حين تقف عاجزاً عن كتابة الفرح 

  حين تقف عاجزاً عن كتابة الفرح 

منذ نحو سبعة أعوام وأنا أكتب لموقع صالون سوريا، وكانت معظم المواد والتحقيقات التي نشرتها في الموقع وفي مواقع أخرى، طوال أكثر من عشرة أعوام، تدور حول  ظروف الحرب وتبعاتها، الحرب التي فرضها نظام الأسد على الشعب السوري لكي يُجهض ثورته العظيمة التي سيُخلدها التاريخ. كتبتُ عن الشوارع المليئة بمشاهد القهر والألم، والمزدحمة بالمتسولين والمشردين، الذين باتوا جزءاً مألوفاً منها، ونابشي حاويات القمامة التي باتت مصدر رزقهم الوحيد، وباعة الأرصفة الذين يرتجلون من العدم بسطاتٍ تبيع أي شيء يمكن بيعه كي يؤمنوا لقمة عيشهم. كتبتُ عن النازحين والفقراء والمعدمين، وعن المتسربين من التعليم وأطفال الشوارع الذين تربوا وكبروا فيها. كتبتُ عن تدهور الواقع التعليمي والثقافي وعن هجرات الفنانين والمثقفين وأصحاب الشهادات، وعن العقبات والصعوبات التي يواجهها من تبقى منهم في البلاد، كما تحدثت في أكثر من مادةٍ وتحقيقٍ عن أزمات الكهرباء والوقود والمواصلات، وعن تردي الواقع المعيشي والاقتصادي لدى السوريين، الذين أصبح جلهم يعيش تحت خط الفقر، وغير ذلك من الموضوعات التي تناولت معاناة الناس وظروف حياتهم اليومية التي تميتهم كل يومٍ عشرات المرات.   

اليوم، وبعد سقوط نظام الأسد المجرم، الحلم الذي انتظرناه طوال حياتنا، وقفت عاجزاً طيلة الأسابيع الماضية عن الكتابة عن الفرح، رغم أن حدثاً كهذا، لم نكن نتخيله حتى في أحلامنا، يُمكن أن تُفرد لأجله عشرات بل مئات الصفحات، ولكن كيف يمكن للغةٍ من حروفٍ وكلمات أن تُجاري، تعبيرياً أو شعرياً، ما تقوله الشوارع والساحات التي كانت أفراحها أبلغ وأفصح وأشد تعبيراً من أنواع الفنون والأدب والصحافة كلها؟ أفراحٌ شاسعة بحجم وطنٍ يولد من جديد، كان لصوته الاحتفالي قدرة تعبيرية  فاقت جميع محاولاتي التعبيرية التي عجزت عن صياغة مادةٍ ما، أنا الذي اعتادت لغتي لسنواتٍ على صياغة موضوعاتٍ تفوح منها رائحة بلاد مُنهكة، صُنفت كواحدة من أسوأ أماكن العيش في العالم.   

في الساحات كانت وجوه الناس المُشرقة والطافحة بالنبض والفرح  تكتب نيابةً عني، بعد أن زالت من تعابيرها معالم القهر واليأس والوجع. الأطفال المتسولون والمشردون في الشوارع والعاملون في نبش حاويات القمامة، في الصباح الذي تلا سقوط الأسد المجرم، كانوا يفردون صوره الممزقة على الطرقات والأرصفة ويدعون المارة أن يدوسوا عليها وأن يعبروا بسياراتهم من فوقها، وهم يرقصون ويهتفون هتافات الحرية والنصر الذي كان يَشعُّ من وجوههم التي زينوها برسوم علم سوريا الجديد، وجوههم التي لطالما تلونت بالقهر وأوساخ الشوارع والندبات التي حُفرت فيها. لربما كان هذا المشهد من أروع مشاهد انتصار العدالة. 

