“كان عمري اثني عشر عاماً حين اختطف والدي بداية الحرب في حمص، كان يعمل سائق تكسي، خرج من المنزل يومها ولم يعد، لم أكن سوى مجرد فتاةٍ في الصف السادس الابتدائي لعائلة فقيرةٍ مكافحة ودوني أختين صغيرتين. ظللنا ننتظر عودة والدنا طويلاً، حتى هذه اللحظة ننتظره”. تقول ريم عكاري بغصةٍ وتشرع ببكاء يكاد يبدو أنّه لن يتوقف، تفتح حقيبتها بحثاً عن منديل تجفف به دموعها، وتصمت قليلاً.
ما كانت لتهدأ حتى فتحت هاتفها وتنقلت قليلاً بين الصور فيه لتنهار بكاءً من جديد، استعرضت صوراً لوالدها قائلة: “يا ضيعان هالشبوبية!، أليس حراماً أن يرحل رجل كهذا؟ لا كشهيد ولا كجريح ولا بمصير معروف، فقط مفقود منذ 14 عاماً، لا جثمان له نشيعه ولا قبر له كي نزوه لنبكي هناك، فقط صورٌ كثيرة ظلّت من تلك الأيام التي كان يعود فيها للمنزل ليلاً ورغم إرهاقه يعانقنا ويلهو معنا قليلاً، هل عليّ الآن أن أشرح من هو الأب في حياة الإنسان، في حياة الأسرة، في دورة الكون بأكمله؟”
الفضل لوالدة جبّارة
وفقاً لريم، كان والدها يعيل أسرته بنجاح ويؤمن لها حياةً كريمة على الدوام قبل الحرب، ولكن مع غيابه تأخر كل شيء، ووجدت ربّة المنزل نفسها فجأة تعمل في تنظيف المنازل ومسح أدراج الأبنية والتعزيل. كان عليها أن تفعل كل شيء لئلا تجوع بناتها، ويمتنَ من الفقر والحاجة، لئلا تذلهنّ الحياة وتدلهنّ على درب الانحراف والأخطاء التي لا تحصى.
تقول ريم مؤكدة إنّه لا دور لها بما هي عليه الآن، بل كان كل ذلك بفضل والدةٍ جبّارةٍ كانت رجلاً وامرأة لسنوات عجاف طوال، خلالها كابدت وقاست وتحملت المشقة والمهانة، وبكدّ يمينها وعرق جبينها قاتلت لتحمي تركة زوجها من الأرواح الصغيرة، قاتلت وتمكنت من إيصالهنّ إلى برٍّ من الأمان الذي يعطي دروساً تنبئ عن قوة الإنسان.
صار عمر ريم اليوم 26 عاماً، تخرجت قبل سنوات بمرتبة الامتياز من كليّة الاقتصاد، توظفت سريعاً في أحد البنوك الخاصة، وتدرجت داخله في المناصب حتى صارت اليوم مديرةً لأحد أفرعه في المحافظات في خطة سيرٍ مهنية قد يكون القدر ابتسم فيها للفتاة قليلاً، لكنّ الكفاح كان مفتاحها.
دافعت عن مستقبلهنّ
لم تك والدة ريم تريد الحديث، السيدة الخمسينية التي تبدو عليها ملامح الشقاء ويحفر في وجهها تعب السنين، ترى أنّها لم تفعل معجزةً ولم تقم بعملٍ بطولي، هي قامت بدورها الذي أنجبت من أجله بناتها، هي دافعت عن مستقبلهنّ فقط.
تقول الوالدة: “وظيفة ريم وترقيها المهني غيّر حياتنا بالكامل، أعادني مرّة أخرى سيّدة للمنزل ولكن ليس دون عمل أيضاً، بل بأعمال لطيفة تناسب سني وتعبي، إذ صرت أحضر حلويات منزلية وأسوقها وأبيعها وهكذا، وكذلك ظلّت مايا أختها الأصغر منها وهي الآن في سنتها الرابعة في كلية الطب، أما الصغرى فهي نور، السنة القادمة ستتقدم لامتحانات الثانوية العامة، وهؤلاء الفتيات، لسن بناتي فحسب، لكنّهنّ شريكات دمعاتي وحياتي وكفاحي أيضاً، لم يخذلنني لحظةً أمام كلّ ما بذلت في سنوات من تعب.”
تبرأت من بناتها
قد تبدو قصة ريم، قصة سير حياتها قياساً بما عانته وما وصلت إليه مثالية، بل مغرقة في المثالية، وكمثل قصة ريم هناك مئات وربما آلاف القصص، لكن على الجانب الآخر من الحرب ثمّة قصص موغلةٌ في الظلام والقهر والتفكك المجتمعي الذي خلّفه غياب الأب عن العائلة.
من بين تلك القصص الموحشة قصّة عائلةٍ فقدت الأب في عام 2013 إثر العمليات الحربية المشتعلة بضراوة آنذاك في ريف دمشق، ولحقه ابنه الوحيد قتيلاً بعد عامٍ واحدٍ إثر التحاقه مقاتلاً بإحدى الفصائل المسلحة.
كان لتلك العائلة ثلاث فتيات أخريات، الكبرى في أربيل منذ عام 2016 عاماً تقريباً، الثانية هربت وتزوجت سرّاً وانقطعت أخبارها، أما الصغرى فقد سلكت درباً لا يتماشى مع الأعراف والتقاليد، تلك كلّها تفاصيل روتها الأم التي ظلّت تعيش وحيدةً في منزلها دون أن تتوانى لحظةً في القول إنّها تبرأت من بناتها.
لسنَ بناتي
تقول الوالدة خلال حديثها: “هنّ لسنَ بناتي، كنَ كذلك حتى قبل عشر سنوات أو أقل بقليل من الآن، قبل أن أخسرهنّ واحدةً تلوَ الأخرى، ألم من الممكن أن نعيش فقراء ولكن بشرف!، ألهذه الدرجة موت رجل العائلة أظهر ما بنفوسهنّ من قدرة على سلوك درب الانحراف والتمرد على الأعراف والقيم والمجتمع، والأهم، على قلب أمٍ ربتهنّ كلّ شبرٍ بنذرٍ! والله لم أبخل عليهنّ، وبعد وفاة زوجي وابني صنتهنّ برموش عينيّ وحاولت بطاقتي كلها أن أحافظ عليهنّ وأرفع رأسي بهنّ. لكننا ككل السوريين وصلنا اليوم الذي بكينا فيه من الحاجة والجوع والفقر وما من ربّ أسرةٍ يدق الباب ظهراً قادماً من عمله ليسند هذه الأضلاع المنكسرة.”
