، تفتقد للجرأة والانفتاح على التّجارب الثّوريّة الّتي أظهرت قدرة السّوريّين على الحلم بدولةٍ تعكس تنوّعهم وآمالهم.
اليوم، بات من الضّروريّ أن يتحرّر العمل الإبداعيّ في سوريا من القيود القديمة ليجد سياقه الاجتماعيّ والثّقافيّ الّذي يتطلّب تفاعلًا جادًّا وحقيقيًّا. السّينما، الدّراما، الكتابة الإبداعيّة بمختلف أشكالها شعرًا، نثرًا، قصّةً، وروايةً، إلى جانب الفنون التّشكيليّة والمسرح، تمثّل مجالاتٍ أساسيّةً لإعادة بناء الهويّة الثّقافيّة السّوريّة. لتحقيق ذلك، لا بدّ من تفكيك الهياكل الإداريّة والمعنويّة الّتي كرّست التّبعيّة لأجهزة الدّولة، واستبدالها بهياكل مستقلّةٍ تتيح للإبداع حرّيّة التّعبير والانفتاح.
يتطلّب هذا التّحوّل احتكاكًا حقيقيًّا بالثّقافات والتّجارب العالميّة، خاصّةً في البلدان الّتي حقّقت تقدّمًا في حرّيّة الإبداع، مع توجيه الجهود نحو تلبية احتياجات المجتمع السّوريّ وإبراز همومه وتطلّعاته.
يمكن للفنون أن تكون منصاتٍ حقيقيّةً للتّعبير عن الهموم الفرديّة والجماعيّة، تساهم في تخفيف العبث والاضطراب الّذي يعيشه الإنسان السّوريّ نتيجة الظّروف القهريّة. لتحقيق ذلك، يجب أن تتمتّع هذه التّجارب الإبداعيّة بالحرّيّة الكاملة، تحت حماية سلطة القانون الّتي تحترم الثّوابت الوطنيّة، مثل الهويّة ووحدة الأراضي، وتنبذ العنف والانقسامات.
في هذا السّياق، يمكن للفنون بمختلف أشكالها أن تنقل آلام النّاس وقصصهم إلى العالم، ممّا يتيح لهم مشاركة هذه الأوجاع مع الآخرين، ويخفّف من وطأتها على الأفراد. هذا النّهج، إذا استند إلى قيم التّنوّع والتّعدّديّة، يمكن أن يعيد للإبداع دوره الحقيقيّ كمرآةٍ للمجتمع ومصدر أملٍ للتّغيير.
وفي سوريا، تبرز الحاجة الماسّة إلى تحرير مجالات الإبداع من قيود الدّعاية السّطحيّة، وإعادة تفعيلها كأدواتٍ حيويّةٍ تسهم في نشر الوعي، توثيق القصص الإنسانيّة، والتّعبير عن الأفراح والأتراح. يمكن لهذه المجالات أن تكون وسيلةً لجمع السّوريّين على طاولة الحوار الإبداعيّ، وربط المدن والمناطق المختلفة بتجارب مشتركةٍ تسهم في تعزيز التّفاهم المتبادل. لتحقيق ذلك، يجب توجيه هذه الجهود نحو معالجة هموم الأفراد والجماعات، بما يساعد على فهمٍ أعمق لتفاصيل حياتهم اليوميّة ومعاناتهم. الإبداع، في هذا السّياق، يمكن أن يصبح لغةً جامعةً تسلّط الضّوء على التّنوّع والغنى الثّقافيّ، وتعبّر عن تطلّعات المجتمع نحو مستقبلٍ أكثر عدلًا وإنسانيّةً.
إنّ الأعمال الإبداعيّة في سوريا يجب أن تتحرّر من هيمنة السّلطة الّتي تسعى إلى تجهيل الأفراد والتّعتيم على قضاياهم، لتتحوّل إلى مرآةٍ صادقةٍ تعكس تطلّعات النّاس وآمالهم. سوريا اليوم بحاجةٍ ماسّةٍ إلى تجديدٍ فكريٍّ وثقافيٍّ يعبّر عن تنوّع مجتمعاتها وغناها الثّقافيّ، ويعيد بناء النّسيج الثّقافيّ والاجتماعيّ بعيدًا عن القيود التّقليديّة الّتي أعاقت تطوّره لعقودٍ.
