by علي محمد إسبر | May 16, 2023 | Culture - EN, العربية, بالعربية, All Reports, Articles - EN
ولد عبد الكريم اليافي في مدينة حمص عام 1919 وتوفي مدينة دمشق عام 2008، وكانت حياته عبارة عن انبثاقات معرفيّة دائمة، سواء على المستوى الأكاديميّ أم المستوى الثقافيّ، فقد تتلمذ في بداية حياته على مشائخ اللغة والأدب والفقه في مدينة حمص إلى أن حصل على شهادة الثانوية العامة “فرع الرياضيات”، ثم التحق بكلية الطب في جامعة دمشق؛ إلا أنه لم يجد في علم الطب ضالته، فسافر في بعثة إلى فرنسا من أجل التخصص في دراسة علم الفيزياء، ونال درجة الإجازة في العلوم الرياضية والفيزيائية عام 1940 وهو في ريعان شبابه، ثم نال إجازة أخرى في الآداب، ثم حصل على دكتوراه في الفلسفة عام 1945، ثم حصل أيضاً على مجموعة مذهلة من الإجازات أو الشهادات الجامعيّة في تخصصات من قبيل: علم النفس العام، فلسفة الجمال، المنطق والميتافيزيقا، تاريخ العلم، علم الاجتماع وعلم الأخلاق. وكان اليافي يُسمّى بين زملائه وطلابه في جامعة دمشق بـ”الرجل الذي يعرف كلّ شيء”. علاوة على ما امتاز به من أخلاق رفيعة وهدوء وتواضع وترفّع على الصغائر. والحقيقة أنَّ اليافي شكّل تياراً خاصاً إزاء التيارات التي كانت سائدة آنذاك في قسم الفلسفة في جامعة دمشق في منتصف القرن العشرين فصاعداً: إذ كان كل من نايف بلوز وصادق جلال العظم وطيب تيزيني يمثلون التيار الماركسي بدرجات متفاوتة؛ وكان محمد بديع الكسم يمثّل اتجاهاً منطقيّاً صارماً، وعادل العوا يمثل نزعة دينية أخلاقية وإلى ما هنالك؛ غير أنَّ اليافي اختلف عنهم جميعاً بتأسيسه لموقف فكريّ علميّ-صوفيّ. وقد وضع مجموعة مهمة من الكتب جاء تسلسها التاريخي على النحو الآتي:
1-الفيزياء الحديثة والفلسفة-دمشق، 1951.
2-تمهيد في علم الاجتماع-دمشق، 1964.
3-شموع وقناديل في الشعر العربي-دمشق، 1964.
4-تقدّم العلم-دمشق، 1964.
5-المجتمع العربي ومقاييس السكان-دمشق، 1966.
6-دراسات فنية في الأدب العربي-دمشق، 1972.
7-جدلية أبي تمام-بغداد، 1980.
8-معالم فكرية في تاريخ الحضارة العربية-دمشق، 1982.
9-بدائع الحكمة-دمشق، 1999.
10-معجم مصطلحات التنمية الاجتماعية والعلوم المتصلة بها –جامعة الدول العربية.
11-شجون فنية-دمشق، 2000.
هذا، إلى أنه كان نشيطاً جداً على مستوى النشر في المجلات والدوريات، فكتب عدداً كبيراً من المقالات والأبحاث في مجلة المعرفة السورية ومجلة الآداب اللبنانية ومجلة تراث السورية التي عمل مدة رئيساً لتحريرها وإلى ما هنالك. وكان أول من أدخل علم السكان على أسس رياضية إحصائية إلى جامعة دمشق، علاوة على طرحه للنظرية الكوانتية على نحو مبكر في ما يتعلّق بفلسفة الفيزياء، كما اهتم بالأدب العربي اهتماماً كبيراً وكانت له آراء نقديّة مهمة في هذا الاتجاه. هذا إلى جانب ممارسته لمهنة التدريس في قسم الفلسفة وعلم الاجتماع في جامعة دمشق وفي أقسام أخرى من الجامعة.
وبما أنَّ اليافي كان ضمن كادر قسم الفلسفة في جامعة دمشق منذ بدايات تأسيسه، إلا أنه لم يكن فيلسوفاً محترفاً، فلم يضعْ نظرياتٍ في الفروع الرئيسة للفلسفة، وأعني بها الأنطولوجيا أو علم الوجود، وهو علم يُعنى بتقديم إجابة نهائيّة عن معنى الوجود، والإبستمولوجيا أو (نظرية المعرفة) التي تُعنى بالكشف عن أصل المعرفة ومصادرها وقيمتها، والأكسيولوجيا (علم القيم) ويدرس أصل القيم وطبيعتها وأنواعها ومعاييرها؛ ما يعني أنَّ اليافي لم يكن ميّالاً إلى أن يكون فيلسوفاً نسقيّاً، أي واضعاً لنسقٍ فلسفيّ يقدّم تفسيراتٍ نهائيّة لمعنى وجود الإنسان لأنه لم يكن مقتنعاً بالدراسات الفلسفيّة البحتة التي تعتمد المناهج الاستقرائية والاستنباطيّة وتُغيّبُ الأبعاد الروحانيّة عن موضوعاتها، لذلك كان لا بدّ في رأيه من الجمع بين المناهج، سواء أكانت علمية أم فلسفيّة وبين ما يسمّيه المتصوفة طُرق العلم اللدنيّ، فاليافي كان شغوفاً إلى أقصى حدّ بإيجاد علاقة تركيبية بين العلم والتصوّف.
إنّه يجمعُ في تفكيرهِ بين أكثر المناهجِ العلميّةِ دقّةً وأكثر الحدوس الصوفيّةِ الوجدانيّةِ تعالياً على مناهج العلم، فهو إن صحَّ وصفي عالمٌ وضعيٌّ متصوِّف، لذلك نكتشف في كتاباته علميّة التصوّف أو صوفيّة العلم. وها هنا وجه المفارقة في شخصيّة اليافي، فهو عالمٌ ملتزمٌ بمعايير البحث العلميّ ومناهجه، ولكنه في المقابل يركن إلى اللُّمَعِ والبوارق والسوانح الصوفيّة واجداً فيها الملاذ الأمين.
إنَّ ما يطلبه اليافي من هذا الحدْس الصوفيّ عينه، هو إعادة النظر في تاريخ الميتافيزيقا في الإسلام، ليثبت أنَّ الثقافة الإسلاميّة تنضوي في داخلها على عناصر تجديدها؛ بل انبثاقها الدائم على نحوٍ يخلّصها من القراءات الفقهيّة والسلفيّة المُغلقة كافةً التي أصبحَ الإسلام يقدّم بسببها اليوم بصفته ديانةً-إرهابيّة؛
وقد كان اليافي واعياً وعياً عميقاً بالخطر الذي يهدّد الدِّين الإسلاميّ، واكتشف على نحوٍ مبكِّر ضرورة الإصلاح الدِّينيّ، ففي مقالة له نشرها في مجلة الآداب اللبنانية عام 1983 طرح سؤالاً هو: “من المؤهلون لتجديد التعبير الصحيح عن الفكر الدِّينيّ الأصيل والقيام بالإصلاح المنشود؟”.
وهنا قدّم اليافي جواباً عن هذا السؤال هو وفق قوله: “لا شك أنَّ المؤهلين هم علماء الدِّين أكثر من غيرهم. ولكن القسم الأكبر من علماء الدِّين الإسلاميّ في الوقت الحاضر محتاجون أن يتجاوزوا مجرّد اطلاعهم على أصول الدِّين الإسلاميّ إلى التزوّد الواسع بالعلوم الإنسانيّة الحديثة بل العلوم الموضوعيّة لتُنشِئ لهم صحّةَ النظرِ في حاضرِ الأوضاعِ والتنظيمات العامّة الحديثة في مشكلاتِ الحضارة المعترضة”.
غير أنَّ اليافي-كما أفهم تجربتَه لم يجد في الموروث الفقهيّ أيّ إمكانية تساعد في الإصلاح الدِّينيّ المنشود، ولكنه وجد هذه الإمكانيّة في تراث المتصوفين المسلمين الذين رسّخوا الإسلام، بصفته ديناً كونيّاً، يقوم في جوهره على الحبّ. وكان اليافي يعرف أكثر من غيره أنَّ كبار المتصوّفين في الإسلام كانوا عُرضةً للاتهام بالزندقة والمروق والكفر؛ بل تعرّض الكثير منهم للقتل بأبشع الطرق من أمثال الحلاج (858-922م) والسُّهرورديّ (1155-1191م) وعين القضاة الهمداني وغيرهم!
ولقد وجدَ أنَّ التصوّف الإسلامي لا يُلغي الذات الإنسانيّة في الذات الإلهية، أو لا يُغيِّبُ المتناهي في اللامتناهي؛ بل تدلُّ تجارب المتصوّفين الكبار على أنَّ هدفهم الرئيس هو توكيد الذات الإنسانيّة بطابعها النسبيّ المحدود إزاء الذات الإلهيّة بطابعها المطلق اللامحدود. وهذا يُفضي إلى تأسيس علاقةٍ جديدة بين الإلهيّ والإنسانيّ تقومُ على فهمٍ جديدٍ للإسلام يعطي للحياة الإنسانيّة قيمةً كبرى بعد أن صارت قيمتها مبتذلةً بسبب ما شهدناه وعايشناه من انتهاكاتٍ قامت بها الجماعات التكفيريّة التي يزعم فقهاؤها، أنهم ناطقون باسم الألوهيّة وأنَّ إسلامهم هو الإسلام الصحيح، أي إسلام السلف.
لقد أرادَ اليافي التأسيس-إن صح التعبير-لعلمِ اجتماعٍ صوفيٍّ، أي لعلم اجتماع لا ينظر إلى الظاهرة الاجتماعيّة نظرةً وضعيّةً تسلبها قيمتها الرّوحيّة، بل يؤكدها بصفتها ظاهرةً اجتماعيّةً تتصفُ بالوضعيّةِ والرُّوحيّةِ في آن. وهنا استند اليافي كيما يؤكّد هذه النزعة الإنسانيّة في التصوّف إلى ما قاله ابن عربي في مُقَدَّمة كتابه “عنقاء مُغرب”: “فليس غرضي في كلّ ما أُصنّف في مثل هذا الفنّ معرفة ما ظهر في الكون وإنما الغرض معرفة ما ظهر في هذا العين الإنسانيّ والشخص الآدميّ”.