وتضيف: “آخر ما عرفته عن فاطمة ابنتي الكبرى أنّها تعيش مع رجلٍ عراقي في أربيل دون عقد زواج، وهناك تعمل في ملهى ليلي، حاولت وحاولت كثيراً التواصل معها ولكنّها لا تريد. اختارت حياةً مقرفةً كفيلةً بخفض رأس أعتى الأمهات، وما حصل معنا جعل عائلة زوجي تتبرأ مني وأنا التي لم أتزوج بعده لأربي البنات، وهـذه العائلة أصلاً لم تلتفت لنا في عزّ حاجتنا، ولكنّ الفضيحة تعم، والجميع يريد أن يحاسب الضعيف.”
وتتابع: “ابنتي الوسطى ميمونة هربت من المنزل وتزوجت سراً من رجل، علمت أنّها في حلب منذ مدّة، وكذلك لم أستطع الوصول إليها. أما الصغرى خولة فأنا بنفسي طردتها من المنزل ودمع الدنيا يعتصر في مقلتي، تلك الفتاة فضحتنا، كلّ يوم توصلها سيارة مختلفة للمنزل، وكل مرة تتلقى اتصالاً من رجل مختلف، وفجأة بدأت تظهر معها أموال وقطع ذهبية، فهمت كل شيء، طردتها وطردت قلبي معها. الشرف في تربيتنا قبل المشاعر، وانظر، كل ذلك لأنّ زوجي ليس هنا، لعن الله هذه الحرب ومن أشعلها ومن كان سبباً في موت كل سوري وفي خسارة بناتي”.
في السجن
خرجت هيفاء من السجن قبل أشهر وهو اسم مستعار لفتاة من دمشق وقد دخلته إثر حكم قضائي يتعلق بتعاطي وتجارة المخدرات والارتباط بأعمال جنسية وأخرى منافية للآداب المجتمعية. لم تكمل هيفاء عامها الخامس والعشرين، وبشعرها الأشقر وطلّتها البهية وأسلوبها الذكي في الحوار لا يمكن إطلاقاً أن تولّد انطباعاً أنّها اليوم سجينة سابقة.
بدأت قصة هيفاء حين قتل والدها في الحرب وصارت تعاني ظلم وتحكم زوجة والدها التي ظلّت تعذبها وتفتعل المشاكل معها إلى أن أجبرتها على ترك المنزل بعمر 19 عاماً، وفي هذا العمر كانت تبدو الفتاة صغيرةً، غضّة، ولا تملك خبرة في الحياة، وكانت طالبةً في السنة الأولى في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ومن مقاعد تلك الكليّة بدأت رحلتها التي قادتها نحو السجن.
درب الجريمة
تروي هيفاء بشيء من الندم مجريات سنينها الفائتة: “في الجامعة تعرّفت على شلّة من الأصدقاء، نمت علاقتنا وتوطدت، كانوا نوعاً ما مرتاحين ومترفين على عكسي تماماً، صرت أشاركهم جلساتهم ولقاءاتهم حتى تلك المسائية. وخلال إحداها جرّبت لأول مرّة سيجارة الحشيش، والسيجارة جاءت بحبة كبتاغون، والحبّة جاءت بمخدرات أخرى”.
وتضيف: “صار يكثر جلوسنا في مقهى شبابي، هناك تعرف علينا صاحب المقهى واستغلنا في ترويج المخدرات مقابل المال، ولاحقاً استغلنا في أشياء كثيرة كالخروج مع رجال وتمضية أوقات، أعجبني الأمر، صرت أجني الكثير من المال وصرت مستقلة وسيّدة نفسي. والأهم أني ورغم كل ما أخطأت به وأعترف به اليوم ولكنّي حافظت على مسافة مع أولئك الرجال، مسافة تسمح باللمس وتمنع جعلي غير عذراء، فأنا تحديداً أعرف قدسية هذه الأمر، أخطأت كثيراً ودخلت في دوامات من المخاطر والقلق ولكني لا زلت عذراء، ولا أدري إن كان ذلك مهماً بعد كل ما فعلت”.
تنوي اليوم هيفاء استكمال دراستها، تقول: “نالني أقذر ما في هذا البلد واكتفيت”، تبحث عن عمل شريف بمردود جيد بعيد عن أيّ شبهة، تعتقد أنّها ستنجح، وتشير ضاحكة: “قد أعمل على تيك توك، البلد كلّها هناك، والجميع يجني أموالاً وحتى المشاهير، دون انتهاك للكرامة أو مخالفة للقانون”.
وتختم حديثها محملةً وزر كل ما مرّت به لرحيل والدها وسندها ولقسوة زوجته عليها، ولولا ذلك لكانت الآن خريجةً جامعية وتعيش حياةً مختلفة بالمطلق.
رجال ونساء
آلافٌ من القصص يمكن الحديث عنها في سوريا، عن عائلات بلد الحرب، لكلّ أسرة حكاية ووجع، لكنّ الأكيد أنّ الحرب كما دفعت بعائلات وأمهات لتقاتل لأجل مستقبل الأولاد، كذلك جعلت من أسر أخرى عرضةً للتفكك والضياع وانهيار قيم منظومة الأخلاق والأعراف.
لم يتناول هذا المقال حال الشباب بعد رحيل آبائهم، لأنّ حالهم في المجتمع السوري محكوم بشروط اجتماعية مختلفة عن النساء والتي تبرر أفعال الرجل فكما يقال في العامية: “يدبّر رأسه”، وإمعاناً في تنظيف صورته يُقال: “لا يعيبه شيء.” والجديد بالذكر أن مقالات مستقبلية يمكن أن تغطي الأبعاد الجندرية لتجارب الصبيان والشباب بعد غياب المعيل.
يُعاني مُعظم السوريين من الحر الشديد في سوريا، وأنا على اتصال دائم مع الأحبة الذين اضطروا أن يحتملوا قطع الكهرباء لمدة خمس ساعات أو أكثر حسب المناطق، بعدها تأتي الكهرباء لمدة ساعة لا تكفي لإنجاز أي شيئ من استحمام أو تشغيل الغسالة أو شحن الموبايل. لكن المُخزي أكثر هو اضطرار المواطن للخضوع للفساد.
