لم يكتفِ الناس في سوريا من معاناتهم وأوجاعهم اليومية، التي فرضتها ظروف الحرب وما تبعها من أزماتٍ متلاحقة وتردٍ في الواقع الاقتصادي والمعيشي، حتى أتى فصل الصيف، الذي سجل هذا العام ارتفاعاً كبيراً وغير مسبوق في معدلات درجات الحرارة، وكان الأقسى على البلاد منذ عقود، ليزيد من قهر وعذاب الناس، المحرومين من أبسط مقومات الحياة، وليُقلق راحتهم ويؤرِّق نومهم ويحول حياتهم إلى ما يشبه الجحيم، في ظل عجزهم عن توفير أبسط ما يحتاجه الإنسان العادي لمقاومة ظروف الحر الشديد.
في وقتٍ بات فيه تشغيل المكيفات خلال الصيف أمراً طبيعياً وضرورياً يُحرم معظم الناس في سوريا من تشغيل أية وسيلة تبريدٍ، بما فيها مراوح الهواء، في ظل انقطاع الكهرباء التي لا تأتي غالباً سوى أربع ساعاتٍ على مدار اليوم. ومن أراد أن يحصل على نعمة التكييف، وهو أمر بات حكراً على الأثرياء، فسيحتاج إلى مولدات الكهرباء ذات الاستطاعة العالية، والتي تحتاج إلى تكاليف كبيرة نتيجة ارتفاع أسعارها وصعوبة توفير الوقود، أو سيلجأ إلى تركيب ألواح الطاقة الشمسية التي تُكلف عشرات ملايين الليرات.
ولكي يجلبوا بعض البرودة إلى بيوتهم التي تحولت إلى مخزنٍ للحر، لم يبق أمام معظم الناس سوى الاستعانة بالمراوح التي تعمل بواسطة البطاريات، وهو ما حملهم أعباء مادية تفوق طاقاتهم، إذ وصل سعر المروحة العمودية، المزودة بقاعدة متحركة والتي تعمل بواسطة الكهرباء أو البطارية، إلى نحو مليون ونصف المليون ليرة، فيما تخطى سعر المروحة، التي تعمل بواسطة بطارية خارجية، حاجز المليون ليرة، هذا عدا عن سعر البطارية التي ستحتاجها. ورغم أن تلك المراوح قد أصبحت خياراً وحيداً بالنسبة لمعظم الناس، إلا أنها لا تستطيع العمل لوقت طويل، إذ لا تكفي ساعة كهرباء لشحن بطاريتها التي تعمل في أحسن الأحوال لمدة أربع ساعات.
وفي ظل عجز كثير من الفقراء والمُعدمين عن شراء تلك المراوح لجأ الكثير منهم لشراء المراوح المُصنعة بطرقٍ بدائية. وتتكون المروحة من فَراش بلاستيكي بأربع أو خمس شفرات، موصول إلى محرك صغير يعمل بسرعة واحدة، مُثبَّت على زاوية معدنية صغيرة يمكن تعليقها على الجدار. وقد انتشرت تلك المراوح في الأسواق بشكل كبير، ويبلغ متوسط سعرها نحو 70 ألف ليرة، ويمكن تشغيلها بواسطة بطاريات الإنارة البديلة، لكنها، ورغم حجم الإقبال الكبير على شرائها، تفتقد لأبسط شروط الأمان، إذ يمكن أن تتسبب بأذى جسدي إذا تم لمس فَراشها غير المجهز بأي شبك حماية، كما يمكن للفَراش أن يخرج من مكانه خلال دورانه، ويمكن للمحرك أن ينفصل عن القاعدة، نتيجة عدم القدرة على التحكم في سرعة دورانه.
بسطات وعربات لبيع الثلج
في ظل أزمة الكهرباء وشلل عمل البرادات في معظم البيوت بات توفير مياه الشرب الباردة أمراً صعباً بالنسبة لمعظم الناس، وهو ما اضطرهم لشراء الثلج بشكل يومي، ليتحملوا أعباء مادية أثقلت كاهلهم، هذا إلى جانب صعوبة توفير الثلج في كثير من الأحيان، نتيجة عجز كثير من البقاليات والمحلات التجارية عن تأمين التبريد اللازم لحفظه. وفي ظل هذا الواقع انتشرت منذ بداية فصل الصيف، في الشوارع وعلى الأرصفة، بسطات وعربات لبيع قوالب الثلج الكبيرة، حيث يقوم الباعة بتقسيم القالب، الذي يباع كاملاً بأكثر من 25 ألف ليرة، إلى نحو ستة قطع، تباع القطعة، التي تزن نحو كيلو ونصف كيلو غرام، بسعر يتراوح بين خمسة وستة آلاف ليرة. وإذا ما أرادت العائلة أن تستعين بالثلج لتبريد الماء فستحتاج بالحد الأدنى لقطعتين أو لثلاثة أكياس من مكعبات الثلج، هذا في حال تم وضعه في حافظة للبرودة، وهو ما سيكلفها نحو عشرة آلاف ليرة يومياً، أي 300 ألف ليرة شهرياً، ما يعادل راتب موظف حكومي تقريباً.
ورغم أن قوالب الثلج المباعة على العربات والبسطات قد أوجدت حلاً لمشكلة توفر الثلج، إلا أنها قد تكون عرضة للتلوث وغياب الشروط الصحية، فهي غالباً تُلفّ بمواد غير صحية كالخيش والبطانيات، وتتعرض لأوساخ وغبار الشوارع، هذا بالإضافة لعدم معرفة مصادر معظمها، فقد تكون مُصنعة من مياه ملوثة وغير صالحة للشرب، وفي معامل غير مرخصة ولا تخضع لشروط التعقيم والرقابة الصحية، لذا قد تؤثر سلباً على صحة الناس وتكون سبباً لبعض الأمراض، كونها غير صالحة للاستهلاك البشري، إذ كان استخدامها ينحصر سابقاً في تثليج الأسماك وبعض أنواع اللحوم.
برادات عاطلة عن العمل
اعتاد معظم الناس فيما مضى على تخزين وتفريز الأطعمة والمؤونة في ثلاجات بيوتهم، لتوفر عليهم الكثير من الجهد والأعباء الإقتصادية، وتتيح لهم إمكانية تحضير العديد من أصناف الطعام في وقت قصير. ولكن نتيجة ارتفاع درجات الحرارة وغياب الكهرباء تحولت معظم البرادات في بيوتهم إلى “نملية”، ليحرموا من أبسط عاداتهم اليومية التي كانت تغني مطابخهم، ويتخلوا عن عادات المؤونة وتخزين الطعام، فباتوا يطهون كميات قليلة منه خوفاً من تعرضه للتلف، ويكتفون بشراء كميات محدودة من المواد الغذائية كالألبان ومشتقاتها والخضار والفاكهة واللحوم، فيما لجأ البعض لوضع عبوات المياه في برادات الجيران، الذين تتوفر لديهم المولدات الكهربائية أو أنظمة الطاقة الشمسية، واضطر البعض الآخر للعودة إلى الطرق البدائية في تبريد الماء، كوضعه في أباريق الفخار، ولفِّ عبوات المياه بأكياس الخيش والأقمشة الصوفية لتحافظ على برودتها.