وبالتّالي يجب دعم المبادرات المستقلّة الّتي تمنح المبدعين حرّيّة التّعبير، وتشجيع الأنشطة الثّقافيّة الّتي تعبّر عن تنوّع الهويّة السّوريّة.
في سوريا، لدينا وزارةٌ للثّقافة، وعشرات المراكز الثّقافيّة، والمكتبة الوطنيّة في ساحة الأمويّين، ودار الأوبرا بدمشق، وعددٌ من المسارح في بعض المدن. ومع ذلك، تبقى هذه المؤسّسات، بحالتها الرّاهنة، بعيدةً عن تحقيق الهدف الأسمى المتمثّل في تعزيز وعي المجتمع ومخاطبة العقول.
لماذا لا يتمّ إجراء مسحٍ شاملٍ لدور هذه الهيئات وأدائها الحاليّ؟ يمكن لهذه الخطوة أن تكشف عن مواطن القوّة والضّعف، وتساعد في إعادة توجيه هذه المؤسّسات لتكون أكثر ارتباطًا باحتياجات النّاس.
الثّورة، الّتي خاطبت وجدان السّوريّين، أكّدت ضرورة إحداث تغييرٍ جذريٍّ في كلّ مستويات المجتمع، بما فيه القطاع الثّقافيّ.
السّؤال الأكثر إلحاحًا هو: هل تكفي الوجدانيّات والرّوحانيّات وحدها لبناء وعيٍ سياسيٍّ متينٍ وتعزيز الفهم الفكريّ لمسار تطوّر الدّولة الجديدة؟ يجب التّركيز على نوعيّة الأنشطة الثّقافيّة، وتعزيز حضورها في المشهد العامّ، وفتح المجال أمام الحرّيّات الثّقافيّة لتصبح أداةً في الواقع الاجتماعيّ.
يمكن الاستفادة من نماذج ثقافيّةٍ ناجحةٍ داخل سوريا وخارجها، كمصدر إلهامٍ لإعادة بناء المشهد الثّقافيّ. على سبيل المثال، شهدت دولٌ مثل لبنان والعراق مبادراتٍ ثقافيّةً رائدة بعد أزماتٍ حادّةٍ، تمثّلت في مهرجاناتٍ فنّيّةٍ وأدبيّةٍ مستقلّةٍ، ومعارض كتبٍ شاملةٍ، ومراكز ثقافيّةٍ مجتمعيّةٍ أصبحت منصّاتٍ لتبادل الأفكار وتخفيف الاحتقان الاجتماعيّ.
حتّى في سوريا، قبل اندلاع الحرب، ظهرت بعض التّجارب الملهمة، مثل الأنشطة الّتي أقامتها مكتباتٌ محلّيّةٌ أو جمعيّاتٌ مستقلّةٌ، الّتي كانت تسعى رغم القيود المفروضة إلى تعزيز الوعي الثّقافيّ والتّنوّع الفكريّ. إنّ إعادة إحياء مثل هذه المبادرات، مع تطويرها لتكون أكثر شمولًا واستقلاليّةً، قد تسهم في تقديم نموذجٍ ثقافيٍّ مستدامٍ يواكب تطلّعات السّوريّين لمستقبلٍ أكثر إشراقًا.
لقد شاهدت مؤخّرًا تقريرًا على قناة الجزيرة من دمشق، يسلّط الضّوء على انفتاحٍ جزئيٍّ في المكتبات بعد سنواتٍ من القيود الصّارمة على عناوين معيّنةٍ. اللاّفت أنّ هذا الانفتاح اقتصر -بحسب التّقرير- على كتبٍ مثل مؤلّفات ابن تيميّة وأدهم الشّرقاويّ، ممّا يثير تساؤلًا حول طبيعة الأفكار الّتي يجري تحريرها.
تزامن ذلك مع نشاطٍ ثقافيٍّ دينيٍّ أقيم في دار الأوبرا بدمشق، ورغم أهمّيّة هذا النّوع من الأنشطة، إلّا أنّه يعكس انحيازًا ويطرح أسئلةً حول غياب الفعاليّات الثّقافيّة الأخرى الّتي تعبّر عن التّنوّع الحقيقيّ لدمشق وسوريا بأكملها. ورغم الانتقاد الموجّه للنّشاط الثّقافيّ ذي الطّابع الدّينيّ، فإنّه من الضّروريّ الإشارة إلى أنّ الأنشطة الدّينيّة، إذا كانت غير مسيّسةٍ أو موجّهةٍ لخدمة أجنداتٍ محدّدةٍ، يمكن أن تكون جزءًا من التّنوّع الثّقافيّ المنشود.