الرسالة: تبحلق عيون السوريين في شاشة الموبايل بانتظار الرسالة التي تحدد لهم موعد دور كل منهم في تعبئة السيارة بالبنزين بالسعر الذي حددته الدولة. كانت الرسالة تصل إلى صاحبها كل عشرة أيام، وكمية البنزين لا تكفي سوى لمشوار واحد فقط من اللاذقية إلى كسب أو صلنفة، أو حتى لقضاء حاجيات داخل المدينة. أصبحت رسالة البنزين منذ مدة تصل كل ستة عشرة يوماً وبالكمية الضئيلة ذاتها، و90 بالمئة من السوريين لا يملكون الإمكانية لشراء البنزين غير المدعوم بسبب أسعاره الخيالية. العديد من الأسر تؤجل مشاريعها في الذهاب إلى مصيف أو مشوار لأيام بانتظار الرسالة والكارثة الأكبر أن الميكروباصات التي يعتمد عليها معظم المواطنين السوريين (التي تنقلهم من الريف إلى المدينة وبالعكس) تتلقى كمية البنزين تماماً كمواطن عادي أي أن الميكروباص الذي يستلم حصته من بنزين الدولة يستطيع أن يقوم برحلة واحدة فقط في اليوم وإجرة الراكب 3500 ليرة. لكن أصحاب الميكروباصات لا يستطيعون تأمين حاجة أسرتهم من الخبز بالاعتماد على الحصة الضئيلة من البنزين كل سته عشرة يوماً فيضطرون أن يشتروا البنزين باهظ الثمن (غير المدعوم ويسمونه البنزين الحر) ليقوموا بعدة رحلات بين المدن والقرى. في هذه الحالة على المواطن المُسافر أن يدفع إجرة السفر أكثر من 3500 لتصبح إجرة الراكب (16 ألف ليرة سورية). ولو أرادت أسرة مؤلفة من أربعة أشخاص فقط السفر بالميكروباص عليها أن تدفع مبلغ (64 ألف) ذهاباً و(64 ألف) للعودة. وهذا المبلغ يعجز عنه معظم السوريين.
ليست مسؤولية أصحاب الميكروباصات أن يضطروا للجوء إلى شراء البنزين الحر (باهظ الثمن)، وهم مجبرون أن يرفعوا تسعيرة إجرة الراكب الذي هو بطريقة ما شريكهم في نوع من الفساد، فساد مفروض على المواطنين وعلى أصحاب الميكروباصات. ونتج عن هذا الوضع أن الكثير من الموظفين الذين يسكنون قرى قريبة من المدينة ألا يلتحقوا بعملهم يومياً لأنهم عاجزون عن دفع الإجرة. وتم التواطؤ بين الموظفين بتقسيم الدوام في العمل بطريقة منطقية أي يداوم الموظف ثلاثة أيام، ويعمل نيابة عن زميله الغائب والذي يسكن مناطق بعيدة، بعدها يأتي دور الموظف الغائب ليغطي العمل ثلاثة أيام عن زميله. الحال نفسه بالنسبة لطلاب المدارس وللمدرسين معظمهم يضطرون للتغيب عن الدوام بسبب عدم قدرتهم على دفع إجرة المواصلات.
أما الغلاء الفاحش لكل المواد حيث سعر كيلو اللحم (200 ألف لحم العجل و250 ألف لحم الغنم) أي ما يعادل راتب الموظف. غلاء الدواء وانقطاع العديد من الأدوية خاصة الأدوية لمعالجة السرطان وأدوية الطب النفسي (وإن توافرت فهي للأسف سيئة بإعتراف الأطباء النفسانيين)، وأصبحت مُعاينة الطبيب خمسين ألف ليرة سورية. أصبح العديد من المواطنين يلجؤون إلى الصيدلاني أو الصيدلانية ليصفوا لهم الدواء لمرضهم موفرين على أنفسهم معاينة الطبيب. ويجب أن نذكر أن الكثير من الأطباء هاجروا من سوريا إلى دول أوروبية أو دول الخليج لأن الضرائب التي تفرضها عليهم الدولة باهظة بشكل لامعقول ولأن ظروف العمل أصبحت صعبة في ظل انقطاع الكهرباء وفقر المرضى والظروف العامة بالغة الصعوبة. أخبرتني إحدى الصديقات وهي مهندسة أنها تحتاج كل شهر إلى 200 ألف ليرة سورية ثمن دوائها لكنها كما قالت مشتركة في التأمين الصحي لنقابة المهندسين، وعليها أن تدفع مليون ليرة سورية قيمة التأمين كل سنة. وراتبها التقاعدي بعد ربع قرن من العمل يساوي (160 ألف ليرة سورية) أي أقل من سعر كيلو اللحم.
المؤلم والمُخزي أن آخر الإحصائيات بينت تراجعاً كبيراً في النمو الجسدي والعقلي للأطفال لأن معظم غذائهم سندويش بطاطا، كنتُ أرى حشداً من العائلات في اللاذقية (أحكي ما كنت أراه منذ أربع سنوات قبل سفري إلى باريس) آباء وأمهات وأطفالهم يقفون في طابور أمام محلات الفروج المشوي (أو البروستد) يسيل لعاب الأطفال على قطعة لحم (صدقاً رأيت أطفالاً يسيل لعابهم)، لكن أهلهم لا يملكون سوى شراء سندويشات بطاطا (خبز وبطاطا مقلية). اليوم أصبح سعر الفروج المشوي 300 ألف ليرة سورية، وثمة معلومة طبية مهمة جداً أن اللحوم تحتوي على ثمانية أنواع من البروتينات لا توجد إلا في اللحوم الحمراء وهذه البروتينات ضرورية وأساسية لنمو الأطفال. أكثر من 87 بالمئة من أطفال سوريا محرومون من اللحوم والأسماك والخضار والفاكهة. هذا يؤثر على نمو العضلات والعظام والدماغ إضافة إلى أصعب ألم وهو الحرمان. السوري الذي يتلقى معونات وحوالات خارجية يتمكن من العيش الكريم، يستطيع أن يأكل ويطعم أولاده اللحم والسمك ويشتري لهم دمى ولباساً لا تفوح منه رائحة البالة.
في الطب النفسي وفي كتب علم الاجتماع هناك حالة اكتئاب عام يصيب المجتمع، حيث يستسلم المواطن للقهر والحرمان واليأس وقد أنهكته ظروف قاسية لا تُحتمل، وهو يرى أن الأوضاع تزداد سوءاً، والعبارة الموحدة بين الناس المكتئبين (ما باليد حيلة أو مناجاة رب العالمين). يُمكن تشبيه حالة الشعب السوري وظروف معيشته بما يُسمى في الطب الموت السريري أي أن كل أعضاء الجسم تمرض وتتوقف عن العمل خاصة الدماغ، وحده القلب يستمر في الخفقان كرقاص الساعة.