وفي محاولة بائسة لبعث الحياة في براداتهم التي أصبحت شبه خاوية، لجأ بعض الناس للاستعانة بقوالب الثلج وعلب المياه المجمَّدة ليضعونها في الثلاجة بجوار الأطعمة والمؤونة، ليحافظوا على صلاحيتها لأطول فترة ممكنة، حالهم كحال الكثير من محلات بيع اللحوم التي باتت تغطي بضاعتها بقطع الثلج الكبيرة، لتحافظ عليها من التلف، في ظل ارتفاع درجات الحرارة، وتكتفي بعرض كميات قليلة منها، نتيحة عجزها عن تشغيل مولدات الكهرباء التي ستُحمِّلها أعباء مادية كبيرة، تجعل عملها غير مجدٍ، وتضطرها لرفع أسعار بضاعتها التي تراجع حجم الإقبال عليها بشكلٍ كبير.
أزمة المياه تفاقم مرارة الصيف
في وقتٍ يحتاج فيه الناس للاستحمام لأكثر من مرة يومياً لمقاومة حر الصيف والتعرق الشديد، ساهم الانقطاع الطويل للكهرباء في خلق أزمة مياه في عددٍ من أحياء العاصمة ومحيطها وبعض المدن الكبيرة ذات الكثافة السكانية العالية، وذلك نتيجة شلل عمل المضخات المركزية، التي تضخ المياه من الآبار والخزانات الرئيسة إلى الشبكات التي تغذي الأحياء والحارات، لتحرم كثيراً من البيوت من وصول المياه إلى خزاناتها، وخاصة في ظل شلل عمل المضخات المنزلية. كما شهدت بعض المناطق عمليات تقنين في المياه، التي يتم وصلها ليومٍ واحد مقابل يوم أو يومين قطع، فيما اقتصرت مدة توريدها إلى مناطق أخرى على أربع ساعات على مدار اليوم وأحياناً ساعتين فقط. وقد أجبر ذلك الواقع الكثير من الناس على نقل المياه إلى بيوتهم بواسطة الغالونات، التي يملؤونها من البقاليات وبيوت بعض الجيران، أو على تعبئة خزانات بيوتهم من سيارات الباعة الجوالين، التي نشطت في الآونة الأخيرة بشكل كبير في عدد من المناطق كمدينة جرمانا، وقد وصل سعر برميل الماء لأكثر من خمسة عشر ألف ليرة، وهو ما شكل عبئاً مالياً إضافياً على الناس العاجزين حتى عن توفير لقمة عيشهم.
معاناة أخرى
ساهمت ظروف النزوح، خلال سنوات الحرب، في ازدياد حجم الكثافة السكانية بشكل كبير في دمشق ومحيطها وأريافها، وخاصة في المدن الكبيرة كجرمانا وصحنايا، وهو ما فاقم حالة الاختناق والاكتظاظ والازدحام البشري، وأدى لتزايد أعداد السيارات الخاصة والآليات ووسائط النقل والتكاسي، لتساهم بدورها بمزيدٍ من الاختناق وتلوث الهوء وازدحام الشوارع، وبالتالي في رفع معدلات درجات الحرارة، لتفاقم حجم المعاناة مع فصل الصيف.
وفي السنوات الماضية ازدادت نسبة البناء العشوائي في محيط دمشق وأريافها بشكل كبير، لتستوعب أعداد السكان القادمين من المحافظات الأخرى، وخاصة في مناطق المخالفات والعشوائيات، وقد ساهم شكل الأبنية العشوائية وغير المنظمة وتقاربها بل والتصاقها ببعضها في قتل مساحات التنفس وانعدام فرص التهوية أمام السكان، لتُطبق الخناق عليهم وتزيد من حرارة المكان.
ونتيجة تزايد الازدحام السكاني وانقطاع الكهرباء اكتظت معظم الشوارع والأرصفة وبعض شرفات البيوت بمولدات الكهرباء، التي يُشغلها السكان وأصحاب المطاعم والمقاهي والمحلات التجارية، ليساهم دخانها الكثيف في تلوث الهواء ورفع حرارة المكان وخلق شعورٍ من الاختناق لدى العابرين في الشوارع، هذا عدا عن ضجيج أصواتها التي تجعجع طوال الوقت لتصدِّع رؤوسهم وتطغى على أحاديثهم.
وفي ظل صعوبة التأقلم مع الحر الشديد داخل منازلهم، لم يبق خيار أمام كثير من الناس سوى الهروب منها إلى الحدائق العامة، المزدحمة بهم ليل نهار، ليفترشوا الأرض تحت ظلال الأشجار، حاملين معهم أطعمة ومشروبات تكفيهم لقضاء أطول وقت ممكن، فيما لجأ البعض إلى دخول المساجد، لقضاء بعض الوقت فيها، وخاصة خلال فترة الظهيرة، لينعموا بالقليل من هواء التكييف وبشرب الماء البارد.
رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع أنصار العالم الافتراضي نقل إلا جزء يسير من الكتب المطبوعة ورقيا أو الصحف، للأسف حتى المكتبات الضخمة غير قادرة على جمع وعرض كل ما طبع.
من هنا كانت الأرصفة في دمشق المكمل الحقيقي لهذا العنصر المعرفي، ولا يمكن تجاهلها في أي مكان من العالم. فمن ناحية هناك تنوع كبير في ما تعرضه من كتب التي تشمل كافة ميادين الثقافة والعلوم والفنون، والأهم من ذلك هي أن بسطات الأرصفة هي المالك الوحيد للطبعات النافدة من السوق والإصدارات القديمة من دون أن تفعل ما تفعله بعض المكتبات إذ لا يوجد اصطفاف سياسي ولا قطيعة مع أي مؤلف، كما أنك تجد على الأرصفة كتباً خاصة بالجامعات وكتب الأطفال واليافعين وقصصهم التي قرأتها الأجيال السابقة من سوبرمان إلى تان تان، المواد التي لا تمكن مشاهدتها في المكتبات الأنيقة، لكنك تضطر لجمع أجزاء الكتب والمجلات من أكثر من مكان كما يحدث حين تريد اقتناء كتاب العقد الفريد.
قرار محافظة دمشق الأخير (يوم الأربعاء 16 تشرين الأول 2024) والقاضي بإزالة بسطات الكتب المتواجدة منذ سنوات تحت جسر الرئيس، المنطقة الأشهر لبيع الكتب، بذريعة تجميل المكان أثار حفيظة شريحة كبيرة من المثقفين والعاملين في هذا المجال حتى أن البعض وجه عبر منصة فيس بوك دعوة للتوقيع بالاسم والصفة لتوجيه رسالة مفتوحة إلى السيدة وزيرة الثقافة السورية ومحافظ دمشق فحواها “أنه بهذا القرار سِدت آخر رئة لتنفس هواء المعرفة، الهواء الذي يميز كل عواصم العالم من باريس الى القاهرة وبغداد وبيروت، وكأن مثل هذا القرار الجائر قدر دمشق كي تحتضر أكثر فأكثر”. وأشاروا إلى بسطات الرصيف المشهورة في تلك العواصم ومن أبرز الأسماء التي وقعت على هذه الرسالة المخرج السينمائي محمد ملص، والروائي خليل صويلح، والكاتب والمخرج المسرحي سامر محمد إسماعيل والشاعر أوس أسعد وآخرون كثيرون.
