اللصوص يسرقون الأسلحة الأمريكية في سوريا

اللصوص يسرقون الأسلحة الأمريكية في سوريا

(تحقيق أجراه الصحفي الأمريكي نيك تيرس لموقع إنترسيبت)

سرق لصوصٌ ما تبلغ قيمته مئات آلاف الدولارات من معدات المدفعية، و“أنظمة أسلحة غير معروفة“، وذخائر خاصة بأسلحة محددة مُرْسلة إلى القوات الأمريكية في سوريا والعراق، بحسب وثائق حصرية حصل عليها موقع إنترسيبت.
بقيت عمليات السرقة التي جرتْ في مواقع أمريكية بعيدة في المنطقة، أو أثناء النقل إليها دون حل. وشكّلت دليلاً جديداً على وجود مشكلة ملحة ساعدت قوات الأعداء من تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وطالبان في أفغانستان على تسليح أنفسهم وحتى على قتل الأمريكيين وشركائهم الأجانب على حساب دافع الضرائب الأمريكي.

تُلْقي عمليات السرقة الضوء على حروب الظل الأمريكية في المنطقة، حيث قُتل مقاول أمريكي وجُرح ستة أمريكيين آخرون الأسبوع الماضي في هجوم نفذته طائرة مسيّرة انتحارية على قاعدة أمريكية في شمال شرق سوريا. كانت الغارة الجوية التي تمت بطائرة كاميكازي على القاعدة واحدة من ثمانين هجوماً تقريباً استهدفوا القواعد الأمريكية في العراق وسوريا منذ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢١ ما دفع الولايات المتحدة إلى اتهام ولوم مجموعات تابعة لإيران وأمر الرئيس بايدن بشن غارات جوية انتقامية رداً على الهجوم الأخير ”كي نحمي جنودنا وندافع عن أمانهم“.
إن عمليات السرقة والخسائر التي كشفها موقع إنترسيبت هي فقط أحدث مشاكل المساءلة التي يواجهها الجيش الأمريكي في العراق وسوريا. واكتشف تدقيق أجراه المفتش العام لوزارة الدفاع في ٢٠٢٠ أن قوة المهام المشتركة – عملية العزم الصلب- الوحدة الرئيسة التي تعمل مع حلفاء أمريكا السوريين لم تقدم حساباً دقيقاً حول اختفاء ما تبلغ قيمته ٧١٥،٨ مليون دولار من عتاد اشتُري لوكلاء وحلفاء محليين. إن فقدان الأسلحة والذخائر مسألة حساسة في غاية الأهمية، وحاول الجيش جاهداً منع ذلك. وحين سحبت الولايات المتحدة قواتها من موقع قرب كوباني في سوريا في ٢٠١٩ نفذت غارات جوية لتدمير الذخائر التي خلفتها وراءها. ودمر الجيش أيضاً عتاداً وذخيرة أثناء انسحابه العشوائي من أفغانستان في ٢٠٢١. ورغم ذلك، اكتشفت منظمات مثل منظمة العفو الدولية وهيئة أبحاث النزاعات المسلحة، على سبيل المثال، أن قسماً كبيراً من ترسانة تنظيم الدولة الإسلامية يتألف من أسلحة وذخيرة صنعتها أو اشترتها الولايات المتحدة استُولي عليها أو سُرقت أو تم الحصول عليها بطريقة أخرى من الجيش العراقي والمقاتلين السوريين.
كشفت ملفات تحقيقات جنائية تم الاطلاع عليها بمقتضى قانون حرية المعلومات عن التوصل إلى أدلة حقيقية حول حدوث أربع عمليات سرقة كبيرة على الأقل وفقدان للعتاد الأمريكي، وبلغت قيمة العتاد المسروق أو المفقود تقريباً مائتي ألف دولار في العراق وسوريا بين ٢٠٢٠ و٢٠٢٢ بما فيه قنابل يدوية ٤٠ ملم شديدة الانفجار سُرقت من القوات الخاصة الأمريكية.
”هذا صادم ومأساوي“، علقتْ ستيفاني سافيل المدير في مشروع تكاليف الحرب التابع لمؤسسة واطسون للشؤون الدولية والمحلية في جامعة براون. ”إن هذه الأسلحة المسروقة ستنتشر وتزيد من حدة العنف السياسي واللامشروع وتجعله أكثر إهلاكاً، كما رأينا الأمر يحدث في حروب وصراعات أخرى“.

إن قوة المهام المشتركة – عملية العزم الصلب – التي تشرف على الحرب الأمريكية في العراق وسوريا لا تعرف حتى حجم المشكلة. لا تمتلك قوة المهام سجلاً حول أية سرقات من القوات الأمريكية، كما قال الناطق باسمها. ”ليس لدينا المعلومات المطلوبة“، قال لموقع إنترسيبت مدير الشؤون العامة النقيب كيفن تي. لفنغستون حين سُئل إن كانت قد سُرقت أية أسلحة وذخائر أو عتاد في السنوات الخمس الماضية.
كان الهدف المعلن لنشر القوات الأمريكية في العراق وسوريا إلى جانب قوات أمن عراقية وقوات كردية ووكلاء سوريين إلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة الإسلامية، لكن القوات الأمريكية تحارب أيضاً وبصورة متزايدة الميليشيات المدعومة من إيران في حرب جانبية غامضة من الناحية القانونية. ويعمل الأمريكيون في قواعد حيث عدم الكشف عن المعلومات هو في بعض الأحيان العرف ولا يتم الوثوق دوماً بالشركاء المحليين مثل قوات سوريا الديمقراطية. وفي ظل محدودية الإشراف الخارجي أو التغطية الصحفية للعمليات العسكرية الأمريكية تقتصر المعلومات حول هذه النزاعات إلى حد كبير على التصريحات المشكوك فيها للقادة العسكريين الأمريكيين، والبيانات الصحفية العسكرية، والتقارير المعتمدة رسمياً. وتلقي سجلات التحقيقات الجنائية التي حصل عليها موقع إنترسيبت بعض الضوء حول كيفية خوض الحروب الأمريكية في العراق وسوريا في الحقيقة.
تذكر هذه الملفات أنه في وقت ما في أواخر ٢٠٢٠ أو بداية ٢٠٢١ سُرقت ”عدة مدفعية ميدان متخصصة وتجهيزات عديدة“، من شاحنة عسكرية وهي تنقلها إلى القاعدة الجوية في أربيل في شمال العراق. وحين وصلت الشاحنة إلى الموقع في كردستان اكتشف الجنود الأمريكيون أنه فُقد عتاد من الشاحنة تقدر قيمته بمبلغ ٨٧،٣٣٥،٣٥ دولار أمريكي. ”لم يتم التوصل إلى أية أدلة“، ولم يتم تحديد أي مشتبه بهم بحسب ملف التحقيق. وفي شباط ٢٠٢١ سرقت ”٤٠٠ طلقة خارقة للدروع و٤٢ قنبلة عيار ٤٢ ملم شديدة الانفجار ومزدوجة الغرض ”قادرة على اختراق ثلاث بوصات من الفولاذ“، بحسب الجيش، من إمدادات ذخائر القوات الخاصة في موقع القرية الخضراء في شمال غرب سوريا. وتوصل تحقيق جنائي إلى أنه تم ”التعامل مع الذخائر بإهمال وثمة غياب للمسؤولية القانونية“، ما سمح ”لأشخاص مجهولين بأن يسرقوا الذخائر“، التي قُدرت قيمتها ب ٣،٦٢٤،٢٤ دولار.

في تموز (يوليو) ٢٠٢١ سُرقت ”خمسة أنظمة أسلحة“ تقدر قيمتها ب ٤٨،١١٥ أثناء نقلها في ”موكب عن طريق البر“ من قاعدة حقل كونيكو للغاز – وهي قاعدة غير بعيدة عن القرية الخضراء – إلى قاعدة في سوريا. سُرقت الأسلحة من حاوية شحن ولم يتم العثور على شهود أو التوصل إلى أية أدلة.
وذكرت الوثائق أن اللصوص اقتحموا في كانون الثاني (يناير) الماضي حاوية شحن في طريقها إلى القاعدة الجوية في أربيل في العراق وسرقوا عتاداً عسكرياً ومقتنيات شخصية تقدر قيمتها بأكثر من خمسة وسبعين ألف دولار. وبعد أربعة أشهر تقريباً سُرقت٢،١٠٠ طلقة خارقة للدروع الجسدية وثلاثة صناديق من ”قطع الغيار“ غير المحددة حُمّلت على حوامة بلاك هوك في قاعدة الأسد الجوية في العراق وكانت منطلقة إلى قاعدة أربيل الجوية، حيث كان من المفترض أن تصل لجنود من وحدة تُدعى قوة مهمة الهجوم. زعمت تلك الوحدة أنها لم تتلق الذخيرة أبداً ما أدى إلى الشروع بتحقيق. بعد شهر تقريباً، زعم أفراد هذه الوحدة أنهم استطاعوا تحديد مكان صندوق يحتوي على ١٦٨٠ طلقة من الذخيرة المفقودة، لكن السجلات لا تذكر بقية الطلقات والقطع.
ويظن المحققون الجنائيون في الجيش أن هناك سبباً مرجحاً في جميع الحالات، باستثناء الحالة الأخيرة، لاتهام المسؤولين بسرقة ممتلكات حكومية أو أسلحة حكومية إذا تمكنوا فقط من العثور على اللصوص.