يستحق الشعب السوري حياة كريمة، يستحق ألا يجد نفسه متورطاً في تحمل ظروف ناجمة عن الفساد العام، بحيث يبدو وكأنه شريك في الفساد بتغيبه عن عمله لأيام بسبب غلاء المواصلات، خاصة وهو يرى أثرياء الحرب وفحش ثرائهم وهم يتباهون بسياراتهم الفارهة وحفلاتهم الباذخة وينشرون الصور على مواقع التواصل الإجتماعي.
الحياة ليست تراكم أيام، ليست كأوراق شجر يابسة متساقطة، السوري يستحق حياة كريمة وحرية انتقاد عيش ذليل دون أن تهبط عليه تهمة جريمة إلكترونية.
شق العود السوري طريقه نحو لائحة التراث الثقافي غير المادي الذي أدرجته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو” عام 2022، وذلك لعذوبة صوته وصناعته اليدوية المتقنة الممتدة لعقود طويلة، ليلتحق بصناعة نفخ الزجاج كعنصر تراثي جديد. إلا أن تحديات صعبة تواجه حالياً صناع العود، بدءاً من تكاليفه وصولاً إلى تراجع حركة السياحة التي انعكست سلباً على ازدهار هذه الصناعة، بعد أن كانت تعتمد بجزء يسير منها على السياح ما قبل اندلاع الحرب السورية. التحديات والعراقيل بمساحة لا تتجاوز المترين تتسع لشخصين فقط، اضطر صانع العود أنطون طويل الانتقال مرغماً إلى محله الضيق بعد أن كان يشغل مساحة كبيرة في سوق التكية السليمانية، الذي احتضن أكثر من 60 حرفياً من حرفيي العود والزجاج المنفوخ والسيف الدمشقي والخط والحلي والأزياء الفلكورية لمدة 52 عاماً بمساحة تصل إلى 11 ألف متر مربع منذ عام 1972. حالة أنطون طويل ناجمة عن صدور قرار إزالة التكية عام 2022 التي كانت محلاتها بصيغة عقود إيجار لتتحول فيما بعد إلى عقود استثمار سياحية. يقول طويل عن تجربته: “ورثتُ صناعة العود عن أبي منذ قرابة ثلاثين عاماً حين كان موجوداً في التكية السليمانية التي كانت مجمعاً لحرفيي المهن اليدوية وملتقى لأقدم الملحنين السوريين.”
تسببت إزالة التكية السليمانية وترحيل الحرفيين منها بعد أن كانوا يشغلونها لأكثر من خمسين عاما، بأضرار معنوية كبيرة، لاسيما كونها تُعد نقطة استقطاب جذابة للسياح العرب والأجانب ولعموم السوريين الذين كانوا يقصدونها من مختلف المحافظات السورية. يضيف أنطون طويل: “أصبت بالإحباط والاكتئاب لمدة أربعة شهور، الانتقال من مكان كان يغص بالحرفيين ويعد معلماً سياحياً ضخماً في البلاد كنت قد اعتدت عليه لسنوات طويلة إلى مكان ضيق ليس بالأمر السهل على الإطلاق، شعرت بالخذلان، كان محلي يضم قرابة 300 عود، بينما هنا بالكاد يتسع لعشرة أعواد”.
بخسارة التكية السليمانية، خسر الحرفيون معها بوصلتهم السياحية الأولى ومصدر رزقهم الحيوي وشريانها النابض، إذ أحدثت عملية الانتقال الإجباري ضرراً مادياَ جسيماً، ليتحول من مكان له مريدون وعشاق لا يهدأ من الزحام ويشهد غلياناً واندفاعاً إلى الشراء، إلى مكان يعاني من أزمة شراء وضعف في منسوب الإنتاج. يشرح صانع العود الوضع أكثر: “تراجعت كثيراً وتيرة الإنتاج، وبالتالي حركة الشراء، هناك حيث الأعواد والمعدات تتسع في المحل، بينما هنا اضطررت إلى إيداعها عند أصدقائي في ورشات عملهم، ويصعب عليّ تشغيلها لغلاء الوقود بسبب استخدام المولدات في ظل انقطاع الكهرباء الدائم.” ويضيف: “كنا معروفين من قبل الأوربيين، حيث كنا نصدر لهم عشرات الأعواد شهرياً، لكن الأمر تغير بعد إزالة التكية، تم القضاء على الذاكرة التراثية”. إلى جانب ذلك، يجد صانع العود أنطون نفسه أمام عائق جديد وهو أجور النقل عبر شركات الشحن الدولية في حال فكر بالتسويق عبر الإنترنت، ما انعكس سلباً على حركة البيع للخليج وأوروبا. ويوضح صعوبة هذا العائق: يكلف شحن ظرف صغير إلى ألمانيا حوالي 150 ألف ليرة سورية، ما بالك بالعود الذي يأخذ وزناً وحجماً، أحاول التركيز على الزبائن الذين يأتون إلى هنا في زيارة خاطفة، المشكلة الحقيقية تكمن في أجور الشحن”. تعد ارتفاع أسعار المواد الأولية الداخلة في صناعة العود السوري سبباً مباشراً في تضاعف ثمنه الذي وصل قرابة 700 ألف حسب مواصفاته، بينما كان يتراوح سعره قبل عام 2011 حوالي 5 آلاف ليرة سورية فقط. هذا الغلاء انعكس سلباً على كمية الإنتاج، ويشرح صانع العود أنطون طويل أكثر مصدر ارتفاع الأسعار: “غلاء مادة الخشب وهي أساسية في صناعة العود بالرغم من كونها محلية، إلى جانب الأوتار التي تعد من الأكسسوارات نستوردها من الصين التي تكون أيضاً مكلفة”. ويُعتقد أن جذور صناعة العود تعود إلى فترة حكم الأكاديين في العراق. وتمر عملية تصنيع العود السوري بمراحل عديدة تصل إلى 41 مرحلة كي يخرج بهذه الصورة الجمالية المتقنة وشكله الشبيه بفاكهة الكمثرى. وعن هذه المراحل، يشرح طويل: “يتكون العود من صندوق خشبي، يِصنع من أنواع مختلفة من الخشب، أهمها شجر الجوز الذي يتميز بعمره الطويل ويمنح الصوت عذوبة خارقة، فسجل عام 1879 أول عود مصنوع من الجوز في سوريا، بعد شراء كميات كبيرة من الحطاب، نقطع الخشب ونقوم بتجسيمه وفق مقاسات متنوعة تصل إلى 15 قطعة لنجمعها سوية وتصبح على هيئة صندوق خشبي مفرغ، كما تم إدخال خشب الأرز على الوجه السطحي للعود، ليتم شد خمسة أوتار في مشط الآلة الذي كان قديماً يصنع من أحشاء الحيوانات وتحولت إلى مزيج من النحاس والنايلون.”