أبو طلال، المحارب القديم المتقاعد، الذي بحث عن عمل يحقق له دخلاً مادياً وسعادة لا يرى أن المقاطعة الثقافية التي صنعتها الحرب وغياب الإصدارات الجديدة مشكلة فمن وجهة نظره هناك الكثير من الكتب المهمة والقيّمة التي تستحق القراءة، والتي لم نطلع عليها بعد. وهناك كتب قيّمة، لا يمكن أن تجدها في أهم وأشهر المكتبات السورية، لكنها متوفرة في بسطته بأسعار زهيدة مقارنة بأسعار الكتب الجديدة التي صدرت خلال السنوات الماضية. أضاف بنبرة جازمة: “لا تمكن المقارنة بين أمهات الكتب وكتب التنفيعة التي تصدرها الجهات الرسمية أو بعض دور النشر الخاصة”، وهناك الكثير من الكتب التي يرفض شراءها، أو وضعها ضمن المجموعة التي يقتنيها، لكنه يعتب على بعض الأشخاص الذين ينظرون إلى مكتبة الرصيف بتعال خاصة من أطلق عليهم اسم (البروليتاريا الجديدة)، كما انتقد الحكومة التي رفضت ترخيص أكشاك خاصة لبيع الكتب مثلما فعلت مع أكشاك بائعي التبغ ومشروبات الطاقة. واعتبر قرار إزالة البسطات جائرا بحق باعة الكتب والمواطن غير القادر على اقتناء نسخة جديدة بسبب ارتفاع سعرها بينما بقيت بسطات حمالات الصدر الصينية والثياب المستعملة وورق اليانصيب التي لم يطالها قرار تجميل المكان.
عماد، بائع الكتب الرصيفية، يؤكد أنه كان يعيش وعائلته من مهنة بيع الكتب والصحف والمجلات لكن الحرب السورية دمرت بيته الذي كان مخزنا لما يزيد عن خمسة آلاف عنوان في منطقة دوما وهو اليوم يضع كمية محدودة من الكتب والمجلات القديمة ونادرا ما يجد طالبا لها. يقول: “المجلات القديمة أهم من المجلات المطبوعة حديثا، بالنسبة لي لا يمكن أن أقارن مجلة شعر أو الآداب مع ما يأتينا اليوم. إن القيمة الثقافية مختلفة ومضمون النص أهم”. أما عن قلة الكتب لديه فقال: “كان عملنا خلال الحرب أشبه بعمل أي محل مجوهرات، يعرض علينا أن نشتري مجموعات من الكتب وموسوعات أكثر مما يطلب منا كتاب، مجموعات فاخرة، تجليد فني، وأسعار زهيدة، لكن لا أحد يسأل عنها (الجمل بليرة وما في ليرة). المهتمون بالقراءة والمثقفون مفلسون”. وفيما يخص القرار الأخير أعلن أن مورده المادي توقف بشكل كامل.
تحت جسر فكتوريا يفاجئك أبو مهيار (محمود بوكس) كما يسميه أصحاب البسطات المجاورة له فهو ليس مجرد بائع كتب مستعملة بل يمكن أن تطلق عليه اسم (غوغل) فما أن تسأله عن كتاب حتى يعطيك شرحا وافيا عن محتواه وعن مؤلفه ولمحة عن الكتب التي صدرت بخصوص هذا الموضوع، ويرشدك ماذا يجب أن تقرأ ولماذا، لتكتشف بعدها أنه خريج كلية الآداب قسم اللغة العربية. وما يميزه عن أقرانه هو أن لديه خدمة التوصيل، واللافت أنه يتسوق كتبه من البسطات كأي مقتن للأشياء القيمة، ويواظب على حضور معارض الكتاب في سورية ولبنان. الأرشيف الذي يمتلكه يضم مجلات كروز اليوسف، والآداب، ومجلة شعر ومجلات أخرى مختصة في المسرح والسينما والصحف التي تعود لعام ١٩٢٠. أما ثروته الحقيقية (مكتبة المنزل) التي كانت تحتوي على خمسة عشرة ألف كتاب فقد التهمتها الحرب مع ابنه ومنزله بالكامل. أبو مهيار متمسك بمهنته ويرفض الهجرة خارج البلاد. يضحك قائلاً: “صار بيع الكتب مثل الدعارة، أو بيع الدخان المهرب. يجب أن تتواصل مع القارئ على الهاتف وتعطيه موعد بالخفاء وتنتبه من أن يراك أحد فيصادرون الكتب”.
أكثر ما يثير شجونك عناوين الكتب التي لن تراها بعد اليوم فقرار الإزالة بدأ ومن لم يجمع كتبه ويرحل تقوم الجرافة بتجريفها كأية أنقاض أو قمامة. ولم يعد بإمكاننا لوم أبي حيان التوحيدي على حرقه لكتبه، ولا لوم الداراني الذي ألقى بمؤلفاته في التنور.
ينتظر السوريون في الأسابيع المقبلة بفارغ الصبر وفق تصريحات حكومية انطلاق المشغل الخلوي الثالث “وفا تيليكوم” المرتبط بإيران التي ستدخل على خط الاستحواذ في قطاع الاتصالات الحساس والذي ظلّ حكراً على متنفذي السلطة لعقود.
من خلال التواصل المباشر مع مصادر متعددة من داخل الشركة ووزارة الاتصالات والهيئة الناظمة للاتصالات، فقد علمنا اقتراب الأمر بصيغته النهائية التنفيذية، والذي سيتيح لأول مرة خدمة 5G في سوريا. ويأتي ذلك التأخير بعد سنين من وعود إطلاقه، على أن تنطلق الخدمة في دمشق أولاً بشكل تجريبي.
الحلم في مواجهة الواقع
إلا أنّ ذلك الوعد القطعي قد يصطدم بجملة عوامل قسرية أبرزها تدهور البنى التحتية وأزمة موارد الطاقة وغياب الكتلة البشرية المؤهلة للعمل كخبرة في التشغيل والصيانة، خصوصاً مع نية الشركة الجديدة الاستناد على موارد ودعائم الشركتين الوحيدتين المتدهورتين في سوريا أساساً (سيرياتيل وام تي ان) من أبراج ومحولات وبطاريات وأطقم تنفيذية لديها خبرة لوجستية في المرحلة الأولى.
تجدر الإشارة إلى أن المصادر الرسمية السورية تتحدث اليوم عن خطة تحول رقمي مدروسة على كافة الأصعدة وتشمل البلاد بأكملها، وهي ببطاقة ذكية تمكنت من إحداث فجوة خيالية بين الفكرة والتنفيذ ورمت البلاد وساكنيها في متاهة فرضيات لا حصر لها. فمثلاً هناك مشهد الجموع تفتح حسابات بنكية لتتلقى فرق قيمة الخبز المدعوم دون أن تدري تلك الشريحة ماذا يحصل حولها بالضبط ولا من أي باب ستخرج من متاهتها منتصرةً على التجارب الحكومية التي انقضى عهد وزرائها بدخول حكومتهم حقبة تصريف الأعمال وعلى جدولها لا زالت مئات الملفات العالقة.
الجشع القادم
ينتظر السوريون بفارغ الصبر المشغل الثالث لا لأنّهم تخلصوا من همومهم وصاروا يبحثون عن لون جديد لشرائح هواتفهم الخلوية، بل لينقضي عهد شركتين “ذبحتا” الناس بالأسعار والجودة في تنافسية حثيثة عالية خلاصتها أي شركة منهما ستتمكن من سحب راتب الموظف أسرع من الأخرى لقاء ثمن باقة انترنت صارت خيالية للناس، وتلك الباقة بطبيعة الحال تسرق الشركة أكثر من نصفها، وأحياناً كلّها حتى دون أن يستخدمها المشترك.