(دورية أمريكية راجلة في قرية القحطانية في شمال شرق الحسكة)

وكشف تقرير المفتش العام لوزارة الدفاع في ٢٠٢٠ خللاً في الحسابات المتعلقة بعتاد يبلغ ثمنه أكثر من ٧٠٠ مليون دولار اشتُري لوكلاء أمريكا السوريين وتوصل التقرير إلى أن قوات العمليات الخاصة لم ”تحافظ على قوائم شاملة بالعتاد كله الذي اشتُري وتم استلامه“. هناك وحدة عسكرية أخرى، تدعى قيادة الإمداد والتموين الأولى لمسرح العمليات خزنت بشكل يخلو من الدقة أسلحة كالرشاشات وقاذفات القنابل، بحسب التدقيق. وتركت ”آلاف الأسلحة وقطع العتاد الحساسة معرضة للفقدان أو السرقة“. ونظراً لعدم الدقة في حفظ السجلات والإجراءات الأمنية غير الكافية لم تستطع هذه الوحدة حتى ”أن تحدد إن كانت الأشياء قد ضاعت أو سُرقت“.
شكل فقدان الأسلحة والذخائر مشكلة ملحة للبنتاغون. ففي منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين فقدت الولايات المتحدة مئات آلاف البنادق في أفغانستان والعراق بحسب بحث أشرف عليه إيان أوفرتون من منظمة العمل من أجل الصراع المسلح وهي مؤسسة خيرية مقرها لندن. واستولت جماعة طالبان على كميات كبيرة من الأسلحة الأمريكية حتى قبل الهزيمة الأمريكية في أفغانستان. وحين انسحبت القوات الأمريكية في ٢٠٢١ تركت خلفها ما تبلغ قيمته ٧ بليون دولار من العتاد العسكري. كانت النتائج أحياناً كارثية، فمن أفغانستان إلى العراق كانت هذه الكميات من الأسلحة تُستخدم ضد حلفاء الولايات المتحدة ومن المحتمل ضد القوات الأمريكية.
”إن كل قطعة من هذه الأسلحة التي تُقدم لقواتنا الشريكة تخضع للمسؤلية القانونية وتُصوب إلى تنظيم الدولة الإسلامية“، قال ناطق من قوة المهام المشتركة في تغريدة في ٢٠١٧. لكن يبدو أنه ليس لديه أية معلومات حول السرقات، وغير متأكد من أن الأسلحة والذخائر الأمريكية التي سُرقت بين ٢٠٢٠ و٢٠٢٢ لن تُستخدم ضد القوات الأمريكية أو وكلائها.
للجيش الأمريكي تاريخ طويل من التستر على فقدان الأسلحة. فقد توصل تحقيق قامت به وكالة الأسوشيتد برس في ٢٠٢١ إلى أنه ”فُقدت ١٩٠٠ قطعة سلاح أمريكية على الأقل أو سُرقت في ٢٠١٠ وعاود بعضها الظهور في جرائم عنيفة“، وإلى أن ”الجيش الأمريكي تستّر على اختفاء أسلحته النارية أو قلل من حجمه، ومن أهمية فقدان الأسلحة والسرقات وهذا نموذج من السرية والتكتم يعود إلى عقد تقريباً“.
إن افتقار قوة المهام الخاصة المشتركة للسجلات وللشفافية يجعل من المستحيل معرفة كيف فُقدت الأسلحة الأمريكية أو سُرقت في سوريا والعراق، أو إن كانت هذه الأسلحة قد استُخدمت ضد القوات الأمريكية أو حلفائها، لكن سافيل من مشروع تكاليف الحرب تخشى أن يكرر التاريخ نفسه. قالت معلقة على السرقات الموثّقة في سجلات وملفات التحقيقات الجنائية: ”سيُصاب الكثير من الأشخاص أو يُقتلوا جراء ذلك. هذه إحدى العواقب الناجمة عن القيام بعمليات عسكرية أمريكية في كثير من المواقع خارج البلاد“.

*الصورة الأساسية المرافقة للمقال: (جندي أمريكي يحمل قاذفة صاروخ أرض- جو من نوع جافلين أثناء مناورة عسكرية مشتركة في ريف دير الزور في شمال شرق سوريا في السابع من كانون الثاني، ٢٠٢١)

قانون رعاية الأطفال مجهولي النّسب والاستثمار في أزمات السوريين

قانون رعاية الأطفال مجهولي النّسب والاستثمار في أزمات السوريين

منذ ثلاث سنوات، والحديث عن “مجهولي النّسب” في سوريا، يزداد صعوداً لدى “الإعلام الرسمي” في سوريا، ولعلّ آخر ما حُرّر في ذلك كان ضرباً من المبالغة؛ تفوّهت به امرأة من الحاضرين على شاشة التلفزيون السوريّ ضمن برنامج مباشر من “حلب بعد الحرب”. أكدت تلك المرأة، عدّة مرات أثناء حديثها أن “هناك خمسة وعشرين ألف طفلٍ من مجهولي النّسب؛ من أبناء المسلّحين في حلب وحدها، كان قد تركهم المقاتلون الأجانب!” (…) وهنا لم يكن لدى مذيعة البرنامج “أليسار معلّا” أيّة شهية للشكّ في كلام المرأة؛ ولا حتّى السؤال عن مصدر معلومتها، ربما المقصدُ هو التّرويج لظاهرةٍ تريدها حكومة النظام على لسان أحد “المواطنين” مباشرة. 

مؤخراً، صدر يوم 14 كانون الثاني – يناير عام 2023.م، المرسوم التشريعي رقم (2) لعام 2023 المتضمّن “رعاية الأطفال مجهولي النّسب”، حسب ما نشرت وكالة الأنباء السوريّة الرسميّة التابعة للنظام. 

وتثير الشكّ هذه العناية المُفاجئة للأطفال “الأيتام”، في الوقت الذي تعاني آلاف الأُسر السوريّة المُهجّرة على حدود البلاد من كلّ الجهات، ظروفاً معيشيّة سيّئة بمن فيهم الأطفال. 

تُرى كيف وجِدت تلك الأعداد من الأطفال عديمي الأوراق الثبوتيّة، حسب ما يصدرها “الإعلام الرسميّ”؟ هناك اعتقادٌ سائدٌ أنّ السّجلات المدنيّة الورقيّة لمئات السّوريين قد اختفت جراء المعارك في مناطق عديدة من سورية، ورافق ذلك موجات تغيير ديموغرافيّ أعقبت اجتياح الجيش النظاميّ للمناطق ذات الأغلبيّة المعارضة، وبالتالي ضياع ملفات لعائلات بأكملها من السجلات المدنيّة أو اختفاؤها في الوقت الذي لم تستطع أيّة جهة محايدة عن سلطة النظام، أن تبحث وتحقق في الأمر.

ومع الأخذ بعين الاعتبار أسباباً أخرى لظهور “مجهولي النّسب” في المجتمع السوريّ؛ مثل الظروف المعيشيّة التي تدفع بعض الأسر إلى ترك أطفالها قرب دور الأيتام وتخليها عنهم، أو هؤلاء الأطفال الذين فقدوا آباءهم خلال الحرب في سورية ولم يعد لديهم أي معيل. 

إضافة إلى ذلك، ذكر تقرير نشرته جريدة الوطن شبه الرسمية بدمشق في 13مارس -آذار عام 2018.م، أن “عدد مجهولي النسب خلال الأزمة المسجلين بلغ نحو (300) طفل، وأن عدلية دمشق تستقبل حالة كل شهرين، وأن السجل المدنيّ يختار اسمه ووالديه”. وكانت وزارة الداخليّة التابعة لحكومة النظام قد نشرت مؤخراً خبراً مع صورة لطفل قالت إنه “وُجد قرب أحد مداخل الأبنية في منطقة داريا” حسب ما جاء في صفحتها في فيس بوك، ويمكننا أن نستنتج أن المسألة غير قابلة للضبط والملاحقة الجادة من قبل السلطات.

وفي هذه الظروف التي تنمو ضمنها ظاهرة “مجهولي النّسب” في سورية، كيف يمكن ضمان مستقبل هؤلاء الأطفال من عدم تحوّلهم إلى سلعة بيد مؤسسات النظام؟ 

توجهنا بهذا السؤال إلى المحامي السوريّ “عادل الهادي” حيث قال لموقع صالون سوريا: “لا يشكّل المرسوم رقم (2) لعام 2023 أيّة ضمانة من أيّ نوع كان؛ ألاّ يُستخدم الأطفال مجهولي النّسب كمرتزقة بعد تدريبهم عسكريّاً على عقيدة من نوع ما، ولصالح جهة ما، باعتبار المؤسسة التي أشار إليها المرسوم مطلقة الصلاحية بطريقة رعايتها للأطفال، كما أن الفقرة /هـ/ من المادة الخامسة منه تضمنت أن يتم توفير التدريب والتأهيل المهنيّ اللازم للأطفال والمتوافق مع ميوله وإمكاناته. وهي بالتالي لم تستبعد الميول العسكريّة كما أن الإدارة نفسها هي التي تقرر الميول والإمكانات للطفل”.

وبخصوص ما إذا كان لهؤلاء الأطفال فرصة في المستقبل ليكونوا أحرار العقيدة والأفكار، يؤكد “الهادي” الذي يختص بالتحليل القانونيّ: “أن ذلك غير ممكن، لأن هذا المرسوم فرض عليهم في المادة (21) منه أن يكونوا من القومية العربيّة في سوريا، كما فرض عليهم في المادة (22) منه أن يكونوا من الدين الإسلاميّ، حصراً، ولم يحدّد المذهب هل هو سنيّ أم شيعيّ أم علويّ أم غير ذلك، لأن المرسوم لم يشر إلى ذلك”.

ويعتقد “الهادي” أن المرسوم مخالف للدستور وحق المواطنة وهو يشجع على التطرف الدينيّ والعنصريّة ضد الأديان الأخرى، حسب وصفه، ويعلّل ذلك في حديثه لموقع صالون سوريا قائلاً: “لقد حرم هذا المرسوم فئة كبيرة من الشعب السوريّ من حق العناية بأي طفل مجهول النّسب، حيث اشترط في المادة (34) منه أن تكون العائلة التي تطلب إلحاق الطفل مجهول النّسب بها لتقوم على رعايته؛ أن يكون الزوجان متحدين في الدين مع الطفل مجهول النّسب، وبما أن دين الطفل مجهول النّسب هو الإسلام، حكماً، وفق أحكام المادة (22) المذكورة سابقاً، فإنّه لا يستطيع أي زوجين من الدين المسيحي-مثلاً- أن يطلبا رعاية طفل مجهول النّسب ما يعتبر مخالفاً للدستور من جهة حقوق المواطنة وحقوق الإنسان، واعتداء -أصلاً- على حقّ الطفل في اختيار معتقده الدينيّ بعد بلوغه سنّ الرشد”.

واعتبرت منظمات حقوقيّة أن هذا المرسوم جاء على صيغة جمّعت بعض المواد والنصوص القانونيّة في سوريا والتي “تنظّم قضية الأطفال مجهولي النّسب” من أبرز هذه القوانين: المرسوم رقم (107) لعام 1970 الخاص بـ”اللقطاء” و المرسوم رقم (26) لعام 2007 “قانون الأحوال المدنية”، الذي نظم في بعض مواده الإجراءات المتعلقة بالعثور على اللقيط وتسجيله (المادة 29). 

كما اقتبس مرسوم “مجهولي النسب” لعام 2023 من مراسيم سابقة منها تعديلات قانون الأحوال المدنية بخصوص “اللقيط”، والصادرة بالمرسوم رقم (69) لعام 2012، والذي أجاز منح “اللقيط” الذي تجاوز الثامنة عشر من عمره “كُنية” أو “نسب” الأسرة الحاضنة. وأخيراً، التزم المرسوم الجديد بما نصّ عليه المرسوم (70) لعام 2012، “الخاص بإجراء تعديلات على قانون الأحوال المدنية”، والذي نص على وجوب استبدال كلمة “لقيط” لتصبح “مجهول النّسب”.

ويرى مراقبون أن هذا المرسوم لا يحمل أي جديد باستثناء مستقبله كفرصة لتجنيد المزيد من الموارد البشريّة لخدمة جيش النظام، إضافة إلى تكريس مساعيه لتعويم حضوره دوليّاً عن طريق تلميع صورته في قضايا إنسانية أُدين بها دولياً مثل حقوق الإنسان. 

والمراقب لحال رعاية الأطفال سيكتشف من بعض الفيديوهات عن الاجتماعات الصباحيّة في المدارس الابتدائية، كيف أن الهيئات التربويّة في سوريا، تعمل دون كلل أو ملل على تشويه مخيّلات الأطفال، وتحويل مسارها إلى ما يريده المُستقبل العسكريّ للمجتمع “البعثيّ”. 

في الأحياء الفقيرة -وما أكثرها في دمشق- تدفع مجموعة من الأطفال؛ وقتاً وجهداً، حتى يلوّنوا صورة كبيرة لبشار الأسد؛ في بيوتهم التي لا ترى الكهرباء إلا بضع دقائق في اليوم، يحاولون التفنّنّ بأصابعهم الصغيرة المُرتجفة من رطوبة الأحياء العشوائيّة، وتفهم المدرسة (يمكن قراءتها شعبة أمن الأطفال) أن ذلك هو عملٌ كبيرٌ وأهمّ من فهم حصص الرّياضيات والكيمياء والفيزياء وعلم الأحياء واللّغات الأجنبيّة! أجل؛ هذا بالضبط ما تقوم به أغلب المدارس التي تستعد صباحاً لترديد الشّعارات البعثيّة مع الإدراك المدروس لضمان السّيطرة الذهنية على الأطفال القطعان الذين قد لا يختلفون كثيراً عن إخوتهم من “مجهولي النّسب”!

حيلٌ ومحاولاتٌ لمقاومة الفقر والجوع

حيلٌ ومحاولاتٌ لمقاومة الفقر والجوع

بحسب بعض التقديرات الحالية تحتاج العائلة السورية، المكونة من خمسة أفراد، إلى نحو مليوني ليرة شهرياً لتتمكن من تأمين حاجاتها المعيشية الأساسية، فيما لا يزال متوسط دخل الموظف الحكومي 150 ألف ليرة، ومتوسط دخل موظف القطاع الخاص بين 250 و400 ألف ليرة، وهو ما أدى لانعدام القدرة الشرائية، في ظل ازدياد معدلات التضخم التي تفاقمت خلال العام الماضي، الذي كان أقسى الأعوام على السوريين منذ اندلاع الحرب، إذ بات نحو 90% منهم يعيشون تحت خط الفقر، وقد احتلت سورية المراكز الأخيرة في سلم الرواتب وتصدرت قائمة الدول الأكثر فقراً في العالم. وفي ظل ذلك الواقع والظروف المعيشية القاهرة لجأ الناس لابتكار العديد من الحيل وحلول التأقلم والبدائل المعيشية المرتجلة، في محاولة لمقاومة الفقر والجوع وتوفير بعض متطلبات حياتهم. 

نماذج من التكافل الاجتماعي 

في سبيل دعم ومساندة بعضهم البعض، يقدم الكثير من الناس اليوم نماذج عديدة من التكافل الاجتماعي التي تبرز، على سبيل المثال، في بعض البقاليات ومحلات الخضار والفاكهة، فعند دخولك إلى محل أبو ماهر (51 عاماً) ستجد على يمينك صندوقاً كبيراً مغلقاً، له فتحة عُلوية بقُطر 15 سم، يقوم معظم الزبائن من خلالها بوضع قطعة أو أكثر من الخضار والفاكهة، التي يشترونها، داخل الصندوق الذي يتم توزيع محتوياته على عددٍ من العائلات الفقيرة. وإلى جانب ذلك يوزِّع أبو ماهر بشكلٍ يومي نحو عشرة كيلو من الخضار والفاكهة مجاناً على بعض الفقراء، فيما يبيع بعضها بنصف السعر أو برأس المال.

 وفي حالة مشابهة يحدثنا أبو حسن (59 عاماً) عن بعض حالات التكافل التي يُعاينها بشكل يومي داخل بقاليته: “بعض الزبائن يشترون، إلى جانب حاجياتهم، كميات إضافية من الخضار والفاكهة، ثم يتركونها لكي أقوم بتوزيعها على بعض من يعجزون عن الشراء، فيما يتبرع زبائن آخرون ببعض المال لأوزع بقيمته بعض الحاجات المعيشية الضرورية. وفي الليل أضع على الرصيف بقايا الخضار الصالحة للأكل داخل بضعة كراتين حيث يَمُر بعض الفقراء ليأخذوا منها ما يريدون”. ويضيف: “كل حين يأتيني أحد فاعلي الخير بعددٍ من ربطات الخبز ليتم  توزيعها على المحتاجين، كما يتبرع بعض الناس، رغم فقرهم،  ببعض المواد الغذائية والمؤن التي يأتون بها من بيوتهم لكي يقدموا من خلالها العون لبعض العائلات الفقيرة التي أرى العشرات منها كل يوم”. 

وفي محل بيع الحقائب والإكسسوارات التي تعمل به، تقوم ريم (39 عاماً) بمبادرة إنسانية، تحدثنا عنها: “كثير من الأصدقاء والأقارب والمعارف يأتون إلي ببعض الثياب والأحذية، التي يمكنهم الاستغناء عنها، أو التي يجمعونها بدورهم من أماكن مختلفة، حيث أقوم بفرزها وترتيبها داخل المحل قبل توزيعها على بعض المتسولين والمحتاجين الذين يأتون إلى المحل كل حين ليأخذوا ما يحتاجون منها، كما أقوم بتوزيع جزء منها عن طريق بعض الأشخاص الموثوقين الذين يقدمون الدعم لبعض العائلات”.

ولا تكتفي ياسمين بتلك المبادرة بل تقوم، أسوة بغيرها من أصحاب الأيادي البيضاء، بتأمين الدعم المالي لبعض العائلات، حيث تقول: “بشكلٍ شهري يرسل لي أحد الأصدقاء المغتربين 800 ألف ليرة فأدفعها إيجاراً لثلاثة منازل تقطنها عائلات نازحة ومعدمة، فيما يتكفل صديقٌ آخر بإرسال 700 ألف ليرة أُغَطي بها بعض نفقات المعيشة لعائلتين ليس لديهما أي معيل”.

التعاون بين الجيران 

بات كثيرٌ من الجيران اليوم يساندون بعضهم ويتعاونون على تحمل أعباء المعيشة القاسية، فيتقاسمون ويتبادلون بعض الأطعمة والمواد الغذائية والمؤن والحاجات الضرورية فيما بينهم. وتحدثنا أم عدنان (44عاماً/ زوجة وأم لثلاثة أبناء) عن التجربة التي تعيشها مع جارتيها: “أصبحنا أشبه بعائلةٍ واحدة، نجتمع على تحضير معظم الطبخات المُكلفة والتي تحتاج لمواد كثيرة، فنتقاسم تكاليفها نحن الثلاثة (كلٌّ حسب إمكانياتها وحسب المواد المتوفرة لديها) ونقوم بطهوها في بيت إحدانا، ثم نوزعها فيما بيننا، وبذلك نوفِّر مصاريف كبيرة ونتمكن من تحضير بعض الأطعمة التي غادرت مطابخ معظم الناس. كما نقوم أيضاً، بشكل أسبوعي، بإعداد طبقٍ من الحلويات المنزلية البسيطة، حيث نتقاسم مقاديره ونشترك معاً في تحضيره”. وتضيف: “في كثيرٍ من الأحيان نلجأ نحن الثلاث وجارات أُخريات لمقايضة بعض المواد الغذائية والحاجات المعيشية فيما بيننا، كأن نقايض كمية من الأرز بكمية من السكر، أو بعض المنظفات بكيس معكرونة، أو مرطبان مكدوس بعبوة زيت زيتون.. الخ”.   

وعندما أرسل إليها أحد أقربائها الذي ذبح خروفاً احتفالاً بقدوم مولوده-  كمية من اللحم رفضت أم عدنان تناوله مع عائلتها بمفردهم، بل قامت بمشاركته مع جاراتيها وعائلتيهما، بعد أن قمن بطهوه مع بعض الخضار والأرز، حيث كانت العائلات الثلاث لم تتذوق طعم لحم الخروف منذ عدة أشهر. 

وفي ظل ظروف البرد القارس وصعوبة توفير المازوت أو الحطب، قامت عائلة  أبو مصطفى (49عاماً/ يعمل في مهنة العتالة والأعمال الحرة) بالتعاون مع عائلتين من الجيران بإيجاد حلٍ تشاركي للحصول على بعض الدفء. يحدثنا أبو مصطفى عنه :” نعيش نحن وجيراننا وجميعنا نازحون- في شققٍ غير مكسية (على العظم). في الطابق الذي نسكنه يوجد شقة فارغة سمح لنا صاحبها باستخدامها، فقمنا بإغلاق جميع النوافذ والأبواب والثقوب في صالون الشقة، بعد تنظيفه من مخلفات البناء، ووضعنا فيه مدفأة حطبٍ كبيرة نستخدمها جميعنا، ونتناوب فيما بيننا على تأمين الحطب أو أية مواد يمكن إشعالها. نوقد المدفأة بضع ساعاتٍ في النهار ونجلس خلال فترة المساء والليل بالقرب منها، نحضِّر الشاي على نارها ونتسامر ونتبادل أطراف الحديث حتى يأتي موعد النوم فيعود كلٌّ منا إلى شقته”. 

 وإلى جانب ذلك قام أبو مصطفى بالاشتراك مع بعض سكان البناية بشراء مولدة كهرباء صغيرة مستعملة، تقاسموا جميعهم ثمنها، حيث يستخدمونها، بالتناوب فيما بينهم، في تشغيل مضخات المياه وفي شحن هواتفهم وبطاريات الإنارة البديلة. 

البحث عن الاكتفاء الذاتي

ليس غريباً أن نجد بعض سكان الأرياف يلجؤون، في محاولةٍ لتحقيق بعض الاكتفاء الذاتي، إلى تربية الدواجن وزراعة بعض الخضروات، لكن الغريب أن نجد بعض سكان المدن يقومون بذلك الأمر، كحال عامل التمديدات الصحية خلدون (45 عاماً/ زوج وأب لأربعة أبناء) الذي يُطلعنا على تجربته: “في السابق كانت شرفة منزلي، رغم صغر مساحتها، تزدان بالكثير من أصص الورود والأزهار ونباتات الزينة، ونتيجة تردي الواقع المعيشي وانعدام قدرتي الشرائية لجأت لزراعة بعض أنواع الخضار الضرورية (بندورة، خيار،بطاطا، كوسا، وغيرها) في أحواض النباتات   -التي تم اقتلاعها بعد دعم التربة ببعض الأسمدة العضوية والمعادن، كما قمت بزراعة البصل والبقدونس والنعناع والجرجير في بعض الأصص والطناجر القديمة وصناديق الفلين التي قمت بتثبيتها على درابزين الشرفة وعلى جدرانها بشكل عمودي، وهكذا تمكنت من استثمار المكان بشكل جيد وحققت إنتاجاً لابأس به”. 

وفي مكان آخر قام الموظف أبو يوسف (52 عاماً/ زوج وأب لستة أبناء) بابتكار مشروعٍ مثيرٍ للإهتمام على سطح منزله، يحدثنا عنه: ” قمت بنقل عشرات أكياس التراب، من إحدى المساحات الترابية القريبة إلى سطح المنزل، وأفرغتها داخل الأحواض، التي صنعتها من قطع الطوب ومن التنكات والصناديق وبعض الأواني القديمة، وقد زرعت تلك الأحواض بأنواع مختلفة من الخضار والحشائش. ورغم الجهد والتعب الذي عانيته خلال تلك العملية إلا أن النتيجة كانت مُرضية بشكل كبير”.

وفي مساحة صغيرة، ملاصقة للأحواض المتوزعة على سطح المنزل، بَنى أبو يوسف قناً صغيراً للدجاج، وضع حوله سياجاً، يربي بداخله نحو عشر دجاجات تؤمن له البيض بشكل يومي، يُطعمها بقايا الأطعمة والخضار والخبز اليابس.  

اللجوء إلى المقايضة  

في ساعات الصباح تَمرُ أم حسام (46 عاماً) القادمة من الغوطة، على عددٍ من البقاليات لتوزع ما تحمله من منتجاتها الزراعية (السبانخ والبصل الأخضر والبقدونس وغيرها) التي تزرعها في أرضٍ صغيرةٍ ملاصقة لبيتها، حيث تقوم بمقايضة تلك المنتجات ببعض السلع  المعيشية الضرورية التي تحتاجها عائلتها (سكر، أرز، شاي، زيت، سمنة.. الخ) فيما تقوم أختها التي ترافقها بمقايضة بعض منتجات الألبان والأجبان (التي تصنعها في بيتها) والبيض البلدي الذي تنتجه دجاجاتها. وبعد الانتهاء من عمليتي التوزيع والمقايضة، تجلس الأختان على أحد الأرصفة وتفترشان ما تبقى من منتجاتهما لتقوما ببيعها للعابرين. وعلى الرغم من  الانتشار الكبير لبسطات الفلاحين في الشوراع لجأ الكثير منهم في الآونة الأخيرة (نتيجة تراجع كميات البيع وصعوبة البقاء في الشوراع لساعات طويلة) لطريقة المقايضة، التي فرضتها صعوبات الواقع المعيشي،  فيما بات كثيرٌ من  الفقراء يتعاملون مع بعض البقاليات والبسطات عبر توفير أنواعٍ مختلفة من المنتجات المصنعة منزلياً (المخللات، الزيتون، المربيات، المكدوس ودبس الفليلفة وغيرها) بغرض عرضها للبيع أو مقايضتها ببعض السلع والخضار والفاكهة.

بعض المظاهر الغريبة في الشوارع 

في الآونة الأخيرة وفي ظل ارتفاع أجور المواصلات بات بعض الناس يذهبون إلى أعمالهم وزياراتهم سيراً على الأقدام، فيما نجد من يشتركون في ركوب سيارة الأجرة لكي يتقاسموا تعرفتها فيما بينهم، على الرغم من هدر وقتهم في انتظار تجَمُّع عدد الركاب المطلوب. وفي ظل أزمة المحروقات واضطرار معظم سائقي التكاسي إلى شراء البنزين من السوق السوداء (سعر الليتر بين 15 و20 ألف ليرة) تحول بعضهم للعمل في خدمة “تاكسي سرفيس” حيث يقفون في مواقف الباصات والساحات، بدلاً من التجول في الشوارع، ليجمعوا عدداً من الركاب، وهو ما أثَّر بشكل كبير على حجم عملهم. ونتيجةً للأزمة ذاتها وفي ظاهرةٍ غريبة لجأ بعض أصحاب السيارات الخاصة (الذين تدهورت أوضاعهم المعيشية) لتحويلها إلى سيارات أجرة، فأصبحوا ينافسون التكاسي والسرافيس ويقفون في مواقفهم لينقلوا بعض الركاب، وأحيانا يستوقفونهم  في الطريق ليعرضوا عليهم خدمات النقل. ولا يقتصر الأمر على أصحاب السيارات الخاصة فبعض أصحاب الدراجات النارية حَوَّلوا دراجاتهم إلى وسائط للنقل، إذ يقومون بنقل بعض الباحثين عن وسيلة مواصلات في الساحات والشوارع.

رغم الأزمات المتعاقبة خلال سنوات الحرب وما بعدها، ورغم مرارة عيشهم المليء بشتى أشكال القهر والعذاب، يُثبت السوريون يوماً بعد يوم أنهم  قادرون على فتح آفاقٍ جديدة للحياة، التي تضيق في وجههم، وأنهم يمتلكون مهاراتٍ خارقة واستثنائية في التعامل مع الأزمات، وفي تجميل بشاعة واقعهم المؤلم.   

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “إرادة المقاومة اليومية في سوريا لدى المواطنين العاديين

عندما يصبح الاستحمام قضية رأي عام

عندما يصبح الاستحمام قضية رأي عام

أخيراً، تمكنت مها من الاستحمام! وذلك بعد مرور ثلاثة أسابيع كاملة على موعد آخر استحمام لها! لا بسبب البرد ولا بسبب المرض ولا بسبب التكاسل، السبب الوحيد هو واقع الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء وشبكة الصرف صحي. تضافرت الموانع كلها لتسبب لمها حرجاً كبيراً بسبب حالتها غير الإنسانية والمفتقدة لأدنى شروط النظافة الشخصية والعامة. حرج جعلها ترتدي قبعة ليلاً نهاراً وحتى أثناء نومها لتهرب من شعورها الغامر بالقرف من نفسها التي كرهتها كرهاً مقززاً وكبيراً تسبب بوهن نفسي أصابها، وهن بات يحتاج علاجاً سريعاً وضرورياً عبر حل إسعافي وحيد، وهو تأمين دعوة للاستحمام في أي مكان يتوافر فيه ماء وكهرباء وصرف صحي مستقر في توصيلاته يسير عميقاً  في مساره الطبيعي تحت الأرض وبعيداً عن التلامس المباشر مع البشر، تحقق هذا الحل ولكن في بيت صديقتها.

تسكن مها في حي دمشقي قريب جداً من باب توما، قلب المدينة العابق بالتاريخ والآثار والسيّاح وبروائح الياسمين والمطاعم الشرقية العريقة والأنيقة. لكن كل شيء تغيّر، كأنما المدينة تحولت إلى منبع للتعب والقهر، وكأنما الأشياء وقد ضاقت باتت خانقة إلى درجة يتمنى المرء الفرار منها، والفرار هنا محدد الوجهة والمهمة، مجرد مكان صالح للاستحمام فيه. وهذه الصلاحية مبنية على تعزيل شبكة الصرف الصحي كي يتوقف طوفانها ضمن البيوت، وعلى ماء يتزامن توفره مع التيار الكهربائي لضخه إلى الخزانات المتصلة بأجهزة تسخين المياه أو يرتبط بتوفر عبوات كبيرة من الغاز تترافق  بوجود موقد غاز أرضي كبير لتسخين قدور الماء عليه.

هل تكفي قصة مها ليتحول فعل الاستحمام كحق من حقوق البشر إلى قضية رأي عام؟ منطقياً نعم! ولكن الاكتفاء هنا فعل منغلق على ذاته، فعل ميت قبل أن يولد، لأن وهن نفسية البشر يكمن في منعهم من نيل وممارسة أحد حقوقهم أو حرمانهم منها. والمنع هنا محصلة لحرمان متكرر ومعلن ومستمر ومبرر بألف سبب لأن آلية الحلول مجهضة باستحكام واستخفاف بالغ.

وتكمن قمة الخذلان في أن الحرمان من الاستحمام هو فعل لا يستدعي أي حل، فليستحموا أو فليغرقوا في روائح أجسادهم التي يعيفونها هم أنفسهم، أصلاً الغرق فعل لا يتجزأ ومن يغرق في العتمة سيغرق حكماً في مشكلة فقدان المياه، ومن تغمر شوارعه وبيته عوادم الصرف الصحي سيغرق في الخراء وفي عقر داره، وفي المكان الأكثر نظافة كما يتصور الجميع وكما هو بديهية، الحمام! 

يتناوب عامر ونجود على النوم، أمامهما مهام كبيرة ومتعبة، لم يعد الليل موعداً للنوم، للراحة أو للحب أو حتى للأحلام، تحول ليل تلك المدينة التي تزورها الكهرباء ليلاً فقط إلى نهار قاهر ومرهق، نهار تتخلله كوابيس توقظ من يفكر بالنوم لساعة واحدة وتجعله يقرّع نفسه ويهاجمها لأنها فقدت القدرة على التحكم بالبقاء على قيد الصحو من أجل الفوز والتنعم بالتيار الكهربائي. البقاء على قيد الصحو يبدأ في الواحدة ليلاً، ينبغي أولاً تشغيل مقبس سخان الحمام ووصله بمأخذ التيار الكهربائي، وبعده  مباشرة يتم تشغيل موتور رفع الماء إلى الخزان، ومن ثم تشغيل الغسالة لتأمين غسيل ملابس الأبناء، وإذا ما استمر الحضور البهي للتيار الكهربائي، ستوقظ نجود في تمام الثالثة فجراً ابنتها الكبرى لتستحم، ستخرج وجبة الغسيل من الغسالة وترميها بتثاقل ووسن وتعب على الحبال. ستبدأ بتحضير وجبة غداء اليوم على الموقد الكهربائي، في الرابعة صباحاً قد تخلد نجود إلى النوم بعد أن توقظ زوجها لينهي تحضير وجبة الغداء وليساعد ابنه الصغير في الاستحمام. سيتكرر المشهد في الأيام اللاحقة وسيكون الاستحمام في اليوم التالي لنجود وزوجها كل بتوقيت خاص حسب توفر درجة حرارة المياه الصالحة للاستحمام. كل شيء مهدور، الوقت والنوم والصحو والنقود والمياه والسلامة النفسية والهدوء والمودة والزمن والجهد والصحة والجسد ومعنى الوجود وجدوى العيش.

عدا عما يتسبب به تراكم استهلاك الكهرباء في وقت واحد في ارتفاع قيمة فاتورة الكهرباء.

 وتصيب أصوات عديدة الجميع بالغضب والجنون من تشغيل موتورات المياه ودوران الغسالات وأصوات جريان مياه الاستحمام إلى جلبة الشجارات والاتهامات العائلية بالإهمال أو الكسل بسبب سوء استخدام الطاقة أو موتورات رفع المياه. كل هذا الضجيج والتوتر يجعل الجميع يتمنى توقف كل شيء، كل شيء حتى لو كانت الحياة ذاتها.

تمكنت بعض العائلات من تركيب أجهزة لتأمين طاقة بديلة عبر تركيب بطاريات كبيرة وألواح لحفظ الطاقة الشمسية، ورغم ارتفاع كلفتها التي تتجاوز مقدرة الغالبية، لكن الناس كانت أمام خيار ضيق وملزم كي تؤمن الإنارة في حدها الأدنى والضروري وكي تصون الطعام ومحتويات الثلاجات خاصة في ظل ارتفاع غير مسبوق لقيمة المواد الغذائية، ما يجعل من تلف أي مادة غذائية خسارة كبيرة غير قابلة للتعويض وتراكماً للخسارات المتحصلة جراء الغياب الكامل للخدمات الأساسية.

لكن بقي الجميع عاجزاً عن تأمين مصادر وقود أو طاقة لتسخين المياه نظراً إلى أن كمية الكهرباء أو الوقود المطلوبة للتسخين تستنزف كمية كبيرة من الطاقة تعجز ألواح الطاقة الشمسية عن تأمينها بسبب حجم الطاقة اللازمة لعملية التسخين وبالتالي ارتفاع الكلفة إلى أرقام غير قابلة للتسديد ويعجز عنها الغالبية حتى ممن لجأوا إلى تركيب برامج لتأمين طاقة بديلة، ما أعاق بشكل شبه مطلق تأمين مياه للاستحمام عن طريق البطاريات أو ألواح الطاقة الشمسية. 

إذن، نعود دوماً للمربع الأول! تحوّل الاستحمام إلى حلم مستحيل. ولجأ سكان القرى إلى تسخين المياه على الحطب الذي ارتفعت أثمانه وحولت عملية التحطيب الجائر بساتين القرى إلى صحاري شاسعة. أما من تضيق بيوتهم بهم فقد اخترعوا أسلوب الاستحمام بالتقسيط والتقسيط هنا يشمل مراحل العمل والزمن، فقد قسم البعض عملية الاستحمام إلى عملية  تتم على جزأين: الأولى لغسل الرأس بصورة مستقلة حسب ما يمكن توفيره من مياه ساخنة لا تكفي لعملية استحمام كاملة، ليتم في المرحلة الثانية استكمال عملية غسيل الجسد. يتم تسخين الماء بقدور أو بأباريق على الغاز في حالات الضرورة القصوى بسبب شح الغاز وعدم المقدرة على التفريط به، لذلك بات تسخين الماء بواسطة الكهرباء هو الحل شبه الوحيد ولكن وبسبب الغياب الطويل للكهرباء وانقطاعها المتواتر حتى في ساعات وصل  التيار يتم الاستحمام على دفعات!

أن تتحول عملية العجز عن الاستحمام إلى قضية عامة تجمع ما بين السوريين والسوريات على قاعدة الحرمان والقهر، هو عملية توازي تغييب الحقوق. فالحق في الحياة يستلزم الحق في الحفاظ على نظافة وسلامة الجسد، وفعل الاستحمام أحد هذه الحقوق، كما يستلزم تأمين الموارد اللازمة لذلك دون اللجوء إلى ضرورة دفع مبالغ تعجيزية أو هدر للطاقة النفسية والجسدية من أجل تلبية هذا الاحتياج الحيوي والإنساني، نعم لقد تحول فعل الاستحمام، بل والحاجة إليه إلى قضية رأي عام وبجدارة.

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “إرادة المقاومة اليومية في سوريا لدى المواطنين العاديين

دمشق: أزمات متواصلة وحلول غريبة للبقاء على قيد الحياة 

دمشق: أزمات متواصلة وحلول غريبة للبقاء على قيد الحياة 

كهرباء تغيب عن معظم الأحياء لأكثر من عشرين ساعةٍ في اليوم، أزمة محروقات جعلت البرد يُعِّشش في المنازل، أزمة غاز، أزمة ماءٍ وغلاءٍ ومعيشة وغيرها الكثير من الأزمات التي صارت جزءاً أساسياً وطبيعياً من حياة الناس الذين نسوا كيف تُعاش الحياة العادية والطبيعية، وصار قصارى حلمهم أن يستعيدوا بعضاً من أبسط تفاصيلها.  

الشتاء الأقسى على السوريين 

 وصفت الأمم المتحدة فصل الشتاء الحالي في البلاد بأنه “الشتاء الأقسى على السوريين”، إذ تغيب جميع وسائل التدفئة، في ظل أزمتي المحروقات والكهرباء، فيما تنتظر معظم العائلات حصولها على مادة مازوت التدفئة (50 ليتر) التي ينبغي أن توزَّع في فصل الشتاء بسعرٍ مدعومٍ، حيث لم يستلم تلك المخصصات، التي لا تكفي لأكثر من أسبوعين، سوى أعدادٍ قليلة. ونتيجة لذلك لم يبق أمام الناس سوى خيارين: شراء المازوت من السوق السوداء (سعر الليتر12 ألف)، أو شراء الحطب (سعر الطن مليوني ليرة). أما من كان وضعه الاقتصادي معدماً فعليه الاستسلام للعنة البرد أو البحث عن حلولٍ شبه معدمة، قد تحتاج إلى معجزة.  

ويحدثنا أبو أحمد (52 عام/ عامل في ورشات البناء) عن الحل الذي لجأ إليه لجلب بعض الدفء إلى منزله البارد: “استعرت مدفأة حطبٍ من أحد أقربائي، كانت مهملة في المستودع منذ عقود، ولأننا عاجزون عن شراء الحطب رحنا نوقد تلك المدفأة بما تيسر من موادٍ نقوم بجمعها من الشوارع والدكاكين، كالقطع الخشبية، الكراتين وأكياس الإسمنت الفارغة، بعض أوراق الشجر وعيدان الأغصان التي نجلبها من الحدائق، وقشور الفستق واللوز التي تُخلفها بعض المحامص، هذا إلى جانب الكتب المدرسية والجامعية ودفاتر الأطفال القديمة التي يستغني عنها أصحابها”. ويضيف: “نضطر أحياناً لإشعال قصاصات الأقمشة التي يرميها أصحاب المعامل، وأكياس النايلون والعلب البلاستيكية وبعض الأحذية والثياب الرثَّة، رغم أن اشتعال تلك المواد يسبب كثيراً من الأضرار كونها تَبعَثُ دخاناً كثيفاً ورائحة ًبشعة تُشعرنا بالاختناق”.  

أما الطالبتان الجامعيتان رشا وحنان فقد وجدتا حلاً  للتدفئة عبر اللجوء لفحم الأركيلة أو فحم الشواء. وعن ذلك تحدثنا رشا: “نُشعل الفحم في منقل الشواء، على شرفة المنزل، وحين يصبح جمراً نحمل المنقل إلى الداخل لنجلس بقربه وننعم بالقليل من الدفء. لكن ذلك الحل ليس ناجحاً أو مجدياً فهو يتطلب مصاريف كبيرة نتيجة ارتفاع أسعار الفحم الذي نحتاج لكمياتٍ كبيرة منه، ناهيك عن الأضرار الصحية التي  يُسببها احتراقه واستنشاق الكربون المنبعث منه”. 

وتبقى الطالبتان أفضلُ حالاً من الموظف علاء (35عام) الذي يضطر لمغادرة منزله ليلاً هرباً من البرد والعتمة، حيث يتسكع في الشوارع لنحو ثلاثة ساعاتٍ فتمنحه الحركة بعض  الدفء وتُشعره  ببعض التعب الذي يُجبر جسده على الرغبة في النوم مبكراً.   

الاستحمام عملية معقدة 

بات الاستحمام، عند معظم الناس أمراً مؤرِّقاً وصعباً ويحتاج لمعجزة في ظل صعوبة توفير الماء الساخن، فكمية المياه التي يمكن تسخينها، خلال توفر الكهرباء على مدار اليوم وفي معظم الأحياء، بالكاد تكفي لاستحمام شخصٍ واحد، هذا إلى جانب استحالة استخدام السخانات التي تعمل بالمازوت. وفي ظل ذلك الواقع يحاول الناس البحث عن حلولٍ إسعافية من بينها الذهاب إلى حمامات السوق، التي نشطت بشكلٍ كبير، أو العودة إلى الطرق القديمة كالاستعانة بنار الحطب أو ببور الكاز لتسخين الماء، كحال السيدة أم خالد (48 عام / زوجة وأم لخمسة أبناء) التي تتحدث لنا عن تعاملها مع تلك الأزمة: “بعد انعدام توفر الكهرباء واستحالة تأمين الماء الساخن أحضرت ببور الكاز، الذي انعدم استخدامه منذ عقود، من منزل أهلي بعد أن كان موضوعاً في الصالون كتحفةٍ أثرية، ورحت أسخن الماء على ناره في حال توفر مادة الكاز، فيما أسخنه، في حال عدم توفرها، على نار ما توفر من حطبٍ وكراتين أو أية مواد يمكن إشعالها، حيث أُوقدها داخل تنكةٍ على شرفة المنزل وأضع فوقها طنجرة الماء”.   

الشاب مازن (33 عام/ موظف في شركة خاصة) وجد حلاً جيداً لكنه مكلفاً. يحدثنا عنه: “أخبرني صديقي أن النادي الرياضي، الذي يذهب إليه لممارسة تمارين اللياقة البدنية وبناء العضلات، يؤمن ماءً ساخناً لزبائنه على مدار اليوم لكي يستحموا بعد التعرق الناتج عن التدريبات الرياضية. ورغم أنني لست من محبي الرياضة لكنني حذوت حذو صديقي وسجلت في النادي فقط لكي أتمكن من الاستحمام متى أردت”. ويضيف مازن:”رغم أن الاشتراك الشهري في النادي (45 ألف ليرة) يُعتبر مكلفاً إلا أنه يبقى أوفر من دخول حمامات السوق، كما يتيح  إمكانية أن يتناوب شخصان على دخول النادي في أيامٍ مختلفة، وهو ما منح شريكي في السكن فرصة الذهاب عوضاً عني لكي يستحم مرتين في الأسبوع”. 

أما الطالب يوسف (23 عام) فلم يجد سبيلاً للاستحمام سوى أن ينتظر موعد زيارته إلى قريته كل أسبوعٍ أو عشرة أيام، حيث يقول: “خَفضتُ عدد مرات الاستحمام من ثلاث مراتٍ أسبوعياً إلى ثلاث أو أربع مراتٍ شهرياً، في انتظار زيارتي لعائلتي التي يُمكنها تسخين الماء في القرية على نار الحطب، فيما تغسل أمي وأختي ثيابي المتسخة، التي أحملها معي، بشكل يدوي في حال تَعذُّر عمل الغسالة”. 

قهوة من عربة البائع الجوال 

“في الصباح الباكر وقبل ذهابنا إلى الجامعة نمرّ بعربة بائع المشروبات الساخنة، لنشتري قهوتنا الصباحية ونشربها على مصطبةٍ قرب الرصيف في ظروف البرد. لا نملك أي مصدرٍ للنار في بيتنا ما يضطرنا أحياناً إلى الاستعانة بالجيران لتحضير ركوة القهوة أو إبريق الشاي، وكثيراً ما نهرب من بيتنا إلى بيوت بعض الأصدقاء والأقارب لكي نشرب مشروباً ساخناً أو نتناول طعاماً مطبوخاً”. هكذا يلخص الطالب الجامعي عمران (24 عام) معاناتة اليومية التي يعيشها مع صديقه في ظل غياب أزمة الغاز التي حرمت الكثير من الناس من طهو طعامهم أو حتى تحضير مشروبٍ ساخن، حيث باتت العائلات تنتظر نحو 100 يومٍ  لتستلم مخصصاتها من مادة الغاز (أسطوانة سعة 8 كيلو) الموزَّع عبر “البطاقة الذكية”، فيما لا يحصل الكثيرون على أية مخصصات، ما يضطر بعض ميسوري الحال للجوء إلى السوق السوداء حيث تباع الأسطوانة بأكثر من 200 ألف ليرة،  فيما يلجأ البعض لاستخدام ببور الكاز أو الببور الصغير، الأشبه بالفانوس، والذي يعمل بواسطة الكحول الأزرق، لكن ذلك الأمر يُعتبر مكلفاً أيضاً، إذ يصل سعر ليتر المادتين إلى نحو عشرة آلاف ليرة.  

 وفي ظاهرة غريبة على الشوارع، نشطت في الآونة الآخيرة مهنة تعبئة البوتوغازات الصغيرة عبر عرباتٍ جوالة أو بسطات. ويحدثنا الرجل الستيني أبو شادي- الذي يَجرُّ عربة، في شوارع مدينة جرمانا، تَحملُ أسطوانتي غاز وميزان- عن طبيعة مهنته: “في ظل أزمة الغاز الخانقة يلجأ الناس إلينا لتعبئة البوتوغازات الصغيرة المحمولة (التي كانت تستخدم سابقاً للرحلات والسيرانات) حيث نضعها على الميزان خلال تعبئتها من الأسطوانة لنقوم بتسعيرها بحسب الكمية المعبأة، إذ يُباع سعر كيلو الغاز بعشرين ألف ليرة”. ويضيف: “ونتيجة تردي الوضع المعيشي عند بعض الناس لا يسعهم سوى شراء كيلو أو نصف كيلو غرام من الغاز وأحياناً أقل من ذلك، فمثلاً، قد يطلب أحدهم تعبئة كمية غاز بقيمة سبعة آلاف ليرة فقط”.   

طرق جديدة للرفاهية 

على طريق مطار دمشق وفي بقعة ترابية، تجلس أم محمود بصحبة أولادها الثلاثة وجارتيها. يفترشون التراب ويثرثرون وكأنهم بذلك يحاولون محاكاة طقس السيران الذي غاب عن حياة معظم السوريين. لا شيء يُسَلي جلستهم سوى بعض الموالح الرخيصة وإبريق شاي تم تحضيره على نار الأخشاب والكراتين التي جُمعت من أرجاء المكان. هذه الجلسة تُعدُّ رفاهية كبيرة بالنسبة لأم محمود ومن معها، حيث تقول: “هذا المكان هو المتنفس الوحيد بالنسبة إلينا، نهرب إليه من بيوتنا الباردة  لنحظى بدفء أشعة الشمس الذي لم نُحرم منه حتى الآن. لم يعد هناك أية أماكن يمكن زيارتها بما فيها الحدائق والبساتين والمقاهي، فالأمر بات يحتاج إلى أموالٍ طائلة”. ترتشف شايها البارد وتذكر ماضيها: “فيما مضى كنا نخرج بصحبة الأقارب والجيران إلى البساتين لنفرد أمامنا عشرات الأطعمة من المشاوي والكبب،الطبخات المنزلية المتنوعة، والسلطات والعصائر والفاكهة وغير ذلك، في أجواء من الفرح والمحبة، أما اليوم فنحن عاجزون حتى عن شراء الفاكهة أو مستلزمات الأركيلة وعن تحضير أبسط أنواع الحلويات المنزلية”.  

حالة مشابهة يعيشها أبو عمر (58عام) الذي لا يمتلك  سوى رفاهية زيارة الحديقة بعد انتهاء عمله في ورشات البناء، حيث يشتري كأس شاي من عربة بائع المشروبات ويجلس على إحدى المقاعد محدقاً بالمارة وهو يدخن ويرتشف شايه. وعن سبب ممارسته لهذا الطقس شبه اليومي يقول: “بت عاجزاً عن دخول المقهى ولعب طاولة الزهر بصحبة أصدقائي فيما أصبحت لقاءاتنا في البيوت صعبة للغاية إذ نخجل من عجزنا عن توفير الدفء وتقديم واجب الضيافة”. يطلق تنهيدة ثم يضيف: ” كل يوم نصحو على أسعارٍ جديدة، وكل حينٍ يُذكرنا صاحب المنزل بضرورة زيادة الإيجار. صرنا نجبر أطفالنا على الاكتفاء بوجبتي طعامٍ في اليوم، نؤِّخر موعد الغداء حتى المساء لكي نستغني عن وجبة العشاء”. 

وليست الرفاهية داخل المنزل أفضل حالاً من خارجه، إذ بات الجلوس بداخله يشبه “العقوبة” بحسب ياسمين (27 عام/ خريجة كلية الفنون الجميلة) التي تصف واقع حالها: “نحن محرومون من مشاهدة التلفاز، محرومون من الدراسة والمطالعة، نلتحف البطانيات طوال الوقت، وإذا ما فكرت في مشاهدة فيلمٍ ما على شاشة اللابتوب سينفذ شحن بطاريته في منتصف الفيلم أو حتى بدايته، وإذا ما حاولت التواصل مع أصدقائي في الخارج أو تصفح اليويوب ستنقطع خدمة الإنترنت في أي لحظة أو تغيب شبكة الاتصال أو ينفذ شحن بطارية هاتفي المحمول الذي أضطر في كثيرٍ من الأحيان للذهاب إلى بيوت الجيران أو الأصدقاء لأتمكن من شحنه”. 

 وفي ظل هذا الواقع لا تمتلك ياسمين وأخوتها سوى رفاهية لعب ورق الشدة وطاولة الزهر وبعض ألعاب الطفولة، رغم أنها ترى في ذلك الأمر مضيعة للوقت.

ونتيجة غرق معظم البيوت في العتمة الدامسة وصعوبة شحن بطاريات الإنارة البديلة وارتفاع أسعار الشموع، لجأ كثير من الناس، كحال عائلة ياسمين، لاستخدام الفوانيس القديمة (الأنتيكا) التي كانت تعمل بواسطة الكاز، عبر تشغيلها بما توفر من مواد كالكيروسين أو الكحول أو الزيت. 

قبل أيام كنت أسير في الشارع المحاذي لقلعة دمشق والحديقة البيئية، أحرك قدميَّ بتباطؤ وأنا بالكاد أبصر تفاصيل المكان في ظل غياب أي مصدر للضوء. ولأن هاتفي المحمول قد نفذ شحن بطاريته فتعذَّر الاستعانة بضوء مصباحه، استعنت بضوء القداحة لكي أُضيءَ الطريق أمامي وأنا أتساءل: كيف لأقدم عاصمةٍ مأهولةٍ أن تجتاحها كل هذه الوحشة وكل هذا الظلام؟.

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “إرادة المقاومة اليومية في سوريا لدى المواطنين العاديين

زيارة عمودية إلى أرض الشعر والنبوة

زيارة عمودية إلى أرض الشعر والنبوة

يمضي أدونيس وقته في خدمة القصيدة واللوحة (الرقيم) والشذرة والتحليل العميق والفكر النقدي التفكيكي، لا يتوقف عند السطح بل يتغلغل إلى أعمق داعياً إلى نسف البنى الثقافية السائدة من جذورها، وعن بكرة أبيها، بغية الانطلاق من أرضية هذا الهدم الإيجابي الخلاق نحو لحظة بناء حقيقية لمستقبل يمكّن من وضع الأقدام على خشبة مسرح العالم الحديث. ويدرك أدونيس جيداً أن عناصر الرؤيا لا تكتمل إلا عبر تكريس يقارب العبادة للإبداع الشعري والفكري. ومايجعل النص الشعري الأدونيسي المتجاوز للقصيدة في شكلها السائد والموروث عصياً على القولبة والإلغاء والنسيان هو أن لغته مجبولة بالتاريخ ومنبثقة من التراث بأصواته المغايرة والمتغايرة والمبدعة والمُهمَّشة التي لم يُعترف بشرعيتها الفنية، ومَنحَ الشاعرُ أصواتها في ديوانه ذي الشكل الفني الجديد والمختلف، ”الكتاب“ فضاء لحضور جديد وصَهرَها في خصوصية صوته الشعري وتفرده. يمزج نصه في تضاعيفه أصوات القدماء والمعاصرين العابرين لحدود الثقافات والخارجين على تعريفها للوجود مع استكشاف لا يتوقف لطبقات الواقع وإيقاعات اللحظة، ولهذا يأتي شعره كالألماس الذي يتشكل مما يشبه انفجارات بركانية في أعماق الكوكب الأرضي. وعلاوة على أن التاريخ الجمالي للغة الشعرية العربية ينبض في النص الأدونيسي، فإن ما يبقيه حياً وحيوياً هو قدرة الشاعر على أن يظل متحولاً وباحثاً ومتسائلاً ومانحاً على المستوى العميق، فأي كرم أروع من أن تمنح قراءك قصيدة تتحقق فيها شروط الإبداع تنقلهم من سياق يتسم بالتكرار والنمطية والمهادنة ومحاكاة القدماء إلى فضاء جمالي يشير إلى الطريق نحو أفق الأسئلة، وأي  خدمة أنبل من أن تقدم كتاباً فكرياً يغير النظرة إلى التراث ويخلخل تعريفاً متوارثاً للوجود تم الاتكاء عليه طويلاً، فاتحاً باب التساؤل والتجريب تحت شعار ”للحرية، والإبداع، والتغيير“، الذي تبنته ”مواقف“، وهي مجلة أسسها أدونيس في ١٩٦٨، وكانت في قلب الانقلابات الثقافية العمودية البيروتية.

في هذا الإهاب زار أدونيس المملكة العربية السعودية تلبية لدعوة أثارت جدلاً قيلَ إن السياسة حاولت أن تجني ثمارها وتجيّرها لصالحها بعد أن قامت بحراسة المشهد ورعايته دون السماح لأجهزة الرقابة، أو أية جهة بالتدخل لتعكير صفوه، غير أن ما جعل الزيارة تخترق السياسة وفن إخراج المناسبات لخدمة مآربها وتنجح بقوة وتكتسب صفة شعرية وثقافية أصيلة، هو أن أدونيس سافر مراراً من قبل إلى هذه الأرض المحورية عن طريق دواوينه وكتبه الفكرية ومقالاته الصحفية وحواراته المتلفزة والإذاعية الكثيرة، ما ضمن له جمهوراً كبيراً من القراء والمحبين في المملكة الذين رأوا في تجربته الشعرية والفكرية فسحة أملٍ للحداثة والتحرر في سياق تُطْبق فيه الرؤية السلفية الموروثة على خناق الوجود، فضلاً عن أن المؤسسات الثقافية التي دعته أبدت استقلالية جديرة بالاحترام. 

نجحت الزيارة أيضاً لأن المطلعين في المملكة يعرفون أدونيس وقيمته الإبداعية بعد أن سبقته كتبه إليها، وهم أبناء أرض كانت ينبوعاً للشعر العربي الكلاسيكي ومهداً للنبوة، ينبوعاً لا يكف عن الانبجاس والتدفق. ولقد قال أدونيس في المملكة ما يقوله في أي مكان، إلا أن قوله له فيها اكتسب أهمية رمزية كبيرة، فهنا يتقاطع التراث مع الحداثة ويتحول، أو يبقى أسير الرؤية الماضوية ويتجمد، وهنا يتوضح صوت الشاعر سياقياً، ويتجسد حضوره الشعري والفكري المستند إلى مخزون شعري هائل أنجبه حوض هذه الأرض المباركة. وأن تكون أناك الشعرية والفكرية امتداداً تحويلياً، تم عبر الانفتاح على التجارب الكبرى في العالم، لأرقى وأهم الإبداعات الشعرية في هذا المخزون الإبداعي فإن هذا منح الشاعر زخماً هائلاً وقوة حضور تجلّيا في وقوف أدونيس على المنبر في سن الثالثة والتسعين كأنه في أوج شبابه حين كان المحرك الجبار لقطار الحداثة في ”شعر“ و“مواقف“ على السكك الوعرة للثقافة العربية. 

  حاولت مقالات صحفية كثيرة أن تربط الزيارة بالتوجهات السياسية الجديدة في المملكة التي تسعى قيادتها الشابة الحالية إلى تحييد القوى السلفية التي تتحكم بمفاصل الحياة، ولا شك أن انفتاحاً كهذا تُرفع له القبعة، ويشير إلى أن الأجيال الجديدة في هذه البلاد ملت من إكراهات الرقابة وضغوطها على الفكر والحياة الحرة والتي كانت تقليداً تشترك فيه معظم الدول العربية سواء التي رفعت شعارات العلمانية أو التي حرست الفكر المحافظ، كما عبّر عن ذلك الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب حين قال إن الدول العربية سجون متلاصقة.

ويجب ألا تفوتنا الإشارة إلى أن السعودية التي دعت أدونيس ليست المملكة السياسية وحسب بقدر ما هي المملكة الفكرية والشعرية والفنية، فهذه الأرض، والتي هي في الأساس أرض النبوات والشعر والتصوف، أنتجت وما تزال شعراء ومفكرين وفنانين مبدعين ضاقت عليهم نواحي الآفاق المتاحة فقرروا توسيعها، أو أن قوة الثقافة تمكنت من أن توصل رسالتها فكانت ثمراتها الأولى دعوة أدونيس.   

ألقت زيارة أدونيس إلى المملكة العربية السعودية الأضواء على خشبة مسرح احتجبت عقوداً خلف ستار الرقابة والنظرة الدينية التي وقعت في شباك الموروث وبقيت على حالها دون تغيير، وأغلقت الأبواب والنوافذ في وجه أية قراءات جديدة للنص الديني. وانكشفت أثناء هذه الزيارة أرض جديدة مضاءة بقوة رغبة الخروج من عباءة الماضي وضرورتها. 

كانت زيارة أدونيس إلى المملكة العربية السعودية بمثابة زيارة كاشفة ومضيئة، بمعنى أنها أوضحت الانقسام في الخريطة الثقافية، فهناك من هاجمها انطلاقاً من نظرة ضيقة وبلغة اتهامية لا تُحسب داخل حدود الثقافة بالمعنى الفكري والإبداعي الحقيقي، وثمة من نظر إليها كزيارة قابلة للتوظيف السياسي من ناحية أن بعض الصحفيين والمسؤولين الثقافيين في السعودية قاسوا بها مدى التحول في ظل التوجه السياسي لولي العهد محمد بن سلمان، أي أن الزيارة كشفت أن ولي العهد انتصر في حربه على الظلاميين وشرطة الشرف والرقابة الدينية والممارسات الوهابية وجلب ما منعته وحرمته سلطة الثابت إلى القلب الذي يتوضع فيه الحجر الأسود للفكر السلفي. وهناك من اعتبر الزيارة انتصاراً للشعر والفكر ناجماً عن تحول وانفتاح يتدفق نهره في صحراء الجزيرة العربية، ولهذا ينبغي ألا نقلل من حجم ما يجري من تحولات مهمة داخل المملكة العربية السعودية، ويجب أن ننظر إلى الزيارة على أنها لفتة كريمة ومبادرة توضح تقدير السياسي لأهمية الفنون والآداب ولضرورة بناء السياسة على الثقافة، الأساس الذي تفتقر إليه السياسات في معظم الدول العربية.

أدونيس يعي هذه المسألة جيداً، ويعرف أن الصحافة دوماً تتحرك ضمن خطوط مدروسة وتوظف أي شيء، إلا أن الإعلام الاجتماعي غير الخاضع لرقابة الأنظمة بيّن أن محبي أدونيس والأفق الذي تفتحه كتاباته الشعرية والفكرية كثر. وكان الاحتفاء بأدونيس وحضوره وشعره نسائم ثقافية منعشة، ودليلاً على أن المؤسسات العربية يمكن أن تتجدد وتنهض إذا حالفها الحظ بقيادات شابة تمتلك نظرة سياسية أكثر عمقاً مستندة إلى رؤية ثقافية.

لقد هدرت الدول العربية، المنتجة منها للنفط، والأخرى المنتجة لخطابات وشعارات الوحدة والنضال والتحرير، الكثير من مالها على القمع والحروب الأهلية والتدخل الأجنبي وتمويل الجماعات الإرهابية العابرة للحدود، والنخب الفاسدة، وتدمير البلدان لحماية الكراسي وحقن الأنظمة المتداعية، أما السياسات التي بُنيت على الثروة النفطية وحراستها فقد ولّدت تبعية سياسية واقتصادية دارت وما تزال في فلك القوى الكبرى من خلال تصنيع الأخطار والتجييش العسكري والاقتصادي والإيديولوجي على هذه الخطوط،  وربما آن الأوان للخروج من نير هذه السياسات ومن التبعية للغرب لإنقاذ ما تبقى من الثروة وصرفها لبناء دولة مؤسسات حقيقية نستطيع أن ننطلق منها نحو مستقبل إنقاذي عربي، ونأمل أن تكون زيارة أدونيس خطوة على هذا الطريق.