يستغرق أنطون زمناً يتراوح بين العشرة أيام لغاية الشهرين في صنع العود، وذلك حسب التفاصيل المراد الاشتغال عليها من حفر وتنزيل الصدف وتلبيس الموزاييك وإغراقه بالزينة، ويوضح ذلك: “لكل عود خصوصية، حسب طلب الزبون، هناك من يفضل البدء بالعود التركي الذي يختلف عن العربي فهو أصغر بالحجم وأخف وزناً ويسهل حمله، بينما هناك من يفضل العربي ويتفنن بالزخرفة عليه.” إقبال على آلة العود لدى فئة الشباب لاتزال آلة العود الموسيقية التراثية تلقى إقبالاً لدى فئة الشباب السوري رغم تطور الآلات الموسيقية الغربية ورواجها مؤخراً. تقول ألين (19 عاماً) وهي تحاول أن تفاصل والدتها على سعر العود: “انتظرت انتهاء امتحانات الجامعة للبدء بدورة تعليمية على آلة العود التي أطرب لسماع صوتها، اشتريت الآن عوداً جديداً بالرغم من ثمنه الباهظ، سحرت بصوته عندما سمعته للمرة الأولى أثناء حفلة سهر لوالدي وأصدقائه”. لجأ عبد (30 عاماً) إلى أنطون لإصلاح الأوتار وشدها جيداً بعد أن أخذت بالارتخاء قليلاً، وقال لنا: أواظب على آلة العود التراثية منذ خمس سنوات تقريباً. اكتشفت صوت هذه الآلة مصادفة عند تدشين مطعم بدمشق القديمة وكان شقيق صديقي ضمن العازفين خلال الافتتاح.” ويُتابع حديثه: “العود متنفس جميل لي في ظل الضغوط الاجتماعية التي نعيشها، صوت الآلة جميل وعذب ينتشلك من الحاضر إلى بوابة الماضي وكأنك بزمن فريد الأطرش وعبد الحليم.”
جملةٌ من الأحداث التي قامت بها سلطات النظام السوريّ بخصوص السويداء، مؤخراً، تثير أسئلة وتقود إلى تحليلات عن الرسائل المتضمّنة لتلك السلوكيات عسكريّاً وأمنيّاً.
وفي التفاصيل، حرّكت قوات النظام السوريّ تعزيزات عسكرية نحو محافظة السويداء، جنوب العاصمة دمشق، وكان أكبرها يوم الأحد 28 نيسان / أبريل 2024، حيث وصلت إلى مطار “خلخلة” العسكريّ في ريف السويداء الشماليّ.
ويرى مراقبون أنّ هذه الخطوة؛ تمثل موقفاً سياسياً سيحمل تغييرات ميدانية متتالية في المنطقة، وقد جاءت بعد استمراريّة الحراك المدنيّ في السويداء، والذي سوف يتوّج عامه الأوّل من المظاهرات يوم 17 آب / أغسطس المقبل.
وكأنّ تلك التحركات العسكريّة كانت بمثابة جسّ نبض الشارع، وليأتي فيما بعد؛ سلوك بات مكشوفاً لدخول المناطق المعارضة في سورية، كما رأينا طيلة السنوات العشر الماضية، ألا وهو التلويح بوجود خلايا نائمة من “تنظيم الدولة الإسلاميّة داعش” في السويداء، فجأة تظهر بلا مقدمات، وذلك بحسب ما نشرت وكالة الأنباء السوريّة، سانا التابعة للنظام، حيث زعمت الوكالة أن “خلية من تنظيم (داعش) حاولت تنفيذ عملية إرهابية ضد المدنيين في مدينة السويداء، وأن الجهات المختصة قد قتلت إرهابياً حاول تفجير نفسه بحزام ناسف، وألقت القبض على إرهابي آخر بحوزته حزام ناسف آخر”. وبما أن الإعلام رسميّ هنا، فاحتمالية المصداقية مشكوك فيها نظراً للسيناريوهات المشابهة في معظم المناطق التي شهدت احتجاجات مدنية، دون وجود أيّة وسيلة إعلاميّة أخرى مستقلة تنقل تلك المزاعم من وجهة نظر محايدة.
توجهنا لسؤال بعض الناشطين والناشطات على الأرض في السويداء، وأجمع معظمهم على أن تلك الخطوات التي ينتهجها النظام، لا قيمة لها إذا استمرت سلمية الحراك الشعبيّ، ومن بين هؤلاء الدكتور جمال الشوفي، وهو كاتب وباحث، حيث قال لموقع صالون سوريا: “إنّ هناك عدة مؤشرات حول إرسال التعزيزات العسكريّة في هذه الفترة؛ أوّلها محاولة ترهيب الشارع الشعبيّ في السويداء وخاصة حراكه السلميّ. ما يُعزّز ذلك، هو تناول العديد من الصفحات على الإنترنت، منها تنسب لجهات وشخصيات رسمية، توجيه تهديدات مباشرة للحراك بذاته، ونشر قوائم تصفيات وغيرها. فيما المؤشر الثاني متعلق بالتطورات في الوضع الإقليميّ واحتمال تمدّد العمليات العسكريّة للمنطقة الجنوبيّة، لتخفيف الضغط عن حزب الله في جنوب لبنان. أضف لذلك ملء فراغ محتمل لانسحاب روسيّ من الجنوب السوريّ، وهذا يعزز فكرة مواجهات عسكرية محتملة في المنطقة. كما توجد مؤشرات تأتي من الانتشار شرقاً باتجاه حدود البادية مع الحدود الأردنيّة بما يتعلق بتهريب المخدرات، وهذا لا يمكن البتّ في وضعه، تبعاً لنوع القوات المنتشرة هناك”.
ويضيف د.الشوفي: “يمكن لهذه الاحتمالات؛ سواء بالاغتيالات الفردية أو نشوب معارك جزئية، أن تؤثر على الحراك السلميّ من خلال انجرار الفصائل المحلية له، وانتشار الخوف العام، خاصة إذا تمت هذه التحركات على أيدي العصابات المحلية. هنا من المهم جداً الحذر في التعامل مع هذه السيناريوهات، وإن كان لابد من مجابهة من نوع ما، أن تكون مستقلة عن الحراك السلمي الذي يجب أن يبقى مستمراً ما يتطلب تنظيمه وحمايته. نحن بحاجة لحراك مجتمعي يعمل على تعزيز فكرة الأمان والسلم المجتمعيّ ومنع الاصطدام المحلي وتطويقه إن حصل”.