في رحلة الانتظار تلك يغفل السوريون\ات أنّ قطاع الاتصالات هو “بترول” البلاد بعدما فقدت سوريا مواردها النفطية المادية الحقيقية، وبأنّ تلك الشركة ليست المنقذ والبطل الخيّر في الرواية الذي سينقذهم من تغوّل الشركتين إياهما، وهي بالنهاية ليست إلّا شركة إيرانية بغطاء سوري، وهذا صار معروفاً ويمكن شرحه. الموضوع أن لإيران ديوناً مليارية على سوريا، ديوناً فاقت الـ 50 مليار دولار، وستحصلها باللين أو القوة، بالهدوء أو الضغط، كذلك يقول صقور السياسة الإيرانية ومعهم يقول شارع بلادهم، وقد تم تسريب جزء من تلك الديون والاستراتيجية الإيرانية تجاه سوريا عبر ما سربته مجلة “المجلة” السعودية استناداً لما اسمته مجموعة “قراصنة” معارضين، لتتولى المجلة ترجمة الوثائق ونشرها كاملة على عدّة أجزاء.
سوريّةٌ خالصة
تقول الشركة معرفةً عن نفسها في موقعها الالكتروني الذي أبصر النور قبل عامين: “في وفا استلهمنا اسمنا من التزامنا العميق وولاءنا ومحبتنا لبلدنا وشعبنا وقيادتنا. إن هذا الوفاء هو الذي يشكل أساس رؤيتنا، ومهمتنا، ورحلتنا نحو سورية المزدهرة، فكان التأسيس في عام 2022 وحصولنا على الترخيص الحصري لتقديم تقنية الجيل الخامس في سورية.”
ويبدو التعريف الذي تقدّمه الشركة عن نفسها منطقياً كشركة “سوريّة” خالصة، وخاصةً أنّ مصادر خاصة أفادت أنّ واجهتها التنفيذية هي من الموظفين السوريين وعلى رأسهم محمد أسدي رئيس مجلس الإدارة، ونائبته كارولين زلقط، وغسان سابا مديراً للمدراء التنفيذيين. المصادر ذاتها أوضحت تفاصيل عن تاريخ تأسيس الشركة ليتبين أنّها حصلت على موافقتها الأولية في عام 2020 من قبل وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك ضمن القرار /2590/ كشركة مساهمة مغفلة، وفي العام التالي عادت ذات الوزارة لتعادل على نظامها الداخلي بموجب القرار /4751/، ذلك بالتزامن مع التراخيص اللازمة من الهيئة الناظمة للاتصالات، وهو ما يوضح تأخراً ظلّ طوال تلك السنين غير مفهوم لشركة قدمت أوراقها واستكملتها وجرى اعتمادها بل وأجرت مقابلات كثيرة في سياق التوظيف.
الكذبة التي لم تكتمل
رغم أنّ حكومة دمشق روّجت ولا زالت تروّج أنّ المشروع وطني بالكامل وبأيدٍ سوريّة إلا أنّ الأمر قد تم فضحه عبر تحقيق أعدّه مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية مع مؤسسة مكافحة الجريمة المنظمة والفساد، وخلص التحقيق إلى أنّ ملكية المشغل الثالث تعود بقسم كبير منها لشركة ماليزية مملوكة لإيراني بالشراكة مع الحرس الثوري الإيراني في محاولة مبكّرة للتهرب من العقوبات.
وما زاد الطين بلّة وأحرج نظام دمشق هو تصريح وزير الطرق والتنمية العمرانية الإيراني -رئيس اللجنة المشتركة للتعاون الاقتصادي الإيراني – السوري “مهرداد بازار باش” عبر وكالة “إسنا” الإيرانية، إذ قال نصّاً خلال اجتماع مع المدراء في اللجنة ذاتها: “إن مشغل الهاتف المحمول الذي أطلقه الجانب الإيراني سينشط قريباً في سوريا، وسيمكن السياح والحجاج الإيرانيين من الاستفادة من هذه الخدمات.”
وأكمل: “أحد مستويات التعاون هو إنشاء مشغل للهاتف المحمول، والذي تم إنجازه بالتعاون الجيد بين وزارة الاتصالات الإيرانية ووزارة الاتصالات السورية، ويتم تنفيذ هذا المشروع. وفي هذا الصدد، سيتم قريباً إطلاق بطاقات SIM للمشغل الثالث من قبل الجانب الإيراني في سوريا، ويمكن للسياح والزوار الاستفادة منها”.
الإمبراطور الكسيح
رامي مخلوف، ابن خال الرئيس السوري بشار الأسد، وجد التاج فجأة منزوعاً عن رأسه دون سابق إنذار، وصودرت أملاكه ووضع تحت الإقامة الجبرية، وتحول من إمبراطور يؤثر في اقتصاد دول ناميةٍ حليفة إلى رجل لا أحد يعرف إن كانت الدولة سمحت له باستبقاء حارسٍ شخصي له أم لا.
قابل مخلوف الانقلاب عليه بشنّ حربٍ واسعةٍ لا يراعي فيها أبناء عمومة ولا خؤولة، وبدأ ينشر فيديوهات متواترة على صفحته الخاصة في موقع فيس بوك ويشرح فيها بقدر ما يستطيع من صراحة وإيلام واقع ما حصل، ومن جملة ما رواه في فيديو بثّه بتاريخ 30 يونيو/ حزيران 2021 كان حول قضية استبعاده ومحاصرة سيرياتيل لصالح المشغل الثالث الذي قال علانيةً إنّه إيراني.
آنذاك كان الشارع المؤيد يترنح في موقفه بين التعاطف معه والوقوف ضده امتثالاً لأوامر السلطات فلم يحصل ذاك الفيديو على كثير من الاهتمام، خاصةً أنّ ما يعرف بـ “الذباب الالكتروني” ميّع مضمونه وتفهه إلى أبعد الحدود، وقد يكون إفشاء ذاك السر في ذاك الوقت واحداً من أسباب تأخر وضع المشغل في الخدمة، إلى أن جاءت الضربة الإيرانية الفجّة عبر التصريح المباشر، علماً أنّ مخلوف ذكر أنّ إيران تريد استرداد ديونها مستفيدةً من هذا المشغل كذراع في الجباية.
هل تصبح سوريا محافظة؟
قد تبدو تفاصيل الشركة الجديدة في سوريا وتأخيراتها ملفاً تقنياً بحتاً، ولكن بالتأكيد فإنّ الأمر أبعد بكثير من أن يكون تقنياً ليتخطاه نحو عوالم السياسة المظلمة والمحكومة بالحوكمة الاقتصادية لبلد يدير بلداً ممسكاً إياه من ذراعه التي تؤلمه مستحوذاً على أهم ما فيه وهو قطاع الاتصالات.
ومن يملك الاتصالات يملك الأرض، والفضاء، والتنصت والجاسوسية وقاعدة الأرقام والتعداد، ومن بين كل ذلك تبرز الأرقام كمسألة إحصائية خطيرة تندرج ضمن إطار الأمن القومي الذي لا يجب أن يطلع عليه أقرب الحلفاء العسكريين والسياسيين، بل هم تحديداً من يجب إبعادهم عنه لئلا تتوسع دائرة نفوذهم وتهيمن من ثم تطغى؛ فبالتأكيد “الشقيق” الإيراني لا ينام جائعاً لأجل ملياراته تلك، ولكنّه يريد عوضاً عنها بلداً بحاله، أو ما بقي منه على الأقل. والأمر بسيط هنا إذ يكفي الاطلاع على محضر توقيع اتفاقيات رئيسي والأسد ببنودها الـ 16، وكيف بعد ذلك تسللت إيران من شقوق أبواب المدن إلى شركات القطاع العام وصارت شريكاً، وستظلّ تشارك إلى أن يسأم طرفٌ ويقول: كفى.