التّحدّي يكمن في تحقيق التّوازن بين هذا النّوع من الأنشطة وبين الفعاليّات الثّقافيّة الأخرى الّتي تمثّل مختلف التّوجّهات الفكريّة والإبداعيّة، بما يضمن شموليّة المشهد الثّقافيّ وتعدّديّته.
ترى أين معارض الكتب الّتي تقدّم وجباتٍ فكريّةً وثقافيّةً متنوّعةً؟ أين تلك الكتب الّتي قمعت لسنواتٍ لأنّها تتناقض مع أيديولوجيا النّظام السّابق؟
أعتقد أنّ سوريا بحاجةٍ ماسّةٍ إلى أنشطةٍ ثقافيّةٍ، سواءٌ أهليّةٌ أو رسميّةٌ، تكون حقيقيّةً وفعّالةً في تعزيز وعي المجتمع، أنشطة تقرّب النّاس من بعضهم البعض، تعزّز فهمهم المتبادل لأفكارهم وتطلّعاتهم، وتفتح الآفاق أمام العقول لاستكشاف أفكارٍ جديدةٍ. كما يجب أن تفسح هذه الأنشطة المجال لسماع أصواتٍ وطنيّةٍ مستقلّةٍ، بعيدًا عن هيمنة العسكر أو الدّين، مع توجيهها نحو تعزيز التّشارك المجتمعيّ.
هذه الضّرورة تبرز أهمّيّة بناء وعيٍ جديدٍ يتماشى مع تطلّعات السّوريّين لمستقبلٍ يلعب فيه الإبداع والثّقافة دورًا محوريًّا في تعزيز الانتماء الوطنيّ، وترسيخ قيم التّنوّع والتّعدّديّة، وقبول الآخر، والعمل على تحقيق السّلم الأهليّ.
لتحقيق هذا الهدف، لا بدّ من وضع خطّةٍ واضحةٍ تشمل خطواتٍ عمليّةً يمكن تنفيذها على أرض الواقع. من ذلك، إطلاق برامج تدريبيّةٍ تهدف إلى دعم المواهب المحلّيّة وتنميتها، وإنشاء شراكاتٍ ثقافيّةٍ مع مؤسّساتٍ دوليّةٍ تسهم في تبادل الخبرات والاطّلاع على تجارب الدّول الأخرى.
يمكن تعزيز الإنتاج الثّقافيّ من خلال إنشاء منصّاتٍ مستقلّةٍ لدعم الكتّاب والفنّانين والشّباب المبدعين، وتشجيع الفعاليّات الّتي تعبّر عن التّنوّع الثّقافيّ السّوريّ، مثل معارض الكتب المستقلّة، والمهرجانات الفنّيّة متعدّدة الاختصاصات.
إنّ التّحرّر الإبداعيّ يشهد اليوم ازدهارًا استثنائيًّا في تفاعله مع الشّارع السّوريّ، ومع اتّساع دائرة التّواصل بين المدن الّتي كانت فيما مضى مغلقةً على بعضها البعض بفعل الخوف الممنهج من الاختلاف. هذا الواقع الجديد يضع على عاتق الإبداع مسؤوليّةً كبرى في جمع النّاس من مختلف الانتماءات، ليوحّد أصواتهم حول مفهوم الحرّيّة في سياق الإبداع السّوريّ.
يتجلّى ذلك من خلال إنتاجهم الثّوريّ الّذي يواجه كافّة أشكال الطّغيان، والتّبعيّة، والهيمنة السّلطويّة على الأفراد.