ويختم د.الشوفي كلامه: “يجب على الحراك أن يُمتّن رصيده وحاضنته المحلية والاجتماعية، وأن يبتعد عن استفزازها في الوقت الحالي، والاستمرار بإصراره على السلميّة والتغيير السياسيّ الوطنيّ والابتعاد عن الدخول في تشابك وتعارض الأجندات السياسية المحلية والإقليميّة والثبات على مطالب مُوَحَّدة وطنياً” بحسب قوله.
فيما ترى المحامية نيرفانا نصر، أن إرسال تلك التعزيزات العسكريّة “ربما يفتح الباب للاستفزاز والمواجهة”. وتؤكد في حديثها لـ”موقع صالون سوريا”: “سينتج عن ذلك مواجهة من نوع ما، وذلك سوف يؤثر على سلميّة الحراك الذي يؤكد على ضرورة التغيير السياسيّ دون عنف، ويعبّر عن مطالبه بشكل راقٍ بعيداً عن الفوضى. ولهذا يحاول الجميع الابتعاد عن العسكرة. ونشهد دوراً كبيراً للمجتمع المدنيّ والنقابات الحرّة كـ”تجمع المحامين الأحرار” وغيرهم في التعبير القانونيّ والحق بالتظاهر. أعتقد أنّ السلطة تحاول تخويف الأهالي بالحشود العسكريّة وإعادة تجارب سابقة كما فعلت ببقية المدن السورية من رمي براميل وتدمير وتهجير” على حد تعبيرها.
من جهة أخرى يؤكد الصحفي مرهف الشاعر أنّ تلك التحركات تحمل نيّات مبطنة تجاه الحراك السلميّ بالدرجة الأولى، والمستمر بشكل يوميّ منذ قرابة التسعة أشهر، خاصة وأن هناك بعض المجموعات المرتبطة أمنيّا أصدرت بياناً أعلنت فيه عزمها “ضبط الوضع الأمنيّ في السويداء من خطف وسلب، وهي ذات المجموعة المُتهمة بأدلة صريحة على ممارسات خطف سابقة ودعمها لمجموعة راجي فلحوط، والذي انتفضت السويداء عليه قبل عامين” بحسب تأكيده.
ويعتقد مرهف أن المشهد حالياً “ضبابيٌّ”، ويجب “الحذر من تكرار التجارب ذات الطابع الدمويّ بحق المدينة لإخماد صوت الانتفاضة، وتلك التجارب قد تقوم بها السلطة بشكل مباشر أو من خلال فتنة داخلية ما، وهو الشغل الشاغل لها على الدوام في السويداء، حيث شهدت المدينة لقاءً لأغلب قياداتها ووجهائها بغض النظر عن اصطفافهم السياسيّ فقد أكّدوا على ضرورة وحدة الصفّ والوقوف في وجه أيّة محاولة للتصعيد أو الضغط العسكريّ”.
ومن وجهة نظر تحليلية على المستوى الإقليمي، يقول مرهف الشاعر لـ “موقع صالون سوريا”: “يبدو أن هذه المؤشرات والحشود رسالة من السلطة بتخليها عن الحليف الإيرانيّ في الجنوب السوريّ بعد الضربات المتكررة التي تلقتها في مواقع عسكريّة من قبل الإسرائيليين، وقد تكون هذه المناورة لإعادة تموضع بحجة حماية الحدود، وأيضاً تكرار سيناريو (داعش) المصطنع في المدينة فيما حذر البعض أن هناك تنازلات من السلطة لصالح إسرائيل والتي لم تصرّح بأيّة مناصرة لـحماس وغزة حفاظاً على الكرسي في دمشق، ما يفتح الاحتمالات على صفقة إقليمية ومساومة قد تكون سُلطة النظام الشريك والمسؤول الأول فيها في منطقة الجنوب السوريّ بدعم وتوجيه روسيّ” بحسب رأيه.
لقد شكّل حراك مدينة السويداء، انتعاشاً سياسياً وتعبيراً واضحاً عن السلمية والرغبة بالتغيير السياسيّ في البلاد، غير أن أساليب العسكرتارية التي تتبعها سلطات النظام في دمشق، أبعد ما تكون عن السلمية، وقد أصبح واضحاً أن ملعبها هو السلاح وابتكار فبركات “الخلايا النائمة” لتبرير سحق المدن التي يحدث فيها أي حراك مدنيّ.
لا بدَّ في مواقف الحزن القصوى، كمجمع عزاءٍ مثلاً، من وقوع حوادث مضحكة، لا يملك المرء فيها إلا أن يستسلم للضحك بعد مكابدة طويلة. للأسف، أو ربما لحسن الحظ، تنفلت الضحكة عاليًا في النهاية ويحدث ما كنا نخافه. الأمر ذاته في الحروب والأزمات الكبرى، خصوصًا في المرحلة التي تلي الحرب، لا بد لمواقف مشابهة من أن تحدث، أو بمعنى أدق، من أن تتوالد. وهل ثمة ما هو أحق من جراحنا الشخصية كي نضحك عليه!
بعد مضي نحو ثلاثة عشر عامًا على الحرب السورية، بكل ما جرّته على شعبها من تشرد وفقر واغتراب، لا تزال تتجلى إلى اليوم، مخلّفات تلك الأزمة بأشكالٍ عدّة. سأختار منها المضحك فقط، تخفيفًا عن الجميع، تاركةً لغيري الحديث عن القهر والأسى. علمًا أن ما سيُذكر مبكي في جوهره، على غرار ما قاله المتنبي: ” لا تحسبنّ رقصي بينكم طربًا، فالطير يرقص مذبوحًا من شدة الألمِ”.
دَعَوات مبتكرة
لا غريب أن المنتَج الأساس في الحروب كلها، مشردون يجوبون الطرقات ويفترشونها. إما ضاقت بهم السبل، أو استسهالًا، لا فرق، إلا أنهم يلجؤون إلى التسول طريقةً يكسبون بها لقمة العيش، ما جعل التمييز بين المحتاج وغيره أمرًا صعبًا. وفي غياب وجود إحصائيات رسمية لأعداد المتسولين في سورية، نعتمد على “حسّنا العالي” في تقدير العدد الآخذ في ازدياد، وفي كشف المتسول المحق من المتسول الكذّاب. ما أثار اهتمامي أكثر من العدد المهول، هو الأسلوب المبتكر للفت الانتباه. بات المتسول على علمٍ بدواخلك وأمنياتك، فهو في النهاية من الشعب، وإلى الشعب يعود. فإذ به يلعب على هذا الجانب، يدغدغ فيك رغباتك الدفينة وأسرارك الخفية التي لا تبوح بها حتى لنفسك.