  بعض النازحين، الذين عاشوا لسنواتٍ في شققٍ غير مكسوة (على العظم) لا تصلح للعيش البشري، تحولت من سكنِ مؤقتٍ إلى شبه دائم، كانوا يحتفلون بكثيرٍ من الفرح والدموع في ذات الساحات والشوارع، التي لطالما جلسوا فيها باحثين عن أي عملٍ يمكن أن يؤمن لقمة عيشهم المريرة. كانوا يقفون فيها، مع أطفالهم، لأول مرة منتصرين على من دمَّر بيوتهم وهجَّرهم من مدنهم وقراهم، التي بات حلمهم بالعودة إليها قابل للتحقيق، وكان أطفالهم، الذين تفيض عيونهم أملاً وتفاؤلاً، يشعرون لأول مرة أن لديهم وطناً حقيقياً وأن بإمكانهم العودة إلى قراهم ومدنهم التي لم يتعرفوا إليها منذ ولادتهم.

في ساحة الحجاز وخلال وجودي في وقفةٍ تضامنية مع المعتقلين المفقودين، كانت قدسية المشهد وعظمته وملحميته تُلهم ذهني بعشرات الأفكار والمواضيع التي يُمكن الكتابة عنها، لكن دموع المرأة التي كانت تقف بجواري، كانت أكثر بلاغة وتعبيراً من أي كلماتٍ يُمكن أن تُكتب، دموعها التي كانت تشبه سوريا المتخبطة بين مشاعر الفرح والأمل والحزن والفقد والحسرة على المعتقلين الذين استشهدوا لكي يرسموا لنا طريق الحرية. 

كانت صور المعتقلين المحمولة في الساحة تحدق بي، وهي تقول الكثير، وكنت أشيح بوجهي عنها، أخجل من عظمتها ومن النظر إليها. كيف يمكنني أن أكتب عنها بضع كلماتٍ مقتضبة، وكل صورة منها تحفل بعشرات القصص والمشاهد والذكريات، ويُمكن أن تُفرد لأجلها عشرات المقالات؟ 

خلال وقوفي في الساحة فكرت للحظة أن أجمع حكايات بعض الناس الذين حضروا إلى الوقفة، حاملين صور أبنائهم وأخوتهم وأقاربهم المفقودين، علهم يحظون بأي خبرٍ عنهم، لكن نظراتهم، الباحثة عن أي أمل، كانت تصفعني وتجعلني مشلول الحركة، غير قادرٍ على القيام بأي فعل، بل كانت تُشعرني بسخافة أن يُكتب عن معاناتهم فيما يقف العالم بأسره عاجزاً عن تقديم أي خبرٍ يُريح قلوبهم المتعبة التي مزقها الفقد. هربت من نظراتهم ورحت استحضر إلى ذهني، مشاهد المعتقلين المحررين من المعتقلات والسجون، والتي أمضيت ساعاتٍ طويلة وأنا أشاهدها خلال الأيام الماضية، بمزيجٍ من الفرح والحزن. شردت معها بعيداً لدقائق، حتى قاطعت شرودي نظرات شابة كنت أعرفها حين كانت طفلةً في إحدى مراكز الايواء قبل نحو ثماني سنوات. من كان يصدق أنها ستقف اليوم في إحدى أهم ساحات دمشق، وهي تودع الخوف والقهر والعجز، وتحمل علم سوريا الجديد، لتقول للعالم إنها انتصرت على من دمَّر بلادها واعتقل عدداً من أقربائها وشردها مع عائلتها لسنوات طويلة؟. 

