مات خالد خليفة، الروائي الذي تمكن من تحويل قرائه وربما كل من عرفه أو تعرف عليه من البقّال وعامل محطة البنزين وحتى أعتى نقاده إلى أصدقاء. خذله قلبه المطرز بعدة شبكات طبية لتحمي قلبه من التوقف، اعتاد بجرأة وتوق كبير للعيش على إجراء القسطرة القلبية واعتبرها إجراءً روتينياً لا يستحق حتى التوجس منه، قالها ضاحكا وهازئا من الخوف من توقف القلب، إنها نصف ساعة تحت المراقبة، أخرج بعدها معافى ومطمئناً كأي زيارة روتينية لطبيب القلبية. صارت شبكات الحماية ضيفة ودودة كقلبه، تستقر جيداً كي يعتمر قلب خالد بالحب وبمزيد من الحياة والأصدقاء. درّب خالد قلبه على الاستزادة اليومية من الأصدقاء عدداً وحضوراً، كي يحمي قلبه وقلوبهم بفرط المودة باذلاً دوماً كل جهوده الدافئة لمزيد من الكسب، وربما لم يحتج يوماً لتدريب هذا القلب الجميل، لأن الحب فطرة لدية والمودة سلوك يومي.
والكسب عند خالد خليفة موهبة مرتبطة بالسخاء المفرط، يقف خالد لساعات طويلة ليدرب أفراداً راغبين بتعلم الكتابة، من فرط سخائه لم يشكك يوماً بموهبة أحد، اعتمد نظرية الجلوس إلى الطاولة وعممها على كل متدربيه. ترك لهم فرصة الكتابة وكأنها مهنة يومية تليق بحيواتهم مهما كانوا مغمورين أو غير موهوبين، بل وترك لهم قرار الاستمرار بالكتابة من عدمه. علّمهم كيف يقرأون نصوصهم وكيف يحفزون آذانهم لالتقاط الجمال أولاً والضعف ثانياً، كان التشجيع ديدنه، لا تخافوا من الكتابة، مزقوا كل ما لا يقنعكم أو يعجبكم، لا تخافوا الموهبة ولادة وتستجر نفسها بخفة ورشاقة. لطالما استخدم الروائي خالد خليفة وصف الرشاقة والخفة في تدريباته ليمنح المتدربين آلية ذكية لاختبار منتجهم، كان يمنحهم بسخاء بالغ تلك الفرصة للتعرف إلى الفرق بين الخفة المحببة والمنتجة للدهشة في النص وما بين الخفة التي تضعف النص وتفقده كل مكونات التداول أو القبول.
كلنا نعرف بيته في مساكن برزة والمطل على دمشق لدرجة أن حارات دمشق القديمة والجامع الأموي تحت مرمى نظر جميع من دخل أو سكن هذا البيت، إنه عين على دمشق التي عشقها خالد. عاد إلى بيته من اللاذقية حيث يملك شاليهاً خاصاً يعرفه غالبية الأصدقاء، كلهم لهم ذكريات هناك، كلهم يعتبرون أنفسهم أصحاب البيت والشاليه، مفاتيح بيته والشاليه موزعة على أشخاص في كافة أصقاع الأرض، وحين يدعو خالد أحدهم يرفق الدعوة بمفتاح ويردد: افتح وادخل! إنها تعويذة الحب السخي أو السخاء في الحب! عاد ليموت في دمشق وعيناه على دمشق، بيته الذي كلما غادر سوريا أحبه وتعلق فيه أكثر، وكلما عاد إليه سعى لتحسين شروط الحياة فيه كي يبقى في دمشق أكثر وأكثر. بعد عودته الأخيرة من سويسرا، غيّر ثلاجته لتتسع للمزيد من المؤن ولتحفظ الطعام بصورة أفضل، لجأ إلى تركيب شبكة كبيرة للطاقة الشمسية، خالد يبذل حبه عبر دعوات الأصدقاء إلى الطعام، اشترى الكثير من البرغل وجفف البندورة، لأن البقاء هنا يستدعي الكثير من الدعوات والكثير من المؤن. عاد مشتاقاً بشدة، عاد ليجدد عهد الحياة مع الحياة ومع دمشق، لكنه مات وأكياس الباذنجان والفليفلة معلقة فوق رأسه المسجى على أرضية مطبخه، فقد كان يوم وفاته موعده مع تحضير مونة المكدوس.
في مقالاته الأخيرة لـ(المجلة) كتب خالد خليفة عن الفريكة والبرغل، عن عادات أهله في التموين، استحضر التاريخ الماضي والروائح وطرائق التحضير وصور أمه وشقيقاته ونساء العائلة وهن يطهين البرغل أو يحضرن الفريكة من قمح أراضيهم، كان وهو يكتب مفعماً بحضورهن، لدرجة أنه استعاد حرفياً رائحة التراب وحفيف القدور الكبيرة ونكهة السمن العربي.
خالد خليفة هو الشخص الوحيد الذي صرّح للجميع أنه قد اختار أن يصبح كاتباً، قال هذا لأهله وهو في السادسة عشرة من عمره، قالها وفعلها رغم أنه في البداية لم يكن يعرف أو يتخيل الطريق ليصبح روائياً عظيماً وكاتباً ناضجاً، مشاكساً لكنه حازم، نبيل لكنه نزق وشتّام ذكي وشرس وإن عبر الكتابة، وربما عبر نقض الصورة وهدم جدران اللغة الصماء.
درس وحاز على شهادة الحقوق كرمى لعيني أمه، قصة نجاحه في الثانوية تحولت لعتبة من الإنجاز ويتم تداولها وكأنها قرار يسهل تحققه فقط لأن خالد أصرّ على الهدية وأصرّ على تكريم والدته بشهادة جامعية، وانصرف بعدها ليعيش قراره، ليدون أو يرسم أو يصوغ بعناية فائقة ما بدا باهتاً أو عادياً جداً، لكنه تحول بين يديه لمنجز ينتمي لخالد الروائي وينتمي لنا كلنا، وربما نحن من ينتمي للرواية كفعل حياة أو كفعل تدرب على العيش وتبادل المودة مع خالد الروائي ومع خالد الإنسان ومع الشخصيات والوقائع والصور كلها.
في سهرتنا الأخيرة قبل أسبوعين، رقص خالد كما لم يرقص من قبل، فرحنا به وكأننا نشاركه الرقص، شاكس وتلاعب بإعجابنا لدرجة أننا كنا نطلب منه المزيد، استفرد وحيداً في الساحة الضيقة لمطعم بسيط مازال يجمع أصدقاء وكتاباً وشعراء وفنانين، لكننا كنا جميعاً معه في تلك المساحة الضيقة نرقص ونحن جالسون، ونهلل ونضحك لليل دمشقي أصرّ رواده على البقاء في دمشق مهما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، لكن هل لي بأن أعلمكم بأن ذاك المطعم الصغير قد أغلق أبوابه قبل يومين من وفاة خالد، في دمشق تكثر المواعيد مع الرحيل دون أن نعترف بأن المدينة تضيق وتضيق، نحن لا نريد الاعتراف بذلك تماما مثل خالد، رحل خالد وعينه على دمشق، وكان القرار بأن يدفن في دمشق تكريماً له ولها، دفقة فائضة أو لازمة من الحب من قلب لم تسعفه الشبكات الطبية الكثيرة بالبقاء ليحرس المزيد من ليالي دمشق وأهلها وحكاياتهم ورواياته المخطط لها لكنها لم تكتب بعد. ها هو الآن، خالد خليفة الروائي والسيناريست والفنان الذي أهدانا جميعا لوحات رسمها بمتعة وفرح، يرقد في عليائه وفي علياء دمشق في مقبرة التغالبة في حي المهاجرين، يحرس ليل دمشق وأسرار أهلها، سيكتب من هناك رسائل لها، تفوح منها رائحة البرغل والفريكة، أناشيد الأمهات والشقيقات والعمات والخالات والأصدقاء والصديقات وكل الحالمين أو العابرين لانكسارات الأحلام وأسماء الأماكن العصية على الوصول إليها كقريته الغالية والبعيدة عنه كما هو بعيد عنها وعنا.
لا عزاء في كل هذا الرحيل الموجع، لا الكتابة تنهض دون فرسانها ولا الروايات قادرة على كتابة نفسها دونما رواة قرروا الكتابة كفعل من أجل البقاء أو لإحياء المدن والبلدان.
لمن تركت الرواية يا خالد؟ لمن تركت دمشق وضيقها وليلها ونهارها، وأصدقاءك وقراءك وكل السعداء بأنهم عرفوك ولو لمرة، مرة واحدة لكنها كانت كافية ليقولوا: نعم نحن نعرفه! إنه صديقنا ونحبه. مات صديق الجميع، يا لهول هذا الفقد، مات وزرع في قلوبنا قبراً جديداً.