منذ أيام، اقترب مني أحد أفراد هذه الجماعة، وأصرُّ على تسميتهم جماعة، لأني أكاد أجزم بوجود تنظيم سري لهم، يجتمعون ويتباحثون في شؤون المواطن ونقاط ضعفه والكلمات المفتاحية التي تحرك مشاعره. اقترب وقال: “الله يسفّرك”! نظرت إليه بذهول، كيف تحولت تلك الدعوات من “الله يخليلك أهلك” وما إلى ذلك، إلى “الله يسفّرك”!
مرة أخرى قالت لي إحداهن: “الله يبعتلك نصيبك عَ ألمانيا أو عَ دبي” ما كان مني سوى أن أضحك أمام هذه الابتزازات العاطفية. وللصدفة كان صديقي المغترب معي، وحين جاء دوره في الدعوات، لم تفلح معه دعوة “الله يسفّرك” التي سبق وتحققت. واعترف لها، لسوء حظه، أنه في زيارة. طمعت الأخت بمال المغترب الذي كان، لكنها لم تحصّل في النهاية سوى خمسة آلاف ليرة سورية، متأففة أن ما نالته أقل من نصف دولار!
زواج بيرفع الراس
من تداعيات الحروب أيضا، كثرة الزيجات. ولكن هل كل الزيجات زيجات! اختلفت معايير الزوج المثالي مع تفاقم الأزمة. لدرجة أصبحت فيها المزية الأساسية للزوج، اغترابه. وكلما كانت سنوات اغترابه أكثر، كلما كان أفضل، إذ إنه سيحمل جنسية البلد الحاضن، أي على مبدأ النبيذ المعتق.
الاسم لا يهم، وكذلك العمر والحالة الاجتماعية والمهنة، هذه أمور ثانوية نسأل عنها لاحقًا، لدرجة بتنا نقول: “زوّجنا البنت ع ألمانيا” أو “الشب كتير أكابر، ما عاد نذكر من أي عيلة، بس عَ كندا”.
ليت الأمور توقفت عند هذا الحد. صار معيار تقييم نجاح الأنثى في العلاقات، المسافة التي تقطعها كي تلتقي بالزوج. وكأننا في ماراثون، الفائزة ليست الأسرع، إذ ليس من خط نهاية نصل إليه ونقطع الشريط، بل من تبتعد أكثر. وبذلك، توفَّر للفتيات أسلوب مفاخرة جديد، إذ قالت لي إحداهن: “والله إجاني عريس ع هولندا، حركيلنا حالك، مانك شاطرة”.
ومنذ ذلك الوقت، وأنا أبحث عن الحركات التي فعلتها تلك المحظوظات المسافرات القاطعات مسافات، دون جدوى. انتسبت مؤخرًا إلى نادي رياضي، علّني أزيد من لياقتي وأدخل السباق. لكنّي أخاف أن أتحمس كعادتي، فأستمر في الركض وأصل إلى القطب الجنوبي. لا أعتقد أن ثمة مغتربين هناك!
الألمانية هي اللغة الأم
سألت صديقي عن زميلٍ لنا إن كان يتعلّم الألمانية حقًا! أجابني: “شو الغريب؟ أبو حسن الخضرجي عنا بالحارة عم يتعلم ألماني”. أينما تحركت وكيفما التفتت، في المقهى والشارع والسينما وحتى في أثناء نومك، هناك من يتعلم الألمانية. باتت لغة العصر. قد يبدو الأمر مبهجًا ومدعاة فخر. لغة جديدة تعني ثقافة جديدة. لكن الأمر ليس كذلك أبدًا.
حين كنت في معهد اللغة الألمانية منذ سنتين، اقتصر تعلّم بعضهن اللغة على الأساسيات، بحجة أن “لَمْ الشمل” لا يتطلّب أعلى من المستوى الأدنى! تفاجأت بجرأة بعضهن. اللغة صعبة وليست أمرًا يؤخذ استسهالًا. ستقولون لي: تعلمتِ اللغة إذًا!
وهنا موضوع آخر، أصبح تعلُّم اللغة محط شك، وخصوصا بالنسبة للفتاة. إذ يوحي بوجود عريس محتمَل، أما الدراسة سعيًا خلف فرصةٍ ما، لهو أمر مستبعد! يبدو أنه مستبعد حقًا. دليل أنني في سوريا الآن أكتب ما أكتبه وبلغتي الأم التي أحب.
اقتصاد ملون جديد
مع انهيار العملة السورية، انهار الشعب والبلد. بينما ازدهر المغترب وأبو المغترب وأم المغترب وأخوات المغترب! غدت حياة كل هؤلاء معلّقة إلى سعر الأحمر والأخضر. يأملون أن ترتفع قيمته دون اكتراث لقيمة الليرة، إضافة إلى أن هبوطه لن يسهم في خفض أسعار السلع التي تعرف طريقًا واحدًا فقط، لا تسلك سواه، صعودًا وبسرعة قياسية.
أُضيف إلى طابور البنزين والخبز، وصفد البيض في المؤسسة الاستهلاكية، طابورٌ آخر، هو طابور الحوالات المالية، عدا عن تلك الطوابير الخامسة المخفية في الأزقة وعتمة الطرقات.
ولدت كذلك شيفرة جديدة بين أبناء الشعب، إذ نقول: “بدك تبيع أو تشتري، بندورة ولا خيار؟” في إشارة إلى العملات الصعبة. حتى انقلب الأمر الذي بدأ مزحة، أزمة وجودية. فالخيار والبندورة في الواقع، يحتاجان إلى قرض كي تبتاعهما!