في السنوات الماضية تحدثت في أكثر من مادة صحفية عن الجيل الجديد، أو ما يُمكن تسميته بجيل الحرب، الذي فقد شعوره بالإنتماء إلى سوريا المُدمرة والممزقة، التي قد لا يعرف منها سوى مدينته أو قريته، هو الذي  تربى على ثقافة الحرب والانقسام السياسي والخوف من الموت، ولم يتبلور لديه أي مفهوم واضح عن الوطن في ظل انحسار دور المرجعيات الوطنية وتمزق معظم الهويات الوطنية الجامعة. ذلك الجيل، الذي كان السفر إلى خارج البلاد، بالنسبة لمعظمه، الحلم الأبرز وطوق النجاة الوحيد، تراه اليوم، بعد سقوط النظام البائد، يتعافى ويُبعث من جديدٍ، ينهض حافلاً بالطاقات والانتماء الوطني، يَنشَط كخلايا النحل، يحضر في الساحات، في الوقفات الاحتجاجية والتضامنية، في حملات تنظيف الشوارع وزراعة الحدائق، وفي مختلف الأنشطة المدنية، ويشارك في التجمعات السياسية والمدنية وفي المبادرات الشبابية، يُعبِّر عن رأيه ، الذي كان مغيباً، وبكثيرٍ من الحماس والمسؤولية يشعر اليوم أنه أمام فرصةٍ ذهبية ليستعيد انتماءه لبلاده وليكون شريكاً فاعلاً ومؤثراً في صناعة تاريخها الجديد والنهوض بها. 

قبل أيام من سقوط نظام الطاغية المجرم، كنت أفكر بالكتابة عن تلوث الهواء في بعض المناطق المحيطة بدمشق، وخاصة مدينة جرمانا، والتي يضطر الكثير من سكانها، في ظل أزمتي الوقود والكهرباء، لإشعال النايلون والبلاستيك والخشب والكراتين في مدافئهم، وكل ما توفر من موادٍ تساعدهم على استحضار بعض الدفء إلى بيوتهم الباردة. ويؤدي احتراق تلك المواد إلى انبعاث دخان كثيفٍ يلوث الهواء ويبعث على الاختناق. لكن هواء المكان تغير فجأة، بعد سقوط النظام البائد، وليس في الأمر حالة شاعرية ورومانسية، فقد لمس معظم الناس هذا التغيير وأصبحوا يتنفسون هواء مريحاً وخفيفاً وغنياً بالأوكسجين، بعد أن زالت رائحة الخوف واليأس والعجز من الشوارع التي أصبحت مُشرقة ورحبة، وتفوح منها رائحة الفرج والأمل. 

آخر المواد التي كتبتها كانت تتحدث عن انعدام مساحات التنفس عند الناس في سوريا، نتيجة ما أفرزته ظروف الحرب التي التهمت الكثير من المساحات الخضراء وحرمت معظم الناس من طقوس النزهة والسيران  وزيارة البحر، في ظل تدهور الواقع الاقتصادي وتفاقم أزمات الوقود والمواصلات، وهو ما جعلهم يلجؤون إلى أي مساحةٍ زراعيةٍ أو حتى ترابية تذكرهم بالطبيعة. اليوم، بعد سقوط نظام الطاغية، يُمكن القول أن كثير من  الناس وجدوا مساحات تنفسهم في الساحات والشوارع التي بات السير فيها، بالنسبة لهم، نوعاً من النزهة والسيران، بل أن عشرات الآلاف باتوا يأتون كل يوم لزيارة دمشق من مختلف المحافظات، وبعضهم كان يتعرف إليها لأول مرة. الشباب الذين كانوا محاصرين في أحيائهم وحاراتهم وبيوتهم لسنوات، كونهم مطلوبين للخدمة العسكرية، تحرروا أخيراً من سجنهم وتعافوا من رُهاب الحواجز، وباتوا يتنقلون بين الأحياء ويجوبون الشوارع والساحات بكامل حريتهم، وتعلو أصواتهم  في المقاهي وهم يخوضون النقاشات السياسة حول مستقبل سوريا، وكأنهم يولدون من جديد. 