وها هو اليافي يستجلي أسرار فكر ابن عربي الذي أسس لعلاقةٍ جدليّةٍ عميقة بين الله والإنسان، فالإنسان محلّ ظهور الألوهيّة، وهنا نجد سبقاً واضحاً عند ابن عربي لتعرّف المطلق على ذاته في الإنسان في فينومينولوجيا الفيلسوف الألماني هيغل. لقد كان اليافي ميّالاً إلى نظرية وحدة الوجود، وهي نظريّة فلسفيّة-صوفيّة ذات تأثير عميق في تاريخ الثقافة البشريّة بوجهٍ عامٍّ، أعني أنّه يفهم هذه النظريّة فهماً جديداً نابعاً من تفسير دقيق لنصوص الصوفيّة.
وحاولُ اليافي أن يستندَ في هذا الاتجاه من أجل ترسيخ نظريته في وحدة الوجود إلى قول النبيّ محمد الذي يخبر فيه عن سبب خلق الله للخلق: “كنتُ كنزاً مخفيّاً فأَحببت أن أُعرف فخلقتُ الخلق فبي عرفوني”.
ذهبَ مذهباً خاصّاً في تفسير معنى هذا القول، مستنداً في ذلك إلى علم الفيزياء، أي أنَّه أرادَ أن يُفسِّر الموروث الدِّينيّ في أُفق جديد تماماً يكون مستمداً من العلمِ الحديث، أعني من علم الفيزياء؛ لكن السؤال الجدير بالبحث عن إجابة شافية هو: أيمكن التوفيق بين الموروث الدِّينيّ تحديداً منه الحديث النبويّ والفيزياء المعاصرة؟
ليس بمقدورنا الإجابة عن هذا السؤال، إلا بعد الفحص عن منهجيّة اليافي في تفسير حديث “كنتُ كنزاً مخفيّاً…” في ضوء علم الفيزياء.
وهنا بيّن اليافي أنَّ “النّور الطبيعيّ هو غاية في الوضوح والإيضاح، به نرى الأشياء بأنواعها وألوانها وحجومها ومقاديرها وأشكالها. ولكن النور لا يُرى إن غابت عنه المادة. الفضاء الكونيّ ليل مظلم. إنَّه فراغٌ سماويٌّ لا يُقدّمُ للنّور نقطة ماديّة تنثره أو ينعكس عليها لتجعله مرئيّاً ولتصبح هي مرئيّة به، حتى إذا صادف الشُّعاعُ غير المرئيّ في مسراه ذرةً من الهواء أو الهباء في الجوّ المحيط بالأرض أمكن أن نرى الهباء متلألئاً والذرة براقةً. فوجود المادة وسيلة لرؤية النّور ورؤيتها به”.
يظهر هنا على نحوٍ واضحٍ أنَّ اليافي يُشبّه الله (الكنز المخفيّ) بالنّور الذي غابت عنه المادة، أي أنَّ الله لا يُعرف معرفةً حقّة، إلا عن طريق مخلوقاته، وعلى هذا الأساس تُعَدُّ عمليّة الخلق التي هي في أصلها عمليّة أنطولوجيّة أو وجوديّة شرطاً جوهريّاً لنظرية المعرفة، أي أنَّ هناك ترابطاً ماهويّاً في عمليّة الخلق بين الخالق ومخلوقاته، إذ إنَّ الحالةَ التي تكونُ فيها المخلوقات قبل خلقها لا تتيح للخالق أن يكون قابلاً للمعرفة، أي قابلاً لأن يُعرف. وبذا تحوز المخلوقات، أي الأَناسيّ بوجهٍ خاص قيمةً كبيرة، إذ هي أساسُ انكشافِ الألوهيّةِ لنفسها، وهذا هو التفسير الدقيق لعبارة “أحببتُ أن أُعرف”، فالله كوّن العوالم كلّها، بسبب حبّه لذاته، والمخلوقات أو الموجودات تشكّل لحمة هذا الحبّ وسدَاتِه، أي أنَّ عمليّة الخلق منسوجةٌ بحبِّ الله لذاته، لذلك المخلوقات نفسها تشكّل جزءاً مكوِّناً من حبِّ الله لذاته. والحقيقة أنَّ تفسير اليافي يحمل في طواياه عُمقاً كبيراً يستحق الإيضاح، إذ إنَّ الله لو لم يخلق الخلق لبقي الوجود في جملته الجامعة، مخفيّاً بما في ذلك الله ذاته، وهنا نكتشف نوعاً من التكامل بين الله والمخلوقات، وهذا يتضح تماماً في التعابير التي أوردها اليافي من قبيل “الفضاء الكونيّ ليل مظلم”، أو الـ”فراغ سماويّ”، بمعنى أنَّه لو لم يَقُم الله بخلق المخلوقات لكان الوجود صحراء قاحلةً لا مكان فيها لذي روح. إذن، الألوهيّة تحقق ذاتها في مخلوقاتها أعلى درجات التحقيق.
وهنا اتجه اليافي من أجل تدعيم وجهة نظره إلى تفسير بعض آيات القرآن تفسيراً علميّاً، مؤكداً ضرورة فهم الآية القرآنية (الله نورُ السموات والأرض) [النور 35] على أساس أنَّ الله نور أصليّ لولاه لكان الكون كلّه ظلمة مُطبقة. إنَّ الله خلق الخلق ليتلقى نوره الغامر ويظهر، ويصبح النور مرئيّاً لمن كانت عنده بصيرة وليغدو الله معروفاً.
لقد حاول اليافي أن يجمع بين اللاهوت المُوحى وعلم الفيزياء، بمعنى أنّه يجد في مقولات الوحي تعبيراً عميقاً عن إعجازٍ علميّ. إذ تتسق هذه المقولات–في رأيه مع أحدث الاكتشافات الفيزيائيّة الحديثة. وبذا يسعى اليافي إلى جسر الهُوّة بين الدّين والعلم، قاصداً بذلك تكييف الدِّين مع العلم، وتهذيب العلم بالدِّين؛ لكن إلى أيّ مدى يستطيعُ السير في هذا الطريق؟
وهنا يجب أن نذهب في التحليل إلى أبعد، فاليافي وفقاً للتحليلات السابقة لا ينظرُ إلى عالم الدِّين أو اللاهوت الموحى، بصفته عالماً مغلقاً على نحوٍ نهائيٍّ ومفصولاً عن عالم العلوم الوضعيّة؛ بل يمكن الاتصال مع ينابيعه ذاتها، أو بالأحرى يمكن منحه ينابيع جديدة، ليس بوساطة طرقه المعهودة المتعارف عليها؛ لكن بوساطة طُرق أخرى تُعَدُّ ذات صدقيّةٍ حقيقيّة في التعبير عن جوهرِ العلاقةِ بين الإلهيّ والإنسانيّ. وهو لا يقصد بهذه الطرق سوى طُرق المتصوّفة ونظراتهم في فهم حقيقة النبوّة، بمعنى أنَّ الحِكَم والإشراقات والحدوس الميتافيزيقية الصوفية تمثل وسائل معرفية لبلوغ المطلق والتعبيرِ عنه في آن مثلها مثل الوحي.
والحقيقة أنَّ موقف اليافي من التصوّف يشابه موقف الفيلسوف الفرنسيّ هنري برغسون حينما قال: “وفي رأينا أنَّ غاية التصوّف اتصالٌ بالجهد المبدع الخالق الذي ينجلي عن الحياة، ومن ثمَّ اتحاد جزئيّ به. وهذا الجهدُ هو شيء من الله، إن لم يكن هو الله ذاته. والصوفيّ الكبير هو ذلك الإنسان الذي يتخطّى الحدود التي رسمتها للنوع البشريّ ماديته، ويكمل بهذا فعل الله”.
أرادَ اليافي يبني علاقةً جديدةً مع المقدَّس تقومُ على إعطاء قيمة كبرى لتجارب فرديّة لأفرادٍ ممتازين مرّوا في تاريخ الثقافةِ العربيّة الإسلاميّة، فكانوا مثلاً حيّاً على قدرةِ الإنسانِ العربيّ على تجاوز التقليد وتوكيد ذاته بإزاء المطلق.
ووسّع اليافي دائرة الفهم الوجوديّ للأُلوهيّة، فيرى إلى الله مبثوثاً في الكون كلّه على نحوٍ ينشر الجمال في مختلف أنحاء الوجود؛ ذلك أنَّ الألوهيّة تعبّر عن ذاتها في الكون بصور الجمال المتنوّعة. وبما أنَّ الجمالَ منثورٌ في الكون، فلا بدّ من أن يثيرَ الحبَّ، فالجمال مطلوبٌ بصفته محبوباً. وهنا يجب التساؤل عن الغاية من هذا الحبّ؟
لجأ اليافي هنا إلى الشيخ الأكبر، إذ قال: “الغائيّةُ في الحبّ تلك هي التي يدعوها الشيخ محيي الدّين بن عربي في “فتوحاته” حبّ الحبّ. ويريد أن يوضّح هذا المعنى، فيعرّفه بأنّــه “الشُّغلُ بالحبِّ عن متعلَّقه”.
والحقيقة أنَّ هذا التعريف يسمو بالحبّ إلى أعلى درجاته على الإطلاق، فلم يعد موضوع الحبّ الماديّ هو شاغل المحبّ؛ بل صار المحبُّ مشغولاً بحبّه نفسِهِ عن محبوبه.
ويجب هنا أنَّ نقول: لقد حاول اليافي تـأسيس فهمٍ جديد للدِّين الإسلاميّ في أُفق تأويله الصُّوفيّ للنصوص، فصار الدِّينُ الإسلاميّ وفقاً لهذا الفهم دين الحبّ الكونيّ الساري في الكائنات كلّها، أو بالأحرى صار الدِّينُ الإسلاميُّ ديناً مؤسّساً لوحدة الأديانِ كلّها، سماويّها ووضعيّها.
يُعدّ اليافي حالةً فكريّةً خاصّةً في الفكر السوري في القرن العشرين، فلم يؤخذ بالتيارات الفلسفية الغربية من براغماتية وظاهراتيّة ووجوديّة ووضعيّة منطقيّة وغيرها رغم اطلاعه الكبير عليها؛ بل أراد أن يبقى مخلصاً لتراثه، تحديداً الصوفيّ منه، من أجل أن يؤسس لفهم خاصّ لمعنى الوجود، قد لا يلقى قبولاً من كثيرين الآن؛ ولكن مع ذلك يبقى فكر اليافي محاولة للقبض على ماهية المطلق في عصر اللا أدريّة المبتذل.
*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ“
الحواشي
١)اليافي، عبد الكريم، الدِّين والإحياء الرّوحي في الوطن العربيّ: تباعد أم لقاء مع أوروبة الغربية؟ مجلة الآداب، العدد رقم 4-5، 1 أبريل 1983.
٢) المصدر نفسه، المعطيات السابقة نفسها.
٣)اليافي، عبد الكريم، بدائع الحكمة، دار طلاس، دمشق، 1999، ص: 60.