وتلك الـ “كفى” بعيدةٌ للغاية في ظلّ تراكبية المشهد السوري وتعقيده واستحالة وضع جدول زمني يحمل حلاً من الداخل السوري، ليبقى المصير مرتبطاً بالخارج، وقد يكون ذلك المصير فكّ ارتباط وتغيّر تموضعٍ وقبول واقع إقليمي جديد بداعمين جدد وقرارات أممية جديدة.
للعمل الحرفي في سوريا – سيما العاصمة دمشق – مكانة خاصة وتاريخ قديم يذهب بنا عميقاً في ردهات الزمن، حِرف أصبحت مع الوقت وجهاً من وجوهِ دمشق، وسوراً من أسوارها، وعطراً لاذعاً تفوحُ مقتنياته من زوايا بيوتها الدافئة كما تفوح روائحُ التوابل من أسواق ساروجة ومدحت باشا، شأن هذه المهن اليدوية الحميمة، شأن الهوية والانتماء.
وأبعد من ذلك تكنّت أنسابُ أصحاب هذه المهن بأنسابها، فلاصقت أسماءهم وأسماءَ أحفادهم من بعدهم، فعُرفوا بها كما عرفت بهم، كالنجار، والعطّار، والصوّاف، والخيّاط.
لكنّ حرفاً أخرى سوريّة انتشرت على نطاقٍ واسعٍ سيما في الخمسينات من القرن العشرين؛ لتلبية متطلباتِ ذلك العصرومتطلبات مجايليه كصناعة القناديل الصغيرة والتي عُرفت حتى يومنا هذا باسم “قناديل الكاز”، إضافةً لمهنِ تلميعِ النحاس والمقتنيات المعدنية بعد أن ينالها الصدأ وحِرف أخرى كثيرة كاشتغالِ السلال والصدور القش المعدة للطعام.
كل ذلكَ كانَ آنفًا كما أسلفنا، ملبياً في عصرٍ ما، متطلبات جيلٍ بأكمله. لكن، من كان يظن أن تُبعثْ هذه الحِرف من موتها إلى حياتنا الصاخبة اليوم. نحن الذين نعيش في القرن الواحد والعشرين.. قرن التكنولوجيا الرقمية، الإنترنت والذكاء الاصطناعي وتقنيات الهولوغرام!
هذا السؤال المؤلم والملح في آن، وضعنا أمام احتمالاته الكثيرة، في بلد أطفأت فيه الحرب كل مقدراته وحرمت شعبها أقل مقومات الحياة، أبسطها الكهرباء والماء. وكأن السوريين اليوم خارج تصنيف الكوكب وحضارته الضوئية! وكأن السوريين – عن غير قصدٍ – يعودونَ إلى الخلف كي يلبوا أقل احتياجاتهم بأرخص التكاليف لتصبح المقتنيات -التي كنا نزين بها مكتباتنا وبيوتنا ونفخر بها كتراثٍ يشير إلى سوريتنا – أدوات لا غنى عنها نستخدمها – تماماً – كما استخدمها أجدادنا منذ زمنٍ ظنناهُ لن يعود.
إثرَ زيارتي الأخيرة لسوق المناخلية في دمشق القديمة، تفاجأت بكثرة الورش التي تعمل في هذه المهن التراثية في ظل ضائقة اقتصادية ومعيشية يرزح تحتها السوريون بكافة مكوناتهم منذ أكثر من عقد من الزمن.
ورشٌ عدة تقوم بترميم عظام حرفٍ قد طواها الموتُ والنسيان، كالاشتغال بصناعة قناديل الكاز – آنفة الذكر – كبديل للكهرباء و”ببور الكاز كبديل للغاز؛ وجميع السوريين يعرفون جيدًا كيف كانت جداتهم تستخدم ببور الكاز هذا من أجل إشعال نارٍ خفيفة لغسيل الملابس الصغيرة أو طهي وجبة متواضعة في أيامٍ قد خلت.
ومن المهن التي بعثت بعد موتها أيضًا، تلميع الصحون والطناجر والأباريق وأدوات المطبخ، وكل ما لا يخطر في بال مواطن يعيش في هذا الكوكب وفي هذا الكون!
كان جواب – صاحب ورشة صناعة بوابير الكاز “أبو لمى” ثابتًا وصريحًا عندما سألته عن أسباب عودة هذه المهن إلى حياتنا السورية؟: “عم نلبي حاجات الناس”، وكان يقصد حاجتها للغاز الطبيعي الذي أصبح توفره في البيوت من النادر حدوثه.
وأضاف أبو لمى: منذ أربع سنوات عدت للعمل في هذه الورشة التي ورثتها عن أبي وجدي.. بعد ما يشبه بالمطالبة الشعبية لإيجاد بديل عن الغاز، فعدنا بهم مئة عام إلى الوراء “بين ما الله يفرجها” قال ذلك ساخرًا وهو يعلم تمامًا أنه ليس هو من عاد بالسوريين مئة عام إلى الوراء!!
بينما حدثني أبو عمر “المبيّض” والذي يعيد للأباريق والطناجر والأدوات المعدنية شيئًا من فاعليتها بعد تلميعها: “لم يعد بمقدور المواطن السوري شراء الجديد من هذه الأشياء.. فلجأ إلى إعادة ترميم القديم منها لستر ماء وجهه” مشيراً إلى الحبل الذي علق عليه الدلاء والأباريق: “إن ثمن قطعة واحدة جديدة مما ترى سيكلف الموظف السوري نصف راتبه”.
أما عن الرجل السبعيني الملقب “بأبي ياسين” وعمله في بيع قناديل الكاز فضحك من سؤالي عن السبب وأجاب كسابقيْه ساخراً “ليش عندكن عم تجي الكهربا” وبعد أخذٍ ورد أوصلني إلى نتيجةٍ مفادها: حتى بطاريات الشحن الخاصة “بالليدات” أصبح سعرها يفوق خيال ذوي الدخل المحدود.. فإن حالفهم الحظ وحصلوا عليها سيعاندهم الحظ ذاته لأن دقائق الكهرباء التي تمن علينا الحكومة بها، لن تكفي لشحن تلك البطاريات.
ثم اكتفى بالقول: “نحن نكتفي بهامش ربح بسيط.. ونقوم بتيسير أمور الناس .. وهنا تكمن المصلحة المشتركة بيننا وبين الزبون.. لقد اكتفينا بهامش الربح كما جعلونا نكتفي بأن نكون على هامش الحياة”. وعندما سألته عن العبوات الزرقاء المنضدة على الطاولة، أجاب: “هذا كحول يضعه الزبون في القنديل عوضاً عن الكاز.. فالكاز أيضاً مفقود فاستعضنا عنه بكحول رخيص غير مخصص للاستخدامات الشخصية”.
هكذا عادت المهن “الشعبية” إلى التكاثر بعد أن وجد السوري نفسه هو الوحيد الذي يقل مُغيّباً مرةً ومفقوداً أو مشرداً لا مكان يؤويه بعد أن نالت الحرب حتى الأمتار الأخيرة التي كان يجب أن يدفن بها.
أجل هو الأمر كما قال أبو ياسين، مصلحة متبادلة بين الصانع والزبون، إلا أنها – وعلى خلاف كل المصالح – مصلحة حميمة ونبيلة كتلك التي تنشأ بين الجار وجاره والأخ وأخيه إذا ما تمادت الأيام في الخذلان، كي يدرؤوا ما يمكن من مشاهد العوز التي تملأ الأحياء والأرصفة والبيوت، العوز الذي لن تبذل أي جهد لتلمسه بعينيك في كل وجهٍ من أجسادنا المستباحة.