لقد كنت واحداً من أولئك الشباب، وبقيت مشلول الحركة لنحو سبعة أعوام، خشية اقتيادي للخدمة العسكرية الاحتياطية، كنت خلالها أتنقل، عند الضرورة، بحذرٍ شديد، سيراً على الأقدام، وأحياناً كنت أستعين بهوية أخي، وها أنا اليوم أمضي كثيراً من الوقت متجولاً في أحياء دمشق، التي كتبت كثيراً عن تعبها ومرضها وعتمتها، أتسكع في شوارعها بخفة ورشاقة من يمتلك جناحين، وأنا أودع الخوف الذي كان يتربص بخطاي كلما رأيت حاجزاً أو دورية عسكرية. أحاول استعادة علاقتي الحميمية الأثيرة مع المدينة، أُمعن النظر في كل تفصيلٍ صغيرٍ في شوارعها وأبنيتها، أُدرِّب عيني، التي اعتادت لسنواتٍ على رصد مشاهد الفقد والألم والقهر، أُدرّبها على إبصار التفاؤل والأمل والفرح الذي بات يرتسم على كل تفاصيل المدينة ويطل من وجوه الناس. لقد كنت أشتكي خلال السنوات الماضية من نقص الأصدقاء الذين غادر معظمهم إلى خارج البلاد، وها أنا اليوم أكتشف أنه مازال هناك الكثير منهم في دمشق، بعد أن خرجوا من حصارهم وعزلتهم ليبصروا النور، أصادفهم في الشوارع والمقاهي والساحات، التي بت أستعيد من خلالها ذكريات أصدقائي المسافرين، الذين عادت ذكرياتهم وضحكاتهم وأحاديثهم وخطاهم لتطل من كل شارعٍ أسير به، بعد أن باتت عودتهم، التي كانت شبه مستحيلة، إلى سوريا أمراً ممكناً.  

فنانون تشكيليون سوريون يتحدثون عن وضع الفن في ضوء التحولات السياسية 

فنانون تشكيليون سوريون يتحدثون عن وضع الفن في ضوء التحولات السياسية 

تُعَدّ سوريا من البلدان الغنية بتنوعها الثقافي والفني، وبعد سقوط نظام الأسد، تبرز الحاجة إلى مناقشة مستقبل الفن التشكيلي في سوريا وتحدياته وآماله في ظل المتغيرات السياسية المرتقبة.

الادعاء بأن نظام الأسد كان راعياً للفن والفنون بمعزل عن الرقابة هو جزء من زيف النظام الذي تمحور حول تقديم نفسه كمجسد للصورة العلمانية والديمقراطية. وفي حين أنه كان يزعم أنه يدعم الفنون، كان الواقع عكس ذلك. فقد خنقت الرقابة الحريات العامة وحرية التعبير، ما أسهم في خلق مناخات خنقت الإبداع وحدت من تطلعات الفنانين. وأحدثت هذه التناقضات بين الادعاءات والواقع الكئيب تأثيراتها السلبية على الحركة الفنية.

سألنا الفنانة رولا بريجاوي عن الرقابة التي فُرضت على الفن التشكيلي خلال فترة حكم النظام السابق، فقالت إنه لم تكن هناك رقابة مباشرة على الأعمال الفنية، ولكن كان هناك منع لوجود موديلات إنسانية عارية. وترى بريجاوي أن أي نظام قادم يمكن أن يفرض رقابة، إلا أنها تعتقد بأن الفن يمكنه تحقيق التواصل مع المحيط الاجتماعي بطرق متعددة وبأدوات متنوعة، ما يجعل الرقابة غير فعالة في النهاية.

قدم النحات سهيل ذبيان رأياً مخالفاً وأكد أن الرقابة كانت قائمة وصارمة، مشيراً إلى أن الفنانين كانوا يواجهون رقابة أمنية مشددة، حيث كانت صالات العرض تحتاج إلى موافقات أمنية قبل إقامة المعارض، بل وقد مُنع عدد من الفنانين من عرض أعمالهم. يبرز هنا الاختلاف في الرأي بين بريجاوي وذبيان، إذ تعبر بريجاوي عن تفاؤل أكبر بشأن قدرة الفن على التكيف، بينما يؤكد ذبيان على الصعوبات الكبيرة التي واجهت الفنانين في ظل النظام القمعي.

يدور نقاش مشروع حول مستقبل الفنون البصرية في سوريا، وخاصة النحت والرسم، حيث يتبنى البعض آراء شرعية تحذر من وجود التماثيل وتصوير المخلوقات الحية. فالرأي الشرعي الذي يعتبر الأصنام محرمة، وجد صداه في تحطيم عدد من تماثيل شخصيات تاريخية في عدة محافظات سورية بعد سقوط نظام الأسد. علاوة على ذلك، يُعد تصوير الإنسان والمخلوقات الحية موضوعًا مثيرًا للجدل يستوجب النظر إليه بعناية في السياق الثقافي والديني.