شيعناه اليوم، قالوا إنها جنازة كبيرة، تساءل الجميع عن هويته، صفقنا له ما استطعنا وكأننا ندعوه للنهوض علّه يستجيب، تركناه هناك يشرف على دمشق، لم يلّوح لنا وداعاً، لكننا لوحنا له كي يرى أننا كنا هنا من أجله، كلنا بكاه وناداه، لم يجب، يبدو أنه يحضر لرواية جديدة يرد فيها على كل نداءاتنا الملتاعة، نحن ننتظر يا خالد، من الصعب جدا أن نسلّم بهذه الخسارة التي أبكت حجر دمشق وقلبها كما أبكتنا.
على الطاولات وعلى الحوائط والأرضيات تتوزع البسط التقليدية الملوّنة بأشكال مختلفة، متسيّدة أثاث المكان وزينته، في ورشة “فجّة خُرق”، الواقعة في محافظة السويداء جنوب سوريا، تُطلق نساء سوريات العنان لأيديهن وخيالهن عبر حياكة بسط تراثية تكاد صناعتها تندثر في عصر السرعة، بدأت فكرة المشروع مع ازدياد حركة الوافدين والوافدات إلى المحافظة، ومع ظهور الحاجة لخلق فرص عمل جديدة تتماشى مع حركة النزوح.
في مبنى الورشة المشيد من الحجر الأسود القديم الذي يميز بيوت السويداء، تجلس صاحبة المشروع السيدة خلود هنيدي بأناقة سيدة سورية واثقة، تتدلى النظارة الطبيّة على قماش فستانها الأبيض، وتزين جيدها وأذنيها بحليّ من الأحجار الطبيعية الملونة، تلخص هنيدي التي عملت سابقاً كأخصائية نفسية ماهيّة المشروع وتقول في تصريحات خاصة لموقع صالون سوريا، “فجة الخرق تعني البساط المصنوع من بقايا الأقمشة، جمعت الورشة سيدات من مختلف المدن السورية بالإضافة إلى نساء من المجتمع المحلي، فكانت أشبه بسوريا مصغّرة”.
تعتبر فجج الخرق إحدى الصناعات شبه المنقرضة، تشرح هنيدي “رغم أنها ليست الحرفة الوحيدة المهددة بالانقراض إلا أنها تكتسب أهمية خاصة لسهولة الحصول على المادة الأولية وتوافرها في كل منزل، كما أنها تحقق بإنتاجها كلا الجانبين: الخدمي والجمالي ويمكن تطويرها بما يخدم احتياجات البيوت المتنوعة، ويقوم أساس الحرفة على استخدام بقايا الأقمشة لتصنيع العديد من القطع الجديدة مثل البُسط، وأغطية الأرضيات، ولوحات تزيين الجدران”.
قديماً كان أفراد الأسرة يحوّلون كل ما لديهم من أقمشة لشرائح ويأخذونها الى النوّال ليعيدها إليهم بساطاً، تضيف هنيدي “بحسب معلوماتي يعود تاريخ صناعة البساط اليدوي في بلاد الشام والعراق والجزيرة إلى القرن الثامن عشر، وأعتقد أن بداية صناعة فجّة الخرق تعود إلى الفترة ذاتها”.
وجود نساء من خلفيات جغرافية وثقافية متنوعة، وسياقات اجتماعية مختلفة ساهم في إغناء التجربة وإخراجها من حدود العمل اليدوي فقط. تشير هنيدي، “لعب هذا دوراً في بناء علاقات حقيقية اتسمت بالفضول والرغبة بالمعرفة، حيث لا تعرف معظم السيدات الوافدات عن مدينة السويداء أكثر من موقعها على الخريطة ربما، وفي الوقت نفسه استطاعت نساء المحافظة من مجتمع السويداء في أقصى الجنوب السوري أن يتعرفن على ظروف الحياة في المدن السورية الأخرى وهذا ما خلق ألفة كدنا نضيعها في ظروف الحرب وتداعياتها”.
بات مشروع “فجة خرق” الذي أبصر النور عام 2017، يوفر مساحة آمنة للنساء للتعبير عن أفكارهن ومخاوفهن ومشاكلهن، لاسيما أن هنيدي بالأساس أخصائية نفسية، وفي ذلك تقول ” وفّر المكان الأليف للورشة والجو المبني على المحبة فرصة للبوح ومشاركة المتاعب اليومية بين السيدات. وهذا ما جعلنا نتجاوز حدود العمل اليدوي وأن نُوجد هامشاً مشتركاً لتبادل المشاعر والأفكار، من خلال جلسات الدعم النفسي التي ترتكز على واقع الحياة اليومية، ومشكلات التهجير والأوضاع المادية والتعامل مع الأطفال، وتطورت الفكرة فيما بعد لتصبح نهجاً دائماً ما زال مستمراً حتى اليوم”.
يحقق المشروع عدة أهداف معاً، فهو مكان لتمكين النساء مهنياً من جهة، ومشروع صديق للبيئة من جهة أخرى، تضيف هنيدي “إعادة التدوير هي إحدى طرق حماية البيئة من التلوث بالإضافة لما تحققه من ترشيد، عبر إعادة إنتاج قطع للاستخدام المنزلي بأسعار معقولة وبمستوى فني جيد وبمواد آمنة، مشروع فجج الخرق غير مكلف مادي لذلك يمكن اعتباره بديلاً مناسباً”، وتختم هنيدي “يعّبر المشروع عن التماسك المجتمعي المفقود في سوريا اليوم، حيث استطاعت الجلسات النسائية الناعمة تجاوز أشكال الخلافات اللي فرضتها النزاعات”.
إن تاريخ الأمة ومجد الوطن يصنعه أبناؤه الأوفياء من النساء والرجال ويفنون أعمارهم من أجل حرية ونهضة وطنهم، بعضهم يكتب صفحاتٍ في ميادين البطولة والنضال وبعضهم يهدي الأمة إلى سُبل العلم والمعرفة. فبهذه الطريقة قد أعطت الأمم دليلاً على تقدمها وشاهداً على تاريخها الحضاري. وأحد أولئك القامات، السيدة العربية السورية عادلة بيهم الجزائري. وصفتها ابنتها بأنها امرأةٌ شديدة البأس، ماضيةٌ كالسيف، شجاعة الفؤاد، ولقد كانت أحد أهم روّاد النهضة السياسية النِسوية في سوريا. وولدت في زمنٍ كان فيه الطغيان العثماني على أشده، لا يتوانى عن أي طريقةٍ يضطهد بها الشعب ويسحق شعوره القومي. فعاشت عمرها تناضل من أجل تحرير وطنها العربي وتحرير المرأة. كان والدها عبدالرحيم بيهم جزائري الأصل، ولقد ولدت في بيروت عام 1900، ثم انتقلت للعيش في سوريا. درست في معهد (Diaconese) الألماني في بيروت، وتتلمذت في اللغة العربية على يد العلامة عبد لله البستاني، صاحب معجم البستان. بعمرٍ مبكر، في سن السادسة عشرة، بدأت نشاطها الفكري للدفاع عن الهوية العربية، فكتبت مقالات في الصحف الوطنية، كصحيفتي الفتى العربي والمفيد البيروتية، متخذةً اسماً يدل على تمردها وكرهها للمحتل (الفتاة العربية نزيلة الأستانة). وبعد أن ساءت الأوضاع في الحرب العالمية الأولى اجتمعت عادلة بيهم مع عددٍ من رفيقاتها للقيام بعملٍ منظم حاولن من خلاله تحقيق مساعيهن في إيقاظ الوعي القومي العربي لدى النساء وتعليم الفتيات اللواتي لم تتح لهن الفرصة في التعلم. نتج عن هذه الجهود جمعية تمت تسميتها (جمعية يقظة الفتاة العربية). كان لهذه الجمعية رأيها الواضح الصارم في بعثة الاستفتاء التي زارت دمشق برئاسة(Crane) فطالبت بالاستقلال التام للبلاد العربية ورفض الحماية والوصاية والانتداب. أيضاً شاركت الجمعية في تنظيم مظاهراتٍ برئاسة السيدة عادلة بيهم في المقاومة ضد الانتداب الفرنسي. كما نظمت الجمعية لجنةً تشرف على دارٍ للصناعة، والتي ضمت مئة وثمانين عاملة للحرف اليدوية. بعد ذلك أسست الجمعية برئاستها مدرسة دوحة الأدب للبنات عام1928.