لكن الخطير في الأمر أنه حتى هذه البدائل ثمة من لا تسمح له الظروف المعيشية بشرائها، والأخطر من ذلك كله أن نعتاد تلك البدائل.. عوضاً عن المطالبة بأبسط حقوقنا بعيشٍ كريم.. في بلد لو قُدرَ لثرواته أن توزع بشكلٍ عادل.. لما بقي فقيرٌ على الأرض السورية.
أما الآن فأتابع رحلتي (إلى الوراء) الوراء الذي أرادوه لنا عندما خرجنا مطالبين بحقوقنا السياسية والاجتماعية فجاء الرد بأن صرنا نطالب بحقنا في الحياة.
ظروف الحرب وتبعاتها، العمليات العسكرية التي أدت لإحراق واقتطاع وتجريف مساحاتٍ كبيرة من الأشجار في مختلف أنحاء البلاد، عمليات التحطيب الجائر، ازدياد أعداد المفاحم التي تعتمد على الأشجار، واندلاع الحرائق الكثيرة التي التهمت مساحاتٍ واسعة من الغابات والأحراج، كل ذلك أدى إلى تراجع حجم الغطاء النباتي، الذي مازال يتآكل يوماً بعد يوم، وبات يُنذر بأخطار بيئية كارثية على المدى القريب، قد تترك آثارها السلبية على الأجيال القادمة، مع ازدياد حجم التلوّث البيئي وتغير طبيعة المناخ وخسارة التنوع الحيوي وانتشار الأمراض التي يمكن أن يخلّفها غياب المساحات الخضراء، التي سيحتاج تعويضها إلى سنواتٍ طويلة.
في ظل تفاقم أزمتي الوقود والكهرباء اللتين تشهدهما البلاد منذ سنوات الحرب وحتى اليوم، لجأ كثير من الناس لاستخدام الحطب في التدفئة وطهو الطعام، فاضطروا لاقتطاع الأشجار وشراء الحطب من الأسواق التي انتعشت خلال السنوات الماضية، بعد تحول عمليات التحطيب الجائر إلى تجارة رائجة، ولجوء الكثيرين ممن جعلتهم ظروف الحرب فقراء وعاطلين عن العمل لمهنة بيع الحطب، كونها سهلة ومتاحة وتحقق أرباحاً جيدة. ولم يقتصر استخدام الحطب على البيوت فقط، وإنما انتشر استخدامه بشكلٍ كبير في كثير من المطاعم والأفران ومحلات الفطائر كبديل عن مادتي الغاز والمازوت اللتين بات من الصعب توفيرهما.
ولم تقتصر عمليات التحطيب الجائر، التي انتشرت في أغلب المحافظات السورية، على الأحراج والغابات ومختلف أنواع الأشجار البرية، بل طالت الكثير من أشجار الحدائق العامة والشوارع. ففي دمشق مثلاً، وبحسب وكالة الأنباء الرسمية سانا، نظمت مديرية الحدائق نحو 100 ضبط مخالفة لقطع أشجار مختلفة الأحجام خلال شتاء العام الماضي، هذا بالإضافة لضبط مستودعات أخشاب مُخالفة وغير نظامية، فيما تحدَّث مدير الحدائق في محافظة دمشق سومر فرفور عن ضبط أكثر من 25 حالة قطع للأشجار ضمن المسطحات الخضراء، وعن تعرض نحو 40 شجرة صنوبر، عمرها أكثر من 20 سنة، للتحطيب في منطقة عقدة القابون، وعن توقيف 15 شخصاً كانوا يقومون بقطع الأشجار والأغصان في الشوارع والأماكن العامة.
الغوطة التي كانت رئة العاصمة وسلة غذائها، وكغيرها من معظم مناطق ريف دمشق، تراجعت مساحات غطائها النباتي خلال سنوات الحرب وما بعدها، لتتحول إلى منطقةٍ شبه جرداء، فإلى جانب ما خسرته خلال العمليات العسكرية، التهمت عمليات التحطيب ما نجا من أشجارها، لتطال معظم بساتينها التي كانت تمدُّ أسواق دمشق بالفاكهة، وهو ما أدى لفقدان كثيرٍ من أنواع الأشجار التي كانت الغوطة تتميز بها، كالجوز البلدي والمشمش. وبعد أن كانت من أخصب الأراضي السورية، ساهم غياب الغطاء النباتي بتراجع خصوبة تربتها التي كانت تستمد المواد العضوية من مخلفات الأشجار، كبقايا الثمار والأوراق وغيرها، كما ساهم أيضاً في تغيير مناخ المنطقة، إذ كانت أشجارها تساهم في الحفاظ على الرطوبة الجوية وتنقية الهواء.
وفي محافظة السويداء لم تعد عمليات التحطيب، المستمرة منذ سنوات، تقتصر على العمل الفردي بل أصبح هناك مجموعات وعصابات مسلحة تعمل ليل نهار، مستعينةً بالمناشير الآلية، لتلتهم مساحات واسعة من الأحراج التي تضم أشجاراً معمِّرة، كأشجار السنديان، يصل عمر معظمها إلى مئات السنين، وخاصة في منطقة ظهر الجبل، التي لطالما كانت، بما تمتلكه من مناظر طبيعية ساحرة وهواء نقي، متنفساً لسكان المدينة ومقصداً للتنزه والاستجمام. وفي كثير من الحالات طالت عمليات التحطيب بعض البساتين والكروم لتفني أشجارها المثمرة التي يعتاش أصحابها من محاصيل ثمارها. ولم تعد عمليات التحطيب في المحافظة تقتصر على فصل الشتاء، بل باتت تنشط حتى خلال فصل الصيف، حيث تقوم بعض عصابات التحطيب بتخزين ما تقطعه من أشجارٍ في المستودعات، لتباع كأخشاب لبعض الورش الصناعية، أو كحطب خلال فصل الشتاء.
وطوال السنوات الماضية لم تتوقف الاعتداءات المتواصلة على الغابات السورية، سواء من قبل تجار الحطب، الذين يبيعونه لبعض المحافظات، أو من قبل بعض الفقراء الذين وجدوا في مهنة التحطيب مصدر رزقٍ أفضل من المهن الأخرى، التي تراجع حجم مردودها المادي بشكل كبير، وخاصة مهنة الزراعة التي تأثرت بارتفاع أسعار الأسمدة وأجور النقل وصعوبة توفير المياه والوقود. هذا بالإضافة للجوء كثير من أبناء المناطق الجبلية الباردة لتحطيب الأشجار المحيطة بهم، بما فيها أشجارهم، خلال فصل الشتاء لينعموا ببعض الدفء في ظل شح كميات المازوت المدعوم وارتفاع أسعاره في السوق السوداء، ووصول سعر طن الحطب لنحو ثلاثة ملايين ليرة.
نشاط عمل المفاحم
خلال سنوات الحرب وما بعدها ازدادت أعداد المفاحم في الساحل السوري بشكل كبير، وارتفعت وتيرة نشاطها على نحوٍ غير مسبوق، بعد أن تحولت إلى مصدر رزقٍ للعديد من المُعدمين والعاطلين عن العمل، وإلى تجارة رابحة لكثير من المتنفذين، خاصةً بعد تراجع استيراد مختلف أنواع الفحم، واعتماد معظم المطاعم والمقاهي وأسواق بيع فحم الأراكيل والشواء على الإنتاج المحلي.