في هذا الإطار، من المهم فتح الحوار بين الفنون والتفكير الشرعي، ما قد يسهم في إيجاد توافق يسمح بتطور الفنون ضمن المعايير الثقافية والدينية المقبولة. وأوضح الفنان سهيل أن الفن لا يمكن أن يزدهر في بيئة فكرية تضيق عليها الحدود، مع التأكيد على أن الثقافة الفنية تتعرض للتقليص في ظل تلك التيارات. 

علاوة على ذلك، عبر ذبيان بثقة عن رأيه بأن التطرف ليس له مستقبل في سوريا، وهو ما يعكس قناعته بأن المجتمع السوري يتجه نحو تغييرات إيجابية تفتح آفاقاً جديدة للفن والثقافة.

تعتبر رؤية بريجاوي لمستقبل الفن التشكيلي إيجابية، حيث تتطلع إلى أن يلعب الفن دوراً هاماً في بناء ثقافة حيوية ومجتمع إنساني خالٍ من آثار العنف والقمع. بينما أعرب الفنان محمد أبو زينة عن قلقه من أن الظروف الاجتماعية والاقتصادية الحالية قد تجعل الفن التشكيلي يبدو كترف بعيد المنال بالنسبة للعديد من الناس.

لكن سهيل ذبيان يعتقد أن التحولات السياسية المقبلة قد توفر فرصة أكبر لحرية التعبير، ما يعزز من مستقبل الفنون البصرية في سوريا. التاريخ يؤكد أن الفنون تتأثر بالتغيرات السياسية، ووجود مناخ حر للتعبير الفني سيساهم في تطوير التجربة الفنية.

تناول الفنانون الثلاثة تأثير المناخ السياسي على الفن التشكيلي، وأشار محمد أبو زينة إلى أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي السيء، مثل الفقر والافتقار إلى الدعم، قد يحدان بشكل كبير من تطلعات الفنانين وقدرتهم على الإنتاج الفني، فالفنان وفقًا له، يحتاج إلى بيئة مُشجعة وتوافر الموارد لإبداع أعمال جديدة .

وفي هذا السياق، أعربت رولا بريجاوي عن قلقها حيال تأثير التغيرات السياسية على فرص الفنانين في التجريب والإبداع. إذ قد يؤدي عدم الاستقرار السياسي إلى عرقلة حركة الفنون، حيث يواجه الفنانون صعوبة في تنظيم المعارض أو الوصول إلى جمهور أوسع. ورغم الظروف الصعبة، ترى بريجاوي أن هناك دائمًا إمكانية للإبداع ، حيث يمكن أن تجد الفنون طرقًا جديدة للتعبير عن نفسها حتى في الأزمات.

أما سهيل ذبيان، فقد أعرب عن تفاؤله بأن الفترات الانتقالية يمكن أن تساعد في إحياء الفن، مشيرًا إلى أن التاريخ يبرهن على أن الفنون عادة ما تزدهر في أوقات التحولات الكبرى. وأكد أنه مع وجود تغييرات سياسية إيجابية، يمكن للفنانين استغلال الفرص لبناء مشهد فني أكثر حيوية وتنوعًا، ما يُعتبر مؤشرًا على انتعاش الثقافة الفنية في البلاد.

في المجمل، يُظهر الفن التشكيلي في سوريا أنه يظل مرآة للمجتمع، تتأثر بتغيراته السياسية والاجتماعية، بينما تبقى الآمال قائمة في أن تعود هذه الفنون لتغذي المشهد الثقافي وتساهم في التغيير الاجتماعي المنشود.