مدرسة دوحة الأدب: تعد هذه المدرسة أحد أهم وأشهر إنجازات عادلة بيهم التي لاتزال ناشطةً حتى الآن. هدفت هذه المدرسة إلى تعليم الفتيات في الأسر غير الميسورة واللواتي حُرمن من التعليم بسبب الظروف القاهرة. ولم يقتصر نشاط هذه المدرسة وأثرها على القطر بل تجاوزاه إلى الأقطار العربية حيث تلاقت الجهود والمساعي الإصلاحية لدعم دور المرأة في المجتمع، ونتج عن هذا التلاقي تعاون بين جمعية العلماء في الجزائر وجمعية دوحة الأدب في سوريا. ففي عام 1938، وكما تخبرنا الوثائق التاريخية، جرت مراسلات مكتوبة بخط اليد بين الشيخ عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية “العلماء المسلمين الجزائريين” والسيدة عادل بيهم رئيسة جمعية “دوحة الآداب”، وسعى الشيخ ابن باديس من خلال تلك المحادثات للحد من الضرر العلمي الذي ٍخلفه الاستعمار الفرنسي في الجزائر، معتقداً أن القضاء على الجهل يكون بتعليم المرأة فهو العماد الأول الذي يجب تأسيسه للبدء في الترميم وعلاج الأضرارٍ، طالباً من السيدة عادلة أن تبين له الشروط المطلوبة للسماح للفتيات الجزائريات إتمام دراستهن في الشام. أما نص الرسالة فهو التالي: “الحمد لله و الصلاة والسلام على رسول الله وآله، قسنطينة 9 جمادى الثانية 1357ه،حضرة السيدة الجليلة رئيسة جمعية دوحة الآداب المحترمة، السلام عليكم ورحمة الله و بركاته، وبعد: اسمحي لي سيدتي أن أتقدم إلى حضرتكم بهذا الكتاب عن غير تشرف سابق ٍبمعرفتكم، غير ما تربطنا به الروابط العديدة المتينة التي تجمع بين القطرين الشقيقين الشام والجزائر. يَسرُّك سيدتي أن تعرفي أن في الجزائر نهضة أدبية تهذيبية، تستمد حياتها من العروبة والإسلام غايتها رفع مستوى الشعب العقلي والأخلاقي. ومن مؤسسات هذه النهضة جمعية التربية والتعليم بقسنطينة. ولما علمت إدارتها بجمعيتكم المباركة بما نشرته عن مجلة “الرابطة العربية “رغبت أن ترسل بعض البنات ليتعلمن من مدرسة الجمعية. فهي ترغب من حضرتكم أن تعرفوها بالسبيل إلى ذلك. تفضلي سيدتي بقبول تحيات الجمعية وإخلاصها والسلام. من رئيس الجمعية عبد الحميد بن باديس“. لم ترد السيدة عادلة أن تكون أنشطة الجمعية مقتصرة على مستوى التعليم فقط، بل أرادت توسيع الأنشطة لتشمل الأنشطة الفنية أيضاً. ولهذا الغرض سافرت إلى حلب للقاء “الشيخ عمر البطش” الذي يعد حافظ للموشحات وأكبر مرجع في الأغنية التراثية. ونتيجة لهذا التعاون شهدت مدينة دمشق عام 1947 حدثاً هو الأول من نوعه، كما ذُكِر في كتاب “الموسيقى التقليدية في سوريا“ للباحث السوري الراحل حسان عباس، الذي نشره مكتب اليونيسكو في بيروت. حيث أخذت عادلة بيهم من الزعيم فخري البارودي الموافقة على تدريب الفتيات على الغناء ورقص السماح وإحياء حفلة، فكانت هذه المرة الأولى التي ظهرت فيها الفتيات الدمشقيات وهن يؤدين حفلاً غنائياً راقصاً أمام العامة على خشبة مسرح قصر العظم بحضور رئيس الحكومة آنذاك خالد العظم. ورقص السماح هو أحد أنواع الرقص التقليدي الذي ارتبط بفنون الموشحات، وانتشر هذا النوع من الرقص في حلب قبل أن يأتي ويتم نشرهُ في دمشق. لكن كما كان لهذا الحفل أصوات مرحبة به ومشيدة بنجاحه، كان يوجد العكس. إذ إن الحفل لم يلقَ رضى قاضي دمشق الشيخ علي الطنطاوي، فشرع بالهجوم في المنابر والصحف على عادلة بيهم والحفل الذي أقامته المدرسة “فوصف مدرسة دوحة الأدب على أنها دوحة الغضب، قائلاً إنهم ينظرون إلى الغرب بعين الرضى ويغمضون أعينهم عن تلك العيوب والمفاسد. كما وصف لباس الفتيات بأنه يشبه لباس الجواري قديماً، فتاريخ دمشق الإسلامي مصدر افتخارها، فكيف يرضى مسلمٌ عربي أبي لابنته أن ترقص أمام الرجال الأجانب؟ وكيف يرضى بأن تتلوى وتخلع وهي تغني أغانٍ كلها في الغرام والهيام؟“.
الاتحاد النسائي العام:
لم تكتفِ السيدة عادلة بيهم بجمعية تشمل أنشطتها دمشق فقط، بل أرادت أن تشمل هذه الخدمات القطر بكامله، وبالفعل تم الأمر بعد اجتماع أربع عشرة جمعية اتفقت على تأسيس “الاتحاد النسائي العام السوري” لتكمل هذه المسيرة في السعي لتحرير المرأة ودعمها في تأدية واجباتها وإعانتها على أخذ حقوقها، وانتُخِبت السيدة عادلة لتكون رئيسةً للاتحاد. عُني الاتحاد أولاً بتوعية المرأة السورية بحقوقها وواجباتها، فأقام دورات متواصلة لمحو الأمية في صفوف النساء. كما اهتم بتقديم الدعم للمرأة العاملة، إما من طريق السعي لتحسين دخلها أو تقديم برامج ودورات تقوية في مجال العمل، ولم تُغفل هذه البرامج المرأة الريفية، فقد عمِل الاتحاد على التمكين الاقتصادي وتقديم فرص العمل على المشاريع الزراعية والصناعات. علاوة على ذلك عُني بالجانب الصحي عن طريق تقديم الخدمات الصحية اللازمة والمرفقة بجلسات التوعية.
كان للاتحاد إسهاماته المؤثرة أيضاً في مواجهة الاحتلال وداعماً للنضال العربي والتي ينبغي ذكرها: ١- في حرب فلسطين ضد الاحتلال الإسرائيلي: تكاتفت الجهود في تقديم المساعدات للمرأة الفلسطينية القادمة إلى سوريا وقُدمت بالتعاون مع السيدة “بهيرة الدالاتي” مساعدات صحية ومالية لرعاية العائلات اللاجئة وفُتحت المدارس لاستقبال أولادهم. كما جُندت مئات المتطوعات في الاتحاد النسائي للمساعدة في خياطة ثلاثة آلاف بذلة عسكرية للجنود السوريين المتطوعين في جيش الإنقاذ. ٢- قدم الاتحاد دعماً كبيراً خلال العدوان الثلاثي على مصر: حيث قادت عادلة بيهم النساء السوريات وتدربت على حمل السلاح في معسكرات أُقيمت في ريف دمشق، تحت عمليات عُرفت باسم “غرف المقاومة الشعبية“. ٣- في حرب تشرين: ظلت السيدة عادلة ناشطة في الدعم الإنساني، ورغم تقدمها في السن لم تتغيب عن حملات إسعاف الجرحى خلال الحرب. ٤- موقف الاتحاد من الجمهورية العربية المتحدة: أيد الاتحاد برئاستها الوحدة السورية المصرية عند قيامها عام 1958. وكانت أحد المستقبلين للرئيس جمال عبد الناصر، فقد كانت السيدة عادلة تكن الكثير من الاحترام للرئيس عبد الناصر الذي أعطى المرأة المصرية حق الانتخاب، فكانت تلتقي به كلما أتى إلى سورية وتتحدث معه عن احتياجات ومطالب الاتحاد النسائي. ونظراً لما قدمه الاتحاد من إسهامات، فقد تم دعوة السيدة عادلة بيهم بصفتها رئيسة الاتحاد، لمختلف الاجتماعات والمؤتمرات داخل الوطن العربي وخارجه. حضرت الكثير من المؤتمرات وشارك الاتحاد بوفدٍ مؤلف من ثلاثين عضواً للمشاركة بالمؤتمر النسائي الفلسطيني الذي عُقد في القاهرة وتم انتخاب عادلة بيهم نائبةً لرئيسة المؤتمر السيدة هدى شعراوي والذي تأسس في عام1944. شارك الاتحاد النسائي السوري برئاستها في المؤتمر العربي العام أيضاً، وكذلك في المؤتمر النسائي الأول المُقام في بيروت. وفي عام1960تم انتخابها رئيسة للجنة التحضيرية للمؤتمر الآسيوي الإفريقي. تلقت أيضاً دعوة من الاتحاد النسائي الصيني لزيارة جمهورية الصين وحضور العيد الوطني، كما أنها حضرت مع وفد الاتحاد المؤتمر الآسيوي. دُعيت في عام 1969 لحضور حفل اليوبيل الذهبي لاشتراك المرأة العربية في ثورة 1919، كما أنها تلقت دعوة للحضور والمشاركة في اليوبيل الذهبي لتأسيس الاتحاد النسائي المصري في القاهرة.