by حيان درويش | Jan 27, 2025 | Cost of War - EN, News - EN, Reports - EN, العربية, بالعربية, All Reports, Articles - EN
توقفت الصحف الرسمية عن طباعة النسخ الورقية مع جائحة كورونا، إلا أن الأمر لم يكن إلا مقدمة لاختفاء هذه النسخ بسبب رغبة وزارة الإعلام في زمن النظام السابق في خفض النفقات، الأمر الذي كان قد سبقه إيقاف قناة “تلاقي”، ومن بعدها إذاعة “صوت الشعب”، ليبقى الإعلام السوري الحكومي في ذلك الوقت محصوراً بقنوات “السورية – دراما – الإخبارية – إذاعة دمشق – إذاعة سوريانا”، علاوة على المواقع الإلكترونية التي تتبع لصحف “البعث – تشرين – الثورة”، وكمصدر أساس للأخبار الرسمية، بقيت “وكالة الأنباء السورية – سانا”، مع وجود مجموعة من الإذاعات المحلية وصحيفة الوطن، فتجربة صحيفة “الأيام”، لم تكن طويلة بسبب الضغوط العالية التي مارستها السلطات آنذاك على الصحيفة، واعتقال مالكها “محمد هرشو”، ما تسبب بهجرته إلى الإمارات العربية المتحدة، ليعمل من هناك في الإعلام من خلال موقع “هاشتاغ سوريا”، وكل محاولات رفع سقف الحرية في التعبير من قبل وسائل محدودة كانت تغامر بالأمر مثل “إذاعة شام آف إم – موقع أثر برس – موقع كيو ميديا”، كانت تصطدم برد فعل عنيف من قبل “المكتب الإعلامي في رئاسة الجمهورية”، والذي تسلمته في أوقات الذروة من الحدث السوري “لونا الشبل”، التي توفيت في حادث سير ما زال ذكره يرتبط بالكثير من التفسيرات التي تشير إلى قيام النظام بتصفيتها، إذ ترافق الأمر حينها مع معلومات عن اعتقال شقيقها من قبل مخابرات النظام، وتأكد الأمر من خلال تغيبه عن الجنازة المتواضعة التي شيعت من خلالها “الشبل”، ومن ثم لم يظهر له أثر بعد سقوط النظام، ما يشير أيضاً إلى تصفيته ربما. ضمن هذا المناخ العام كانت وسائل الإعلام النشطة خلال الفترة الممتدة ما بين العام 2011 وحتى سقوط النظام تعمل ضمن ما يمكن تسميته بـ “الإعلام الموجه”، بعض هذا الإعلام وجه قسراً ودون رغبة القائمين عليه، والبعض الآخر اتخذ اصطفافاً سياسياً واضحاً تبعا لرغبة المالك، مثل “قناة الدنيا”، التي تحولت إلى “سما” بسبب العقوبات الدولية التي تعرضت لها القناة آنذاك، والأمر نفسه ينطبق على صحيفة الوطن التي كانت تتبع لـ “مجموعة راماك”، المملوكة من قبل “رامي مخلوف”، رجل الأعمال الأكثر شهرة.
مصير الصحف
لا يبدو مصير الصحافة السورية مبشراً خلال الفترة الحالية، فإن كان غياب جريدة البعث عن الساحة طبيعياً بفعل قرار الحزب بتعليق نشاطه إثر سقوط النظام تبعاً للبيان الذي جاء موقعاً من قبل “إبراهيم حديد”، الذي شغل منصب الأمين العام المساعد في الفترة الأخيرة، فإن الإدارة السورية الجديدة لا تبدي أي خطوة في إعادة طبع الصحف، إلا أنها أصدرت تعليمات بتغيير اسم صحيفة “تشرين”، إلى “الحرية”، مع تغيير الهوية البصرية للصحيفة وتغيير ألوان شعارها من الأبيض والأزرق إلى الأبيض والأخضر، فيما بقي اسم صحيفة “الثورة”، على حاله، وسبب التغيير حسب المعلومات التي حصلنا عليها هو ارتباط مسمى “تشرين”، بالنظام السابق، فالاسم من وجهة نظر متخذي قرار التغيير لا يرتبط بحرب تشرين بقدر ما يرتبط بتمجيد الانقلاب الذي نفذه حافظ الأسد للوصول إلى السلطة في تشرين الثاني /نوفمبر من العام 1970، وهو الانقلاب الوحيد في التاريخ السوري المعاصر الذي حمل اسم “الحركة التصحيحية”، وعلى الرغم من إن صحيفة “الثورة”، تحمل اسماً يمجد الانقلاب الذي نفذ في تاريخ “8 آذار / مارس”، من العام 1963 والذي أفضى إلى تسلم حزب البعث السلطة بشكل رسمي في سورية، إلا أنها بقيت حاملة لاسمها فهو يشير إلى مفهوم “الثورة”، من حيث المطلق، ويمكن أن يستخدم لتمجيد ثورة 18 آذار من عام 2011 والتي أفضت إلى إسقاط النظام السابق، وضمن هذه الأجواء لم يزل مصير الصحيفتين على المستوى المهني مجهولا، وغير مبشر بالمطلق.