يبقى مستقبل الفن التشكيلي في سوريا مرتبطًا بشكل وثيق بمسعى المجتمع نحو الحرية والتغيير. فبينما قد تواجه الفنون تحديات كبيرة، فإن لديها القدرة على التأقلم والنمو في ظل أي ظروف، ما يجعلها عنصرًا حيويًا في عملية إعادة بناء الهوية الثقافية للمجتمع السوري. يترقب الفنانون عهداً جديداً من الإبداع والتعبير الفني، ويأملون في أن يصبح الفن رافداً حيوياً لبناء سوريا المستقبل.

سوريا الجديدة وتحدياتها المقبلة كما يراها كتاب وسياسيون وأكاديميون سوريون

سوريا الجديدة وتحدياتها المقبلة كما يراها كتاب وسياسيون وأكاديميون سوريون

بعد انهيار نظام الأسد الاستبدادي، تمر سوريا اليوم في مرحلة دقيقة وحاسمة من تاريخها، جراء الفراغ السياسي والدستوري الذي حصل في البلاد بعد أن فرّ بشار الأسد في الثامن من كانون الأول/ديسمبر الماضي، وظهرت أمام السوريين تحديات كبيرة غير مسبوقة، تتداخل فيها معطيات الداخل والخارج في لوحة شديدة التعقيد، لكن الأمل في بناء مستقبل سوريا جديدة يبقى مستمراً، والطريق إلى هذا المستقبل يحتاج بكل تأكيد إلى حوار سوري سوري حقيقي، يعتمد على الشراكة والعدالة، ويقطع الطريق على التفرد بالقرار أو الهيمنة الخارجية.

لقد شكّل فرار الأسد إلى روسيا برفقة عائلته، نقطة تحوّل مفصلية في تاريخ سوريا الحديث، من المفترض أن تقدم للشعب السوري فرصة للخروج من عقود من الاستبداد والقهر والقمع، ولكنها في الوقت نفسه تفرض تحديات عميقة على كافة الصعد داخلياً وخارجياً، وهو ما دعانا في “صالون سوريا” لسبر آراء عدد من السياسيين السوريين للوقوف على أبرز التحديات المقبلة التي تواجه سوريا على كافة الصعد سواء السياسة أو الأمنية أو الاقتصادية والاجتماعية... بالنظر لما يحدث اليوم في عموم الجغرافية السورية، فكان هذا الاستطلاع الذي يسبق عقد مؤتمر الحوار الوطني الشامل المفتر ض، الذي سيضم مجمل أطياف ومكوّنات الشعب السوري، والذي ستتم الدعوة إليه خلال الفترة القريبة المقبلة…

جورج صبرة: إعادة بناء الدولة ومؤسساتها

بداية حديثنا كانت مع الكاتب والسياسي جورج صبرة (الرئيس السابق للمجلس الوطني السوري، وعضو سابق في الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وقيادي في حزب الشعب الديمقراطي)، الذي قال: حقيقة هي أكثر من تحديات، لأنها قد تلامس أحياناً حافة الخطر. لأنّ المهام المطلوبة على قاعدة التنفيذ كبيرة وعديدة، تلامس إعادة بناء الدولة ومؤسساتها ومعالجة التخريب والعطب على المستوى الاجتماعي الذي سببه نظام التسلط الراحل، فارتكابات النظام الأسدي وجرائمه وأعماله التخريبية طالت كلاً من الدولة والمجتمع، وتمادت عمقاً واتساعاً على امتداد البلاد خلال أكثر من نصف قرن. أول هذه التحديات هي الأمنية وعدم الاستقرار: مخاطر إيران عبر ميليشياتها وعملائها. فانتصار الثورة السورية أكبر هزيمة لمشروعها في المنطقة. ويصعب على نظام الملالي ابتلاعها والانكفاء داخل إيران بانتظار هزيمة أخرى أو الانهيار الداخلي. وكذلك هناك المخاطر المحتملة من أزلام النظام البائد وزبانيته من مرتكبي الجرائم والمهددين بالملاحقة الأمنية. الذين يحملون السلاح ولديهم وفرة من الأموال المسروقة. وقد تتوفر لهم مساعدة خارجية. أضف إلى ذلك الصدامات المحلية مع قوى الأمر الواقع وفيما بينها، وخاصة بعد حل المنظمات المسلحة وجمع السلاح. ناهيك عن أعمال الانتقام المحتملة الفردية والجماعية، إذا تأخرت عملية العدالة الانتقالية، أو لم تحقق المطلوب.

ثانياً، التحديات الممكنة خلال مرحلة تسيير الأعمال، وأجملها بالنقاط التالية:

  – توفير الحاجات الضرورية للحياة اليومية للمواطنين. 

– تأمين عمل المؤسسات الرسمية في الداخل والسفارات في الخارج بما يلبي حاجة السوريين وتوقعاتهم.

– حماية الاقتصاد الوطني من التضخم النقدي المحتمل، وحماية السوق والمواطنين من غلاء الأسعار.

– مخاطر القلق الشعبي وردود الفعل الجماعية المعاكسة والرافضة، التي تسببها التجريبية والقرارات والإجراءات الاستنسابية، التي تتخذ دون دراسة كافية وخارج المألوف في الحياة الشعبية الراسخة.

– عدم توفر الملاءة المالية الكافية لتلبية متطلبات عمل ماكينة الدولة والنفقات الجارية بالوقت المناسب.

يضيف صبرة: هناك تحديات تشكيل مؤسسات الحكم ومنظمات العمل المطلوبة خلال المرحلة الانتقالية، بداية من المؤتمر الوطني العام، الذي يتطلب إعداداً متأنياً وشاملاً. بحيث يوفر الحضور الحقيقي والفاعل لمكوّنات الشعب السوري، مع الحرص على صحة التمثيل والخبرة الكافية وحسن الأداء. ومن ثم تشكيل هيئة حكم انتقالي كسلطة جماعية مؤقتة، تدير المرحلة الانتقالية. تقوم بمهمة التشريع ومراقبة عمل المؤسسات التنفيذية للدولة، وتوفير البيئة الوطنية والمناخات المناسبة لعملية الانتقال السياسي. إضافة إلى تشكيل المجلس العسكري لإعادة بناء الجيش والقوات المسلحة والأجهزة الأمنية، واستيعاب الفصائل والمنشقين من الضباط وصف الضباط والأفراد اختيارياً. بموازاة ذلك جمع السلاح وضمان حصرية حيازته بيد الدولة، وتشكيل مجلس القضاء الأعلى والمحكمة الدستورية العليا، وضمان استقلالهما وحرية عملهما للتدقيق بدستورية القوانين والإجراءات المتخذة من قبل كافة السلطات في المرحلة الانتقالية. ومعالجة الوضع في شمالي شرق البلاد (قسد) مع ذيوله واستطالات مؤثراته إقليمياً ودولياً.

يختم صبرة حديثه معنا حول أبرز التحديات التي يرى أنه لا بدّ من إيلائها أهمية بالغة، ألا وهي عملية العدالة الانتقالية ورد المظالم إلى أهلها ومحاسبة المرتكبين بالشكل والوقت المناسبين، وعبر مؤسسات قانونية متخصصة ونزيهة. كما شدد على ضرورة عدم وقوع السلطات الجديدة في مطب ممارسة سياسة الاستحواذ أو الانفراد أو الاستنسابية باتخاذ القرارات. كي لا يصبح الوضع بتماس مع نظام اللون الواحد، الذي يعرض البلاد والشعب لمحنة جديدة وامتحان جديد. وأخيراً أشار إلى المخاطر الدائمة والمتصاعدة من “إسرائيل”، التي تتصرف في المنطقة دون رقيب أو حسيب.

صلاح بدرالدين: حل القضية الكردية السورية بشكل ديمقراطي سلمي

من جهته، يرى الكاتب والسياسي الكردي السوري صلاح بدرالدين أنّ سوريا تحوّلت منذ أكثر من نصف قرن في ظل نظام البعث إلى سجن كبير، حُرم فيه السوريون من الحرية، والعيش الكريم، وتعرضوا لمختلف أنواع القهر، والقمع، والاعتقال الكيفي، وعندما انتفضوا بشكل سلمي في سياق ثورات الربيع التي اندلعت في معظم بلدان المنطقة ومن خلال التظاهرات الاحتجاجية من أجل الخلاص، ناشدين الحرية والكرامة، قُمعوا بالحديد والنار، والتدمير، والإبادة، حيث استخدم نظام الأسد كل إمكانيات الدولة العسكرية، والأمنية، ومواردها الاقتصادية ضد الشعب السوري، بالإضافة إلى انتهاكه للسيادة باستقدام جيوش الدول الأجنبية، والميليشيات المذهبية لاستكمال حرب الإبادة والتقتيل، والتهجير.