الجمعيات التي ضمها الاتحاد ضم الاتحاد النادي النسائي الأدبي، يقظة المرأة الشامية، خريجات دور المعلمين، دوحة الأدب، الندوة الثقافية النسائية، الإسعاف النسائي العام، الجمعية الثقافية الاجتماعية، المبرة النسائية، جمعية نقطة الحليب.ولم تكن الطريق ممهدة أمام هذه الجمعية فقد واجهت العديد من العوائق، وعلى الرغم من أن هذه الجمعية وغيرها كان غرضها المساعدة الجادة للقيام بنهضة وتحسين أحوال المرأة، إلا أنه كان دائماً هناك من يرفض هذا التغيير ويراه سلبياً وأحياناً مضللاً. ففي أحد اجتماعات الاتحاد النسائي تمت الدعوة لإقامة بحفل خيري في دمشق هدفَ إلى جمع التبرعات لصالح جمعية نقطة الحليب. لكن الجمعيات الدينية اعترضت على الحفل بحجة أن النساء الحاضرات في الحفل سافرات. وخرجت المظاهرات في دمشق مطالبةً بإلغاء الحفل وعدم السماح للسيدات بحضور الاحتفالات إلا أن الرئيس سعد الله الجابري رفض الاستجابة لمطالب المتظاهرين وأرسل عناصر الشرطة لتفريقهم، ثم طلب من السيدة عادلة الحضور في مكتبه وتم الاتفاق على أن يقوم الاتحاد النسائي بحجب المعونات التي كان يقدمها للناس، لبضع ساعات لا أكثر وأن يتم الرد عليهم: “اذهبوا إلى المشايخ وخذوا خبزكم منهم“. بالفعل قبلت السيدة رئيسة الاتحاد مطلب رئيس الحكومة، وتم الاعتذار من كل من جاء إلى مراكز التوزيع التابعة للاتحاد والطلب منهم أن يذهبوا إلى الجمعيات الدينية. لكن لم يستطع رجال الدين تلبية المطالب والحاجات، فسكت المعارضون وتابعت الجمعية أعمالها. واصلت السيدة عادلة بيهم العطاء إلى أن وافتها المنية عام 1975. وفي اليوم العالمي للمرأة، منح الرئيس السوري حافظ الأسد عادلة بيهم الجزائري “وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة“ لكنها لم تتمكن من استلامه فاستلمته نيابة عنها ابنتها ورفيقتها في الكفاح أمل الجزائري.
يعيش أهالي محافظة الحسكة منذ عقد ونيِّف حياة مُظلمة وواقعاً مَعِيْشياً متردياً، انقسم المجتمع فيه إلى طبقتين متفاوتتين في الحياة والمتطلبات والآمال، وما عانته المحافظة التي مثَّلت سلة الغذاء السورية في العقود المنصرمة في ظل سنوات الحرب ’’زاد الطين بلة‘‘ طوال سنوات الجفاف الذي ضرب حوض نهر الخابور، وأخرجه عن دوره الفعَّال في دائرة التنمية الاقتصادية للبلاد؛ وبرغم ما قدمته المحافظة من خيرات وثروات كانت تدفع بالاقتصاد السوري بقوة إلى الانتعاش، إلا أنَّ واقع الحياة في محافظة الحسكة بريفها الشاسع يكاد يكون مُغيَّباً تماماً عن عين الإعلام بالعموم وعن طاولة الحوار السوري بشكلٍ خاص، وبعيد نوعاً ما عن التغطية المُنظَّمة للإعلام، عدا تقارير خجولة ومقتضبة لا تَمسُّ حياة المواطنين وتتبَّع مشاكلهم وهمومهم إلا بالقليل النادر كانتباهة النائم الذي أثقل الوسن جفونه، وقد يكون لذلك أسباب كثيرة لا مجال لحصرها، وكان هذا الدافع للقيام بجولة في المحافظة وريفها لرصد بعض الصور من واقع الحياة هناك، ومحاولة التعرّف على بعض التحدِّيات والصعوبات التي يواجهها السكان لتأمين حياتهم ومتطلبات عيشهم.
واقع معيشي في عالمٍ موازٍ:
يعتمد أبناء الحسكة في معيشتهم بشكل عام كمجتمع زراعي على ما تَجود به الأرض من خيرات، إلى جانب تربية المواشي والاستفادة منها في رفد وتنويع الموارد الحيوية التي يبنى عليها الاقتصاد في المحافظة، إضافة إلى التجارة والصناعة الاستهلاكية الخفيفة التي لا تكاد تغطي متطلبات السوق المحلية، فخلو المحافظة من المعامل والشركات الصناعية الكُبرى والثقيلة أجبر السكان على البقاء في دائرة الاقتصاد الزراعي البدائي ومشتقاته، وهذا ما شكَّل تحدياً صعباً لما يُقارب المليون نسمة في تأمين مستلزمات البناء والزراعة، خاصة في ظل الجفاف الذي ضرب المنطقة منذ العقد ونصف الماضي، مع حلول الأزمة السورية التي أتت لتُفاقم الأزمة الكبرى الواقعة.
هذا، ومع بداية الأزمة السورية خرجت المحافظة بامتدادها الواسع على دائرة السيطرة الحكومية التي تقلَّصت في مساحة محددة وسط المدينة، وبقي الاقتصاد الذي كان يعاني الجفاف لسنوات رهن سيطرة التنظيمات والميليشيات المتتابعة على المنطقة، وغياب التنظيم والتوزيع العادل للموارد على القطاعات الإنتاجية في المحافظة وتخبّط السياسة الاقتصادية وغيابها في معظم الأحوال، الأمر الذي عرقل وبشكلٍ مُتسارع الوضع المعيشي لأهالي المحافظة، حيث بدأت علامات الهزال الاقتصادي تبرز في مظاهر الحياة كافة، لجأ السكان إثر ذلك وهم بحاجة لمورد يدفع عنهم شَبَح الفقر، إلى حلول إسعافية بديلة بعد سيطرة الميليشيات على منابع النفط وإدارتها لتجارة الفيول وتوافره بسعر زهيد إلى تكرير النفط الخام بطريقة بدائية، وإغراق السوق بالمُشتقات النفطية المُشبعة بالرصاص المُشع، وهذا ما نتج عنه لاحقاً آثار مرعبة على البيئة والصحة في عموم حوض الفرات غصَّت بها مشافي الأورام والأمراض المُزمنة؛ ما خلق نوعاً من دائرة اقتصادات تقوم على تجارة المشتقات النفطية والمنتجات التي يسهُل تسويقها وبيعها في أسواق محلية وعلى الطرقات، حتى حلول عام 2018 بُعيد تطهير فلول داعش من ريف المحافظة بشكلٍ عام، مع انتهاء الجفاف الذي استمر لأكثر من عقد وبداية موسم مطري غزير وفَّر آلاف الهكتارات من المحاصيل الزراعية البعلية، انتعشت خلاله الأوضاع المعيشية في المحافظة بمختلف قطاعاتها.
أسواق محلية في قضاء المحافظة:
بدأت الأوضاع المعيشية للسكان مَطلع العام 2019 بالخروج من دائرة الضيق بعد الاستقرار النسبي الذي طال المنطقة، وانتشار الأسواق والمزادات المحلية في المناطق والأرياف بعيداً عن مركز المدينة، والتي نشأت وتوسّعت حول تجمُّعات من باعة المشتقات النفطية ودلَّالي المواشي ومكاتب بيع السيارات وذلك لسهولة تصريف البضائع خاصة وأنَّ هذه الأسواق لا تخضع لرقابة مباشرة لأي جهة ما؛ إثر موسم زراعي وفير بدأ ينحسر مع انحباس الأمطار نهاية شتاء هذا العام، يقف أبو فارس والذي يعمل دلَّال مواشٍ في وسط سوق “الحدادية” للمواشي في ريف الحسكة الجنوبي منادياً بأعلى صوته على المواشي التي جُلبت لتباع في السوق يوم السبت، وأشار خلال لقائه صالون سوريا إلى حركة السوق القوية المعتادة في هذا اليوم في فصلي الشتاء والربيع في كل عام، إلا أنه يعلّل ضعف القوة الشرائية إلى انحباس المطر هذا الشتاء وإلى تواتر العرض والطلب على أنواع محددة في الصيف، خاصة بعد عزوف تجار محافظات الداخل من حماه وحلب عن ورود هذه الأسواق بعد انحباس المطر نهاية الموسم الذي أجهض الكثير من الاحلام والتوقّعات.
ويضيف محمود وهو مُحاسب في سوق الحبوب أن هذه الأسواق أعطت الناس فرصاً جديدة للبقاء على قيد الحياة ومنحتهم بعض الاستقرار على حد تعبيره على الرغم من الغلاء الذي يتأفف منه الجميع ويُقيّد حركة السوق، أمَّا هُمام طبيب الأسنان الذي افتتح عيادته في السوق ذاتها وقد وجد فيها خطوة آمنة، أفاد لصالون سوريا أنَّ ارتفاع الأسعار اليومي نتيجة نسب التضخم المتفاقم وتذبذب سعر الصرف، أخرج الغالب من سكان الأرياف من دائرة الأمان المعيشي ووضعهم تحت خط الفقر، فالكثير من زائريه في العيادة من السكان المحليين يعتمد في حياته على البيع المتفرق للمواشي وتسويق المحصول السنوي وبيعه في سوق محلية تخضع للعرض والطلب المحلي، وكل ذلك يعتمد على الطقس وموسم الأمطار الذي يُنعش السوق ويبعث الحياة في نفوس الأهالي؛ ما قد يجعل من عمله في هذا المكان آمناً ومريحاً نوعاً ما، ذلك أنَّ عيادته تُجنِّب الكثيرين عناء الذهاب إلى المدينة.