يقول أحد الصحافيين العاملين في صحيفة “الثورة”، والذي يفضل عدم ذكر اسمه، أن ممثلي وزارة الإعلام أجروا عملية “إعادة التقييم”، للعاملين في الصحيفة وتم منح 55 من العاملين وغالبيتهم من الصحافيين إجازة مدفوعة الأجر، وتم التواصل مع بعض من منحوا إجازة ليعودوا إلى العمل، ورئيس التحرير المعين من قبل الإدارة الجديدة، “أحمد حمادة”، يعمل على إعادة كامل من تم منحهم إجازات، وتعمل حالياً الصحيفة من خلال الموقع الخاص بها ونسخة إلكترونية من العدد. ولكن على الرغم من إن النظام السابق سقط، إلا أن عقلية إدارة الصحف الرسمية لم تتبدل، فهي موالية لـ “الإدارة السورية الجديدة”، وبحسب الصحافي ذاته فإن الأمر طبيعي، فإن الإعلام الحكومي بطبيعة ملكيته للحكومة فإنه ينطق بلسان حالها، ولا يمكن أن يكون إلا موالياً لها، ويحاول تقديم أفعالها للجمهور بطريقة تروج للحكومة، لا تنتقدها، وهذا الدور يطلب غالباً من وسائل الإعلام الخاصة لا العامة، وبالتالي لا يبدو أن الثورة أو غيرها من الصحف الرسمية ستخرج عن هذا السياق.
أثناء حديث ودي مع أحد أعضاء اتحاد الصحافيين الذي كان موجوداً في زمن النظام السابق كمؤسسة إعلامية من المفترض أنها تعمل كنقابة، يظهر واضحاً أن هذا الاتحاد منذ تأسيسه عام 1974 لم يكن خارج النص البعثي، إذ يتم انتخاب، أو لنقل تعيين من تريده القيادة القطرية في منصب “رئيس الاتحاد”، وأعضاء القيادة المركزية. ولم يكن الاتحاد قادراً في أي يوم على ممارسة دوره في حماية الصحافيين السوريين من الممارسات المخابراتية، ولا من قانون “الجرائم الإلكترونية”، الذي يبدو أن النظام أصدره أساساً للتحكم بـمسار الصحافيين حتى على صفحاتهم الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي. ويقول عضو الاتحاد الذي فضل عدم ذكر اسمه خلال حديثه لـ صالون سوريا: “المؤسسات الصحافية السورية ذات تاريخ عريق في المهنة على الرغم من أنها مملوكة للحكومة، وكان متحكماً بها.
الهيئة العامة: ما مصيرها؟
يُحكى منذ سقوط النظام عن تطوير منظومة التلفزيون السوري ليكون منافساً للقنوات الخاصة، ويُحكى أيضاً عن عملية إعادة تأهيل للكوادر، وإلى الآن لم يظهر مما يحكى إلا عملية إعادة التقييم، التي تصفها مذيعة تخشى من ذكر اسمها خلال حديثها لـ صالون سوريا بأنها تمت من قبل أشخاص لم يكونوا مهنيين، وتقول: لا يوجد قواعد واضحة لإبعاد مذيع أو محرر من العمل من خلال الإجازات القسرية التي منحت، فإحدى اللواتي تم إبعادهن عن العمل بإجازة ذات صوت معتمد من كبرى شركات الإنتاج لدبلجة البرامج الوثائقية، وكانت تعمل ضمن إحدى الإذاعات التابعة للهيئة، كما أن مذيعة تلفزيونية أجبرت على الإجازة وهي من ذوات الظهور اللائق والأداء المشهود له، ولا يمكن تبني وجهة النظر التي تقول آن الإبعاد تم بسبب الانتماء الطائفي، فكلا الشخصين اللذين ذكرتهما ليسا من الطائفة العلوية، ولم يكن لهما أي مواقف معلنة لتأييد النظام السابق، وبما أن الحديث عن عمل إعلامي فمن المؤكد أنهما لم تكونا كمذيعتين شريكتين في سفك الدم، ولكونها من النماذج النشيطة جداً في عملهما، يتأكد أن إعادة التقييم لم تكن جدية.