٤)برجسون، هنري، منبعا الأخلاق والدِّين، ترجمة” سامي الدروبي؛ عبد الله عبد الدائم، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة، 1971، ص:236.
٥) اليافي، بدائع الحكمة، مصدر سبق ذكره، ص: 60.
by عمر الشيخ | May 14, 2023 | العربية, All Reports, Uncategorized, Articles - EN
مناهج التعليم في جامعات سوريا، تسعى إلى استخدام الكتب الإلكترونيّة بدل الورقيّة، وكان هناك مبررات عدّة، مزعومة، أشارت إليها إحدى الصحف الرسميّة بدمشق نقلاً عن مسؤولين في وزارة التعليم العالي، مثلاً “يوجد ما تقارب كلفته الـ 1.2 مليار ليرة سورية؛ مبلغ مجمد لآلاف من الكتب المطبوعة منذ سنوات، لا تلقى أيَّ طلب عليها من الطّلاب”، والكلام السابق منسوب لمدير الكتب والمطبوعات في جامعة دمشق.
وبدل أن تُعالج مشكلة كساد الكُتب، وقلّة خبرة الفريق الإداريّ في تلك المؤسسة، استُخدمت كواحدة من المبررات التي تعتبرها الوزارة المعنيّة؛ معالجة لكارثة يُفترض بها أن تصنف كقضية فساد إذا صحَّ ما قالته “د.مياسة علي ملحم” نائب عميد كلية الهندسة المدنية للشؤون الإدارية والطلابيّة في جامعة دمشق لذات الصحيفة: “لدينا هدر ورق كبير نحتفظ به بالمستودعات بأعداد هائلة ويصبح الكتاب قديماً وتالفاً قبل أن يُستخدم”.
ويشير الموقع الرسميّ لجامعة دمشق أن مديرية المطبعة تقوم “بطباعة كلّ ما تحتاجه جامعة دمشق وكلياتها من مطبوعات وخاصة بعد أن تمّ تحديث وشراء آلات جديدة للمطبعة العام 2007 أصبحت المطبعة تقوم بإنجاز طباعة كتب جامعة دمشق وكتب التعليم المفتوح بشكل كامل ومجلات الجامعة وجرائد الجامعة وأوراق الامتحانات وحاجات الكلّيات بما فيها فروع درعا والسويداء والقنيطرة ومن الجدير بالذكر أن كلّ مطبوعات الكلّيات والمديريات من ورق وكرتون وطباعة، مجانية على حساب جامعة دمشق كون المديرية خدميّة لصالح الجامعة” وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ مصير تلك المديرية يبدو مجهولاً في ظلّ ظهور التحوّل إلى “الكتاب الإلكترونيّ” وكذلك مصير تلك الآلات المختصّة بالطباعة بعد توقفها.
الاهتمام بالقشور
تعتبر ريم شعار (طالبة صيدلة في السنة الخامسة) من جامعة تشرين، أنّ هذا القرار يعطي انطباعاً جيداً للوهلة الأولى، وكأنّنا نتطوّر ونتقدم بخطوات حقيقية لتطوير العملية التعليميّة، وتسهيل الأمور على الطلاب للحصول على المعلومات مباشرة دون الاضطرار إلى استخدام المواصلات للذهاب إلى الجامعات أو إلى المكتبات للحصول على المحاضرات بشكلها الورقيّ.
وتضيف ريم في حديثها لموقع صالون سوريا: “لكن بعد التفكير مليّاً والأخذ بعين الاعتبار عدّة أمور، وجدت أنّ تحويل جميع المقرّرات الجامعية لملفاتإلكترونية ليس بهذه البساطة أبداً على الطالب؛ وخاصة في دولة كسوريا عانت ما عانته خلال سنوات طويلة من القلّة وانعدام أدنى مقوّمات الحياة. فمثلاً أول ما يخطر لي ولكلّ طالب سوري هو الكهرباء وتوافرها المعدوم مع الأسف، فكيف لي أن أدرس للامتحان ساعات طويلة ومتواصلة على جهاز إلكترونيّ لا أعلم متى ستفرغ منه الطاقة! ومن الذي له قدرة ماديّة دائمة كي يقضي معظم وقته في المقاهي التي تتوفر الكهرباء فيها، حيث يلجأ إليها العديد من الطلبة الآن؟”.
وتعتقد ريم أن هذا التحوّل يحتاج إلى “بنية تحتيّة من الأجهزة الذكية الخاصّة والتي تدعم العديد من الميزات والتي من الصعب توافرها هنا، عدا عن أسعارها الباهظة في حال توافرت، إضافة إلى العقوبات أو ما يسمى “الجمركة” على إدخالها للبلاد ومشكلة توافر شبكة الانترنت التي ما زلنا حتى الآن نعاني أشد العناء منها”.
وتشير ريم إلى طبيعة الضرر العائد على الصحة من هذه الخطوة، بداية من آلام الظهر والأكتاف بسبب الجلوس الطويل على الأجهزة اللوحية أو الحواسيب ووصولاً إلى التأثير السلبيّ على صحة العيون: “إذا استُخدم الهاتف المحمول لمدة قليلة من الزمن ولاستخدامات عادية حقاً أشعر بانزعاج في عينيّ، فما بالك بدراسة لمدة طويلة!
في النهاية نحن كطلاب نتمنى حقاً أن يتم الاهتمام بالعملية التعليميّة وتطويرها والنظر بصدق ووعي لآلاف المشاكل التي تواجه وتعرقل الطالب السوري والتي لا يلتفت إليها أحد واقعياً وهذا القرار هو وصف لمن ينظر إلى القشور ليلهينا ويترك اللبّ” على حد تعبيرها.
الهاتف بين يدي
تصف ميسون (طالبة في كلية الإعلام) جامعة دمشق، في حديثها لموقع صالون سوريا هذه الخطوة بـأنها “حسنة جدّاً لأنها تسير مواكبةً التطوّر في المجال الرقمي، وهي حقيقة لخطوة جريئة بقدر ما هي مفصلية، لأنّه وبلا شك ستتبعها تطوّرات أخرى في النظم التعليمية وطرق التعليم. وأفضل ما في الدراسة من الكتب الإلكترونية (وفي الواقع هو الأهمّ) أنّها توفّر علينا دفع مبالغ طائلة للحصول على الكتب الورقية، وهذه العملية جيّدة جدّاً ومفيدة في ظلّ تردي الوضع الاقتصادي. كما أنهّا ومن ناحية أخرى توفر الكثير من الوقت والجهد، فبضغطة زر تصبح متاحة على هواتفنا”.
وتستدرك ميسون، من ناحية أخرى، مخاطر هذه الخطوة معتبرة أنها “ليست مجرّدة من السلبيات، فاحتمال حدوث مشاكل صحية (كألم العين، ووجع الرأس.. إلخ..) عند المستخدمين يزيد أضعافاً لأنّ وقتهم يطول أمام شاشاتهم، ناهيك عن ميل أغلب الطلاب نحو الورقيّة منها واعتيادهم عليها، ما يصعّب عليهم التأقلم مع الالكترونيّة” على حد تعبيرها.
وتحبّذ ميسون بشكل شخصيّ الدراسة من الكتب الورقية “لأنها مريحة لعينيّ ونسبة تركيزي فيها تكون أعلى منها في الدراسة من الالكترونيّة، فما دام الهاتف بين يدّي، فإنني لن أقاوم إدماني على مواقع التواصل، وسأدخلها خاضعة” حسب قولها.
وتضيف ميسون: “إنّ الوضع الذي نعيش فيه يفرض عليّ وعلى غيري من عشاق الكتب الورقية استخدام الالكترونيّة، لشحّ الكتب الورقية وصعوبة الحصول على نسخ منها بأسعار تناسب أوضاعنا المادية، وعلى أي حال لن نستغني عنها بالكامل، حتى لو توفرت الورقيّة، فهناك حالات اضطرارية يفضّل أن نقرأ من الهاتف خصوصاً أثناء التنقل في المواصلات، وأنا في بعض الأحيان يحكمني مزاجي، فيروق لي أن أدرس من هاتفي”.
تركيز مفقود
وبعيداً عن أجواء الاحتفال باللحاق بقطار التقنيات الحضاريّة في التعليم، وغض نظرها عن مشكلة جوهرية تشير إلى ثغرات إداريّة، وتبدو خطوة التحول إلى “الكتاب الإلكترونيّ” فرصة للاختباء من إيجاد حلول تناسب أوضاع الطلاب، ووقوفاً عن الجانب الصحيّ لتلك الخطوة، خلصت دراسات منشورة مؤخراً إلى أن استيعاب الطلاب يكون متدنياً أثناء التعلم والقراءة من الوسائل الإلكترونية وأن مستوى الفائدة يكون أقلّ مقارنة مع الوسائل المطبوعة. وبحسب الدراسات فإن الأجهزة اللوحيّة ترهق الأعين عند القراءة وتؤثر على مدى التركيز في المعلومات وتفهمها. إضافة إلى أن عدداً كبيراً من الناس يميلون إلى الاستيعاب أكثر عندما يكون مصدر المعلومة على صفحات حقيقية أكثر من وجودها في نص إلكتروني “ربما لأن تدفق النص يعرقل الانتباه البصري ويفقد القارئ مكان القراءة” حسب ما جاء في إحدى الدراسات عن جدوى التعليم عبر الأجهزة اللوحية.
التجريب بالمواطن
يعتقد الصحفي السوري طارق علي أنه لن يكن هناك إقبال على شراء الكتب الورقية، إذ أن ذلك ليس وليد المرحل الحالية وهو أمر منذ سنوات طويلة فائتة، فالملخصات و”النوتات” هي الطاغية على الكتب الجامعيّة الضخمة، والتي بدورها-أي الملخصات- تحقّق ربحاً لدكتور/ة المادة وللمكتبة التي تطبع، وتريح الطالب من عناء قراءة كتاب تعداد ورقه بالمئات.
ويضيف طارق في حديثه لموقع صالون سوريا: ” هذا حال قديم ولا زال سارياً، وما ازدياد تلك المكتبات في محيط الجامعات إلاّ دليل على نبذ الكتب المطبوعة والاتجاه نحو حلول أكثر راحة للطالب، حتى أن دكتور/ة المادة ت/يلمّح سراً أو صراحةً إلى ضرورة شراء تلك النوتات”.
ويؤكد: يمكن ملاحظة انتشار الملخصات الإلكترونيّة -سلفاً والتي يتبادلها طلبة الجامعات لاسيما في الكليات العلمية، وتلك الملخصات المتداولة تريح الطالب أكثر لتوافره معه في هاتفه -مثلاً- طوال الوقت، وكذلك توفر عليه المال الذي سيدفعه ثمناً للمحاضرات الملخصة-وهي مبالغ كبيرة على الطلبة- لا شك أن الجامعات تخسر حين تطبع كتبا لكلياتها، ومن الجيد نسبيا تحويل التعليم إلى إلكترونيّ، ولكن بالمقابل، ألا يمكن اعتبار الأمر رفاهية مبكرة؟، فليس كلّ طلبة الجامعة يحملون أجهزة حديثة أو لديهم حواسيب محمولة أو حتى كهرباء (…) وبالتالي من الضرورة في مكان تأمين المقومات الأساسية التي تحقق الوفرة والاكتفاء للمواطن (الطالب) ثم البحث في إمكانية تعميم النموذج الإلكترونيّ في بلد كلّ شيء فيه مترابط ولا يمكن فصله عن الآخر.
ويختم طارق كلامه بالتساؤل: “هل هذا التحول سيشوبه نوع من الفساد والسمسرة؟ أم أنه قرار مدروس بشكل كاف وواف في بلد لا تصدر معظم قراراته سوى بهدف التجريب بالمواطن!”.
أخيراً..
أجمع عدد ممن تحدّثنا معهم ولم يوثقوا إجاباتهم أنها خطوة مفيدة فيما بعد، ولكن الآن هناك مشكلة كبيرة وهي توفر الكهرباء من جهة والتأثيرات الصحية من جهة أخرى، وذلك سوف يكون مصدر قلق لهم. في الوقت الذي لم تظهر فيه وزارة التعليم العالي في سوريا في أي تحقيق موثق عن سبب كساد الكتب وهدر المال العام الذي كان يمكن من خلاله تطوير وسائل أكثر تناسباً مع وضع الطلاب اليوم في الجامعات السورية.
by روزا ياسين حسن | May 12, 2023 | Culture - EN, Reviews - EN, العربية, بالعربية, All Reports, Uncategorized, Articles - EN
روزا ياسين حسن روائية وكاتبة سورية. درست الهندسة المعمارية، وتفرغت للكتابة. ألفت العديد من الروايات وكذلك الكثير من المقالات الثقافية والأدبية في العديد من الدوريات العربية والأجنبية. وهي ناشطة نسوية، وعملت كثيراً على قضايا النساء. أصبحت منذ العام 2015 عضوًا في نادي القلم الدولي PEN وتقيم منذ نهاية عام 2012 في ألمانيا.
عنوان الكتاب: بحثاً عن كرة الصوف – ثلاثة أيام من متاهة المنفى.
الكاتبة: روزا ياسين حسن
الجنس الأدبي: رواية
الناشر: رياض الريس للكتب والنشر.
سنة النشر: 2022.
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة الرواية؟ ما هي منابعها وروافدها، ومراحل تطوّرها؟
روزا ياسين حسن (ر.ي. ح): إنها أول رواية لي تدور حول عوالم المنفى. احتجت سنيناً طويلة كي أستطيع الكتابة عن المنفى، كمن علق في مستنقع، لم أستطع استيعاب غرقي القسري فيه، لا استيعاب الصدمة الأولى التي استطالت كثيراً، كما لم أستطيع الخروج منه ولا التنفس فيه! الفكرة معجونة بتجارب شائكة خضتها، كما خاضها آلاف اللاجئين/ اللاجئات في منافيهم اليوم والبارحة وغداً. منبعها الأساسي هو البرزخ الذي نعلق فيه كأرواح معاقبة، التروما العميقة في دواخلنا كلنا، وفي كل شخصية من الشخصيات العديدة المختلفة، وأحياناً المتناقضة، التي تحفل بها الرواية، والتمظهرات المختلفة كذلك للتروما. تطوّر الرواية يتلخّص في صراعنا الشخصي والعام مع تشعبات متاهة المنفى، كمن يبحث عن كرة الصوف/ خلاصه الفردي التي ستخرجه من المتاهة. وكلما مرّ الوقت راحت المصائر المختلفة للشخصيات تتعقّد وتتشعّب وتتفارق.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسة؟ ما هو العالم الذي يأخذنا إليه نص الرواية؟
(ر.ي. ح): عوالم المنفيين/ المنفيات، العوالم الجديدة التي ألفوا أنفسهم فجأة في خضمّها، خيالاتهم، أحلامهم، الشروخ العميقة التي يقعون فيها، مآزق الحياة الجديدة، تحدّيات العيش، والبحث عن الذات في مكان يخلخل الهوية والانتماء الذي حملوه معهم، كمن يبحث عن ذاته وسط أكوام قش متراكمة، وكمن يحاول إعادة تعريف بديهياته، التي كانت حتى لحظة اندلاع المنفى بديهيات. أو كمن يحاول إعادة تعريف ذاته كما تعريف الآخر. هي رواية حافلة بالأسئلة.
(ج): كتابُك الأخير رواية، هل لاختيارك جنسًا أدبيًا بذاته تأثير فيما تريدين قوله، وما هي طبيعة هذا التأثير؟
(ر.ي. ح): أنا روائية، والرواية هي العالم السحري الذي بنيته وسكنت فيه من زمان. ولولا ذاك العالم/ التخييل لما أمكنني إكمال العيش في هذا العالم/ الواقع. الرواية هي التاريخ السري الذي يمكننا نحن “المهزومون” كتابته، تاريخنا الحقيقي، فالتاريخ الرسمي لن يكتبه إلا المنتصر/ المستبد. وأعتقد أن الحكاية هي التي تجعل التاريخ الذي نريده موجوداً، تخلقه ببساطة، مما يعني أن الحكاية مع الزمن هي التي ستكوّن التاريخ الذي سيقرأه القادمون فيما بعد إلى هذه الحياة، لذلك فنحن عبر الرواية نشارك في كتابة تاريخنا. والتأثير الذي تتحدّث عنه لن يكون بالتأكيد تأثيراً آنياً مباشراً، وإنما حفر بطيء صعب ولكن عميق في وجدان البشر.
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(ر.ي. ح): الرواية عالم موازٍ تبنيه وتعيش فيه بلحمك ودمك، لذلك فهو تجربة عيش حقيقية. في هذه الرواية كنت “مريضة” تكتب عن “مرضى”، باختصار. شخصية من شخصيات الرواية عالقة في تلك المتاهة وتكتب عنها. يعني أن أكتب عوالم التروما وصراعات المنفيين مع أنفسهم والحياة الجديدة أمر ليس بالسهل إذا كنت بنفسي واحدة منهم. كضحية تعيد عيش تجربتها وألمها مرة تلو أخرى.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(ر.ي.ح): هذه هي روايتي السابعة، أول رواية كانت في العام 2004 “أبنوس”، مروراً بروايتي التوثيقية “نيغاتيف”، ثم “حراس الهواء”، “بروفا”، “الذين مسّهم السحر”، و”بين حبال الماء”، والآن رواية “بحثاً عن كرة الصوف”، بالإضافة إلى أكثر من كتاب مشترك.
(ج): هل هناك نصوص كان لها تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النص؟
(ر.ي. ح): بالتأكيد. حتى تتمكّن من فهم نفسك وفهم الشخصيات الأخرى من المنفيين/ المنفيات، وتمظهرات التروما المختلفة لدى كل منهم، يجب أن تفهم المعنى العميق للتروما، بالمعنى السيكولوجي والثقافي والاجتماعي، وأين تكمن في دواخلنا وكيف تظهر فجأة مدمّرة كل شيء حولها. تماماً كما يجب عليك أن تطّلع قدر الإمكان على التجارب الإبداعية الأخرى التي كتبها غيرك من المبدعين/ المبدعات حول تجارب المنافي. على كل حال أظن ان الرواية صديق فضّاح، يفضح ثقافة الكاتب/ الكاتبة وعوالمه المعرفية وبنيته الثقافية وقدرته على التحليل والفهم والإحاطة بالحدث، والأهم ديمقراطيته. بمعنى أن “الكتابة الديمقراطية”، إن صحّ التعبير، تمكّن الآراء المختلفة والتفاصيل الشخصية للشخصيات المتباينة من طرح نفسها بدون أحكام قيمة.
(ج): ما الذي يجب أن تحققه الرواية بحيث يمكن القول إنها رواية إبداعية وتشكل إضافة في جنسها الكتابي؟
(ر.ي.ح): لا توجد وصفة سحرية ومنجزة تجعلنا نقول، إذا تمّ تحقيقها، إن هذه الرواية إبداعية. الإبداع مفهوم شائك وخبيث ومخاتل، والرواية هي من أكثر الأجناس الأدبية تملّصاً من التعريف أو التصنيف. ربما لذلك استطاعت أن تطوّر نفسها على طول الوقت، وتتجاوز أية قوالب جاهزة ومعدّة لها.
بالنسبة لي باختصار، الرواية التي تجعلني، بأية طريقة من الطرق، بعد قراءتها مختلفة عمّا كنت قبلها، سواء بالمعنى الثقافي المعرفي أو الإحساسي أو الجمالي، أو التي تهبني لحظات من المتعة، هي الرواية الإبداعية برأيي.
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(ر.ي. ح): أفكر بالتأكيد في مشروع جديد، خصوصاً وأن نشر رواية يجعلك تقتنع بأنها لم تعد تنتمي إليك، كأنك غادرت وطنك مجدداً، وأن عليك التفكير في شيء جديد تنتمي إليه. أي أن تبدأ بخلق ذلك العالم الموازي الذي حدّثتك عنه، والذي بدونه لا يمكن إكمال العيش.
مقطع من رواية “بحثاً عن كرة الصوف- ثلاثة أيام من متاهة المنفى”
غذّ “سرمد” السير مبتعداً فقد تأخّر عن موعده أكثر من نصف ساعة. سمع حديثاً بالعربية من قبل جماعة من الرجال مرّ بقربهم، لكنه لم يلتفت إليهم، فهو أمر مألوف في هذه البقعة من مدينة هامبورغ التي تمتلئ بالمهاجرين ومنهم الكثير من العرب. ثم أن حديثاً بالعربية لجمع من الرجال يرمقونه بقرف واستهجان يجعل السائل الحامض ذاته ينزل معدته حارقاً ما يمر في طريقه. لم يعد يتخيّل أن يقيم أية علاقة عاطفية مع أي رجل سيخاطبه بالعربية. كلمات الحب الحميمة بالعربية صارت بالنسبة له أقرب إلى شتائم، لا يقولها إلا زبائنه المقرفون ومتحرّشو الطرقات.
- بشع كتير أن تتحوّل لغتك الأم إلى لغة تمارس عنفاً معك، تحتقرك وتذلّك!
قال “سرمد” ذات يوم لـ”مصطفى” في إحدى نوبات بكائه القاسية.
لكن الأخير كان قد اشترط سلفاً على “سرمد” أن يأتيه اليوم بملابس عادية، تناسب شاباً طبيعياً في مثل عمره، لا تلك الملابس التي تجعله يبدو أقرب إلى عاهرة غنجة ذاهبة لاصطياد الرجال. ببساطة بنطال جينز وبلوزة عادية مع الجاكيت. دون أي أثر لمساحيق التجميل على وجهه، ولا حتى لبعض الماسكارا السوداء على الرموش والتي تظهر واضحة جلية وصادمة حين تنعكس على زرقة عيون “سرمد”. لم يتعب نفسه ويذكر شيئاً عن كريم الشعر، الذي يضمّخ “سرمد” به شعره كي يصفّفه إلى الخلف ويبقى لمّاعاً حيوياً، فهو متأكد بأن صديقه لن يتحرّك خطوة من دونه.
وهو يغذّ السير، تذكّر “سرمد” لوهلة الكابوس الذي استيقظ عليه اليوم، هجمت عليه المشاهد كوحش جائع! كان في منطقة شبيهة للغاية بهذه المنطقة، وعيون الرجال في الكابوس، الذين كانوا يراقبونه وهو يُغتصب وسط الشارع، شبيهة للغاية بعيون هؤلاء الرجال، محتقرة هازئة ومليئة بالتشفّي. هو يصيح من الألم وهم يقهقهون.
نفض رأسه بقوة كي يطيّر الذكرى، لكن غصّة قلبه لم تغادره، وشعر برغبة عارمة في البكاء. حين سيرى “مصطفى” سيحكي له عن كوابيسه، وسيقول له إنه لم يعد يميّز بين كوابيسه وواقعه، لم يعد يعرف إن كان ما حدث معه الليلة الفائتة مثلاً هي حقيقة أم كابوس! وسيسأله “مصطفى”: ما الذي حدث؟! لكنه لن يخبره بشيء.
في العمل لا يعرف أحد حقيقة “مصطفى” البتة، هم يعرفون فحسب بأنه شاب في الثلاثين من عمره، درس علوم الكيمياء في سوريا، وولد في إحدى ضواحي المدن السورية، تلك البلاد المنكوبة التي كانت تتصّدر نشرات الأخبار الألمانية كمثال عن المدن العريقة الأثرية التي تحطّمها يد الغوغاء. الغوغاء في نشرات الأخبار الألمانية غالباً لا شكل لهم ولا لون، هناك داعش والإسلام المتطرّف على الأرض، وهناك من يضرب من السماء على المدن ولكنه مجهول، لا اسم له في الغالب، إلا حينما يكون الأمر أوضح من أن يتمّ إغفاله، فيخرج اسم النظام السوري أو حليفه الروسي ضعيفاَ حيّياً كمسؤول عن إلقاء البراميل المتفجرة والغارات المتلاحقة على مناطق المتمردين.
- Oh Syrien, arme, schade, es ist wirklich eine Katastrophe.
آه سوريا، مساكين، يا للخسارة، إنها حقاُ كارثة!
يتأوّه زميله الألماني في العمل كل صباح ويهزّ برأسه أسياناً، حتى أن “مصطفى” كان يشعر في بعض الأحيان بأن عليه مواساة ذلك الألماني على مصاب سوريا وليس العكس!
لكنه فجأة يقف نافضاً تلك الفكرة اللئيمة الساخرة من رأسه:
هل نكون قد تحوّلنا إلى تماسيح؟! صخور؟! أم أن الكوارث حين تتوالى لا يعود لمساحة التعاطف والحزن مكان، التعاطف حتى مع أنفسنا وأحبابنا! لا يعود هناك وقت لنبكي أو نندب، المكان والوقت كله مسخّر لنبقى على قيد الحياة، لنكمل السير في تفاصيل متشعبة للغاية في هذه الحياة التي ينبغي أن تستمر.
على الرغم من أن “مصطفى” كان ينتظر كل يوم خبراً مشؤوماً، خبراً صاعقاً يتوقّعه، وراحت روحه بكليتها تتقبّل قدومه، حتى أنه من الممكن أن يستمر في حياته هذه لو سمع بأن كامل عائلته رحلت في قصف ما قد يحدث في أية لحظة!
ألهذه الدرجة يمكن أن يعتاد المرء الكوارث والفقدان!
كان على “سرمد” أن يأتي لرؤية “مصطفى” اليوم، فالأخير أخبره قبل عدة أيام بأن صاحب البيت الألماني الذي يسكن فيه وافق أن يؤجّر “سرمد” غرفة في البيت مقابل أجار زهيد، وفي البداية دون أي أجار حتى تتحسّن أوضاعه الاقتصادية المتأزّمة، وذلك دعماً منه للشباب المثلي الشرقي، “ذاك الذي يخوض حرباً حقيقية ضد عاداته وتقاليده ومجتمعاته وذاكرته التي تضطهد المختلف وخصوصاً المثليين”، حسب تعبيره. يقولها هكذا وهو يضمّ قبضته ويدفعها في وجه الفراغ أمامه، كأنه يكيل ضربة قاضية لتلك التقاليد والعادات والمجتمعات والذاكرة! حتى أن “مصطفى” تمنى فعلاً لو أنها تتحوّل إلى كتلة مادية، لكان مزّقها نتفاً بأظافره وأسنانه ويديه ورجليه!
تنحدر أصول صاحب البيت من قرية صغيرة قريبة من العاصمة “برلين”، لكنه يسكن في مدينة “هامبورغ” منذ مدة طويلة، وعلى الرغم من أن “برلين” تعتبر من أكثر المدن الصديقة للمثليين في العالم، إلا أنه اختار كمثليّ مدينة “هامبورغ”، المدينة البحرية المنفتحة، للعيش فيها، مدينة تقبل المختلف وتعتبر نسبة المثليين فيها من أعلى النسب في المدن الألمانية.
صاحب البيت يسكن مع شريكه، الذي يصغره بعشر سنوات، منذ أعوام طويلة. رغم أنهما لم يتزوجا إلا قبل مدة قليلة. وهو حريص أن يظلّ النادي الذي أسسه باسم: نادي قوس قزح Rainbow Club، فاعلاً ونشيطاً ومستقطباً للكثير من الشبان المثليين، خصوصاً الشرقيين منهم. يتفاخر أمام أصدقائه بأن هناك أكثر من سبعين شاباً سورياً من أعضاء النادي، لا يتأخرون عن حضور اجتماعاته وأنشطته وحفلاته، وكذا الخروج في مظاهراته المناهضة للعنصرية والهوموفوبيا. وهو إذا وافق على سكن “سرمد” في البيت فلأنه لا يمكن أن يقبل شخصاً في بيته لا يحترم ويفهم ماذا يعني أن يكون الرجل مثلياً، ويعيش مع زوجه الحبيب.
- رغم أن المثليين في بلداننا يا ستيف لا يعيشون في سلام تام داخل مجتمعاتهم الصغيرة، إلا أن القوانين في النهاية تحميهم. أما أنتم فلا قوانين ولا دعم اجتماعي يقف إلى جانبكم.. مساكين. علينا أن نكون سوية فليس لنا إلا دعم بعضنا..
ثم غمز صاحب البيت “ستيف” وقهقه بألم وهو يجهّز سلطة خضراء لطعام العشاء.
“ستيف” هو اسم “مصطفى” الذي يعرفه كل الناس به في وطنه الجديد “ألمانيا”، إلا ابن بلده “سرمد”.
يبدو صاحب البيت الألماني وهو يكلّم “مصطفى” كأنه يهجّي كلماته في درس لغة، فيما يتكلّم مع زوجه بسرعة لا يكاد “مصطفى” يلتقط من حديثهما شيئاً!
“مصطفى” يشعر حقاً بأن هذا وطنه، هذا ما يكرّره دوماً أمام “سرمد”. على الرغم من أنه يعيش شخصيتين متناقضتين تماماً:
في النهار يعمل كأي رجل ملتحٍ و(شديد) في مستودع الأدوية، ولا يمكنه أن يسمح لأي تفصيل صغير يشي بحقيقته أن يظهر أمام زملاء العمل، حتى لو كانت ثياب صديقه الآتي ليزوره في العمل.
أما في الليل فيتحول إلى “ستيف”، يرتدي ثياب النساء وحليهنّ ومكياجهنّ ويذهب للسهرة في بارات المثليين والعابرين الجنسيين. يحرص على اختيار الثياب الأنثوية الملونة المليئة بالدانتيلا والشبك والتزيينات، التي تجعله يبدو بالفعل امرأة بكامل أنوثتها، ولولا تلك اللحية المشذّبة الناعمة لما شكّ أحد بأنه امرأة حقيقية، خصوصاً حين لا يخرج ليلاً إلا بستيانات محشوة بإسفنجات سميكة تظهره بثديين عارمين، تضفيان على مظهره أنوثة إضافية شهيّة.
“الأمر بيشبه وقت كنّا في سوريا قبل الحرب”.
يقول لي “ستيف”، “كان ينبغي أن نكون بشخصيتين: شخصية المواطن البعثي المؤمن بالقائد وحزبه، واللي ما ممكن يعمل أي شيء فيه معارضة، وفي البيت وبين الأوساط المغلقة الموثوقة نشتم الرئيس وحزب البعث والقيادة الحكيمة والقدر الذي جعلنا في مثل هكذا بلد يحكمه مجموعة من الطغاة العرصات.. أرأيت؟! مو بس هيك، بل أكثر من شخصية اجتماعية متناقضة لذات الشخص أيضاً، أمام العائلة شيء، وفي المجتمع المحيط شيء آخر، وفي غرفتك أمام كومبيوترك والتشاتينغ شيء ثالث لا يشبه ما سبق. التناقض، الشخصيات المتناقضة المختبئة فيك، أمر معتاد في مجتمعاتنا. بل تربينا عليها.. صحيح؟! استتروا، داروا، خبّئوا.. وهكذا، أنا معتاد على الأمر، بل أستمتع به! يعني.. أممم.. أقصد أن أكون بشخصيتين متناقضتين أو أكثر، لا يمكن لأحداهما أن تشي بالأخرى أو تؤثر عليها أو تتأثر بها! عالمان متوازيان تماماً!”.
يمدّ “مصطفى” كفيه إلى الأمام بشكل متواز وهو يعيد الفكرة ذاتها مجدداً أمام صاحب البيت وهما يلتهمان عشاءهما.
*تنشر هذه المادة بالتعاون مع موقع جدلية.
by ميلينا عيسى | May 4, 2023 | Roundtables - EN, العربية, All Reports, Uncategorized, Articles - EN
“إن كنا نرجو ما لسنا ننظره فإننا نتوقعه بالصبر”.
كانت الأزمة الاقتصادية قد بدأت تدريجياً قبل الحرب السورية بعدة سنوات، ولاحت علامات التذمر على وجوه السوريين ليحل من بعدها وباء الحرب اللعينة وندخل في دوامة الهباء ويقطع الشيطان حبل الود بين السوريين الذين اعتادوا التآخي والمشاركة في هموم الحياة ومسراتها.
أطبقت الحرب على أعناق السوريين ليتخبطوا بين طيات الفقد والنزوح والفقر، كَثر الشحاذون في الشوارع وعند أبواب المحلات وانعدم الأمن والأمان، ما عادت قلوبنا تحتمل ضربات العوز التي لم نذقها يوماً مهما وصلت درجة التفاقم، فكان قدرنا أن نمضي وحدنا.
تصاعد الوضع إلى ما بعد القتل والترهيب والتهجير، فأوجدت الحرب تجار الأزمة الذين صعدوا فوق أكتاف وأجساد أخوتهم، نهض الكثيرون اقتصادياً وذوى كثيرون، وبات لا سبيل حتى للقمة الخبز، يوم بعد يوم غدا الوضع السوري في تردٍّ.
واليوم ربما انتهت الحرب جزئياً ليتنفس معظم السوريين ويسترخوا بعد تشنج ورعب دام سنوات، لكننا وقعنا دون سابق إنذار في “حصار قانون قيصر” حسب ما أخبر بعض من قابلهم موقع صالون سوريا في ريف حماه، حيث أشاروا أنه قانون “فُرض علينا وأدخلنا في دوامة اللاشيء.. فأي صبر نمتلك؟”.
في خضم الحصار كنا كمن يحاول رفع يده من القبر منادياً: “هنا.. أنا السوري.. دعوني أعيش!” فإذا بزلزال شباط 2023 يضرب جدران أرواحنا لينتزع آخر ما علق منها في الحياة.
البطالة المزهِقة
اقتضت الحرب برفع سنوات “الخدمة العسكرية” إلى التسع كما انخفض راتب الموظف السوري إلى عدة دولارات فقط بعد الانخفاض المرعب لقيمة الليرة السورية بسبب الحصار، وبات السوري لا قدرة له على إعالة عائلته، وأعرض الكثير من الشباب عن الزواج وباتوا يتخبطون بين عمل وآخر، كل ذلك أدى إلى بطالة أجهضت إرادتهم وأدخلتهم في دوامة اليأس القاتل.
في إحدى قرى حماه كان لنا وقفة مع شبان يذهب عمرهم سدى كفاحاً وأحلاماً، ومنهم راكان (40 سنة) وهو ابن عائلة فقيرة، فقد والده في حرب الثمانينات، وقال بشيء من المرارة لموقع صالون سوريا: “ما ذنبنا نحن الشعب الصامد الصابر، إننا فقط نريد أن نعيش؟” كان راكان قد غادر سوريا متجهاً إلى لبنان طلباً للعمل كي يبني بيتاً ويتزوج، وهناك اجتهد عدة سنوات لتباغته الأزمة حيث بدأ نزوح السوريين هرباً من الحرب إلى الأقطار المجاورة والتي كان إحداها لبنان مما اضطره للعودة بناء على “مبرر ظالم وهو أن السوري بات مكروهاً؛ السوري الذي فتح قلبه وبيته للجميع في أزماتهم وحروبهم أصبح غير مرغوب به، إضافة إلى انخفاض أسعار العمال السوريين هناك” حسب وصفه.
رجع راكان دون رصيد، إلا من بيت متواضع استطاع بناءه بمساعدة أخيه، ويعيش فيه مع وأمه وعائلة أخيه وعائلته بعد أن مكث لسنوات في خيمة لعدم توفر المال قبلاً. لقد بحث راكان عن عمل دون جدوى ليرسو بعد ذلك في عمل مضنٍ “ضمن كسارات الحجر المنتشرة بكثرة في حماه، هذا العمل المجهد حد التسبب بديسكين في ظهره”.
يقول: “العمل في الكسارة منهك، أعمل يومين فقط في الأسبوع إذ إن العمل قليل بسبب الأزمة الاقتصادية، والدخل لا يكفي لكيلو لحمة ولا حول ولا قوة، ماذا عساي أفعل؟ وماذا أقول لأطفالي عندما يأتي العيد دون أن أستطيع شراء الثياب لهم…؟ أو كيف أعالجهم إن يمرضوا وعلبة الدواء سعرها 25 ألف ليرة سورية؟ الحياة صعبة جداً وما حدا حاسس بحدا”.
راكان يرزح تحت ثقل الديون إضافة لدفعه فوائد هذه الديون, تسنده زوجته سمر التي تتمزق بين ماكينة الخياطة وطفليها ومهامها المنزلية.. سمر المنهَكة حد إيلامنا.
كان العجز يسيطر على أجواء هذا اللقاء مع تلك العائلة، فالأمل لديهم مفقود وعمل الزوج والزوجة لا يكفي، والعائلة تعيش بسبب ظروفها المادية القاسية بعيداً عن أية وسيلة ترفيه حتى على صعيد النت الذي غدا متوفراً في كل بيت سوري.
الشباب السوري الجبار
ويخبرنا مالك (25 سنة) عن مسيرته الصعبة خلال كدحه ضد ظروفه الشاقة. لقد كان مالك طالباً جامعياً في كلية الآداب- قسم اللغة الإنكليزية، ولسوء حظه اقترنت دراسته بسنوات الأزمة. والده المعلم المتقاعد والذي تتكون عائلته من 9 شبان وبنتين استلف قرضاً من البنك من أجل جامعة ابنه لأن راتبه المتواضع لم يكن ليكفي، كان مصروف الجامعة غالياً حوالي 50 ألف ليرة شهرياً بسبب ظروف الحرب، توفي الأب بعد سنتين ومالك في الجامعة مما اضطره لتركها والعمل في سبيل إيفاء القرض، الأمر الذي منعه من إكمال دراسته خاصة بوجود أخت معاقة تحتاج دائماً للعلاج والدواء، فأخوته الباقون جميعهم بعيدون ولا معيل للعائلة سواه، حاول مالك البحث عن عمل ثابت وبدأ بالتنقل “القطاع الخاص امتص دمه- عمِل في منجرة حجر فتدهورت صحته، كان حزيناً فكيف له أن يتأقلم مع وضعه الجديد بعد أن كان طالباً”.
ويؤكد بشيء من السخرية خلال حديثه لموقع صالون سوريا: “لم نكن نمتلك ثمن خبز، وما من رزق لدينا فقط قطعة أرض كانت في حوزتنا باعها أبي من أجل عملية في القلب لأخي الشاب الذي توفي رغم جهودنا”.
مبتسماً يضيف: “منزلنا قديم، هدم الزلزال أحد جدرانه وتكلفة بنائه مليون ونصف، معي نصف المبلغ ولا أعلم كيف أكمله؟”. وحالياً يعمل مالك في مطعم خارج قريته وقد أشار لموقع صالون سوريا “أنه في معظم الأحيان يعود إليها مشياً على الأقدام لعدم توفر ثمن بنزين من أجل دراجته النارية، حتى السجائر بات مصروفها ثقيلاً عليه فبدأ بتخفيفها تدريجياً رغم ولعه بها”. وعندما سألناه إن حاول السفر خارج القطر أجاب: “آمل ولكن من أين لي بالنقود والسفر يكلف آلاف الدولارات؟ لن أيأس من الوضع فأنا من جماعة الاكتفاء الذاتي”.
*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “إرادة المقاومة اليومية في سوريا لدى المواطنين العاديين“
by فدوى العبود | May 2, 2023 | Culture - EN, Roundtables - EN, العربية, بالعربية, All Reports, Articles - EN
يعتبر حنّا مينه واحداً من الروائيين الأوائل الذين يؤمنون بأن القيمة الأثمن للرواية هي المعرفة، لقد فتح عينيه على القهر مُذ أبصر الاحتلال الفرنسي وصعود البرجوازية العربية التي لم تكن سوى نسخة مشوّهة ومزوّرة عن البرجوازيـــّة الغربيّة.
وبينما كان قرّاؤه يطلقون عليه روائي البحر/ شيخ الرواية السورية، مفتونين بهذه المنطقة من الوجود والمغامرة؛ فإن هاجسه الحاضر في حواراته وشخصياته: تمثل في النظر للكتابة باعتبارها فعلَ إيقاظ.
تظهر في سيرته الذاتية ومن خلال علاقة الابن بالأب سليم ميناـ والذي كان يتنقل بلا هدف “كان أبي رحالة، أراد الرحيل تلبية لنداء المجهول، ولطالما تساءلت: وراء أي هدف كان يسعى؟ – ملامح افتراق الروائي الشاب عن خطوات والده عبر تحديد هدفه في الحياة؛ لقد تأثر بمقاومين يصفهم بأنهم من طراز خاص، وأعجب بقناعة أن النضال الحقيقي هو في نمو إنسانية الإنسان؛ فلم يكن البحر ولا الغابة وهي -ملمح أساسي في أعماله-هاجساً جوهرياً بل مجرد وسيط وارتداد نحو الذات لاستكشافها، من خلال عقد حوار مع أحطِّ ما فيها كي نزيح التراب عن أسمى ما تحمله: (الوعي المصحوب بالإرادة الحقيقيّة للتغير).
لقد بدا وكأن هذا الماضي بالنسبة لنا نحن -والذي كان حاضر مينه ذات يوم – منذور ليجدّد نفسه وسيعاود شبحه الاستيقاظ في حياتنا الحاضرة، وهنا تأتي أهمية تناول تجربته ونتاجه الذي يفوق 40 عملاً بين الرواية والدراسات ومجموعتين قصصيتين وفي هذه الأعمال لم يكن حنا مينة ليأتي من خارج سياق معاناة هذا الشعب ولم يكن أبطاله ليخرجوا عنهم “فعشت معهم حافياً، عاريـــاً، جائعاً، محرومــاً من كل مباهج البراءة الأولى”.
في كتابه “الرواية والروائيّ” تلومه والدته على الحياة في قلب الخطر، خطر فقد الطفل العليل وخطر السجون والمنافي “وأنت تعطي نفسك للعذاب، في سبيل ماكنت تسميه التحرر من الاستعمار الفرنسي وتحقيق العدالة الاجتماعية”.
إنّ تحرّي مكانة أدبه في الملهاة السورية سيظل مبتوراً دون فهم رؤيته للعلاقة التي تصل الذات بالآخر. فمنذ روايته الأولى المصابيح الزرق 1954 وحتى كتابه الرواية وهو في عمر 80 ظل مهجوساً بفكرة الهويــــّة الإنسانية كأساس لأي انتماء، وهذه الهوية التي تتعرض الآن بسبب الحرب واللجوء لاختبارٍ عنيف، لقد زرعت الحرب الشك في روح الإنسان ورضّ هذا التحول علاقته بهويته رضّاً عنيفاً.
كيف نستعيد مينه في عصر الشتات؟
تبدو أعماله محاولة جديــــّة ومبكرة للإجابة عن هذا السؤال، وتكشف لنا شخصياته الساذجة والبسيطة عن إرادة النمو التي تميز هذه الهوية المغيبة بفعل النهب والتجهيل، إنها تريد التحقق لكن ذلك لا يمكن لها في البداية لأن المستقبل الذي يؤمن به مينه لا محل فيه من دون مسؤولية الذات إزاء الآخر أو الشريك في الوطن.
فالهوية التي رسمها في أعماله وشخصياته تطالب بحقها في الوجود لكن هذه المطالبة لا معنى لها إذا لم تقترن بالوعي والاكتواء بالتجرية؛ وبرغم تهتُّك أحلامها والشك بقدرتها على المقاومة فلن ينقذها سوى الوعي المستند للإيمان بشراكة الذات مع الآخر.
إن اصالة تجربته تتأتى من كون أدبه ثمرة نضاله وهو يصف نفسه “إن وعي الوجود عندي، ترافق مع تحويل التجربة إلى وعي”.
لقد اختار نماذجه من الأشخاص البسطاء، فالإنسان الأعلى في أعماله لا يصير ما هو عليه بدون الخطوة الأهم في طريق الحرية (الجهل والمشقة ثم التحرر وعبور الغابة المظلمة).
البحر في أعماله كناية عن صراع الذات لاختبار الإرادة، الغابة إشارة إلى الفطرة الأصيلة للإنسان، والمعتقل في “المصابيح الزرق” كناية عن بئر يوسف، والغرفة في “الثلج يأتي من النافذة” هي لحظة الكشف عن بذرة الحرية واتخاذ القرار.
بذرة الحرية ليست قيمة دخيلة على الإنسان، بل جوهر كينونته والجهل صناعة. لقد كان أبطاله على غراره يريدون تخليص العالم من الظلم، وبهذا الصدد يشير إلى نفسه: “لمساعدتهم على الخلاص من حمأة الجهل والسير بهم ومعهم نحو المعرفة”.
إن الروايات الغزيرة التي كتبها بدءاً من “المصابيح الزرق” 1954، “الثلج يأتي من النافذة” 1969، و”الياطر”، -197 ورواية “الشراع والعاصفة” ، 1993 نُسجت في عالم يبدو مثالاً على الانفعال المكثّف ضد وضعيّة قائمة، (سياسية، اقتصادية، اجتماعية)، بحيث يخوض شخوصه الذين ينحدرون من القاع الاجتماعي (عالم بحارة وصيادين وعمال ميناء) دورة حياتهم. يكتب معللِّاً اختياره: “كي أفتح عيونهم على الواقع البائس”.
لم يكن البحر إذن سوى وسيلة لشحذ الإرادة، وما الصراع معه سوى صراع مع الذات في فهمها لمفاتيح وجودها ولغزها العميق. إنّ القيمة الكبيرة التي يعود بها البحار من قلب البحر إما ماديــــّة أو روحيّة؛ ولكن لا أحد يعود فارغــاً فالسلة الخاليّة من السمك قد تملؤها حكمة جديدة.
لقدعاد يونس من بطن الحوت مزوّداً بالفهم، (فهم دوره ووظيفته)؛ وكذلك يوسف الذي ساعدته وحشة البئر على أن يستعد لِمِلكٍ ومكانة قُدرّا له، إن جلجامش أيضـاً تعلم في رحلته وعبر خسارة صديقه أنكيدو عن الأبديــّة والخلود.
لكن ماذا عن الذين عبروا البحر لاجئين، هل خرجوا من بطن الحوت!
ومع أن المعاناة التي يخوضها أبطاله فردية إلا أنها ضرورية لاكتشاف من نكون وحمل مسؤوليتنا إزاء الآخر. وفرادة حنا تكمن في هذا بالضبط، لذلك كافح الطروسي بطل الشراع والعاصفة من أجل العودة للبحر، لكن توجب عليه قبل ذلك محاربة محتكر الميناء والقوارب الخشبية وتحدي سلطته وهزم أعوانه لكي يثبت جدارته بالبحر والعودة إليه، إنــّه يذودُ عن حقوق الآخرين ويحمل هموم عمال الميناء، ويسبب القلق للمحتكر وأعوانه من أن يوعّي العمال بحقوقهم، وهو ينتظر استحقاقه بالنزول إلى البحر ومقاومة عواصفه وقبل ذلك عليه أن يثبت بطولته أمام عواصف البرّ من رجال الأمن والسراي والعملاء، وهي كالريح العاتية على الشراع لكنّه يقاوم.
لقد مُنِعَ من نزول البحر وفقد سفينته، فافتتح مقهى على الشاطئ بقرب البحر، ويمثل قول الأستاذ في الرواية خلاصة توجّه البطل “أن القضية ليست قضية فرد بل قضية مجتمع ينبغي إصلاح المجتمع”.
وهذه ال “ينبغي” هي التي حرضت الطروسي، إنّها هذا الرفض المشحون بالشجاعة؛ فالوعي قيمة مهمّة في مسيرة الإنسان للتحرر؛ ولكنها لا تكفي بدون الشرط الأهم: الارتباط الأخلاقي بالآخر ومصيرنا المشترك.
يكتب في سيرته الذاتية: “فأنا أعرف أن اليوم الذي أنسى فيه ناسي، أو أدير لهم ظهري، أو ينقطع حبل السرّة الذي يربطني بهم سيكون يوم توقفي عن الكتابة، وتاليًا عن الحياة”
لقد جسدت شخصياته الصراع من أجل التنوير لذلك سيعرضهم لاختبار أيوب، الفقر والمعاناة، التيه، ثم الخروج من النفق؛ لذا فهو يقيم الفجوة تلو الأخرى بين شخوصه وأفعالهم، إنّ فعلاًّ كالقتل الذي ارتكبه بطلالياطر –والذي ينتهي به هائماً على وجهه في الغابة-يبدو غير مفهوم لصاحبه ذاته وكأن انفعاله غير المبرر ينتمي لغيره، كذلك السجن بالنسبة لبطل المصابيح الزرق.
إن إدراك البطل لعالمه الداخلي ولأسطورته الذاتيّة، ووعيه العميق بقيمته كإنسان لاحقة للعزلة القسرية في الغابة أو السجن، لذا نجد شخصياته تعاني بداية من توهان وتحُاصر بشكوك ذاتيّة في إنسانيتها، تعيش وطأة الندم في كل ما تفعل فمصيبتها ماثلة في كيفية إدراكها لواقعها ولابدّ من النضال لبناء إدراك جديد
إن لديه قدرة هائلة على تشخيص جوانية أبطاله وتشريحها، عبر ارتدادٍ قاسٍ على الذات فشخصياته تجسيد للحظة التي ذكرها كونديرا “اللحظة التي تهمل فيها الرواية عالم الفعل المرئي لتعكف على اللامرئي في الحياة الداخلية“
وعبر تقنية الاستبطان، تتيح أعماله للقارئ فرصة المراقبة لتفتح ونمو الوعي لدى الشخوص فبطل “الياطر” فوضويّ ومتمردٌ على كل سلطة؛ يهرب للغابة بعد عملية قتل ارتكبها. وفي “الثلج يأتي من النافذة”سياسي يهرب من وطنه سوريا ملاحقًا إلى لبنان وتسهم عزلته وهروبه في تطور إدراكه للواقع وأيمانه بالكفاح العملي؛ وفي “المصابيح الزرق” تتحول شخصية البطل إثر سجنه، ومع أنه ينضم للجيش الفرنسي؛ لكن بفعلته سيحرض والده للخروج في مظاهرة ضد الفرنسيين، ويتدرج فياض بطلالثلج يأتي من النافذة من المعاناة والمشقة إلى المرحلة الأسمى المتمثلة في النضال الفعلي وكتابة منشورات تنويرية.
إن البطل حبيس جهله الأولي عاجز عن استيعاب وضعه اللاإنساني والذي يكمن في بقائه مدفوعًا من الآخرين نحو قدر لا يد له فيه، وشرط خروجه من محنته لا يختلف عن شرط خروج يونس من بطن الحوت، الذي أحاطت به ثلاث ظلمات، (ظلمة البحر، وظلمة الحوت وظلمة الليل) – والمقابل الرمزي في أعماله ظلمة الجهل وظلمة العجز وظلمة الشرطاللاإنساني (الفقر والامتهان) ولكن الأخير ليس سوى انعكاس للشرطين الأولين، لذا سيقسو على شخوصه عبر صنوف العذاب كالجوع والحمى والآفات الجسدية وتعريضهم لكافة أنواع الحرمان الجسديــّة والنفسيّة وعلى غرار صانع السيوف سيعرضهم للضربات العنيفة والكاوية.
تعكس أعماله في أعماقها رفضاً للخلاص الفردي والنظرة القاصرة التي ترى البشر: كمجموعة أنانيات، إن بطل “الياطر” سيقود الناس للثورة بعد رحلة التيه والجنون، وكذا بطل الثلج الذي يقرر: “لن أهرب بعد الآن، لن أهرب بعد الآن.”
يصف مينه عودة الشخصية في الياطر ” لم تكن له وجهة نظر واحدة، الحياة، في هذه الغابة، هي التي أعطته وجهة نظر، قوامها أن يكافح ليعيش، وقد كافح وعاش، وحين ظهر حوت آخر في ميناء المدينة، يعود رغم الخطر الذي يتهدده، وفي فعلته هذه بعد أن حولته شكيبة من وحش إلى إنسان، يسهم بعفوية في بناء العالم الجديد، إذا ما عرفنا أن الحوت هو رمز الأجنبي الفرنسي الذي جاء غازيــًا ومحتلاً سورية”.
ولأن ضريبة الجهل غالية تبرز أصالة المؤلف الذي عمل حمالاً في الميناء، وكتب أولى قصصه على الأكياس في امتزاج تجربته بأدبه وامتلاكه رؤية مستقبلية للهوية الإنسانية السورية؛ فمن رماد الجهل واستلاب الوعي تنبت جمرة الوعي بالذات وبالغير، وحنا مينة بحار وتعرفون معنى أن يكون المرء بحاراً، كلنا في السفينة معاً ولا نجاة لنا إن قفزنا منها فرادى دون اكتراث بالآخر الذي يشاركنا محنتنا.
“البحار لا يصطاد من المقلاة وكذلك لا يقعي على الشاطئ بانتظار سمكة السردين التافهة. إنه أكبر، أكبر بكثير، وأنا هنا أتحدث عن البحار، لا عن فتى الميناء”. لقد كان أدبه تجسيداً بليغاً لما عاشه، وهو يطالب بحقه من المستقبل.
أن نقدم إجابة وافية على سؤاله حول معركتنا الحقيقية، فهل هي مع الآخر أم مع جهلنا وضعف إدراكنا لواقعنا وقراءته بعمق؟ وما مسؤوليتنا إزاء بعضنا البعض؟
هل وصلتنا رسالته. وكيف تلقيناها؟ ومالذي سنضيفه إليها؟ وهو الذي يعترف أنه لم يستنفد كل الكلمات، ويشعر بمسؤوليته تجاه المستقبل الذي نحن سكانه الآن ” أوجه كلماتي إليكم، الآتون بعدي من الأجيال الشابة، إذا لم تكن لكم قلوب من تراب”.
*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”
by عمر الشيخ | Apr 30, 2023 | بالعربية, All Reports, Articles - EN
قبل أن تتحول “الثورة” إلى منطقة المعارك غير المُجدية سياسياً لمستقبل سوريا، والتي أصبحت صورة لحلٍّ لا نهائيّ للأحداث، كنّا نرى كيف نشأت تحالفات إقليميّة كانت تهدف لفرض السّيطرة على المناطق السوريّة حسب الولاءات الدوليّة لأقطابٍ أساسيةٍ في المشهد السوريّ، وهنا يمكننا أن نلخّصها على النحو الآتي: القوّات الأمريكية مُمَوّلةٌ وحليفةٌ للميليشيات الكرديّة، شمال سوريا، والتي تبحث عن منطقة انفصاليّة قرب الثروة النفطية. القوّات التركيّة راعيةٌ وحليفةٌ لعشرات فصائل المعارضة المسلّحة وبعض الفصائل الإسلاميّة، وهي فصائل ضد النظام. ثم الحرس الثوريّ الإيرانيّ وميليشياته من جهة، والجيش الروسيّ ومرتزقته من جهة أخرى، كلاهما تحالفَ مع قوّات النظام السوريّ، وهم ضد فصائل المعارضة المسلّحة.
زحام تحالفات يُحيلنا إلى المزيد من التعقيدات ميدانيّاً وليس آخرها دخول تأثيرات الأنظمة العربيّة بشكل ملحوظ على المشهد السوريّ، دخولٌ ربّما لن يضيف شيئاً، عملياً، على توزان القوى العسكريّة بين أطراف الصراع في سوريا.
لم تعُد النظرة إلى أيّة خسائر ميدانيّة في الأرواح والبُنى التحتيّة، تخرج عن مكاسب هذه التحالفات ومن يقف خلفها، حتى لو كانت إسرائيل لاعباً في مشهد التدمير، إسرائيل العدوّ التاريخيّ لسوريا، والتي تحتلّ هضبة الجولان، هي من يستهدف قوة على الأرض السوريّة تخاصم قوّة أخرى سورية أو غير ذلك، والخاسر في الحالتين هو الشعب السوريّ على المستويين التاريخيّ السياسيّ والنفسيّ الاجتماعيّ.
إذاً، ثمّة تصعيدٌ لا يُستهان به على الأراضي السورية، ومع قلّة توفّر المصادر الإعلاميّة المُحايدة التي يمكن أن تنقل شيئاً من الحقيقة، يبقى الملاحظ من “مسلسل” الاستهداف هو صوت القصف الصاروخي الذي يقوم به الطيران الإسرائيليّ على مختلف المناطق السورية وفي أي وقت دون ردّ يُذكر عسكرياً من الجانب السوريّ، ذلك الصوت الذي يمكن تخيّله مع صور الرعب والفزع بين الناس والمتداولة عبر منصات التواصل الإلكترونيّة بعد كلّ طلعة عسكريّة تقتل فيها إسرائيل من تريد، ومتى تريد، وغالباً يكون المبرر هو استهداف نشاط إيران في سوريا، حسب ما يقال.
ترى كيف يقرأ السوريون ذلك في ظلّ تبريرات الإعلام والوجود الإيرانيّ والاختناق الاقتصاديّ؟ هل يعتقد البعض أنّ هناك إمكانيّة ردٍّ عسكريّ على تلك الضربات الجويّة، المُستمرة، منذ سنوات لسوريا؟ وإلى أيّ مدى يمكننا القول إنّ هناك متابعة للإعلام “الرسميّ” تواكب تلك المجريات بشكل واقعيّ؟
التخوّف الإسرائيليّ!
يعتقد الكاتب السوريّ مازن بلال أنّ “مسألة الاعتداءات الإسرائيليّة منفصلة عن مجمل المفاصل الحالية للأزمة السوريّة، وحتى في مسألة التواجد الإيرانيّ فإن أيّاً من الاعتداءات وفق المعلومات التي تتيحها المراكز المتابعة للحدث السوريّ؛ لا تتحدث عن استهدافِ تجمعاتٍ إيرانيّةٍ، وفي أفضل الأحوال فإنّ بعض الاعتداءات هي استهدافٌ محدودٌ لعناصر مُحدّدة” بحسب قوله.
ويضيف بلال في حديثه لموقع صالون سوريا: “بغض النظر عن صحة أيّة معلومة في هذا الشأن فإنّ الاعتداءات غالباً ما تستهدف بُنى تحتية عسكريّة، مراكز أبحاثٍ في معظم الأحيان، وفي الآونة الأخيرة نقاط حركة النقل الجويّ في إشارة لتتبع الاتصال بين دمشق وطهران على وجه الخصوص”.
ويعتبر بلال أنّ هذه الاعتداءات عملياً “لا تستهدف تمركز قوات أو مستودعات ذخيرة، فهناك محاولة إفشال ظهور قاعدة عسكريّة علميّة في سوريا، ومهما كانت الجهات وراء هذه القاعدة فإنّ التّخوّف الإسرائيليّ أصبح واضحاً جداً، فـ”إسرائيل” لا تريد أن ترى تحالفاتٍ عسكريّة غير تقليديّة قوامها لا يعتمد فقط على التعدّاد العسكريّ، بل على تطوير العلوم والأبحاث العسكريّة، فباستثناء حالتين أو ثلاث حدثت في بداية الأزمة، فإنّ حالات الاعتداء كانت تتبع التعاون العسكريّ أو تطورات البُنى العسكريّة” بحسب رأيه.
ويختتم بلال حديثه لموقع صالون سوريا بالقول: “لا يقدّم الإعلام السوريّ تفصيلاً عن المناطق المُستهدفة، وربّما لطبيعة الأهداف المُستهدفة، وهي عسكريّة بالدرجة الأولى، فهناك “تكتّم” إنّ صحّ التعبير، وليس هناك تبريرات لِما يحدث، فدمشق لا تحتاج لمبررات في ظلّ حالة العداء مع “إسرائيل”، وفي المقابل فإنّ “الردّ” ليس موضوعاً سهلاً لا على المستوى العسكريّ أو حتى الاستراتيجيّ، ودون الدخول بالتفاصيل فهناك توازن لا يرتبط فقط بسوريا، بل بالقوى الدوليّة المتواجدة على الأرض السوريّة” على حد قوله.
العلاقات الوثيقة
فيما ترى الناشطة السوريّة لبانة غزلان، الأمر من جهةٍ مغايرةٍ، وتعتبر أنّ “النظام في سوريا، غارق بأزماته؛ بحقّ الردّ، وذلك دليل واضح على عدم امتلاكه القرار والسيادة على كامل أراضيه حسب ما يدّعي الموقف الحكوميّ ومن خلفه الإعلام الرسميّ”.
وتضيف غزلان في حديثها لموقع صالون سوريا أنّ “قرار الردّ؛ سواء أكان النظام يمتلك القدرة العسكريّة بعد اثنتي عشرة سنة من حرب حصار اسُتنزفت فيها الموارد والمؤسسات العسكريّة من أجل قمع الثورة السوريّة، وإعادة بسط سيطرة النظام بالقوة على المناطق المُحرّرة بدعم إيرانيّ وروسيّ. إلاّ أنّ النظام لا يملك قرار المواجهة، وبرأيي أنّه يمثّل اليوم واجهة لتمرير سياسات روسيا في المنطقة، على الرغم من محاولات تعويمه عربيّاً، إلا أنّه ليس صاحب قرار” بحسب ما ترى.
وتعتقد غزلان أنّ تلك الجوانب باتت “واضحة اليوم للأغلبيّة العُظمى من الناس داخل مناطق سيطرة النظام السوريّ، وهي أغلبيّة رافضة للوجود الإيرانيّ، بكلّ أشكاله، ولكنّها محكومة بسلطة الأمر الواقع، وتعيش كلّ يوم في حينه، بسبب سوء الوضع الأمنيّ والمعيشيّ والذي لن يتغيّر بوجود هذا النظام ودون الانفتاح على حلّ سياسيّ وإعادة إعمار” حسب تعبيرها.
وترى عزلان أنّ الناس في سوريا اليوم، ينظرون إلى الضربات الإسرائيليّة قائلين “يدبّ كيدهم بنحرهم” إذا كانت تلك الضربات تستهدف الوجود الإيرانيّ في سوريا. بينما الإعلام -كعادته- ينظر إلى الغارات الإسرائيليّة على سوريا كأنها انتصار (…) وهنا نتذكر المدعو “خالد العبود” الذي يعتبر “القصف الإسرائيليّ المستمر لسوريا هو دليل على أنّها موجوعة (!) أو قد ينقل هذا الإعلام خبر أضرار القصف مع تهويل بعدد الصواريخ التي استطاع جيش النظام التصدّي لها مع التأكيد على موقف “المقاومة الواهية” التي باتت واضحة بالنسبة للناس بعد الثورة”” على حد قولها.
نتائج محسومة
ومن جهة أخرى، يقول الكاتب الكرديّ السوريّ شفان إبراهيم، لموقع صالون سوريا: “أعتقد أن القصف الإسرائيلي عادةً ما يأتي رداً على التواجد الإيرانيّ في سوريا، ورغبة من “تل أبيب” في فرض قواعد اشتباك ونقاط تماس تدخل في صالحها. خصوصاً وأنها تعي أنّ حجم الإنهاك الذي أصاب الجيش السوريّ لن يسمح له بالردّ مخافة استفزاز سلاح الجو الإسرائيليّ والقوة الأمريكية الموجودة في قاعدة “التنف” عند المثلث الحدودي السوري العراقي الأردني، في محافظة حمص”. ويضيف شفان “إنَ النتائج ستكون محسومة، نتيجة فائض القوة وفوارق التسليح، ونتائج عقد من الحرب إضافة لوجود تلك القوات مع إسرائيل”.
كما يشير شفان إلى أنّ الإعلام الحكوميّ في كلّ مكان هو “لتسيير وتنفيذ وترويج سياسات حكومته، وبالتالي هو يقول أشياء لن تقنع أحداً سواه، وليس المهم هنا ما يقوله، المهم من يصدّق ما يقولون؟” على حد تعبيره.