هجرة مُتسارعة للشباب: في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية لجأ الكثير من الشباب في المحافظة إلى اختصار الطريق وتحويل بوصلتهم تجاه أوربا، فبمبلغ يصل نحو 10 آلاف دولارٍ اختار أحمد خريج قسم اللغة الإنكليزية، أن يسلك طريقاً محفوفة بالمخاطر وينطلق هذا الصيف عبر الحدود التركية إلى أوربا هارباً على حد تعبيره من دوامة المجهول التي انتهت إليها المنطقة، بعد أن استنفدت قواه في تحمّل الواقع المعيشي الصعب، وبرغم استدانته للمبلغ الكبير ومخاطرته بحياته في الطريق إلى أوربا، لكنه يرى أملاً في نهاية الطريق قد يُغير من حياته وحياة أسرته.
ظروف تعليميِّة من وحي واقع الحال: لا زال ريف محافظة الحسكة يعاني بشدة من تبعات الانقطاع التعليمي الذي فرضته الحرب في ظل سيطرة الميليشيات المتتابعة في الجزيرة السورية بعامة، وخروج غالب مدارس المحافظة عن خطة الوزارة التربوية في دائرة التعليم الحكومي، ما أسفر عن ظروف تعليمية انعكست على مستقبل مئات الآلاف من الطلاب بحلقاتهم المتعددة وذلك بحسب توجّهات كل من التنظيمات والميليشيات المُسيطرة، وقالت السيدة أم أحمد في لقائها صالون سوريا إنَّ الواقع المعيشي انعكس على جميع مناحي الحياة بما في ذلك واقع التعليم في المنطقة، وأشارت بدورها إلى أنَّ المستوى التعليمي في مدارس المنطقة قد تردَّى إلى أقصى حد، وذلك يعود إلى أنَّ ما يُعرف بالإدارة الذاتية التابعة لقسد قد أقامت نظاماً تعليمياً في مناطق سيطرتها تستند فيه إلى جملة من المدرسين والإداريين الحاصلين على الشهادة الإعدادية، وعدد قليل من حملة الشهادة الثانوية، إلا أنَّ حَمَلَة الإجازة الجامعية يُعَدُّونَ نسبة ضئيلة جداً في تلك المنظومة التعليمية، وأشارت بدورها زهرة وهي ربة منزل وأم لستة أولاد بكلمات مقتضبة إلى أنَّ تراجع مستوى التحصيل الدراسي للتلاميذ في مدارس المنطقة في ريف الشدادي يعود إلى ضعف الخبرة التدريسية للمعلمين، وافتقار معظم المدرسين إلى أسلوب تعليمي يوجِّه مُخرجات العملية التعليمية نحو أهداف أكثر فاعليِّة، كون الغالب من هؤلاء المُدرسين يحتاج إلى ضبط لغته العربية قراءةً وكتابة”، ما انعكس على تراجع تحصيل الطلاب الدراسي بشكل تفاقمي أدى إلى استمرار الأمية بين كثير من الطلاب، انتهى بأهالي التلاميذ النظر إلى مستقبل أطفالهم التعليمي بعين الإفلاس، وعَدّهم التعليم بلا جدوى في ظل الفشل المتكرر، ما حدا بالكثيرين إلى إخراج أبنائهم من المدارس والزجّ بهم في شتى الأعمال والمصالح اليدوية لتأمين كفاف العيش.
ومن وجهة أُخرى، التقى صالون سوريا بفاطمة وهي معلمة بشهادة إعدادية حكومية انخرطت في السلك التعليمي التابع لما عُرف بالإدارة الذاتية وأفادت برأيها ” أنَّ الواقع يفرض نفسه على الجميع وأنَّ هذا الحال أفضل من بقاء الطلاب دون تعليم، خاصة بعد خروج داعش من المنطقة، فقد وفرت هذه المنظومة التعليمية مورداً شهرياً لعائلتها يصل إلى حوالي 80 دولاراً أغناها عن سؤال الناس، كما أنَّ هذه المنظومة في حلقتيها الأولى والثانية كانت بمثابة حلقة ترميمية أعادت الكثير من الأطفال والطلاب إلى مقاعد الدراسة، وعلى الرغم من عدم قبول الحكومة للشهادات التي تصدر عن هذه الجهة، لكن بإمكانهم متابعة الدراسة الإعدادية وقتما شاؤوا في مركز المحافظة”، وبهذا الحال أضحت الظروف المعيشية والمادية وبُعد الطلاب من المدينة أو قربهم هو الفاصل بين تحصيل التعليم وإكماله أو الاكتفاء بمحو الأمية، ما شكَّل تحدياً يُضاف إلى قائمة طويلة من الصعوبات بات يعانيها أبناء المحافظة.
أعمال صناعية محلية وواقع زراعي: تندرج محافظة الحسكة ضمن المحافظات النامية، وتشكِّل الزراعة والثروة الحيوانية العمود الفقري لاقتصاد المحافظة، وتشتهر بزراعة القمح والقطن بشكلٍ واسع، إضافة إلى الخضار والبقوليات وبعض الفواكه، وقد انخفضت نسبة مساحة الأراضي المروية بشكل كبير خلال الأعوام الماضية، حيث تُمثل المساحة المزروعة في المحافظة في العام 2007 نسبة 29% من إجمالي مساحة الأراضي الزراعية في سورية، خرجت اليوم نسبة كبيرة منها عن دائرة الإنتاج الزراعي، وأفاد أبو قاسم لصالون سوريا وهو صاحب مركز لبيع أدوات الطاقة الشمسية في سوق منطقة الـ 47 “أنَّ الناس تعمل رغم كل الظروف الصعبة وضعف المردود، وغالب الفلاحين بدأ يتجه إلى الاعتماد على الطاقة الشمسية لري أرضه في ظل الانقطاع المتواصل للكهرباء وشح الامطار، ما وفَّر المشتقات النفطية التي تحولت إلى القطاعات الإنتاجية الأخرى”. وأشار فرحان في حديثه مع صالون سوريا وهو فلَّاح يسقي أرضه على ضفة نهر الخابور أنَّ شح المياه وانقطاعها أحياناً في فصل الصيف يؤدي بالنبات إلى العطش والذبول ما أجبره على حفر بئر وتركيب مضخة وكل ذلك يرفع من تكاليف الإنتاج، عدا عن التكاليف الباهظة للحراثة والبذار وأدوية مكافحة الآفات، ويترحّم فرحان على أيام الخير والبركة قبل اندلاع الأزمة في البلاد حيث البذار المُحسنة والأسمدة ورخص المحروقات”، إضافة إلى أنَّ فلاحي الحسكة يفتقرون للثقافة الزراعية مع غياب دور الوحدات الإرشادية الزراعية بشكلٍ عام، فالواقع المعيشي وارتفاع أسعار وتكاليف الأدوات الزراعية من شبكات تنقيط ما شابه، واعتياده خطة زراعية واحدة منذ عقود جعلت الغالب منهم يعزف عن زراعة الكثير من المحاصيل الزراعية ذات المردود العالي كالسمسم وعباد الشمس والزعفران ويتَخوَّف من زراعتها ويَعدّها مُجازفة، وذلك لافتقاره المعرفة بدورتها الزراعية وكل ما يتَّصل بزراعتها والاهتمام بها. بعد الاستقرار النسبي الحاصل في المحافظة مَطلع العام 2020بدأ قطاع الصناعة أكثر نشاطاً منذ اندلاع الأزمة السورية قبل عقد من الزمن، وانحصرت الصناعة في دائرة تلبية حاجات السوق الزراعية ومواد البناء من البلوك والرخام والمواد الاستهلاكية من صناعة البلاستيك والغذائيات، ولا سيما المنتجات التي يسهل تسويقها وبيعها في الأسواق المحلية والتي تتوفّر المواد الأولية والخام لقيام صناعتها بخبرات وكوادر محلية. وفي حديثه مع “صالون سوريا” بيَّن خليل صاحب معمل “الحاصود” للبلاستيك والذي يُنتج خراطيم بلاستيك زراعية تُستخدم في الري، “أنَّ الآونة الأخيرة شهدت قيام بعض المعامل في المنطقة، غير أنَّ أصحاب هذه المعامل يواجهون مشكلات تتعلق بتأمين المحروقات التي ارتفعت أسعارها، إضافة إلى أنَّ الكميات المُخصصة للمعامل لم تعد كافية على حد قوله وأنهم باتوا يلجؤون لتأمينها بأسعار مُضاعفة من السوق السوداء ما يؤدي لارتفاع أسعار المواد المُنتجة لارتفاع تكلفتها”. ويُشار إلى أنَّ محافظة الحسكة والجزيرة السورية بالعموم شهدت توسّعاً كبيراً في الخارطة الصناعية وزيادة متتالية في المُنشآت الصناعية التي توزَّعت في الأرياف والمناطق ومراكز المدن، ومنها معامل الحلويات والغذائيات التي تقوم على المشتقات الحيوانية كالألبان والأجبان إضافة إلى المنشآت التي تُنتج مواد البناء كالرخام والبلوك، إضافة إلى أنَّ فتح باب الاستيراد من معبر فيش خابور (سمالكا) غير الشرعي الحدودي مع العراق في أقصى الشمال الشرقي لسورية، قد أسهم في زيادة ورود المواد الأولية والخام من الخارج وذلك يوفِّر للصناعات المحلية نمواً متواصلاً مما سينعكس بشكل إيجابي على اقتصاد المنطقة بشكل عام.