ويشير صحافي كان يعمل في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون في سورية، إلى أن الآمال المبنية على التلفزيون السوري مستقبلا بأن يكون تنافسياً وقادراً على الحضور في المجتمع السوري خصوصاً، كوسيلة يمكن تصديقها، تبدو مثل ذر الرماد في العيون، فالوسيلة الإعلامية الحكومية لن تقدر على ممارسة الدور الرقابي المأمول منها، ولن تخرج عن دائرة الإعلام الذي تتحكم به الحكومة لتقدم مقولتها للجمهور، ولهذا الجمهور الحق بتصديقها أو تكذيبها بناءً على معرفته بالحقائق أولا، ومن ثم مراقبة وسائل الإعلام الأخرى وكيفية تعاملها مع أي قضية ستطرح من قبل التلفزيون السوري، وبدرجة ثالثة مصادر المعلومات التي منها “وسائل التواصل الاجتماعي”، وهذه الأشياء كان يمارسها الجمهور قبل سقوط النظام وسيبقى على حاله بعد سقوطها. وإذا كان هناك من يريد للتلفزيون السوري، أو المؤسسات الإعلامية الحكومية، أن تعمل بطريقة صحيحة فإن عليه أولاً أن يحررها من قيود “الإعلام الموجه”، الذي كانت تعيشه أيام النظام السابق، ولكن هل يمكن أن تترك وسائل الإعلام الحكومية لتمارس عملها تحت سقف عال من الحريات؟ هذا السؤال تبدو الإجابة عليه مقرونة بالنفي دائما.
هل تخلصنا من “التوجيه”؟
وسائل إعلامية عدة توقفت في سورية لأسباب تتعلق بغياب التمويل، أو نتيجة لتعرضها للتخريب، أو الخشية من العودة للعمل نتيجة ارتباطها بأحد رجال الأعمال المحسوبين على النظام. البيانان المنفصلان اللذان صدرا عن كل من جريدة الوطن، وإذاعة نينار، صبيحة يوم الثامن من ديسمبر / كانون الأول الماضي، وهما وسيلتان كان يملكهما “رامي مخلوف”، وسيطرت عليهما “أسماء الأسد”، بعد إقصائه من المشهد الاقتصادي، يعلنان التبرؤ من سياستهما الإعلامية الداعمة للنظام بالقول “كنا مجبرين”. وتعتبر مصادر صحفية عدة هذا الأمر مؤشراً على “الخوف”، من المرحلة الجديدة، فالمحاولات المبكرة لما سمي بـ “التكويع”، لم تكن ناجحة بالصورة التي كان يأملها القائمون على هاتين الوسيلتين على المستوى الإداري والصحافي. ويقول صحافي يعمل في صحيفة الوطني، شدد على عدم ذكر اسمه خلال حديثه لـ “صالون سوريا”، إن الأخبار التي تصدر عن جريدة الوطن تشرف عليها وزارة الإعلام من خلال ممثلين انتدبتهم إلى الجريدة منذ أن اعتبرت إن “الإدارة الجديدة”، تمتلك الحصة الأكبر في “جريدة الوطن”، نظراً لأنها باتت تمتلك حصة رجل الأعمال المعروف بولائه وتبعيته للنظام السابق، يسار إبراهيم، وذلك لكون أموال يسار هي من أموال الدولة المنهوبة وبالتالي لا بد من استعادة هذه الأموال. ويضيف الصحافي: على الرغم من أن رئيس التحرير وعد بعودة النسخة الورقية وعمليات الطباعة قريباً إلا أن الأمر لم يحدث نهائيا، علماً أن رئيس التحرير مقيم حالياً في فرنسا، إذ غادر البلاد صبيحة سقوط النظام وفقاً لما يعرفه العاملون.