تحويل الأزمات إلى نكات
يقال إنه متى كَثُر الكلام المضحك وقت الكوارث فإنها كارثة أكبر. لكن ما الذي نملكه أمام هذه الكوميديا البشرية سوى أن نضحك! هل تنفع الشكوى! إذًا لا بد من تحويل أزماتنا إلى نكات، والأكثر من ذلك توثيقها. فهي إرثنا المتجدد والمتحوّل بتحولنا. قد تكون هذه المواقف المضحكة المبكية، في جزءٍ منها، من يوميات المواطن السوري عامةً، ويومياتي أنا، ابنة اللاذقية خاصةً، أو لنقل ابنة “الحفرة السعيدة” كما يسميها أحد مثقفي اللاذقية. حتى مثقفونا باتوا يضحَكون ويُضحِكون. “الحفرة السعيدة”! يبدو أننا في حفرة فعلًا، ضحكنا أم بكينا، سيرتد الصدى ويصم آذاننا عن سماع أصوات العالم، ويحجب ضوضاءنا عنه.
يواجه مربو الثروة الحيوانية عموماً، والأغنام على وجه الخصوص تحديات تهدد مصدر رزقهم نتيجة ارتفاع تكاليف التربية مثل الأعلاف والأدوية البيطرية، إلى جانب الجفاف؛ العدو الأخطر على الزراعة والثروة الحيوانية في البلاد.
يقول علي وهو مربي أغنام (عواس) في بلدة أبو الظهور بريف إدلب: “يزداد استهلاك الخروف للأعلاف كلما كبر، وبالتالي تكاليف تربيته الممتدة إلى 4 سنوات حتى يصبح كبشاً (فحل الضأن) أو نعجة”. ويضيف: “نُسّخر الأراضي للرعي في أوقات الحصاد، ومن لا يملك قطعة أرض هنا، يستأجر واحدة حسب الحاجة”.
تشكل الأعلاف عبئاً ثقيلاً على صغار المربين ممن يملكون بين 10 و15 رأساً؛ لذا يستعين بعضهم بالشعير أو بالخبز اليابس. ويصل سعر طن أعلاف النخالة أو خليط من عدة أنواع بين 4 و5 مليون ليرة سورية في الأسواق، بحسب ما يشتريه المربون.
ولا تتوقف مصاعب التربية على توفر الغذاء؛ بل يشكو مربو الأغنام في المنطقة قلة اللقاحات الأولية، وارتفاع ثمن الأدوية البيطرية الأجنبية حسب كل نوع وصعوبة تأمينها.
فصل الربيع
يمد الغطاء الأخضر النباتي في فصل الربيع الخراف بالغذاء، في حين يُقدم لها في الأيام العادية شعير وخبز وتبن في حال عدم توفر الأعلاف؛ بينما يزداد استهلاك العلف في فصل الشتاء لقلة الرعي، كما يتحدث الرعاة في ريف إدلب.
ويتشابه الأمر في ريف دمشق من حيث استثمار هذا الفصل في الرعي، وينوه المربي أحمد (معضمية الشام) إلى أن الرعي في المناطق الزراعية يعد حلاً في فصل الربيع على وجه الخصوص، حيث ينتشر الغطاء الأخضر، ويفضل بعض المربين استئجار أراض لكن بنسبة قليلة، لأن الراعي يرعى الأغنام في مناطق متعددة.
مصاعب متعددة
يربي أحمد أغنام “العواس”، وأخرى مستوردة من العراق. يعاني المربي من زيادة تكاليف التربية سنوياً بسبب ارتفاع أسعار الأعلاف، إلى جانب تصاعد تكاليف الدواء بالتزامن مع انتشار بعض الأمراض في هذه الفترة من العام. يقول المربي: “يحتاج الخروف حتى يزداد وزنه، ويصبح بعمر سنة إلى أكثر من 200 ألف ليرة شهرياً بشكل وسطي”.
وتعد “العواس” من أهم عروق الأغنام في الشرق الأوسط، ويتحمل الظروف البيئية القاسية، ويمكن أن يحقق معدلات إنتاجية جيدة عند تحسن الظروف البيئية من تغذية ورعاية في مناطق التربية التقليدية، بحسب الهيئة العامة للبحوث العلمية الزراعية السورية.
ويعتمد أحمد على أنواع مختلفة من الأعلاف وبدائلها، مثل مادة التبن التي يبلغ سعر الكيلو الواحد منها ألف ليرة سورية، وهناك الشعير وقشور الفول والبازلاء اليابسة، ويصل ثمن الكيلو منها إلى 2500 ليرة، ومن الأنواع الأخرى خلاطات العلف التي قد تحوي نشاء وطحيناً ومادة النخالة بسعر سبعة آلاف للكيلو الواحد.
يقول أحمد: “أجلب هذه الأعلاف من القطاع الخاص، لأن مؤسسة الأعلاف الحكومية في مدينتنا توقفت عن العمل منذ عام 2011”. ومن جهة ثانية، يلجأ الراعي إلى بقايا الطعام والخضار.
يلخص أحمد مصاعب التربية بالحاجة إلى مكان أولاً، حيث تنتشر هذه الأماكن ضمن المناطق السكنية. من جهة أخرى، يصعب الذهاب نحو الأراضي الزراعية البعيدة نتيجة الخوف من السرقة، ومن المشكلات صعوبة توفير الأعلاف وارتفاع أسعارها، وأخيراً تعرض الأغنام إلى أمراض كثيرة، وعدم توفر الدواء اللازم لذلك بشكل دائم، أو توفره بسعر مرتفع.
ثروة في مهب الأزمة
بلغ العدد الكلي للأغنام في عام 2007 نحو 23 مليون رأس، ثم انحدر في 2017 إلى أقل من 14 مليون رأس، ليرتفع مجدداً إلى ما يقارب 17 مليوناً (تقديرات) في عام 2021، بحسب إحصائيات وزارة الزراعة.
وفي آذار الماضي، قدر مدير الإنتاج الحيواني في وزارة الزراعة محمد خير اللحام نسبة انخفاض الثروة الحيوانية بـ 30% من قطيع الأغنام، وفقاً لصحيفة (تشرين) المحلية. ويذكر اللحام أن الإنتاج الحيواني يسهم بنسبة 36٪ من إجمالي الناتج الزراعي الذي يسهم بدوره بنسبة 39٪ من الناتج المحلي الإجمالي.
وتعرّضت سورية إلى موجات جفاف متتالية، وفي 2022، أشارت المهندسة رويدة النهار مدير السلامة البيئية في وزارة الإدارة المحلية والبيئة إلى أن البلاد تعاني من آثار تغير المناخ، حيث تواجه أسوأ موجة جفاف منذ سبعين عاماً نتيجة انحباس الأمطار في معظم المناطق، بحسب صحيفة (البعث) المحلية.
وسمح مجلس الوزراء على مدار السنوات السابقة بتصدير ذكور أغنام العواس والماعز الجبلي ضمن مدد محددة، وذلك وفق الشروط الصحية والفنية المحددة من قبل وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي.