حول الحياة اليومية للسوريين في مدينة حمص

حول الحياة اليومية للسوريين في مدينة حمص

 صباحاً شوارع حمص معتمة وغارقة بالضباب.

ما زال الوقت مبكراً لتزدحم الطرقات بالناس والدخان والروائح التي تحاصر الأوكسجين في المدينة وتطرده فرائحة الحطب ومنذ الصباح تنسل إلى الجو وتغمر الأحياء.

 تحولت المدافئ بشكل جماعي من حرق المازوت إلى حرق الخشب وكل ما يخطر بالبال، الكرتون والأحذية والورق والثياب القديمة، يحرقون كل ما يمكنهم وكل ما يتيح لهم قليلاً من الدفء فهناك الحطب، النايلون والبلاستيك، الشحاطات وأغلفة الكتب والدفاتر وغيرها من البقايا والأشياء التالفة  وقطع الأبواب المحطمة لتصبح الرائحة واخزة ومنفرة بعد احتراق الدهان. في المساء يكون الوضع أسوأ حين يشتد البرد ولن تستطيع التمييز في الشارع بين الروائح المختلطة المقبولة منها والمقززة.

حطب بأنواع كثيرة، ولكل نوع سعره الخاص، الجذور والسيقان والأغصان. هناك من يشتري الحطب بالكيلو الواحد الذي لن يكفي المدفأة سوى ساعة أو اكثر. كما صار عادياً أن ترى باعة الحطب دون أن تسأل من أين؟

وفرت مدافئ الحطب استهلاك الغاز الذي لا تنتهي أزماته  فسيدات البيوت يطبخن عليها والعائلات غالباً ما تقوم بتسخين مياه الحمام عليها لعدم توفر المازوت والكهرباء.

 في الشتاء مع البرد والمطر تبدو الحياة أصعب إذ لا تنفصل معاناة تأمين الدفء عن ظروف المعاناة المستمرة على طول الفصول مع جنون الأسعار اليومي لكل المواد والتي لا تتناسب مع موارد الإنسان الذي ينحت يومياته بأظافره في قلب الصخر.

 تقول إحدى السيدات: ”اختصرنا عدد الوجبات وفي كثير من الأيام نكتفي بالحواضر دون طبخ  بينما اللحوم صارت من الماضي، وكثير من السلع والمواد الغذائية كالفواكه وغيرها“.

يبحث الناس عن وسائل لتأمين وتحسين العيش فلا يمكن الاعتماد على الراتب ولجأ الكثير منهم لاستبدال البيوت ببيعها وشراء أصغر منها أو تغيير المنطقة إلى مناطق الضواحي للاحتفاظ بوفر مالي لفتح مشروع صغير لهذا سترى أن المحلات التجارية تتكاثر ولكنها جميعا تحت ضغط التضخم وتغير الأسعار غير المأمون. بالمقابل ارتفع إيجار البيوت بشكل لا يوصف .

البعض باع وسائل استثمار وفشل بتحسين الوضع إذ باغته ارتفاع الأسعار المفاجئ وحرمه القدرة على تحسين الوضع كما حدث في السيارات.

الاعتماد على المؤونة التي تعد جزءاً من طقوس مجتمعنا للتعامل مع تغيرات الفصول تراجع أمام صعوبة توفيرها في موسمها بسبب الغلاء وعدم توفر ظروف الاحتفاظ بها كانقطاع الكهرباء

يقول أحدهم: ”أعمل 14 ساعة يومياً، وهذا لا يكفي. انقطعت السلات الغذائية والمعونات ولا يمكن أن نتجاوز الشهر بـ 350 ألف ليرة فقط هي أجري الشهري. يساعدنا بذلك أن  الأولاد ما زالوا صغاراً. في حالات المرض نلجأ للدين الذي نحاول جاهدين الابتعاد عنه لعدم إمكانية رده، لكن لا بد منه في المرض حيث يشكل الدواء عبئاً ثقيلاً بعد أن قفزت أسعاره قفزات لا نستوعبها. الكثير من الناس لا يذهبون للطبيب في حالات المرض العادي كالكريب والرشح ويقاومون بالأعشاب فقط وهناك من يحتمل أكثر من هذه الأمراض“.

تشكل المواصلات عبئاً آخر إذ تلتهم الكثير من الراتب الشهري، وأما التعليم الجامعي فأسعار النوتات صار أيضاً يحتاج إلى دخل إضافي.

 تقول احدى السيدات وهي أم لتوأم: “أما القهر فهو كيف ستمنح طفلاً في الابتدائية مصروفه اليومي وسعر البسكويتة الواحدة لا يقل عن 2000 ليرة؟”

يتردد البعض باستلام المازوت حين يتوفر بعد غلاء سعره. في العام الماضي كثير من الأسر لم تستلمه فالحطب يبقى أرخص رغم رائحته وما يسببه من أمراض. في الطريق إلى خارج المدينة كل يوم، وحين نصل  أول جسر نرى الغابة الصغيرة  وقد  نقصت شجرة، الشجرة التي تبتعد عن الطريق العام قليلاً، التي كانت تنمو دوماً خجولة لا تلفت النظر، وكل يوم سندرك أن  الأشجار التي تسند خصر الجسر تنقص فرداً جديداً. إلا أن بقايا الجذوع بقيت قائمة فوق التراب كشواهد قبور ومبعثرة كأنها جنود سقطوا في معركة.

  ستنتبه فوراً لهذا النقص، فالأشياء التي تكمل المشهد لا نثمن وجودها إلا حين نفتقدها إذ تترك نقصاً ما في مشهد ألفته العيون وسيترك غيابه عيباً ندركه بسرعة. ثم ستنسى ذلك حين تختفي الغابة كليا، كأنها لم تكن يوما. وعلى طول الطريق ستجد أن الأشجار نقصت بطريقة مواربة كأن من قطعها ترك بعضها ليخفي ما غاب ولا أعرف ما المعيار في اختياره.

 هذا العام لاحظ الجميع أن الأعياد لم تترافق بزينة كثيرة. شكلت حرب غزة جزءاً مهما في ذلك،  لكن السبب الرئيس هو أن الجزء الأكبر من الناس بدأ بتقليص النفقات  دون تردد. ويطوف في ذاكرتي ذاك اليوم الذي يبدو الآن  بعيداً جداً حين قررنا الحصول على شجرة طبيعية لعيد الميلاد ليفرح الأطفال بها وبتزيينها. كان من الصعب الحصول عليها فالثلج قد تساقط وكان ذلك غير قانونيا، اكتفينا بغصن جميل، أحضرناه فبدا كغابة مزينة في منزلنا. أتذكر تلك اللحظة التي عشناها بسعادة بالغة و رفاهية روحية. لم تعد الأشجار تدخل إلى المنازل كغابة فرح  أو زينة للأيام التي نتوخاها في العيد، بل تدخل ميتة ومحطمة، كهذه الأيام والسنوات، ولتحترق رغم أنها لا زالت تشكل  ثروة لأملٍ بالدفء.

٤

أتذكر الآن  ما قرأته في رواية عداء الطائرة الورقية لخالد الحسيني حين يعود البطل إلى افغانستان ويجد مدينته قاحلة بلا شجرة واحدة مستغرباً ذلك، ليكتشف ان السكان قد اقتلعوا كل الأشجار للتدفئة، احترقت الأشجار ليتدفأ البشر لكنها بقيت مقيمة في ذاكرة الكاتب .

بعد سنوات طويلة من الحرب ومن معاناة البشر لا يعود بالإمكان النظر للشجر المقطوع بشاعرية  فالمهم الإنسان، المهم أن هناك أطفالاً وعوائل تتدفأ فهناك حرفياً عوائل لن تستطيع حتى شراء الحطب.

 ارتفعت أسعار زيت الزيتون بشكل صارخ وصار معتادا أن ترى من يشتري الزيت بما يكفي لطبخة واحدة أو وجبة واحدة، إلى جانب التضخم هناك هبوط الكميات بسبب الحرائق التي نالت الأشجار في مناطق كثيرة. ستشاهد من يشتري مقدار كأس الشاي زيتاً حتى أنه لا يكفي لإتمام الطبخة، الزيت الذي قد يكون عند بعض العائلات وجبة وحيدة مع الملح فيغمس الأولاد الخبز به  لعدم توفر الحواضر للعشاء.

  حين احترقت أشجار قريتنا كان الرماد يغطي الأرض، المعنى الحقيقي  لعبارة عن بكرة أبيها. رغم ذلك نجت  شجرات متفرقة على السفح كانت تبدو وحدها وسط الرماد مثل طفل مذنب، يخونها الانتصاب، وتكاد الريح التي تبعثر رماد أخوتها، تنيخها للأرض.

 قد تحمل النجاة عبء جرم الشهادة، وقد تصبح النجاة ذنباً ممضاً كجرح  لا يشفى إلا بعودة الحياة  للبقية.

أينما التقيت بالناس سترى كيف بات التوتر سمة عامة. تقول ف .ر:” كل شيء نطبق عليه التقنين إلا التوتر والعصبية والغضب الدائم، الصوت العالي صار طبيعياً، ونبرة الاستفزاز والهدوء عملة نادرة تسرب العنف إلى الأطفال نتيجة ما يعانونه ويرونه من الأهل. فالجو الأسري دوماً مشحون وتتعقد الأمور أكثر بغياب الأب الذي يعمل ساعات طويلة. وكذلك  في البيوت التي تسكنها عدة عائلات نتيجة التهجير وريثما يتمكنون من العودة لبيوتهم مما يحرم أي أسرة خصوصيتها وحميميتها وقدرتها على التفاهم “.

سيرى المراقب أن النساء اللواتي يمارسن رياضة المشي يتجهن إلى أطراف الأحياء  لجمع النباتات البرية التي ستكون وجبة شهية بدون ثمن كالخبيزة أو الهندباء، وهناك نساء يحصلن عليها من الحدائق العامة بلا تردد.

تقول م.ر إن راتب زوجها لا يكفي حتماً فتلجأ للعمل في البساتين القريبة كقطاف ورق العنب أو عناقيده أو زهور القبار قبل أن تتفتح . وهو ما انتشر  في القرى بشكل كبير والضواحي: جمع زهور القبار لصالح التجار حيث يباع بالكيلو لتصديره للخارج. أعمال موسمية مجهدة ومتعبة لا بد من ذلك للاستمرار وأي عمل سيكون مساعداً فهناك الكثير من العائلات ليس لديها أحد في الخارج ليرسل حوالات تعينها على الظروف.

لم يعد أحد يفكر بالتوفير فكل ما يحصل عليه هو قوت يومه والسؤال الكبير كيف تدبر الأسرة أمورها في هذه الأيام ستكون الإجابة عليه من الصعوبة بمكان، لأن الوضع يفوق التخيل.  

غزَّة بين البعل ويهوه

غزَّة بين البعل ويهوه

لا يمكن أن تُختزل القضيّة الفلسطينيّة في أيّ تيار أو حزب سياسيّ، سواء أكان علمانيّاً أم دينيّاً، لأنها قضيّة إنسانيّة تُعبِّر عن معاناة شعب يُستأصل من جذوره التاريخيّة؛ ولذلك ينبغي أن نفهم تاريخيّاً، تمثيلاً لا حصراً، أنَّ منظمة التحرير الفلسطينيّة وحركة حماس ليستا إلا تعبيراً عن تجليّات مقاومة الشعب الفلسطينيّ لاحتلال أرضه. وبناءً على هذا الفهم ينبغي الاعتراف بأنَّ لكلِّ فرد من أفراد الشعب الفلسطينيّ موقفاً سياسيّاً دفعه إلى أن ينتمي إلى هذا الحزب أو ذاك، وليس مقبولاً قراءة خلاف الأحزاب الفلسطينيّة مع بعضها بعضاً للتنافس على الزعامة السياسيّة للشعب الفلسطينيّ بوصفه خلافاً تصنيفيّاً، أي يؤدي إلى قبول حزب أو اتجاه من جهة مقاومته للاحتلال الإسرائيليّ وعدم قبول حزب آخر. ذلك أنَّ اعتراف الدول الغربيّة بمنظمة التحرير الفلسطينيّة بصفتها الممثّل الوحيد للشعب الفلسطينيّ هو في حقيقته اعتراف ساذج لا يدل على وعي سياسيّ حقيقيّ بالتكوين السوسيولوجيّ للمجتمع الفلسطينيّ في مسار تطوّره التاريخيّ. إذ كيف يسمح الساسة الغربيون لأنفسهم، مثلاً، بأن يقبلوا الأحزاب اليهوديّة المتطرّفة على تعدّدها وأن ينظروا في الوقت نفسه إلى حركة حماس بصفتها تنظيماً متطرّفاً، علماً أنَّ حركة حماس استقطبت خيرة أبناء الشعب الفلسطينيّ، وهذا يعني أنَّ إيديولوجيا حماس الدينيّة-السياسيّة هي إيديولوجيا مقبولة بالنسبة إلى شريحة مهمة من أبناء الشعب الفلسطينيّ؛ بل يوجد لهذه الشريحة مؤيدون -ويمكن أن يكونوا دولاً أو جماعات أو أفراداً- في أنحاء العالم كافةً.

 إذن، تنظيم حماس يؤلِّف حضوراً جغرافيّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً لا يمكن حذفه من الوجود، ولن تجدي فتيلاً محاولات الساسة الغربيين وصف حركة حماس بأنها حركة إرهابيّة، لأنَّ في داخل أبناء الشعب الفلسطينيّ من أتباع حركة حماس شعوراً حاسماً ونهائيّاً بأنَّهم يحاربون الإسرائيليين، لأنهم قاموا باحتلال أرضهم، وفي رأيهم لم تسهم القوى الغربيّة في هذا الخصوص إلا في تأصيل وتبرير وتسويغ هذا الاحتلال، بل إنَّ هؤلاء الساسة الغربيين أنفسهم يحاكمون حماس على تهمة أو نقيصة وهي أنَّ حماس وفقاً لتصنيفهم تُعَدُّ حركة دينيّة متطرّفة تمارس أعمال عنف ضدّ المستوطنين الإسرائيليين المدنيين، على نحو ينسجم مع فهم زعماء حماس للعقيدة الإسلاميّة فهماً متشدّداً.

لكن لماذا لم يكترث الساسة الغربيون أنفسهم بأنَّ وجود دولة إسرائيل ينهض على مزاعم توراتيّة بأنَّ فلسطين هي الأرض الموعودة أو أرض الميعاد، وهذا ما دفع اليهود إلى الهجرة من مختلف أنحاء العالم إلى الهجرة نحو أرض الميعاد، أرض إسرائيل، فنكتشف مشهداً كوميديّاً إلى أقصى حدّ إذ اجتمع أُناس من أعراق متباعدة لا يوجد أنثربولوجيّاً أي جذر مشترك بينها تحت اسم شعب الله المختار.

قد جاء في سفر التثنية (2:14)ما يجيب عن سؤال: ما الذي يميّز شعب إسرائيل عن بقيّة شعوب العالم؟ “لأَنَّكَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ، وَقَدِ اخْتَارَكَ الرَّبُّ لِكَيْ تَكُونَ لَهُ شَعْبًا خَاصًّا فَوْقَ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الأَرْض.”

الحقيقة أنَّ كلَّ يهوديّ متديِّن موجود الآن على أرض ميعاده يشعر في أعماقه بأنّه قد اختاره الربُّ إلهُهُ ليكون فوق مستوى الناس كافةً من غير اليهود، ولا شك في أنَّ هذه الفكرة المرعبة يوجد فيها من التطرّف ما يقل وجوده في تاريخ النّوع الإنسانيّ. والغريب في الأمر أنَّ الساسة الغربيين في أوروبا وأمريكا يدعمون هذه الفكرة إلى أقصى حدّ، ويكرّسونها في عقل كلّ يهوديّ مقيم على أرض فلسطين، وبذلك تحوّلت الحضارة الغربيّة العلمانيّة في أوروبا وأمريكا إلى نار لقِدْرِ شعب الله المختار الذي يُطبخُ فيه أطفال غزة الأبرياء.

لقد استطاع الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه بعبقريّة فائقة أن يشخّص هذه المفارقة الحضاريّة التي تُحيّر عقل كلّ مَنْ يُفكِّر فيها، ويمكن أن أُجَلِّيها في هذا السؤال: كيف يمكن أن تتحوّل الحضارة الغربيّة التي هي جوهريّاً في فلسفتها وعلمها نقيض إسرائيل التوراتيّة إلى خادمة مطيعة لشعب الله المختار؟

لقد قارن نيتشه بين الرومان واليهود، والرومان في رأيه هم التعبير الأعمق عن الحضارة العربيّة، أما اليهود فهم التعبير الأعمق عن الشعب الكهنوتيّ.

يقول نيتشه: “كان الرومان هم الأقوياء النبلاء. وبلغوا من القوّة مبلغاً لم يصل إليه حتى الآن أحد على وجه الأرض، ولو في الحلم. كلّ أثر من آثار سيطرتهم، وصولاً إلى أدنى كتابة من كتاباتهم، مدعاة للنشوة والافتتان، شرط ان يتمكّن المرء من معرفة أيّة يد كانت وراء هذا الأثر. أما اليهود فبالعكس. لقد كانوا ذلك الشعب الكهنوتيّ الحقود بلا منازع. كانوا شعباً يملك في ميدان الأخلاق الشعبيّة عبقريّة لا مثيل لها… أيُّ الشعبين أحرز النصر مؤقتاً، روما أم ياهودا؟ لا مجال للشك في الجواب. بل حريّ أن يتفكّر المرء في المسألة التالية: أمام مَنْ ينحني الناس في روما نفسها، انحناءهم أمام القِوام الذي تتقوّم به جميع القيم العليا-وليس في روما وحدها، بل في نصف الكرة الأرضيّة، في كلّ مكان أصبح فيه الإنسان مدجّناً أو يكاد. إنهم ينحنون أمام…اليهود”. (نيتشه، أصل الأخلاق وفصلها، ترجمة: حسن قبيسي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1981، ص47).

ينبغي ألا يُفهم كلام نيتشه الذي مات عام 1900  من جهة معاداة الساميّة من أجل تصنيفه ثم رفضه، فنيتشه كان ثورة فكريّة هائلة وفي جميع الاتّجاهات، غير أنَّ اللافت في كلام نيتشه وفقاً لمقاصده هو أنَّ روح الحضارة الرومانيّة الغربيّة التي كان مذهبها الفلسفيّ هو الرواقيّة التي أسّسها زينون الفينيقيّ تتناقض تناقضاً تامّاً مع الروح العبرانيّة؛ لكن أباطرة روما الذين كان منهم الإمبراطور الرواقيّ ماركوس أوريليوس انعطفوا في ما بعد بسبب الإمبراطور قسطنطين إلى حظيرة “الخراف الضالة من بني إسرائيل”!

 وها هو الغرب الآن تحديداً الغرب الأمريكيّ ينعطف عن إنجازاته العظيمة كلّها باتّجاه نوع من التطرّف يدعم إسرائيل في كلّ ما تفعله في غزّة بذريعة تطرّف حركة حماس؛ وهذه التهمة أغمضت عيون الساسة الغربيين عن جنود شعب الله المختار وهم يهدمون بيوت الفلسطينيين فوق رؤوسهم، ويقتلون الأطفال والنساء والشيوخ، ولا يقبلون من فلسطينيي غزَّة أي دفاع عن أنفسهم في وجه الحصار والقتل والهدم والحرق؛ ولذلك لم تعد معايير السياسة الأمريكيّة صالحة لإدارة الأزمات السياسيّة في العالم؛ لأنَّ “السُّعار التكنولوجيّ العسكريّ الرهيب”، على حدّ تعبير الفيلسوف الألماني هيدغر، دفع الساسة الأمريكيين إلى نوع من الجنون السياسيّ الذي يهمِّش الإنسانيّة لصالح ضرب من العِرقيّة الدينيّة، فكيف يمكن أن يقوم البيت الأبيض بتعزيز وجود شعب الله المختار في أرض ميعاده المزعومة، أي كيف يمكن له يدعم فكرة توراتيّة متطرّفة، ويرفض رفضاً قاطعاً أن يُدافع الفلسطينيون عن أنفسهم من مُنطلق دينيّ كما هو الحال مع حركة حماس.

 ولكن وإن كانت فكرة شعب الله المختار مقنعة للساسة الغربيين وفي مقدمتهم الأمريكيين من جهة اعترافهم بحق تاريخي لليهود في فلسطين فماذا سيفعلون إن كان وجود اليهود في فلسطين مجرد وجود كتابي نصي لا تؤيده أي اكتشافات آثارية أو أركيولوجية هنا سينتقلون من دون أي شك لتبرير وجودهم بذرائع إنسانية ويتناسون أن اليهود بنوا وجودهم في فلسطين على كذبة كبرى. يوجد فشل ذريع الآن عند علماء الآثار الإسرائيليين إذ لم يقدروا على إثبات وجود أي دلائل تشير إلى وجود اليهود في فلسطين بما ينسجم مع مقولات التوراة حتى أن مزاعم اليهود التوراتية أصبحت الآن بين العلماء المتخصصين مجرد أساطير.

وقد يبهرنا الفيلسوف الكنعاني أو الفينيقي فرفوريوس المتوفى في بدايات القرن الثالث للميلاد عندما نعرف أنه دعا الناس إلى التوقف عن الانخداع بأساطير اليهود. وفي غزة نفسها بخان يونس منذ أمد قريب أعلن عن اكتشاف تمثال حجري يرجع تاريخه إلى 2500 عام قبل الميلاد يمثل عناة إلهة الحب عند الكنعانيين وكأن التاريخ يريد أن يقول لأبناء غزة وجودكم حقيقي ووجود الإسرائيليين مختلق. وهنا يظهر التطرف الحقيقي للغرب الذي يهمل وقائع التاريخ ويتبع الأساطير.

لم يدمر أبناء غزة تمثال عناة، بل قبلوه بصفته جزءاً من تاريخهم وحافظوا عليه. وقد تكون روح الحضارة الغربية أقرب إلى عناة من يهوه. غير أن ما لم يفكر فيه الغربيون هو أنه رغم ضياع بلاد كنعان وحلول إسرائيل محلها فقد يصرخ تمثال عناة في يوم قادم لنداء البعل ليستعيد أرضه السليبة.

“الميت لا يجر ميتاً”: عن تباين مواقف السوريين والسوريات من حرب غزة

“الميت لا يجر ميتاً”: عن تباين مواقف السوريين والسوريات من حرب غزة

يعرف السوريون\ات الحرب جيداً، اختبروها بكل عنفها، واختبروا كل أشكال القتل والتغييب والتدمير والجوع والنزوح واللجوء والموت داخل سوريا وخارجها. ماتوا على الحدود وفي البحر وفي بلدان الشتات الممتد. يعرف السوريون فلسطين جيداً، يعرفون شعبها ومعنى الحروب الطويلة والإصرار على حق البقاء أحياء على أراضيهم والتمسك بحق العودة.

ولكن معرفة الحرب لاتكفي للجمها. وإن كان لدماء الضحايا وخاصة المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ وعجزة قول بليغ وصريح دونما إفصاح: “يجب وقف هذه الحرب وفوراً.”

يمكن القول إنه ثمة تبدل شبه عام وخاصة في سورية في الموقف من الحروب، لم تعد الغالبية تراها حلاً ولا وسيلة لتثبيت الحقوق أو استعادتها، ومن كان يخاف متردداً في إعلان مسؤولية مشرعي القتل والتدمير عن دم الضحايا، بات يعلن موقفه بعالي الصوت، وإن شابَ ذلك بعض التردد خشية ردات فعل أولي الأمر.

ترددت عائشة في إعلان رفضها لحماس مع أنها افتتنت بطريقة الاختراق الفلسطيني، كان ثمة إبهار ينتصر لإرث طويل من الظلم والتمييز وهضم الحقوق الأساسية ونكرانها. يحيا السوريون كما جلّ أبناء منطقتهم في خضم هزائم داخلية وإقليمية. لا يملكون قرار الحرب ولا قرار السلم، ويعيشون في مواجهة ركون وصمت ممتد وضعيف، صمت مرتهن للأقوى ومتلاعب به.

 تخاف عائشة إعلان موقفها في بيئتها الضيقة لأنهم سيخونونها، سيعدونها ضد القضية الفلسطينية وضد أشقائها الفلسطينيين. حاولت أن تطرح وبشكل موارب فكرة الحوار، فكرة أننا تعبنا من حرب الاستنزاف الطويلة والتي تُقدم كمبررات لترك بلادنا ساحة حرب مستمرة، لكنها فشلت، لم تجدِ نفعاً كل محاولاتها لفصل حق المدنيين بالحياة والحماية عن التحكم بقرار المدنيين ومصادرته ضمناً وعلناً تحت شعارات كرهتها الشعوب وتحاول الهرب منها. لكن لا فكاك أبداً، كل طرف يعتبر المدنيين ملعبه، مساحة لصراعاته، ومداً بشرياً يحق له التصرف به، بل وإهداره، تصرخ عائشة لقد دفعنا طويلاً أثمان حروب بالوكالة يراق فيها دمنا وتهدر حيواتنا.

في الحقيقة يبدو أن اختلاف المواقف لم يكن يخص الموقف من الضحايا المدنيين أبداً، فالمواقف هنا حاسمة ضد الحرب وضد المعتدين وضد كل أشكال وأدوات القتل الهمجية والمنفلتة من كل الضوابط الإنسانية والأخلاقية، مواقف متضامنة مع المدنيين العزل حتى درجة التشارك في ذات السردية. يعرف السوريون\ات جيداً معنى هدم البيوت والنزوح واللجوء إلى المدارس والجوامع والشوارع، تقول سوسن: “عندما أرى الصور أستعيد رائحة البارود وغبار الهدم وتداهمني شراسة الخوف من كل شيء، لا شيء مجهول في ظل تغول مرعب يهدف إلى الإبادة دون أي رادع أو تردد أو التزام. لكن الرعب متجدد والموت عام مع أنه متعدد ومتنوع الأشكال.” وأضافت سوسن بأنها لم تعد قادرة على النوم منذ السابع من أكتوبر، خاصة بعد حادثة خسارة المراسل الصحفي وائل الدحدوح لأفراد من عائلته حيث لجأوا لأماكن وصفت بأنها آمنة، حادثة مأساوية ومثلها الكثير من الحوادث التي حفرت عميقاً في وجدان السوريين والسوريات وحرمتهم من النوم ومن راحة البال أيضاً، في ظل احتمالات حرب مفتوحة قد تطال سوريا أيضاً، لم يعد أحد قادراً على تقبل الحرب ولا استعادة أحداثها وتفاصيلها.

يرفض السوريون والسوريات الحرب وأي امتداد لها، لا قدرة  لهم على تحمّل خسارات مرهونة ومفروضة من قبل الأقوى.

يصرخ السوريون\ات “لماذا تركت أهل غزة وحدهم يا الله!” وهم يعلمون أن الخسارات المتعاظمة والواسعة لن تغير الصورة العامة للمشهد الدامي ولا الوقع القاسي والتمييزي الظالم في أصله، بل ستترك ندباً غائرة لمئات السنين القادمة. بات الجميع يخاف من شدة العنف المتصاعد والمتسلسل والقاتل لأي أمل بالسلام والعيش الكريم والحفاظ على الحقوق وخاصة الحق بالحياة.

من جهتها، سخرت نهاد بمرارة فائقة من بعض الدعوات التي وجهت عبر وسائل التواصل الاجتماعي لفتح معبر رفح لإجلاء الأجانب والجرحى والمرضى، أو لتأمين خط إنترنيت خاص لغزة لمتابعة ما يجري عن كثب ولإيصال الحقائق وعدم ترك أهل غزة في العتمة والصمت المطبق. يعرف الجميع أن النداءات الشعبية في بلاد لا يتم فيها احترام رأي شعوبها لن تصل أسماع أحد. لن يسمع أحد من المتنفذين أوأصحاب القرار أو المسؤولين أو القتلة، أصوات التضامن والمتضامنين في بلاد تسودها تقاليد ثابتة ومبرمة في إسكات كافة الأصوات المناهضة لتغول طرف ضد طرف أو للمطالبة بالحقوق المشروعة.

ثمة سبب آخر لاستنكاف السوريين والسوريات عن إعلان التضامن، رغم كل الخيبة والصدمة التي ألمت بهم من هول ما يحدث لأشقائهم وخاصة المدنيين العزّل، هم متعبون جداً، يتجلى نضالهم الحقيقي على أفران الخبز وفي الأسواق لتأمين الحد الأدنى من العيش وفي الشوارع البائسة بانتظار وسائل نقل لن تأتي أبداً، وإن وصلت ستصل بأسوأ حال وأرذل شكل. تقول لينا: “الميت لا يجر ميتاً، ونحن موتى على قيد الحياة، لابل يترجى بعض السوريين الموت باعتباره حسن الخاتمة والمنفذ الوحيد للراحة الأبدية والخلاص النهائي من ظلمة العيش وقساوته وانغلاق كل أبواب الانفراج.”

الدم ليس وجهة نظر، والسوريون والسوريات مجروحو الكرامة، لم يتضامن معهم أحد في موتهم، تركوا لوحدهم وفقدوا كل أشكال التضامن، ضاعت خارطة التضامن. من الصعب جداً أن ينسى الغرقى تنكر الآخرين لهم، وفاقد التضامن لا يعطيه ويعجز عن التضامن مع سواه.

يمكن اعتبار تغيّر مواقف السوريين والسوريات وتباين ردود أفعالهم محصلة طبيعية لسلسلة كاملة من التهميش والانزواء عن الشأن العام. الدم ليس وجهة نظر مطلقاً، لكن الموتى لا يمكنهم نقل الموتى الآخرين إلى المقابر. بلاد تحولت إلى قبر كبير، بلاد الأكفان أوطاني، وأهل غزة يُبادون بتعنت وهمجية غير مسبوقة يتحمل مسؤوليتها الجميع، والنأي بالنفس عن الإدانة مجزرة جديدة ومستمرة، وأشد أنواع القتل فتكاً هو الصمت، ومن يملك المقدرة على الفكاك من وصمة وعقدة الصمت قد يكون هو الناجي الوحيد.

آثارُ الجزيرة السورية: ضَحيَّة الإرهاب والنهب

آثارُ الجزيرة السورية: ضَحيَّة الإرهاب والنهب

منذُ ما يزيد على عقدٍ ونيِّف، ما برحت أرضُ الجزيرة السورية تنزف وهي تستنجد كلَّ من له رحم بها، وكل من وَطِأَها، وهي الثكلى بأديمها وحجرها وشجرها وأبنائها، تصرخُ بكل لغات البشر المحكية والمنسية، أَلَمَ انتزاع الحضارة من التراب الذي احتضنها لآلاف السنين.

فَمَعَ بداية الأزمة السورية في العام2011 ، وخروج معظم مناطق الجزيرة عن سيطرة الدولة السورية، بدأت أُولى حلقات أبشع سيناريو تدنيس ونهب وتشويه وسرقة لآثار الجزيرة السورية، على طول نهر الفرات ورافده الخابور، فما أن طغى الارهاب بكلِّ أطيافه ومسمَّياته تلك التلال، حتى عاثَ في الأرض الفساد، وأخرج منها النفائس والكُنوز، وهدم المعالم والأطلال وخرَّب سوياتِها الأثرية، ونهب الذهب والتحف الآثارية، وقام بتهريبها وبيعها إلى جهاتٍ مجهولةٍ خارج البلاد.

الإرهابُ وسرقةُ الآثار:

لعب الإرهاب المسلَّح دوراً هدَّاماً بحقِّ التراث الإنساني والحضاري في سُورية، وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ اعتبار تدمير التراث الثقافي جريمة حربٍ، يعكسُ في الوقت نفسه أهميةَ التراث الثقافي والحضاري للإنسانية، لترسيخ الأمنِ والسلام العالميِّين.

فَالغِنَى الآثاري لأيِّ حضارةٍ أو أمةٍ، هو إرثٌ ثقافي يعكس أصالةَ الوجود وثراء الفكر الإنساني، ويضفي قيمة للإنسانية جمعاء، ويُزيد صلتَنا بذاكرتنا وجذورنا، ويجعلُ من التعايُش والتنوع الفكري والثقافي هوية وسمة تُلازم الإنسان على مرِّ الأزمان.

تُعدُّ الحسكة واحدةً من أغنى المُحافظات السورية بالمواقع الآثارية، على امتدادٍ تاريخي وحضاري لبلاد الرافدين العريقة، لذا شكَّلت هذه المُحافظة على مدى عَقدٍ ونيِّفٍ طوال الحرب، هدفاً رئيساً للتنظيمات الإرهابية والميليشيات المُسلحة في عمليات النهب والتدمير التي طالت الكنوز الأثرية فيها، واُستخدمت كَوَقودٍ لإذكاء الحرب، فالأطماع الأجنبية بثروات ومقدرات الوطن السوري لم يُعرف لها حدٌّ ولم يُدَّخر لسواها حقد، فكان لتاريخ وحضارة هذه الأرض، التي ما أنْ تخطوَ بها حتى يهيم بك طيفٌ ويملؤك حضور لشعوبٍ عاشت وتنقَّلت وحضارات قامت واندثرت، وقلاع ومدن ما تزال ترقد بصمتٍ تحت الرمال، تُغْمِضُ عيناً والعين الأخرى مفتوحة تنظر للُّصوص وشذَّاذ الآفاق وقُطَّاع الطرق والجهلة، وهم ينبشُونها ويُجهضون ما في أحشائها؛ نصيبٌ من الهمجية الغربية والحقد الدفين لكلِّ ما يمتُّ لهذا الشرق العريق بِصِلَة، ولكلِّ ما يُذكِّرهم بهزائمهم المدوِّية أمام الحضارة والإنسانية.

حيثُ أعلنت دائرةُ الآثار والمتاحف في مُحافظة الحسكة في العام 2015، تسجيلها 100 حالةِ اعتداءٍ على المواقع الأثرية في المُحافظة، معظمها في المناطق الجنوبية منها، وصرَّح وقتئذٍ رئيس الدائرة خالد أحمو في لقاء صحفي أن عمليات الاعتداء ظلَّت مستمرة وبشكل خاصٍّ في المناطق غير الآمنة، لافتاً إلى أن عمليات الحفر العشوائي وسرقة القطع الأثرية، تشكلُ أبرز أنواع الاعتداءات التي طالت المواقع الأثرية.

شاديكاني خاوية على عروشها:

أوضحَ أحمو أنَّ مِنْ أهمِّ المواقع الأثرية التي تعرَّضت للاعتداء، هو تل عجاجة قائلاً أن “أكثر من 40% من تل عجاجة تعرَّضَ للهدم والجرف على يد مُسلحي داعش، بالإضافة إلى حفر خنادق داخل حرم الموقع الأثري”. ويضيف “دُمِّرت عن بكرة أبيها سويَّات أثريَّة لا تُقدَّر بثمن تعود للفترة الآشورية”، وتل عجاجة يبعدُ عن مركز مُحافظة الحسكة حوالي 35 كم إلى جنوبها الشرقي، ويتوضَّع على كتف نهر الخابور من جهة الغرب، ويُعد الأهم في المنطقة من حيث قيمته الأثرية، فعليه قامت عاصمة الدولة الآشورية المتأخرة (شاديكاني). يُذكر أنَّ التحريات الآثارية في هذا الموقع قد بدأت عام 1850، على يد أَوستن هنري لايارد Austen henry Layard، الذي كشف فيه عن تمثالٍ لثور مجنح ما يعرف بـِ لاماسو lamassu والذي أكَّد بدوره أن هذا الموقع يعود للعاصمة الآشورية المفقودة (شاديكاني)، وقامت طائفة من علماء الآثار لفترات مُتقطعةٍ بمسوحات أثرية للموقع، وللعديد من المواقع الأثرية على طول نهر الخابور، ومنهم فان موريس وماكس فون أوبنهايم وماكس مالوان والذي زارها برفقة زوجته الروائية الشهيرة أجاثا كريستي.

وفي إطار التعرُّف على أهم المواقع المنهوبة التقى “صالون سوريا” بأبو محمد ذلك الفلاح الخمسيني الذي كان يسقي أرضه القريبة من تل عجاجة وعند سؤاله عمَّا تحمله ذاكرتهُ عن تلك الليالي قال:”إنَّ تنظيم داعش الإرهابي لم يترك حجراً على حجر، وقد بدأ بتخريب كل هذه التلال بِحُجَّة تسوية أضرحة الأولياء في مقابر المنطقة بدعوى الشرك”. ويكمل أبو محمد حديثه مُتَلفِّتاً: ” كان تنظيم داعش يُجبر المواطنين المُستتابين على الحفر وهدم القبور لتغطية أعمال التنقيب والسرقة، واستمرَّ الحفر في تل عجاجة طَوال الليل ولم يكن يجرؤ أحد على الاقتراب أو السؤال، كما استخدموا الجرَّافات في التنقيب إضافة إلى الحفر اليدوي”

ويعلّقُ مأمون عبد الكريم المدير العام السابق للآثار والمتاحف في سورية: “بضربة جرافةٍ، أحرق هؤلاء الهمج صفحات من تاريخ بلاد ما بين النهرين ” مُضيفاً ” خلال شهرين أو ثلاثة، أزالوا ما كان إخراجه يتطلَّب خمسين عاماً من التنقيب عن الآثار”.

كما أكَّد على تعرُّض تل طابان الأثري، والذي يأتي في المرتبة الثانية من حيث الأهمية، للاعتداء من قبل التنظيمات الإرهابية، مُشيراً إلى أنَّ البعثة اليابانية اكتشفت فيه خلال مواسم التنقيب في العقود الماضية مجموعة من السويَّات الأثرية لقصورٍ وأبنيةٍ وأفران أثرية، ما أكسب هذا الموقع شهرةً، وجعله في قائمة الاستهداف الإرهابي، غير أنَّ أعمال التنقيب فيه توقَّفت منذ بدء الحرب في سورية.

تماثيل آشورية أسيرة في قبضة داعش:

ويُذكر أن تنظيم داعش الإرهابي عَثَرَ عام 2014 خلال تنقيباته في تل عجاجة الأثري على تمثالٍ آشوري، وقام عناصر التنظيم بتحطيمه أمام العامة في منطقة الشدادي، بذريعة أن هذه التماثيل كانت فيما مضى تعبد كآلهة، وفيها ما يدعو إلى الشرك والوثنية. ويوضّح مأمون عبد الكريم قائلاً ” وجدوا تحفاً كانت لا تزال مدفونة، من تماثيل وأعمدة “، فكل ما قامت به التنظيمات الإرهابية من استهداف للمواقع الأثرية يعد اعتداءً على ذاكرتنا وتاريخنا ومحاولة لاجتثاث جذورنا، وتعمّد لطمس هوية وتراث شعوب المنطقة وتاريخها وثقافتها، وهي تسعى جاهدة لسرقة وتشويه وتخريب ومحو كل ما شيدته هذه الأمم والحضارات.

وفي هذا السياق، جدَّد رئيس دائرة الآثار والمتاحف دعوتَهُ للمجتمع المحلي في الحسكة، إلى التعاون مع الدائرة في الحفاظ على المواقع الأثرية وحمايتها، على الأقل في إطار توثيق التعديات على المواقع الأثرية، مؤكداً أنَّ هناك الكثير من المواقع الأثرية في المحافظة كان يصعُب الوصول إليها في تلك الفترة، بسبب تهديدات الجماعات الإرهابية إبان سيطرتهم عليها، وأشار إلى أن دائرة الآثار لم تتمكن من الحصر الدقيق لعمليات النهب التي تعرَّضت لها المواقع، ولم تتمكن من معرفة حجم الضرر الذي لَحِقَ بالسويَّات الأثرية للمواقع المنهوبة، بسبب الأوضاع الأمنية في المنطقة؛ بما فيها تل الشدادي الذي تعرض هو الآخر للاعتداء والتخريب من قبل التنظيمات الإرهابية والميليشيات المسلحة المتلاحقة والتي قامت بتجريف التل وحفر الأنفاق فيه، إضافةً للتلال المُتناثرة على طول ضِفاف نهر الخابور، فقد تعرَّضت هي الأخرى للنَّبش والتخريب وَشُوِّهت معالمها وسويِّاتها الأثرية بفعل الحفر غير الشرعي والهمجي الذي طالها.

وتضم مُحافظة الحسكة وفقَ سجلَّات دائرة الآثار والمتاحف، ما يقارب  1024موقِعاً أثرياً مُسجَّلاً وغيرَ مُسجَّل، الأمر الذي يعزِّز من أهميتها الأثرية بالنسبة للتراث الإنساني العالمي، ويضَعُها في مرمى الاستهداف من قِبَلِ التنظيمات الارهابية المسلَّحة ولصوص الآثار.

نهب وتهريب الآثار السورية بشراكةٍ وتغطيةٍ امريكيةٍ:

بعدَ تفشّي ورم الميليشيات والجماعات الإرهابية في عضد الوطن السوري، أضحى كُلُّ شيء مباحاً، والتنافس على سرقة مقدَّرات سورية واغتنام ثرواتها وآثارها، أصبح هدف جميع الميليشيات والفصائل المسلحة المتناحرة في الداخل السوري، ومؤخراً، بدا واضح للعيان شكل المؤامرة الممنهجة لنهب وتشويه وطمس أقدم حضارات ومدن العالم.

على إثر الهزيمة التي اُلحقت بتنظيم داعش، وخروج الجزيرة السورية من تحت الدلف الداعشي الى مزراب ميليشيا قسد المدعومة أمريكياً، عادت فصول التخريب والسرقة المنظمة للآثار على يد مسلحي ميليشيا «قسد»، والتي بدأت بشكلٍ مرحلي ومنظَّم بتخريب وحفر وتنقيب للمواقع الأثرية المهمة والمعروفة في الجزيرة السورية.

ولاحقاً، في العام 2020، كانت تقارير ومعلومات نُشرت على مواقع إخبارية سورية، إضافة الى موقع «سبوتنيك» تؤكد أنَّ الجيش الأمريكي، بالتعاون مع مسلحي ميليشيا «قسد»، وعدد من الخبراء الأجانب أقدم على تنفيذ عمليات حفرٍ وتنقيب وسرقة للآثار، ضِمنَ المواقع التاريخية الأثرية المعروفة في محافظة الحسكة.

وقالت وكالة «سبوتنيك»، إن عمليات تنقيب وسرقة مُنظَّمةٍ تتعرَّض لها المواقع الآثارية السورية، حيث بدأ الجيش الامريكي بالتعاون مع تنظيم «قسد» وخبراء أجانب من جنسياتٍ مختلفة، عمليات تنقيبٍ جديدة، ضمن قرية الغرّة في منطقة جبل عبد العزيز الواقعة على بعد 35 كم جنوب غرب محافظة الحسكة، وذلك بهدف سرقة الآثار واللقى في المنطقة. 

وأوضحت، أنَّ مجموعة من الخبراء الأجانب تفقَّدت بحماية عسكرية، موقع قرية الغرَّة الأثري، لتبدأ بالفعل عمليات حفر وتنقيب بالتزامن مع منع السكان من الاقتراب من مواقع التنقيب، وأشارت الى أنَّ عمليات التنقيب والحفر والسرقة تتم في عدد من المواقع الأثرية ضمن قرية الغرّة، أهمها مسجد الشيخ عبد العزيز الأثري القديم، وفي موقع البرغوث «آثار القلعة القديمة»، وفي موقع العلَّاجة «نبع المياه والكنيسة القديمة». 

‏‏وأضافت مصادر رسمية في مديرية الآثار والمتاحف في الحسكة أنَّ عدداً كبيراً من المواقع والتلال الأثرية في المحافظة تتعرَّض لتعدياتٍ، تضمنت حفريَّات بأدواتٍ بدائية وتخريباً للسويَّات الأثرية مثل موقعي «قبة منصور والمدينة الأثريين» في الريف الشرقي لمدينة الحسكة.

وأوضحت المصادر في المديرية، أنَّ أكثَرَ المواقع التي تعرَّضت للسرقة والتخريب هي المواقع والتلال الأثرية في المنطقة الجنوبية، وخاصة المحيطة بالتلال الأثرية مثل تل طابان وتل تنينير وقلعة سكرة جنوب غرب مدينة الحسكة وتل الشدادي، وأنَّ العديد من المواقع الأثرية تعرَّضت للتخريب والتجريف بآلياتٍ ثقيلة من قبل الميليشيات المسلحة وذلك بهدف حفر الأنفاق في التلال، ما أدى لتخريب عدد من الممرات والجدران المزخرفة والقصور، وإلحاق الضرر بالسويات الأثرية تزامناً مع نهب اللقى والآثار.

وأكَّدت أنَّ السنوات الماضية من الحرب، شهدت أكبر سرقة في تاريخ مُحافظة الحسكة الأثري، من قبل المجموعات المسلحة التي تناوبت السيطرة على المناطق الريفية بدءاً من ميليشيات «الجيش الحر» ثم تنظيم «جبهة النصرة» الإرهابي وبعدها «تنظيم داعش» الإرهابي وصولاً إلى ميليشيا «قسد» والجيش الأمريكي الذي عمل بالتعاون مع «قسد» على حفر عشرات التلال الأثرية بِحُجةِ إقامة الدشم والتحصينات العسكرية في عمليات سرقة ممنهجة ومنظمة للآثار السورية.  

ونقلاً عن مصادر مُطَّلعة، أفادت بأن القوات الأمريكية تقوم بالتعاون مع ميليشيا «قسد» بتسهيل عملية نهب ونقل الآثار والكنوز التاريخية السورية، وكشفت أن عناصر ميليشيا قسد خلال عامي 2018 ــ 2019 قامت وبدعم أميركي، بنقل مجموعة من الخبراء الآثاريين بينهم جنسيات إسرائيلية وأمريكية، إلى مواقع أثرية وتاريخية مهمة ومنها (تل حلف) برأس العين إضافة إلى كل من (تل الفخيرية وتل بوقا وتل بيدر) وعدد من التلال الأثرية بريف المالكية، وقامت بعمليات تنقيب وسرقة وتهريب للآثار باتجاه فلسطين المحتلة وأربيل في العراق ومنها إلى دول أوربية.

اعتداءاتٌ وسرقاتٌ أثرية بالجملة:‏

وفي إطار توثيق الاعتداءات التي يُنفِّذها مسلحو قسد بدعمٍ أمريكي، نشرت وكالة الأنباء السورية Sana عدة تقارير، أكدت فيها استمرار دعم وتعاون القوات الأمريكية منذ العام  2014مع ميليشيا قسد، بالتنقيب والبحث عن الآثار في مواقع عدة شمال محافظة الحسكة، أهمها تل علو في منطقة المالكية وتل محمد الذياب وتل مزكفت بريف بلدة القحطانية، وتل عربيد على طريق الحسكة – القامشلي وتل كريرش بريف القامشلي، وتل براك، وتل ليلان بريف منطقة تل براك بريف المحافظة، والتي تعد من أبرز التلال الأثرية التي تعرضت للسرقة ولعمليات تنقيب منظَّمة من قبل خبراء أجانب يتم حراستهم من قبل عناصر ميليشيا قسد.

وكشفت الوكالة نقلاً عن مصادر محلية في ريف مدينة القامشلي أن “قوات الاحتلال الأمريكي التي تتمركز قرب تل موزان (أوركيش) جنوب عامودا، منذ عام 2014، وسَّعت دائرة المناطق التي تعتبرها مناطق عسكرية محظورة، بالتعاون مع ميليشيا قسد، وأخضعت المنطقة لإجراءاتٍ أمنيةٍ مشددةٍ، لتسهيل إخراج اللقى الأثرية التي سرقوها من التل وتهريبها إلى أوروبا.

فلم تُفلح التعويذات المنقوشة بالمسمارية الهورية للإله لوبَغادا حامي المعبد أن توقف اعتداءات ميليشيا قسد وداعميها، وأن تقضي على كل من يعبث ويدنِّس معبده المُقدَّس.

وتضيفُ المصادر في مديرية آثار الحسكة، أن قوات الاحتلال الأمريكي بالتعاون مع ميليشيا “قسد”، استولت على مواقع أثرية تُعدُّ من أهم المواقع الآثارية عالمياً، مثل تل بيدر ومنطقة الحمة واللايف ستون وتل موزان، وعدد من التلل في ريف القامشلي الشرقي، وتقوم بعمليات تنقيب وسرقة اللقى الأثرية وتهريبها إلى مناطق مجهولةٍ خارج البلاد.

وفي بلدة القحطانية بريف القامشلي الشرقي، أفادت مصادر أهلية إلى أنَّ ” القوَّات الأمريكية نقلت مجموعاتٍ من اللقى الأثرية من تل قرية محمد الذياب وتل ليلان الأثري، وهما تلَّان حوَّلهما الاحتلال الأمريكي، لمنطقةٍ عسكريةٍ ونهب كل محتوياتهما من اللقى الأثرية من أختام وتماثيل وذهب، ونقلها إلى قواعده غير الشرعية بريف الحسكة تمهيداً لتهريبها خارج البلاد”.

من جهة أخرى، أكَّدت مصادر من أهالي المنطقة في ريف اليعربية “أنَّ مسلحي ما يسمى “الصناديد” التابعة لميليشيا “قسد” أقدمت على سرقة إحدى اللقى الأثرية وهي عبارة عن تمثالٍ نادر من قرية قسروك في ريف اليعربية، ونقلوها إلى جهة مجهولة”، وتستمر قوات الاحتلال الأمريكي وميليشيا “قسد” باستخراج الآثار في المناطق التي تسيطر عليها في محافظتي الرقة والحسكة، ومنها بلدتا القحطانية وعامودا بريف القامشلي.

كذلك حاولت الأخيرة السيطرة على تل الذهب القريب من قرية تل الذهب الواقعة تحت سيطرة الحكومة السورية، لتسهيل دخول قواتها ونهب ما فيها من آثار، لكنها فشلت في ذلك لوقوف الأهالي بوجه الآليات العسكرية ومنعها الدخول إلى المنطقة.

عمليات التنقيب مُستمرة:

ما تزال آثار الجزيرة السورية رهن عبث عناصر ميليشيا قسد وداعميها، ففي شهر آذار من العام 2021، باشرت ميليشيا قسد عمليات حفر وتنقيب في منطقة أثرية جديدة بمحيط بلدة القحطانية، في تل قرية الدرك (دوكر) تقع على بُعد  5كم غربي بلدة القحطانية.

ونقلاً عن مصادر محلية، أفادت أن عناصر ميليشيا قسد استأنفت عمليات الحفر على جانبي التل الأثري الواقع في قرية الدرك، وذلك باستخدام وُرش وآليات هندسية، وكشفت المصادر أن ميليشيا قسد منعت الأهالي من التوسُّع في بناء المنازل بالقرب من التل المذكور كونه من التلال الأثرية المهمة، وبالرغم من ذلك قامت ميليشيا قسد بجلب آليات هندسية من منطقة مركدة، وباشرت بأعمال حفر أنفاق عميقة في التل، بِحُجة تحويله إلى مخزن للأسلحة والذخائر، لتغطية عمليات التنقيب عن الآثار ونهبها.

استياءُ المُكوّن العربي من السرقة الممنهجة للآثار على يد ميليشيا قسد:

تقوم فيما يعرف بالإدارة الذاتية بِدعمٍ وتغطية أجنبية بأعمال تنقيب وحفريات مستمرة تستهدف جميع المواقع الأثرية في منطقة الجزيرة السورية الخاضعة لسيطرة قسد، ويعزو الأهالي عمل الأخيرة إلى خلط الأوراق ومسح الهوية الثقافية للمنطقة وتشويه التراث الحضاري لسورية الأم، واللعب على وتر عرقي بتغيير ديموغرافيا المنطقة وتحييد الأسماء الأصيلة للمناطق والأماكن، وطبعها بطابعها الخاص، وذلك محاولة منها لإعادة تشكيل المنطقة من جديد بما يتلاءم مع أجندة ميليشيا قسد.

وفي السياق ذاته عبَّر محمود وهو مُعلِّم مدرسة عن امتعاضه قائلاً “إن اعتداءات ميليشيا قسد على آثار الجزيرة هو انتهاك صارخ لتاريخنا وذاكرتنا، فما ارتكبته داعش بهمجيتها وفكرها الظلامي ليس بأشدّ وطأة مما تقوم به قسد، فهي تسرق آثارنا على عينك يا تاجر بتغطية وحماية أجنبية” ويُضيف ” إسرائيل وفرنسا وتركيا وراء القصة.. العداء بيننا تاريخي ومعركتنا وجودية”.

حصيلة الاعتداءات التركية على الآثار السورية:

إضافةً للانتهاك الصارخ للأرض السورية، يقوم الاحتلال التركي، إلى جانب سلسلة اعتداءاته وممارساته الضاربة بالقانون والأعراف الدولية عرض الحائط، بإضافة فصل إجرامي متكامل يتعلَّق باعتدائه على الآثار السورية تخريباً ونهباً وسرقةً، في جميع المناطق التي احتلها وبسط سيطرته عليها عبر المجموعات الإرهابية التي تعمل تحت رايته، وتنفِّذ أجندته الاستعمارية؛ وتسهيل عمليات تهريب اللقى والآثار السورية عبر أراضيه ومنها إلى أوروبا.

وفي لقاءٍ صحفي أجرتهُ وكالة سبوتنيك، تحدَّث فيه محمود حمَّود، المدير العام للآثار والمتاحف في سورية، عن الكارثة الكبرى التي لحقت بالآثار السورية نتيجة الحرب الدائرة في البلاد، ويقول حمَّود: “تعرَّضت الآثار السورية لكارثةٍ كبيرة، نتيجة اعتداءات المجموعات الإرهابية المختلفة، وفي سورية ما لا يقل عن 10 آلاف موقع أثري، تعرَّض الكثير منها للدمار والنهب والتنقيبات غير الشرعية”. ويضيف حمَّود:”هناك ما لا يقل عن مليون قطعة أثرية نُهبت خارج القطر عبر الحدود خاصةً التركية والفلسطينية المحتلة والأردنية”

وأشار حمَّود إلى الدور الكبير والإجرامي الذي لعبته تركيا في التخريب الذي لحق بالمواقع الأثرية في المناطق التي تقع تحت سيطرتها، وأفاد أيضاً بأنَّ “الدمار أصاب أيضاً المواقع الأثرية التي احتلها الجيش التركي وقصفها قبل أن يحتلها”. ويكمل: “هناك تنقيبات مُخيفة تتم على يد المجموعات الإرهابية التي تعمل تحتَ راية الاحتلال التركي للمنطقة، وكان هناك استباحة لهذه المواقع الأثرية، مثل موقع جنديروس الذي نقَّبت فيه بعثة سورية ألمانية حتى عام 2010”.

الاعتداء على الأثار اعتداء على الذاكرة الإنسانية:

‏‏إنَّ الممتلكات الثقافية لايّ أمة هي جزءٌ لا ينفك ولا يتجزأ من ذاكرتها وتاريخها الحضاري، وسلامته مؤشرٌ لقدرتها على الاستمرار والتواصل بين أجيالها المتعاقبة، فالاعتداء عليها يُعدُّ جُرماً ضد الإنسانية جمعاء، وانتزاعاً للهُوية التاريخية لشعبها، بل إنَّه في حالات معينة يتعدَّى الاعتداء على خصوصية شعب ما، ويصبح اعتداءً على الميراث الإنساني بشكلٍ عام، ‏فالعديد من المواقع التاريخية والأثرية لا تقتصر أهميتها على شعبٍ محددٍ وإنما أصبحت تؤلفُ جُزءاً من ميراث الإنسانية عامة، لذا فإن واجب حمايتها وضمان سلامتها يقعُ على عاتق الإنسانية كلها، ومهمَّة رئيسة من مهام المجتمع الدولي.

كما أنَّ اعتبار تدمير التراث الثقافي جريمة حرب، يعكس أهمية هذا التراث للسلام والأمن العالميَّين، فهذا التدمير أصبح وسيلة من وسائل الحرب، تستهدف تدمير المجتمعات على المدى البعيد، وذلك في إطار استراتيجية مُتطرفةٍ للتطهير الثقافي، لذلك فإنَّ حماية التراث الحضاري ليست مسألة ثقافية فحسب، بل هي ضرورة أمنية وجزء لا يتجزأ من ضرورة حماية الحياة البشرية والدفاع عنها.

صمْتُ المُجتمع الدَّولي:

على الرغم مما حدث ويحدث من تدمير للمواقع الأثرية في سورية ونهب لمحتوياتها، إلَّا أنَّ المجتمع الدَّولي يبدو عاجزاً عن مُحاسبة مرتكبي هذه الجرائم، كأنَّه بصمته شريكٌ في الجرائم الوحشية المُرتكبة بحق هذا التراث، وكأنَّه يوجَّه رسالة مفادُها أنَّ تراث هذا الشعب مُهدَّد بالزوال.

إضافة إلى أنَّ الأعمال الإرهابية لا تسعى فقط لتقويض المجتمعات والدول والبُنية الديموغرافية لها، بل تهدف أيضاً للقضاء على كل ما يرمز لهذه الأمم والحضارات، من إرث حضاري وثقافي غني ومتنوع، والذي يشكل أمثولة ثقافية تُمكننا من التعرُّف من خلالها على تاريخ وثقافة هذه الحضارات حياتها وفكرها وعقائدها، وليس غريباً المطالبة بحماية التراث الثقافي ومُكافحة سرقة الممتلكات الآثارية والاتِّجار بها، في زمنٍ تتعرَّض فيه البشرية لمخاطر مُتَعددة نتيجة الحروب والنزاعات المسلَّحة الدائرة في المنطقة، فالممتلكات الثقافية ليست مُجرد تماثيل وحجارة تُعرض في المتاحف أو سلع يتم تَداوُلها في الأسواق، بل هي تجسيدٌ لتاريخ أمَّةٍ وهُويَّة شعبٍ وثقافتهِ، وفقدانها بفعل السرقة والاتِّجار غَيْر المشروع، قد يؤدي الى تفكّك المُجتمعات وعدم قدرتها على التعافي بعد الحروب، إنها باختصار ذاكرتنا وجُذورنا المُتَغلغِلة في رحم الأرض.

بين مندمج ومقاوم وغير مكترث: كيف تنوعت آراء السوريين حول غزة

بين مندمج ومقاوم وغير مكترث: كيف تنوعت آراء السوريين حول غزة

وجد السوريون أنفسهم فجأة أمام تحدٍ جديد ابتداءً من يوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، اليوم الذي بدأت فيه عملية “طوفان الأقصى،” ومعها تقدمت حماس مخترقة غلاف غزة لتردّ إسرائيل بقصف مستمر ومتواصل لم يهدأ حتى اليوم على غزة المحاصرة أساساً.

غزة التي ترد منها صور يومية تخبر بفداحة المجزرة وقسوة المعتدي وضياع الإنسانية والرحمة والشفقة وفوقهم تعاضد العالم المتقدم محزّماً إسرائيل بدعم يبدو ألّا نهاية له، دعم أعاد للأذهان العربية مشاهد قاسيةً ترتبط بعقدة العالم الثالث وحقيقة ضياع الثقل الإسلامي والعربي، وباستحضار متكرر لمشاهد ألفها العالم عن أحزان فلسطينيين يقضون كلما دارت آلة القتل من حولهم دون سند أو معيل.

صحيح أنّ فلسطين التاريخية شهدت النكبة، والنكسة، والانتفاضتين، وحربي غزة 2008 و2014، وسيف القدس ووحدة الساحات والآن طوفان الأقصى، لكنّ لكل معركة وحدث بعداً مختلفاً، فما كان موحداً للموقف المحيط يوماً تلاشى اليوم. وعلى وجه الدقة ما جمع العرب خلف “المقاومة” في حرب تموز 2006 هو ذاته ما أبعدهم عنها وعن فلسطين نفسها وفق خوارزمية التبدلات الإيديولوجية مع الربيع العربي.

وفي خضم الحزن العربي الأثير كان على الدوام لسوريا موقف متقدم من الصراع مع الاحتلال، وهو الموقف الجماعي الذي منعَ سورياً من أن يزاود على آخر في تمسكه بالموقف والقضية، وإلّا لما احتشد الملايين في حمص وحلب ودمشق والساحل وغيرهم ذات كل مظلومية أحاقت بأهل فلسطين، وما أكثر المظالم هناك.

إلا أن هناك ما جرى في سوريا وبدّل شيئاً كبيراً فيها، بدّل شيئاً ببلد صار فيه 7 ملايين نازح ومهجر، وملايين القتلى والجرحى والمفقودين، كل ذلك كان كثيراً على البلد المتوسطي الذي يرسم سياسته على حدّ السيف.

ابن درعا الذي قاتل ابن حلب في حماه، وابن دير الزور الذي قاتل ابن اللاذقية في حمص، والسوريّ الذي استقوى على السوريّ في كل بقعة من بلده الذي صار سوقاً حراً للمقاتلين الأجانب المستوردين لا شك أنّ قناعات كثيرة تغيرت في رأسه حيال موقفه من وجوده نفسه.

فكيف يمكن اليوم أن تسأل سوريّاً عن موقفه من حرب غزة، وهو المثقل بحياة تفتقر لأدنى أساسيات العيش.

اندماج تام بالمعركة

كان من المتوقع أن تفرز الحرب السورية بعد 12 عاماً من طحنها للناس قناعات متباينة جداً حيال الأوضاع الداخلية فكيف بالخارجية! وانطلاقاً من هذا الفرز، تم في هذا التقرير مقابلة أشخاص سوريين من شرائح مختلفة للاستماع عن موقفهم من حرب غزة.

استناداً إلى هذه المقابلات، يمكن القول إن هناك توجهين مركزيين لم يكن من الصعب التمييز بينهما إطلاقاً، وإلى جانبهما تفرعات أخرى أقل وضوحاً. التوجه الأول هو ذلك المرتبط بازدياد التمسك بالموقف “المقاوم” وهو الموقف الذي يمثله من ظلّ حيّاً في كنف الدولة الرسمية متجرعاً ومؤمناً بسياساتها. فعلى سبيل المثال، يعتقد المهندس إباء الحفار أنّ سوريا اليوم حاضرة بقوة في معركة غزة، ليس ذلك الحضور الداعم النظري، إنما الحضور العسكري واللوجستي والتخطيطي على أرض الواقع. ويوضح وجهة نظره قائلاً: “هل يعتقد أحدٌ أنّ المقاومة أطلقت رصاصة واحدة دون إذن سوريا وموافقتها وهل تعمل المقاومة دون تنسيق حثيث مع سوريا! صواريخ حماس هي صواريخ سورية وهذه حقيقة لا ينكرها أحد، وكلاهما، حزب الله وحماس، امتداد سوريا وإيران في شدّ منعة العالم لمواجهة أبشع آلة قتل واحتلال في التاريخ”.

وكذلك يتفق معه الموظف ماجد هاشم بأنّ سوريا هي التي تدير المعركة في فلسطين برفقة حلفائها، يوضح رأيه شارحاً: “من لفلسطين في هذا العالم سوى الحلفاء القلّة! سوريا تدرك جيداً أنّ مشكلتها خلال حربها لم تكن إلا مع إسرائيل، ونحن اليوم نرد الصاع، وسنظل نخوض في هذه الحرب الوجودية حتى آخر واحد فينا أو فيهم”.

نوستالجيا

يوضح سليمان جوخدار تمسكه بفلسطين انطلاقاً من أبعاد وجودية وإنسانية، أبعاد تتخطى السياسة الضيقة كما يصفها، يعبر عن ذلك بالقول: “فلسطين هي حلم الطفولة، الحلم الذي بكينا لأجله وقهرنا وتعذبنا وقطعنا عن أنفسنا لأجلها، فلسطين التي ترتبط بوجداني وكياني وحياتي، فلسطين التي هتفت لها في الساحات والمدارس، فلسطين التي لم تكن يوماً مدينة سوريّة أغلى على قلبي منها، فلسطين الآن في مظلمة تاريخية!”.

آخرون، مثل المحامي جهاد خليل، مستعدون للقتال في فلسطين انطلاقاً من وحدة الساحة والعدو الواحد، فقد وضح جهاد موقفه أنّ انتهاء معاناة بلده ترتبط بانتهاء وجود إسرائيل قائلاً: “كل عقد أو اثنين سيكون هناك مقتلة في بلدي طالما إسرائيل في جوارنا”.

“حفظ دون فهم”

فاض على حديث نمير وطنيات ترتبط بالقضية ودعم المقاومة وأمومة سوريا لها، فكان لا بد من مواجهته بسؤال حول إن كان يعلم أنّ “حماس” على مستويات القيادية العليا حملت لسنوات علم الثورة السورية.

بدا نمير غير فاهم أو مستوعب أو مصدق للطرح، لكنّه دافع عن وجهة نظره قائلاً: “إن كانت حماس رفعت علمهم أو قاتلت ضدنا فلا بأس، نحن أجرينا تسويات لمسلحين ومتطرفين وأصبحوا يقاتلون معنا، يمكن اعتبارهم قد خضعوا لتسوية وأزال الله الغشاوة عن أعينهم، إن فعلوا ذلك فقد كان مغرراً بهم، ثم إنّ دولتنا طالما تدعمهم الآن فإذاً نحن ندعمهم”.

تيار عقلاني

بعض الأشخاص لديهم دوافع قد تبدو غير مقاربة للمنطق في معالجة ملفات المنطقة، ومن أمثالهم المقاتل نمير، وهو اسم مستعار بناء على طلبه.

وبين المندمجين تماماً في دعم غزة وطوفانها ثمة تيار أكثر عقلانيةً كما يصف نفسه، تيار يعرف أنّ حلم التحرير لا زال بعيداً جداً، وبأنّ بلده منهك أكثر من أن يخوض معارك ويدعم جماعات ويواجه دولاً جديدة.

يعبر عن ذلك التيار موقف الطبيب سمير عرفة إذ يقول لـ “صالون سوريا”: “من المهم أن تبقى أرجلنا على الأرض، بلدنا مدمر، نحن منهكون، ونحن مع فلسطين لآخر نفس، ولكن لا يكلف الله نفساً إلا وسعها”.

“مشاكلنا تكفي”

أما التوجه المركزي الآخر حيال حرب غزة يمكنه وصفه باللا اكتراثي، وهو يمثل الأشخاص الذين يقولون إنّهم يملكون أسبابهم لعدم الاهتمام بما يحصل، مبررين ذلك بأسباب قد تكون متباينة نسبياً ولكنّ جوهرها متفق على الأرجح. وعلى سبيل المثال، يعبر عن هذا التوجه فاضل شريف أستاذ مدرسة بقوله: “منذ دهر نحن محرومون كشعب لأجل دعم المقاومة، ندفع أثماناً باهظة لذلك، لا فلسطين انتصرت ولا نحن، الموت عبثي، ونحن خبرناه جيداً في سوريا، بالتأكيد لا يمكنني إلّا أن أكون متعاطفاً مع غزة، ولكن هل سأقاتل هناك لو أتيح لي؟ بالتأكيد لا، ثمّة ما هو أهم في بلدي”.

أما غيداء جروان وهي سيدة تعمل في مجال الترجمة فتوضح أنّها كسورية دفعت ثمناً باهظاً مع بلدها وأهله خلال حربهم الطويلة وليست مستعدة لأن تبذل أي شيء جديد وتحت أي ظرف. وتكمل: “يوم قرر الفلسطينيون أن يحاربوا خارج أرضهم قاتلونا وقتلونا في سوريا. بعد عقود من الاحتضان قتلونا. ويوم متنا جميعنا لم تتحرك شعرةٌ في رأس أحد هناك، لا أحد عليه أن يزاود على الآخر، على كل شخص أن يعالج مشاكله”.

في حين تقارب جميلة سعفان وهي موظفة بأحد البنوك الموضوع من زاوية سؤالها حول تعداد المسلمين والعرب حول العالم، تسأل وتجيب قائلةً: “أليس هناك مليار مسلم وضمنهم العرب! غصت فلسطين على بضعة ملايين قليلة من السوريين المتبقين والذين يتسولون على أبواب الجمعيات الخيرية! ما يصل لقيادات حماس من أموال ومساعدات تبني دولاً بحالها”.

مصائب الناس تخصهم

وفي لقاء مع مفيد الطاهر وهو خريج جامعي لم يعثر على عمل حتى الآن، أكد مفيد تعاطفه وتضامنه الكامل مع فلسطين إنسانياً واصفاً كيان الاحتلال بأبشع الصفات، ولكنّه يرى أنّه من بلد قاوم فيه حتى اكتفى على حدّ تعبيره. ويوضح موقفه: “فقدت عمي وعمتي في تفجير مفخخة، فقدت ابن عمي بطلقة قناص، فقدنا أرزاقنا وأراضينا في ريف حماه. لديّ من المصائب ما يكفي لأحزن لأجلها عمراً بحاله. مصائب الناس للناس، وأولئك الذين يتاجرون بالقضية صبح مساء على صفحات التواصل الاجتماعي فهنيئاً لهم”.

جيل الألفية

ضمن هذا التوجه المركزي هناك تفرعات وتشعبات متعددة، بينهم أولئك الذين ولدوا بعد الألفية، فلا هم شهدوا الانتفاضتين، ولا شهدوا الحروب التالية، وحين استفاقوا على مراهقتهم وجدوا أنفسهم محاصرين في أحياء بلدهم. هذا الجيل قد لا يعرف الكثير عن فلسطين، وقد لا يكون مطالباً بالكثير، ولكنّه بالتأكيد جيلٌ لا يشبه سابقيه، جيلٌ لديه مفاهيم واضحةٌ عن الخذلان والموت والبذل والخوف بين جدران بيته، فكيف سيكون مطالباً منه أن يندمج في محيطه البعيد!

مستسلمون ومندفعون

وفي محاولة لفهم آراء الناس ضمن توجهاتهم المختلفة، يوضح الخبير في علم النفس الأكاديمي عامر مهرة أن: “لكل إنسان طاقة، ما أن تستنزف هذه الطاقة يصبح عاجزاً عن شحن المزيد إذا استمرت الظروف السيئة من حوله، وهذا ما حصل مع السوريين. وحتى أولئك الذين هم مستمرون بالدفاع المستميت عبر منصاتهم عن غزة سيتعبون مع مرور كل يوم إضافي على الحرب”. ويختم حديثه: “وبالنسبة لأولئك المندمجين بكل طاقتهم فهذا أيضاً تعبير انعكاسي عن الحزن يجعلهم يتمسكون بقضية تحاكي مشاعر الاندفاع لديهم، وهي المشاعر التي تحتاج للتفريغ بهذا الشكل، وهذا بالتأكيد لا يقلل من مشاعرهم الوطنية أو النضالية، ولكنّه يظلّ شعوراً اندفاعياً في ظلّ علمهم أنّه ليس بأيديهم أن يفعلوا شيئاً آخر.”

مهن نسوية ضد النمطية: معقبّات المعاملات مثالاً

مهن نسوية ضد النمطية: معقبّات المعاملات مثالاً

للحروب آثار كارثية على حياة البشر، لكنها كالسيل تجرف في طريقها مقومات القوة وكذلك مقومات الضعف، لدرجة تصل حتى حدود التغيير الجذري. وبالتحديد، يبرز التغيير واضحاً وغير قابلٍ للإنكارفيما يتعلق بالحياة الجديدة للنساء أثناء الحروب وبعدها. إذ غالباً ما تنتفض النساء على وقائع حيواتهن التقليدية ويباشرن الحضور في مواقع جديدة بفعل قوة الاحتياج أولاً وفي ظل غياب وتراجع سيطرة قوى مهيمنة تتحكم تاريخياً بتفاصيل عيش النساء.

ارتبط عمل النساء بعد الحروب بمفهوم الإعالة، فجأة أصبحت الكثيرات وربما الغالبية من النساء معيلات لأسرهن بعد وفاة الأزواج والآباء والأخوة وحتى الأبناء الكبار من ذكور العائلة، أو تغيبيهم أو هجرتهم أو إصابتهم بالعجز التام أو الجزئي عن العمل.

فوضى عارمة عمت في سوق العمل النسائي (إن صح التعريف)، تم تعميم قاعدة ذهبية وهي أن مجال العمل في البيوت كعاملات منزليات أو طباخات أو مقيمات للمرضى والمسنين مفتوح على مصراعيه أمام النساء ويستقبل كل النساء المعيلات أو المتعطلات ويؤمن لهن دخلا كريماً وكافياً، لكن الحقيقة بعيدة جداً عن هذه الفرضية العمياء والتعميمية. الأهم والأكثر إثارة للغضب، أنه تم تثقيل هذه الأعمال النمطية والملتصقة بواقع العمل النسوي ومنحها تراتبية عالية في سلم الأعمال التي تلجأ إليها النساء وخاصة بعد الحروب، لقد منحوها وصفاً عتيقاً ومغرقاً في ظلمه وتمييزه! “عمل شريف” وهذا أحد مكامن تحفيز النساء على اللجوء إليه وحده وحصرياً دون التفكير بأي عمل سواه.

وفي المقلب الآخر وحتى في السلك الحكومي، شهدت الأعمال النمطية والمغرقة في ثباتها كوظائف نسائية، تراجعاً كبيراً. فقد استقال عدد كبير من المعلمات والموظفات والممرضات، بمن فيهم حملة الشهادات العلمية العليا كالمهندسات، بسبب الهجرة أو النزوح أو تغيير أماكن السكن. وتناقص عدد الطبيبات بسبب خروج عياداتهن عن الخدمة أو بسبب تعذر الوصول إلى أماكن العمل. ولحق الضرر أيضاً بالسيدات صاحبات المشاريع الصغيرة لضيق سوق تصريف الإنتاج ولغياب الاستقلالية والخبرة التي تضمن استدامة العمل وعدم المتابعة مع النساء بعد انتهاء الدورات التدريبية وتقديم المنح.

تغير كل شيء، وفي كل تعمق أو تدقيق في المشهد العام نلحظ تغيراً حاداً علينا التقاطه. ومن هذه التغيرات الوجود الملحوظ لظاهرة جديدة هي مهنة تعقيب المعاملات. فمثلاً في بهو بلدية جرمانا، راقبتُ خمس سيدات امتهنّ هذه المهنة التي كانت مصنفة بأنها ذكورية وعصية وممنوعة على النساء. كانت هذه السيدات يتابعن تعقيب معاملات مكلفات بها من قبل أصحابها، ينبغي عليّ الاعتراف بأنني اليوم عرفت سرهن العظيم لأول مرة، العديد من المراجعين/ات لم ينتبهوا لهن، ظنوا أنهن مراجعات وربما موظفات، ربما لأن الجميع لم يتساءل عن مبرر وجودهن هنا، وربما لأن الغالبية العظمى لا تتخيل أن نساء قد انخرطن في مهنة تعقيب المعاملات.

 تقول إحداهن (و.س) وتبلغ من العمر اثنين وأربعين عاماً، وهي زوجة شهيد حرب: “فجأة وجدت نفسي امرأة وحيدة في مهب الريح، أنا وثلاث بنات، حاصلة على الشهادة الثانوية وبيئتي وعقلي يرفضون أن أعمل في الخدمة المنزلية، استعرضت كافة الأعمال النمطية المعروضة أمامي كامرأة، لكني رفضتها فوراً بمجرد مرورها أمام مخيلتي، فكرت بعمل خاص ومستقل يدر دخلاً كريماً وكافياً لأربع نساء يزداد احتياجهن مع الوقت ومع تضاعف  وتضخم الغلاء وصعوبة تفاصيل العيش اليومية.” وتتابع: “خضعت لدورة تدريبية وبعد الامتحان انتسبت لنقابة معقبي المعاملات.” تقول (و.س) أن عدد المعقبات في دمشق قد وصل لألفي امرأة، وأن اعدادهن في مدينة جرمانا لوحدها قد بلغ خمس عشرة امرأة.

تعتمد النقطة المركزية في اختيار هذا العمل على إرادة السيدات بأن يكنّ صاحبات عمل  ومستقلات ولديهن دخل يعتبرنه كافياً لإعالة أنفسهن وعائلاتهن، أو على الأقل أكثر وفرة من رواتب النساء الموظفات أو من العاملات في البيوت وفي قطاع الخدمات الهامشية وغير المحمية أو المسجلة في نقابات أو مؤمن عليها بشركات تأمين وخاصة لضمان حمايتهن من إصابات العمل وجور أصحاب العمل.

تعرفت إلى خمس معقبات معاملات، كلهن معيلات، زوجات وأمهات وبنات وأخوات لأفراد يحتاجون الدعم والسيولة، لكن التعامل معهن مختلف تماماً، حيث لا مكان للشفقة ولا للامتهان المباشر، اللافت أنهن متعاضدات ويساعدن بعضهن البعض.

شكت المعقبّة (ر.ع) من الرفض العلني لهن من قبل الموظفات بصورة رئيسية، ومن عدم تقبل وجودهن في الدوائر الرسمية، بسبب ترسخ الصورة النمطية أن تعقيب المعاملات مهنة ذكورية! مع أن إحدى المديرات الداعمات لهن أوضحت بأن عملهن متقن بشدة، وبأنهن أقل فجاجة من المعقبين الرجال وأقل ضجيجاً، كما أنهم لا يملن للتزوير أو الابتزاز ولا حتى للرشوة، إضافة إلى اهتمامهن الواضح بالصورة النهائية لكل معاملة وبرأي ورضا الموظفين والموظفات في الدوائر أو المكاتب التي يتابعن المعاملات فيها.

أجابت أصغر المعقبّات سناً (ل، ن) على سؤال رضا الأهل أو المجتمع عن هذه المهنة قائلة: “في البداية لم يعلم أحد بطبيعة عملي، أنا طالبة جامعية في كلية الحقوق، فمن الطبيعي أن الجميع معتاد على خروجي اليومي من المنزل خاصة وأني أعيش في بيئة اجتماعية ضيقة والجميع يعرفون بعضهم، مع الوقت شكت لي والدتي بأن البعض قد قال لها وفي تساؤل غير بريء بأنني أدور من مكان لآخر، وأن البعض قد رآني في عدة أماكن بصورة يومية، تخيلوا لم يسألني احد من الذين رأوني في عدة مراكز ودوائر أتابع فيها معاملاتي عن سبب وجودي هناك، رسموا سيناريو محدد (اتهامي بالطبع) لعجزهم عن تقديم أي إجابة عليه وتبادلوه ثم رماه البعض في وجه أمي.” وتضيف (ل، ن): “حين واجهتهم أمي بطبيعة عملي، اختلف تقييمهم، البعض هنأها على شجاعتي وتدبيري والبعض كرر أنها مهنة لا تليق بالنساء، أما الغالبية فقد باتت تلجأ لاستشارتي بقضايا تستلزم التعقيب والمتابعة.”

 لا تشكو المعقبات بشكل صريح من رفض معقبي المعاملات الرجال لتواجدهن في الدوائر والمحاكم، بل لاحظنا شكلاً من أشكال المساندة بين النساء والمعقبين الشباب خاصة وأغلبهم طلاب جامعيون ويعملون مستقلين أيضاً، أي أنهم لا يملكون مكاتب خاصة لتعقيب المعاملات،  لكن وفي الحقيقة ثمة صراع خفي بين المعقبّات وأصحاب المكاتب العقارية ومكاتب تعقيب المعاملات لأنهم يعاملون المعقبّات وكأنهن قد استولين على أرزاقهن. قال أحد أصحاب المكاتب العقارية صراحة شاكياً ظهور المعقبّات على ساحة العمل: “اتسلبطوا على شغلنا سلبطة!” وأضاف: “تعمل في مكتبي سيدتان، لكن مهامهما محددة، تصوير تنضيد، أرشفة، استقبال المراجعين ويكفي!”

ما بين تعتيم غير مقصود على دخول النساء معترك مهنة تعقيب المعاملات وما بين قبول ورفض إداري ومجتمعي واقتصادي ومهني لحضورهن المميز، تكرّ حبات المسبحة، وتنفرط العقد المتأصلة عقدة إثر عقدة، بحذر، برفض صامت أو بمواجهة معلنة، لا يهم، المهم أنهن هناك وفي كل مكان، قادرات ويملكن قرارهن، سعيدات تملؤهن الثقة والرضا ويملؤنا الأمل بوجود أوسع وأكثر فاعلية وقوة وتقبّل.