الأمر نفسه ينطبق على عدد كبير من الإذاعات الخاصة، ولا يقبل أي من القائمين على هذه الإذاعات أو العاملين فيها الحديث عن المشكلة التي عرف “صالون سوريا”، بأنها نسخة طبق الأصل عما تعانيه جريدة الوطن، إذ إن “القصر”، تملك نسباً كبيرة من إذاعات “نينار – فيوز إف أم – ميلودي – شام إف إم” عنوة عن أصحاب التراخيص الرسمية في بعضها، ونتيجة لإقصاء صراع “أسماء – رامي”، في بعضها الآخر فيما بقيت إذاعة مثل “المدينة إف أم”، محمية بقرار من “ماهر الأسد”، شخصياً، لكون مالكها “ميزر نظام الدين”، من “أصدقاء الطفولة”، وأحد أذرعه الاقتصادية، وبعد سقوط النظام قررت الإدارة الجديدة أن “ترث”، هذه الإذاعات باعتبار أن الحصص الأكبر فيها مملوكة لشخصيات مرتبطة بـ “النظام”، وقد أسست من “أموال الشعب”، وهذا الإجراء لم يكن بالصورة القانونية، إذ تشير معلومات حصل عليها “صالون سوريا”، إلى أن الإدارة الجديدة وعبر “المحامي الممثل ليسار إبراهيم”، نقلت الملكية الخاصة بمن استهدفهم قرارها إلى شخصيات مرتبطة بها بشكل مباشر، وهذا الإجراء لم يكن قانونيا، إذ من المفترض أن تتم محاكمة رجال الأعمال، وإدانتهم، ومن ثم إصدار قرار بمصادرة هذه الوسائل الإعلامية وتحويل ملكيتها لـ الدولة (أي تأميمها)، أو عرضها في المزاد العلني واستعادة أموال الدولة، لا أن تصبح “وريثاً”، وتتعامل مع هذه الوسائل وكأنها من “غنائم الحرب”، ولا يمكن الحصول على رد رسمي من “وزارة الإعلام”، بوصفها المسؤولة عن الملف.
حالة نقل الملكية التي شملت عدداً كبيراً من وسائل الإعلام الخاصة، وتوقف بعضها الآخر عن العمل بسبب مصادرة المكاتب نتيجة لـ “ارتباطها بإيران”، مثل “قناة العالم سورية”، وقرار البعض التروي، والبعض الآخر نتيجة لـ “انعدام وجود ممول حالياً”، تشير إلى أن الإعلام السوري الذي سينشط حالياً داخل سورية، سيبقى إعلاماً موجها حاله في ذلك حال القنوات التي تقوم باصطفاف سياسي واضح لصالح “الإدارة السورية الجديدة”، مثل “تلفزيون سوريا – التلفزيون العربي”، الممولين من مؤسسة واحدة تتخذ من العاصمة القطرية مقراً لها، إضافة إلى منصة “تأكد”، التي تعمل على تبرير أو نفي الأخبار التي تدين “الإدارة السورية الجديدة”، بدلا من ممارسة دورها الذي تقدم نفسها من خلاله على أنها منصة تهتم بالتأكد من صحة المعلومات المروجة عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، والتحقق من مصادر المعلومة ومحاربة الأخبار المضللة. إلا أن أخطر ما يهدد العمل الصحافي وسلامته حالياً، هو ما ينقله صحافي سوري يعمل حالياً في دمشق بالقول: وزير الإعلام يستقبل ويحتفي ويقدم الفرص لمن يسميهم بـ “الإعلاميين الثوريين”، ويعتبر أن الأفضلية في المرحلة القادمة لهم، على الرغم من إن غالبيتهم مايزالون في خانة الهواة، والإجازة الأكاديمية التي يحملونها هي من جامعات غير معترف بها مقرها في مناطق الشمال السوري مثل جامعة عفرين، كما أن الصحافيين الذين يصنفون أنفسهم على إنهم هواة يطالبون في كل لقاء مع الوزير بإيقاف كل الصحافيين الذين كانوا موجودين في المناطق التي كان النظام يسيطر عليها عن العمل بحجة أنهم موالون للنظام أو كانوا يروجون لدعايته، إلا أن السبب الأساس هو محاولتهم طرد هؤلاء الصحافيين من سوق العمل وترك المجال مفتوحاً فقط لـ “الصحفيين الثوريين”، وذلك لعزوف وسائل الإعلام المرموقة عن التعامل مع هؤلاء “الثوريين”، بسبب قلة خبرتهم وانعدام مهنيتهم في غالب الأحوال.
الخشية من الملاحقة الأمنية تدفع الكثير من الصحافيين، بمن فيهم كاتب هذه المادة إلى إخفاء أسمائهم، ويعكس ذلك حالة الخوف التي مازال الإعلاميون في سورية يعيشونها على الرغم من أن الإدارة الجديدة تشدد على أن زمن الخوف انتهى بسقوط النظام. ويسخر أحد الصحافيين الذين أدلو بشهادتهم ضمن هذه المادة من السؤال عن سبب رفضه ذكر اسمه ليجيب بالقول: “ما بدي كون ضحية حالة فردية”، في إشارة إلى تزايد الانتهاكات التي توضع تحت خانة “حالة فردية – تصرف فردي”، من قبل الحكومة.