واقع عمل الشباب: فرص وتحديات
في ظل الأوضاع الراهنة وبسبب ندرة فرص العمل المستدام وانخفاض المردود، اتجه كثير من الشباب في المحافظة للتطوُّع في المنظمَّات والجمعيات التي تعمل في الجانب الإنساني، وتتوزع في شتى مناطق المحافظة سواء في الريف أو المدينة؛ والتي وجدوا فيها فرصة ذهبية لتحسين أوضاعهم المعيشية واكتساب الخبرات العملية، حيث يصل المرتب التطوعي الشهري في تلك المنظمات الدولية والجمعيات غير الحكومية إلى ما يزيد عن 200 دولار، إضافة إلى توافر شروط وبيئة عمل مناسبة تراعي تطلعات الشباب وتسهم بتمكينهم عملياً واجتماعياً، لكن ليس بإمكان الجميع العمل في تلك المنظمات فهناك مجموعة شروط تعطي الأفضلية لمن يحمل شهادة جامعية في أحد الاختصاصات الهندسية والإدارية أو إجازة في العلوم الاجتماعية والنفسية، كما يُعدّ إتقان اللغة الإنكليزية وعلوم الحاسوب أحد الأبواب الواسعة لضمان عقد عمل جيداً في تلك المنظمات. وأفادت شيرين وهي متطوعة كمُيسرة مهارات الحياة في أحد مخيَّمات اللجوء شمال الحسكة خلال حديثها لصالون سوريا أنَّ العمل التطوعي مع المنظمات الإنسانية غيَّر من مفهوم الحياة لدى كثير من زملائها في العمل، وبات البذل والعطاء بالنسبة لهم هو المحور الرئيس للعمل الإنساني في ظل ما عانته المنطقة خلال السنوات الماضية، وأكدت على حد تعبيرها أن الحلقة الأضعف في هذه الأزمة هم النساء والأطفال، فَصور المعاناة وقصص الفقد تقتحم حياتهنَّ وأطفالهنَّ خاصة في مُخيمات اللجوء في الحسكة. ويُضيف علاء وهو مدير مشروع في إحدى المنظمات الإنسانية “أن مجال العمل في المنظمات الإنسانية يحتاج لمهارات متعددة ومرونة عالية ولا شك أنه يختلف عن العمل في مجالات أخرى ويعطي خبرة واسعة في المجالات ذات الصلة، بالإضافة للمردود الجيد الذي بات يوفر للشباب حياة عملية ومعيشية جيدة نوعاً ما في ظل الأوضاع الراهنة.”
وفي سياق متصل، بات الكثير من شباب الحسكة يفتقدون للأمان والاستقرار المعيشي والاجتماعي وذلك بسبب عزوفهم عن الزواج وتكوين أسرة يستظلون بها من شمس العمر التي مالت نحو الزوال، فغالب الشباب من الجنسين يُعاني من صعوبات تأمين عمل مستدام يُغطي نفقات الزواج وإعالة أسرة صغيرة في لهيب الغلاء الذي تكتوي به البلاد. يقف صالح في شارع فلسطين وسط مدينة الحسكة لبيع القُطنيات وهو شاب تجاوز السابعة والثلاثين وأشار في حديثه لصالون سوريا ” أن فكرة الزواج أصبحت بعيدة المنال بعد كل هذا الغلاء، فمتطلبات الزواج باتت تفوق قدرتنا ومدخولنا، الآن نفكر بتأمين لقمة العيش ومساعدة العائلة الكبيرة على النفقات. ويضيف جورج وهو صاحب محل ألبسة نسائية: ” ما تزال تجارتنا آمنة نوعاً ما، لكنَّ السوق بشكل عام تعاني من ركود اقتصادي كبير والقدرة الشرائية للمواطنين باتت ضعيفة باستثناء فترة الأعياد ومواسم الحصاد” وبذلك فإن الظروف المعيشية وواقع الحياة بالعموم مُتصل بشكل وثيق بسعر الصرف وارتفاع نسب التضخم أو انخفاضها.
“ما لم نحظَ بعقدٍ كامل وتوافقي لشكل المواطنة نكون كمن يتحرك في مكانه، نحن نحتاج لئلا نستسلم للتكبيل المناطقي الذي سيجعل كل فئةٍ منّا تحارب وحدها، تحارب وتخسر أمام هيكلية منظمة!”. هذا الاقتباس هو تعبير عن رأي المهندس علي جمال المقيم في مدينة جبلة الساحلية والمتابع عن كثب للتطورات المتسارعة في الجنوب السوري وتحديداً تظاهرات السويداء. خلال حديثه مع “صالون سوريا،” بيّن جمال أنه من وجهة نظره فقد وقع أهل السويداء ضحية ارتكابات سياسية عفوية كانت كفيلة بإطاحة الدعم الواسع من حولهم والذي حظوا به في الأيام الأولى.
المهندس الإنشائي بحكم ما أسماه اقترابه من الشارع في حيزّه الجغرافي تمكن من رصد تحولات وتبدلات في مواقف بعض الناس في الساحل عاطفياً ووجدانياً خلال المرحلة السابقة، حيث يقول: “منذ عام 2020 على الأقل والناس تختنق في كل سوريا اقتصادياً، ظلّ الأمر كذلك حتى الربع الأول من العام الجاري ما بعد الزلزال والانفتاح العربي الهائل والقمة العربية والمسارات المتعددة فتنفس الناس الصعداء، دون مبالغة، ملامح أوجههم تغيرت، لكنّ ذلك لم يدم طويلاً، حتى أغلقت دمشق الأبواب في وجه كل تلك المسارات وعرف الناس أنهم عادوا للوراء كثيراً”.
ويضيف جمال موضحاً الواقع السوري: “صارت الأمور حينها أشبه بجمر تحت الرماد، البلد كلّها قابلة للانفجار، والدولة ببساطة قررت استفزاز الناس بلقمة عيشهم وبطريقة لا يمكن وصفها، كان ذلك في منتصف آب/أغسطس الفائت، فجأة اشتعلت البلاد كلّها، إن لم يكن بالتظاهر الذي بدأ في السويداء فبالصوت المرتفع على صفحات التواصل الاجتماعي ومن كل الأطراف”.
شرح جمال أنّ ما بدأ كشرارةٍ في السويداء كان مرشحاً لصبغ البلد بأكملها بلون واحد ذي مطلب واحد، “ولكن، قلّة الحنكة السياسية هناك وغياب الإشراف الدقيق وتداخل الأطراف والمرجعيات جعلَ الحراك سريعاً مناطقياً سياسياً لا معيشياً وجعله يبدو كما لو أنّه محصور بطائفة لا بلد، وهنا كانت بذرة الشقاق الأولى مع الجميع”.
الحكومة مرتاحة
يتفق الطبيب عزّت سليمان من حمص مع بعض آراء المهندس جمال، فيقول لـ “صالون سوريا”: “السوريون اليوم بحاجة لما يجمعهم لا ما يفرقهم، لا يوجد عاقل في الكون يمكنه التشكيك بوطنية أهل السويداء، أو أهل سوريا عامّةً، ولكن يمكن القول إنّه ببساطة تم جرّ المحافظة لفخٍ محلي غير قابل للتصدير اليوم على عكس أيامه الأولى، وهذا ببساطة ما يجعل الحكومة مرتاحةً ولربما سعيدةً بمشهد المكونات التي بدأت تخوّن بعضها ويشتم كلٌّ منها رموز الآخر على صفحات الفيس بوك”.
أخطاء كبيرة
يحاول هذا المقال الوقوف بشكل عقلاني وموضوعي على بعض المشاكل التي أحاطت بتظاهرات السويداء التي انطلقت بعيد منتصف شهر آب/أغسطس الفائت بقليل، والتي كانت مرشحة لتخرج من نطاقها المحلي وتغزو الخارطة السورية الواسعة التي تشاركها المشاكل والآلام ذاتها.
انطلقت تظاهرات السويداء في مرحلة وجدانيةٍ حساسة لعموم السوريين، مرحلة عنوانها كل “نظام” لا يطعمنا يجب أن يصير ماضياً، وهذا ما كان يمكن أن يُشتغل عليه لو خُطِط لتلك التظاهرات باستراتيجية أكثر تماسكاً وبصيرةً.
من نافلة القول إنّ إدلب الغارقة بمشاكلها في شكلها الحالي لم تكن لتشكل ثقلا إضافياً (غير عسكري) في تغيير الواقع السوري الذي يعتمد على الداخل في منطلقه ورؤيته، وكذلك شرق الفرات الذي غرق تالياً في مواجهات العشائر وقسد.
إذن، من المعلوم أنّ الثقل المحمول من الداخل عبر المحافظات التي تسيطر عليها الحكومة هي التي سترشح كفّة الموقف القادم، وعليه، كان يجب وبغض النظر عن اسم أول محافظة تنتفض، أن تجد سبيلاً للتنسيق مع بقية المحافظات والمكونات لتوحيد المطالب وتعميمها ليكون “الكفٌّ” إذا ضُرِب في درعا يسمع صداه في اللاذقية.
لذلك، كان خطأ الانتفاضة تلك واقعاً من اليوم الأول لها، اليوم الأول الذي تجمع فيه الناس وسط السويداء وفي قراها رافعين علم طائفة الموحدين الدروز (علم الحدود الخمسة)، بكلّ ما يمثل من رمزية وقدسية لهم، لكنّه لم يكن مفهوماً لبقية الشركاء في الأرض.
عزز غياب العلم السوري من خطورة قوقعة الحراك، ومع ذلك ظلّ الأمر لا يشكل فرقاً حقيقياً طالما أنّ المطلب واحد، وهو مطلب معيشي شامل يعود على الجميع بالخير.
إلا أنّ بعض المتظاهرين، أفراد أو فرد على الأقل، ليس مهماً، رفعوا قرابة اليوم الرابع أو الخامس علم الثورة السورية، العلم ذا النجمات الحمر الثلاث، وهنا يجب العودة لما ذكرناه مسبقاً أنّ موقف أهل إدلب لن يزيد عن التعاطف في حين أنّ ذلك الحراك يحتاج تحركات عملية سريعة داخلية وفي ذات الوقت لا تسيل فيها نقطة دم واحدة.
رفع علم الثورة ببساطة مثلّ خذلاناً لشريحة كبيرة متعاطفة تماماً مع الحراك، فالقضية المتعلقة بالعلم السوري هي قضية وجودية مرتبطة باللاوعي لدى عائلات دفنت الآلاف من أولادها محاطين بذلك العلم، ومن الرفاهية القول إنّ المشكلة زالت بين السوريين من مؤيدي هذا العلم أو ذلك، القصة خرقت الجسد الواحد بوضوح، وبعد ذلك، وقبله، لم يرفع العلم السوري الرسمي.
في الأيام التالية أيضاً تم إلقاء بيان باللغة الإنجليزية عبر أحد المشاركين في التظاهرات يطالب فيه نصاً من مجلس الأمن الدولي باسم المتظاهرين التدخل في سوريا تحت الفصل السابع عسكرياً وإزاحة النظام بالقوة. هذه القصة وحدها أحدثت شرخاً إضافياً ولكن هذه المرة ليس مع بقية المكونات، بل بين أهل السويداء أنفسهم، وهو ما شوش وأثرَ في سياق المظاهرات.
كل ذلك تماشى مع تغيّرٍ جذري في نهاية الأسبوع الأول للتظاهرات، حيث تحولت كل المطالب من معيشية إلى سياسية، صارت المطالب مرتكزة على رحيل النظام ومحاسبته وتطبيق القرار 2254، وإن كان ذلك منطقياً لشريحة سورية لها الحق في المطالبة، ولكن ضيع فرصة تاريخية أمام الحراك لتغيير مصير البلد قبل أن تشد العصب الديني والمناطقي في أماكن أخرى لصالح السلطة من غير دراية.
الأحداث عينها أدت لانقسام تاريخي بين المرجعيات التاريخية الثلاث وهم شيوخ عقل طائفة الموحدين الدروز في الجنوب، ففي حين وقف الشيخ حكمت الهجري إلى جانب المتظاهرين، وقف الشيخان الحناوي وجربوع إلى صالح التهدئة ودعم الدولة، فانقسمت المدينة من جديد على بعضها.
وفي المقابل خرجت أصوات من طرف السلطة لو كانت منتفعةً أباً عن جدٍ لما احتدّت في خطابها لتلك الدرجة التي بدت مستغربَة على نطاق واسع، وبينهم الإعلامي ر. ل الذي يقدم فيديوهات شبه يومية على صفحته في فيس بوك تتهم كل المتظاهرين بأنّهم عملاء للخارج.
والإعلامي اللبناني ح. م الذي هدد بأنّ داعش صارت في محيط السويداء، ليدين بعلّوه على الملكية نفسها الدولة في أيّ حدثٍ أمني، وحكماً هذا آخر ما تريد الدولة اتهامها به في ظل الظروف الدولية الملتهبة من حولها. وكذلك المغني الشعبي ر. ه الذي استخدم لكنة أهل الساحل لتهديد المحتجين، ولا يمكن نسيان و. أ وهو من عائلة الأسد والذي يكفي ظهوره على وسائل التواصل الاجتماعي ليكون سبباً لثورة جديدة، كما يقول سوريون كثر تندراً وفي الساحل تحديداً.
من وجهة نظرٍ رسمية
إذن، قلّة التخطيط والتنسيق ولربما العفوية وغياب المرجعية الواضحة أدت للوقوع في كل تلك الأخطاء المتتالية بزمن قياسي، وموضوع غياب المرجعية هو ما يقوله أمنيون سوريون في مجالسهم عن غياب من يمكن الحديث معه في السويداء في هذه الظروف.
السويداء بالنسبة للسلطة بحسب مصدر مطلع لـ “صالون سوريا” لديها مطالب محقّة ولكنّها مطالب تخصّ كل السوريين وليس الجنوب فقط، ويؤكد هذا المصدر الذي رفض الإفصاح عن اسمه أن: “استمرار التظاهرات يؤثر على المدينة ولا يمكن الضغط على يدنا من خلالها وفي نفس الوقت نتوخى استخدام القوة ولكن إنصاف السويداء على حساب بقية المحافظات أمر لا يمكن تحقيقه”.
وحول تحول المطالب إلى سياسية والتمسك بها يقول: “يحقّ لهم التعبير، ولكن نعتقد أنّهم يعبرون بطريقة سيئة بحقهم متناسين أنّ الوضع القائم هو صمام أمان البلد وإلّا فستنهش الحرب الأهلية البلد”.
لا تراجع
رداً على ذلك يقول الشاب ماهر حرب أحد المتواجدين باستمرار في التظاهرات أنّ النظام ساقط لديهم وسيسقط في كل البلاد، “قصة الحرب الأهلية هي لإخافتنا، نحن لا نريد هذا النظام وسنحارب سلمياً حتى النهاية، فلا يمكن أن يستمر نظامٌ لا يريده شعبه”.
وكذلك الأمر بالنسبة لمتظاهر آخر وهو سالم حناوي والذي يوضح موقفه: “لن نخرج من الساحات حتى نغير مصير سوريا ولو كنا وحدنا في رأس حربة هذه المعركة، الآن، لا تراجع عن مطالبنا ولم نخرج لنتراجع، السويداء برجالها ونسائها جاهزةٌ لأي طارئ”.
أما بالنسبة لعمار وهو اسم مستعار لشخص انسحب من التظاهرات باكراً فلديه الآن وجهة نظر مختلفة يشرح فيها أن: “النظام لم يكترث لأمرنا وتوقعنا تحركاً إيجابياً سريعاً اتجاهنا، ولكنّ ذلك لم يحصل، الآن قد نستمر أشهراً، نتظاهر دون نتيجة، والأمن يسجل أسماء كل من تظاهر لأنّ هذه طبيعته، لا أريد المغامرة أكثر، ألم ترَ كيف صمت أهل الساحل فجأة؟”.
سامي عزام أيضاً شاب يشارك في المظاهرات وهو متمسك بمطالب الناس هناك كما يوضح، وعن ذلك يبين: “سندفع ثمن كرامتنا مهما غلت لنحصل عليها، نحن الآن نعلم أننا وقعنا في بعض الأخطاء، وكان يجب التريث في بعض التفاصيل وتمرير الملفات واحداً واحداً لنظلّ نحظى بدعم الأكثرية، ولكن القصص كانت عفوية ووطنية للغاية ولربما انفجارنا الجماعي هذا هو ما سيؤتي بثماره، وبالتأكيد لن نتراجع ونترك الساحات للفاسدين واللصوص والأذناب.”
“يريدون بلداً لهم“
ما وقعت به السويداء اليوم هو ذاته تماماً ما وقعت به الثورة السورية في بداية الأحداث السورية سنة ٢٠١١، إذ كثيراً ما عانت من العفوية وغياب التنسيق والمبادرات الفردية والتدخلات العشوائية التي قادت لفرز أصوات طائفية جرّت الحراك إلى منحنيات خطيرة فرزت السوريين في خنادق متباعدة وجعلتهم يقتلون بعضهم في حرب كان يمكن لو عوملت بعقلانية جمعيّة شاملة آنذاك أن تجنب البلاد كل ما مرت به، ولكن ما تم شيطنته يومها، تتم شيطنته الآن.
يمكن القول أن معظم أهل الداخل السوري معجب بشجاعة أهل الجنوب هذه الأيام ولو بدرجات، والجميع يريد مخرجاً من الكارثة، والجميع حين يجوع يثور ما لم يرزح تحت ضغوط توحي له بأنّ حياته مهددة خارج كانتونه الصغير. هذا بالضبط ما لم تتمكن مظاهرات السويداء من امتصاصه عن طيب نيّة وغياب دراية وحنكة في الغالب لتقدم المدينة الصغيرة نفسها بعبعاً لأطراف أخرى لا يمكن النجاح بدونها. ولتجلس السلطة على تلٍّ عالٍ وتشير بإصبعها فقط دون أن تنطق قاصدةً أن انظروا: يريدون بلداً لهم فقط.
*تم إعداد هذا التقرير قبل إعلان خبر وقوع محتجين في السويداء ضحايا إطلاق وابل من الرصاص عليهم يوم الأربعاء ١٣ أيلول الجاري واتهامات لمناصرين للحكومة السورية بالوقوف وراء هذا التصعيد.
منذ بدء المظاهرات في السويداء، خرجت النساء من مختلف المراحل العمرية وبصوت يصدح عالياً مطالباً بالحريّة، لتتحول أغنية ياطالعين الجبل، إلى يا طالعات من الجبل ترددها بشغف وفخر شفاه النسوة اللواتي هدمن كلّ أنواع الظلم الذي بدأ من الأسرة لينتهي بنظام كامل قائم على قوانين تمييزية ضدّ النساء.
لم تقف الشعارات عند المطالبة بالقضاء على الفساد بكافة أشكاله، بل طالبت النساء بالمساواة: “الحرية لا يمكن أن تعطى على جرعات فالمرء إما أن يكون حرّاً أو لا يكون“، هكذا رفعت النساء والفتيات والرجال الأحرار شعاراتهم، ورفعوا أيضاً لافتات تقول: “طالعات سوريات للحرية للعدالة للمساواة مشاركات وشريكات“.
وظهرت النساء على الشاشات وخرجن إلى الساحات يطالبن بالمواطنة المتساوية والمساواة مع الرجل أمام القوانين في لفتةٍ تؤكد أن هذا هو الوقت المناسب وكل وقت هو الوقت المناسب تحدّياً لعقود كانت تتحكّم بحقوق النساء وتعتبر أن الوقت ليس مناسباً للمطالبة بحقوقهن فالأولوية للقضايا الكبرى.
عقود من الاضطهاد والتعسّف بمظهر متحرّر
عانت المرأة في السويداء ذات الغالبية الدرزية، مثلما عانت المرأة في كافة المحافظات السورية من الاضطهاد والتعسف في القانون الذي يأتي لصالح الرجل دوماً وخاصّة عند التطبيق. فهنا المرأة من حيث الظاهر متحررة يمكنها الخروج للعمل والقيام بأعمال كالرجل ومعه، ويمكنها مشاركته في الأفراح والأحزان، ولها قوتها ورأيها، وكذلك قانون المذهب الدرزي يمنع تعدد الزوجات ويعطي للمرأة حقاً في الميراث، ولها الحق في اختيار شريكها، لكن عند التطبيق تختلف الموازين.
يحكم الطائفة الدرزية قانون أحوال شخصية مذهبي خاص بالموحدين الدروز يرجع ببعض أحكامه للشريعة الإسلامية حسب المذهب الحنفي فيوافقه أحياناً ويخالفه أحياناً أخرى فالقانون المذهبي يمنع تعدد الزوجات ويمنع الطلاق بالإرادة المنفردة.
ويتوافق معه في نقاط تضطهد النساء من مثل أنه يجيز زواج الطفلات كما في المادة الأولى من القانون: “ﻴﺠﻭﺯ ﺍﻟﺨﺎﻁﺏ ﻋﻠﻰ ﺃﻫﻠﻴﺔ ﺍﻟﺯﻭﺍﺝ ﺒإﺘﻤﺎﻤﻪ ﺍﻟﺜﺎﻤﻨﺔ ﻋﺸﺭﺓ ﻭﺍﻟﻤﺨﻁﻭﺒﺔ ﺒإﺘﻤﺎﻤﻬﺎ ﺍﻟﺴﺎﺒﻌﺔ ﻋﺸﺭﺓ ﻤﻥ ﺍﻟﻌﻤﺭ“.
ويمكن أن يأذن شيخ العقل أو القاضي بالزواج كما تقول ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ 2:
وتحتاج المرأة إلى ولي لإتمام الزواج وهو شيخ العقل أو قاضي المذهب في حال عدم موافقة وليها دون مبرر. وتلزم المرأة بالطاعة وتعتبر ناشزاً إن تركت بيت الزوجية أو منعت زوجها من معاشرتها كما في المادة 23:
و تعاني المرأة الحاضنة من مخاوف إسقاط الحضانة منها في حال زواجها من رجل غريب .
الوصية الذكورية وانتهاك الحق
وبالرغم من أن البنت تعتبر حاجبة للإرث بخلاف المذهب الحنفي، إلا أن الكارثة الإنسانية والأخلاقية التي تصيب النساء هي استخدام المادة القانونية التي تسمح بالوصية بكامل التركة حيث أنّه ” ﺘﺼﺢ ﺍﻟﻭﺼﻴﺔ ﺒﻜل ﺍﻟﺘﺭﻜﺔ ﺃﻭ ﺒﺒﻌﻀﻬﺎ ﻟﻭﺍﺭﺙ ﺃﻭ ﻟﻐﻴﺭ ﻭﺍﺭﺙ” . ومن هنا تبدأ معاناة المرأة التي تخضع لهذا القانون ويستخدمها المجتمع الذكوري ضدها فقي أغلب الحالات يوصي الوارث بكل ما لديه للذكور من العائلة ويترك للنساء من بناته أو أخواته أو زوجته ما يسمى ب”غرفة المقاطيع” حيث يتم إبقاء غرفة من منزل الأهل للإناث اللواتي لا يبقى لهن معيل مثل المطلقة أو الأرملة التي لا تملك شيئاً، وكذلك للبنت العزباء طالما أنها لم تتزوج ولا تملك معاشاً.
وبالمقابل يكون لهذه المرأة من الغرفة حق الانتفاع فقط، وهو ما يعني بأنه لا يحق لها أن تبيعها أو تورثها لأولادها، فقط يحق لها الانتفاع بها كأن تقوم بتأجيرها أو السكن فيها وهو ما يعني حرفياً حرمانها من ميراثها الشرعي.
فـ”الوصية المطلقة حسب المادة ٣٠٧ من قانون الأحوال الشخصية في المذهب الدرزي تنص على أن تنفذ الوصية للوارث أو لغيره بالثلث أو أكثر، ما يعني أنها شاملة بكامل التركة، ويمكن التوصية بها جملةً، حتى لغير الوارث، وهي غير محددة أو مقيدة بحدود الثلث من التركة.”
سلام لن يتحقق دون الشريكات
ولأن السلام لن يتم دون مشاركة النساء في جميع مستويات صنع القرار، وفي عمليات حل الصراعات والمفاوضات كما جاء في قرار مجلس الأمن 1325 كأول قرار يهدف إلى ربط تجربة النساء في النزاعات المسلحة بمسألة الحفاظ على السلام والأمن الدوليين لذلك لا بدّ من زيادة تمثيل المرأة على جميع مستويات صنع القرار في المؤسسات الوطنية والإقليمية والدولية وفي آليات منع نشوب الصراعات وإدارتها وحلها، واتخاذ تدابير خاصة لحماية المرأة والفتاة من العنف القائم على نوع الجنس.
وهذا لن يتحقق نهائياً إلا بخروج المرأة السورية لتهدم بيديها بيوت المقاطيع بكافة أشكالها وأماكنها من خلال العمل للوصول إلى قانون أسرة عصري يحمي النساء والرجال والأطفال بمختلف احتياجاتهم وانتماءاتهم دون النظر إلى الدين أو المذهب أو الطائفة يجمع السوريين والسوريات في ظل دستور يحمي المرأة الإنسان ويمنحها حقوق المواطنة والمواطنة المتساوية.
هوامش
١- ياطالعين الجبل أغنية من التراث الفلسطيني كانت تغنّيها النساء لتنبيه السجناء الفلسطينيين بأن هنالك عملية فدائية وشيكة وكي لا ينتبه السجّانون كنّ يغنينها مشدداتٍ على حرف اللام.