وقد ساهم نشاط عمل المفاحم، التي تعتمد على تحويل الأشجار إلى فحم، في اقتطاع الكثير من أشجار الغابات والأحراج، وفي نشوب كثير من الحرائق، التي قد تندلع نتيجة تطاير شرر بعض الأخشاب والعيدان والقشور المشتعلة، لتلتهم مساحات واسعة من الأشجار، خاصة أن مواقع المفاحم تتواجد عادةً ضمن الغابات والأحراش وفي أماكن بعيدة يصعب الوصول إليها، وهو ما يشكل الكثير من المخاطر البيئية في ظل انعدام أبسط الشروط الفنية ومقومات الأمان والسلامة.
ويرى كثيرون أن بعض أصحاب المفاحم قد يكون لهم دور مباشر في افتعال الحرائق، لكي يقوموا باستثمار المساحات التي تعرضت للحرائق وتحويل أشجارها المحروقة إلى فحم، فيما قد يلجؤون لافتعالها، في بعض الأحيان، لكي يغطوا على عمليات قطع الأشجار التي تستخدمها المفاحم.
وإلى جانب التهامها لمساحاتٍ واسعة من الأشجار تَتسبَّب المفاحم في العديد من الأضرار البيئية، كونها تنتج كميات كبيرة من غاز أول وثاني أوكسيد الكربون وغيرها من الغازات والأبخرة التي تؤثِّر على الغطاء النباتي وحياة بعض الحيوانات، كما أنها تنتج كميات كبيرة من مركبات الهيدروكربونات، التي تساهم بشكل مباشر بالإصابة بأمراض السرطان.
سوريا تفقد أكثر من ثلث غاباتها
تشير بعض التقارير إلى فقدان سوريا نحو ثلث غاباتها خلال سنوات الحرب وما بعدها، وذلك نتيجة الحرائق الكثيرة، التي باتت تتكرر كل عام، ونشاط عمل المفاحم وعمليات التحطيب الجائر التي ساهمت أيضاً في اندلاع كثير من الحرائق، نتيجة تساقط بقايا الأغصان والأوراق اليابسة بين الأشجار الخضراء لتكون بمثابة وقود أولي لأي شرارة قد تتحول إلى حريقٍ كبير.
وتشير إحصاءات وزارة الزراعة إلى أن أعداد الحرائق، التي اندلعت في سوريا بين عامي 2011 و2018، قد تجاوزت الـ 3400 حريق، وأن المساحات التي تم إخماد الحرائق فيها قد تجاوزت 220 ألف دونم. وبحسب بعض المصادر المحلية فقد تم تسجيل نحو 400 حريق في عام 2014، التهمت نحو 1925 هكتاراً من الغابات والأحراج، وتسجيل ما يزيد عن 500 حريق في عام 2015، التهمت نحو 2867 هكتاراً، فيما سُجل نحو 819 حريقاً في عام 2016، التهمت نحو 2000 هكتار.
وقد شهد العام 2020 سلسلة حرائق كبيرة ، لم تعرف البلاد لها مثيلاً من قبل، من حيث الضخامة والكثافة وحجم الأضرار، التهمت مئات الدونمات والهكتارات، وتوزعت بين محافظات اللاذقية وأريافها، وطرطوس وريفي حمص وحماه، هذا بالإضافة لأرياف جبلة وصافيتا ومنطقة حميميم وأحراش القرداحة ومحيط جبل الأربعين وغيرها، وقد اقتربت النيران في بعض المناطق من منازل المدنيين، ووصلت إلى مستودعات التبغ وأدت لانهيار جزء من المباني، كما أدت إلى مقتل عددٍ من الأشخاص وإصابة العشرات بجروح وحالات اختناق. وقد تدخل الطيران الروسي حينها لإخماد الحرائق التي استمرت لعدة أيام، وتصدر هاشتاغ “سوريا تحترق” مواقع التواصل الاجتماعي.
أضرار بيئية كارثية
يلعب الغطاء النباتي دوراً بيئياً وحيوياً هاماً، إذ يقوم بتنقية الهواء، وتخزين الكربون والحفاظ على الرطوبة، لذا يؤدي فقدانه إلى حدوث تغيرات مناخية كبيرة وإلى تراجع كميات الأمطار وارتفاع درجات الحرارة وانعدام إمكانية امتصاص غازات الاحتباس الحراري، كما يؤدي فقدانه أيضاً إلى إبقاء التربة معرضة لأشعة الشمس بشكل دائم، وهو ما يفقدها رطوبتها وخصوبتها، ويؤثر على حياة بعض النباتات الصغيرة والأشنات والطحالب التي تعيش في ظلال الأشجار. وإلى جانب ذلك، تلعب جذور الأشجار دوراً هاما في تماسك التربة وحمايتها من الانجراف، وخاصة في المناطق الجبلية، وتساهم في نشر الرطوبة تحت الأرض، وبالتالي في إحياء الكثير من الأعشاب والنباتات البرية المفيدة للطبيعة، لذا غالباً ما تصاب المناطق غير المُشجَّرة بالجفاف وانجراف التربة.
من جهة أخرى، أدى تراجع الغطاء النباتي في سوريا إلى إحداث خللٍ في التنوع الحيوي، وإلى تراجع أعداد الحيوانات البرّية، التي تشكل جزءاً من الهوية البرية للغابات السورية، فالحيوانات الكبيرة والمتوسطة الحجم والتي تحتاج للاختباء بين الأشجار الكثيفة والمتقاربة، لم يبقَ لها مكان مناسب للعيش في كثير من الأحراج والغابات التي تآكلت بشكل كبير، فيما حُرم الكثير من الحيوانات الصغيرة من أي مصدر غذائي بعد غياب الأشجار التي كانت تتغذى على ثمارها، وقد ساهم هذا كله في تهجير بعض أنواع الحيوانات التي باتت مهددة بالانقراض، ومنها غزال اليحمور والضبع السوري والذئب العربي والنيص، هذا بالإضافة لاختفاء الكثير من أنواع الطيور من أماكن عدة، كطائر الحسون والحجل وبعض طيور البوم، وهو ما سيشكل خسارة وطنية كبيرة في التنوّع الحيوي الذي لطالما اشتهرت به سوريا لسنوات طويلة.
في فجر الثالث عشر من آب الجاري حدثت هزة أرضية بقوة 4.8 درجة على مقياس ريختر في كل من سوريا ولبنان والأردن. وتركزت الهزة في سوريا بمدينة سلمية التابعة لمحافظة حماة والتي تبعد عنها ثلاثين كيلومتراً إلى الشرق منها. وفي يوم الجمعة السادس عشر من آب أصاب نفس المنطقة زلزال ثاني تباينت التقديرات بشأن قوته من 4.8 إلى 5.2 درجات.
يقول المثل العامي: “إن الناس تجهل ما لا تعرفه!”، ولكن في مشاعر ذاكرة الناس في سوريا ما يزال زلزال السادس من شباط العام الماضي 2023 حاضراً، ما أدى إلى تضاعف خوف الناس لأنهم يعرفون ماذا يعني الزلزال وماهي تبعاته وآثاره المدمرة.
ولحسن الحظ، جاءت النتائج سليمة ودون ضحايا، لكن مع وجود عشرات الإصابات بجروح طفيفة أو بكسور بسيطة نتيجة التدافع أثناء الهرب أو نتيجة لانهيار بعض الجدران المتصدعة من الزلزال الماضي، أو بسبب تداعي البيوت وعدم ترميمها وإصلاحها لأسباب مادية بحتة تعكس حجم التراجع الاقتصادي وضعف القوة المالية وانصراف الناس للإنفاق وبالحد الأدنى على الضروريات المباشرة والآنية.
إن المتابع للمشهد السياسي والاقتصادي والعسكري العام في المنطقة يعتقد أن حدثاً مثل هزة أرضية سيمر خفيفاً وسريعاً وكأنه شأن شخصي ذو نطاق ضيق ولا ينعكس إلا على أهل المنطقة التي ضربتها الهزة، فالموت المحدق من كل حدب وصوب يقتل يومياً عشرات الأشخاص في غزة وفي لبنان وفي سوريا أيضاً. نظن أنه وفي سطوة الموت بالمدافع وبالقنابل وفي زحمة التدمير العنيف وحروب الإبادة الدائرة، أن موتاً طبيعياً ينتج عن تمرد بسيط أو جراء تحرك عنيف للطبيعة لا قيمة له أبداً ولا ينبغي أن نحرك ساكنا حياله.
لكن المشهد كان مختلف تماماً وتحديداً في مدينة سلمية المعروفة بمدينة الفكر والشعر والثقافة نسبة إلى الشاعر والكاتب المسرحي محمد الماغوط والشعراء فايز خضور وعلي الجندي، والمفكرين عاصم وسامي الجندي وحسين الحلاق وسواهم الكثيرون و الكثيرات.
يمكن القول وبكل وضوح وثقة، إن انعكاس الهزة الأرضية على ردود الأفعال وما رافقها من تعليقات وكتابات وحوارات مجتمعية في بقعة صغيرة من الجغرافية السورية كان مرتبطاً بشدة بالواقع العام في المنطقة العربية وخاصة ما تشهده من حروب ومن اضطرابات عسكرية وارتدادات شعبية على واقع زاخر بالعسكرة وبالرصاص جراء وجود احتلالات متعددة، ما يفرض حالة عامة من القلق الشعبي العارم وكأن البلاد على فوهة بركان قاتل، ويخلق جواً من الترقب لحل ما يجب التوصل إليه، أو على الأقل ضرورة وجود رد حاسم أو مانع لما يعوقه من تردد سياسي عالي المستوى وحالة من الغموض الجيوسياسي، وبخاصة في ظل حالة الصمت السائدة ما بين الحكام وشعوبهم في دوامة عارمة من إنكار كل طرف للطرف الآخر.
عبر أحدهم على صفحة الفيس البوك بعد حدوث الهزة قائلاً: “نعيش في موقع جغرافي تحفة، مفتوح على جميع جبهات الحروب والكوارث الطبيعية والعسكرية”. يتداخل الخاص بالعام هنا، لم تعد تعني الجغرافيا سوى الانتماء إلى منطقة مشتعلة، والأسماء ليست بذات قيمة، نعيش على وقع الرصاص، نصحو على معركة وننام وصخب المعارك يرافقنا حتى في نومنا.
اللافت أيضا هو درجة السخرية العالية التي رافقت الحدث، سخرية مرة لكنها لاذعة، كأن تكتب إحداهن: “بعد كل هزات البدن اليومية جاءت الهزة الأرضية ليتلاشى البدن، لكن على من؟ بتنا شعبا ضد كافة أنواع الهز”. وقال أحدهم في شكل مباشر يربط بين الضربات المتوقعة ما بين إيران وإسرائيل هازئاً: “بينما ننتظر الرد من فوق ويقصد السماء يأتينا الرد من تحت ويقصد باطن الأرض” إنها السخرية التي تشي بحجم الخراب الراسخ وبحجم العجز المستقر.
في محيطنا القلق والمشتعل ينتظر الناس النيزك علّه يحمل خلاصاً نهائياً لجميع المشاكل العالقة، يعتقد غالبية اليائسين أن أحلامهم في التغيير والاستقرار وإرساء الأمن والسلام كلها أفعال إعجازية غير قابلة للتحقق، هم متأكدون أنه لا خلاص في ظل مواجهة غير عادلة ومحسومة سلفاً لصالح الأقوى والأكثر شراً وتجاهلاً للحقوق وللعدالة.
لكن للمصائب وجه آخر، وجه تعاضدي رغم قلة الحيلة وسطوة الخراب، كتب أحدهم على صفحته: “سيارتي في تصرف كل من يحتاج التنقل أو الإسعاف.” كما وضع شخص آخر عنواناً لمركز مبني على أسس الحماية من الزلازل والهزات داعياً الناس لكي يقصدوه ويقضوا ليلتهم هناك مع الإشارة إلى توفر الكهرباء وهذا شأن عظيم في ظل أزمة انقطاع تام للكهرباء، أزمة خانقة وطويلة تعوق الحياة برمتها، فكيف إذا ما زادت الهزات الأرضية واقع الحياة سوءاً وخوفاً. وهنا تجدر الإشارة إلى ما كتبته سيدة تحتفي بالهزة بسخرية فائقة قائلة: “الحمدلله على نعمة الهزات! بفضل الهزة حضرت الهانم الكهرباء لمدة ثلاث ساعات متتالية، هزة محرزة وضاوية!”
على صفحته على الفيس بوك كتب أحد الأطباء: “بينما كنا نقطب جرحاً غائراً في كف شاب ونساعد امرأة على الصحو من إغمائها بسبب الخوف، سمعنا صراخ طفل وصل حتى غزة!” يربط الطبيب هنا بين واقعين داخلي وخارجي، خاص ومحدد وعام غير محدد.
بات ما يجمع الشعوب المنكوبة هو صراخ الأطفال وعجز الأطباء والمشافي وإغماء الناس من شدة الصدمة. يبدو الحال واحداً لكنه يتوسع ويتعمم.
خرج أحدهم إلى الشارع وهو يحمل بيده طاولة الزهر التقليدية، لقد اختبر هذا الشعب معنى الوقت الطويل خارج البيت بانتظار الفرج أو النجاة، وبدلاً من قضائه بالخوف والترقب، سيلعب الرجال أشواطاً بطاولة الزهر ساخرين من الزلزال وسواه من الشدّات القهرية المتسلسلة.
أما عن ربط الهزة بالوضع الحربي المتأزم وصراع الوجود المحتدم في الجغرافيا القريبة انتماء والبعيدة جغرافيا، فليس المقصود بتاتاً المقارنة ما بين الحدثين لأن حجمهما وآثارهما وتجلياتهما مختلفة فعلياً، لكن قوة الوجود في خضم هذه الأحداث الجسام في ذات البقعة من الأرض حتى لو بلغت المسافات مئات الكيلومترات هي الرابط الأقوى والأكثر تجذراً، وهي خيط الربط الفعلي لأن ثمة شراكة حقيقية مبنية بين كل من يموت وبين كل من يقتل أيضاً، بين الضحايا جميعهم وبين مصائرهم المجهولة والمتروكة للعبث.
في لوحة دراماتيكية ساخرة لشخص يخرج إلى سطح بيته ليجد أن خزانات المياه التي سدد ثمن مائها مئات آلاف الليرات قد سالت على السطح بعد انفجار السطح السفلي للخزانات نتيجة الاهتزاز القوي وضغط الهزة. تأمل ملياً في الماء المسفوح كالدم المجاني، وقال ساخراً، ممتلئاً بالقهر: “غداً سأقضي نهاري هنا وأنا أشرب المتة على وقع تدفق المياه المشتراة بمئات آلاف الليرات أيضاً.” صمت وتحسس السطح المعدني لأسفل الخزانات، كاد أن يختنق لأن الخراب بدا أكبر مما كان يتوقعه وقال: “سأوجل شرب المتة على السطح لما بعد الغد، بعد أن أشتري خزانات جديدة.”
هكذا نحن، مجرد خزانات مهترئة تطرد كل عوامل الحياة من جوفها نحو احتضار طويل ونازف.