وبعد نحو أربعة عشر عاماً من اندلاع الثورة السورية، وبعد أن واجهت العديد من التراجعات، والانتكاسات – لسنا بصدد مراجعتها الآن – فقد توجت بإقدام فصائل عسكرية ثورية، وفي ظل ظروف محيطة مواتية بتحرير المدن السورية الرئيسية انتهاء بالعاصمة دمشق في الثامن من كانون الأول/ديسمبر ٢٠٢٤، وسقوط نظام الاستبداد بعد أكثر من نصف قرن، وانبثاق سوريا الجديدة.

يتابع بدرالدين قائلاً: معلوم أنّ هناك جملة من التحديات الحقيقية تواجه العهد الجديد، ومن أبرزها: أولاً: بداية لا بدّ من التأكيد أنّ ما بناه نظام الاستبداد طيلة خمسين عاماً من قواعد بنى تحتية، ومؤسسات في المجالات العسكرية، والأمنية، والاجتماعية، والاقتصادية، والحزبية، والإدارية، لا يمكن تغييرها في غضون أسابيع وأعوام ، ومن جانب فصائل محددة، بل يحتاج الأمر إلى المزيد من الوقت، وإلى التعاون بين مختلف القوى والأطراف، والمكوّنات التي شاركت في الثورة والمعارضة، بل يحتاج أيضاً إلى المشاركة الشعبية العامة التي لها مصلحة في إرساء نظام وطني ديمقراطي يرعى مصالح الغالبية الساحقة من الشعب السوري، ويحقق الأمن والاستقرار والسلام المجتمعي.

ثانياً: قد تكون الإدارة الجديدة محقة بشأن ضرورة توفر الانسجام بين الفريق الحاكم لفترة معينة إلى حين استتباب الأمن، وإنجاز بعض الخطوات ذات الطابع العسكري – الأمني، والإداري الخدماتي، ولكن من الأفضل أن لا تطول هذه المدة أكثر من اللازم.

ثالثاً: لا نكتشف جديداً بخصوص التحديات الماِثلة، فقد كان من صلب أهداف الثورة السورية (المغدورة) إسقاط الاستبداد، وهو ما تحقق كخطوة أساسية مفتاحية أولى.

رابعاً: أما التحديات الأخرى التي تتطلب المواجهة مثل تحقيق الحرية، والكرامة وإجراء التغيير الديمقراطي، وتطبيق العدالة، ومحاسبة من تلوثت أياديهم بدماء السوريين، وإعادة البناء، والإعمار، وعودة المهجرين، والنازحين، ووضع حد لسلطات الأمر الواقع المعلنة هنا وهناك، واستلام جميع أنواع الأسلحة خارج نطاق سلطة الدولة، وضم كل المناطق إلى سلطة الدولة السورية الحرة، بالتوازي مع مغادرة كل الجيوش الأجنبية المحتلة، والسيطرة على جميع المطارات، والمعابر الحدودية، وتوفير مقومات التنفيذ مثل إعادة بناء القوى العسكرية، والأمنية بعقيدة جديدة تنسجم مع مرحلة الحرية والسلم، نقول إنّ إنجاز هذه المهام يحتاج إلى مشاركة كل المكوّنات، وجميع التيارات السياسية الوطنية المناضلة من أجل الحرية والتقدم وبناء سوريا الجديدة.

خامساً: بعد عودة السوريين إلى بلادهم من مواقع الهجرة والشتات، من الضرورة بمكان إجراء إحصاء سكاني عام لمعرفة حقيقة العدد الإجمالي للسوريين، ونسب مكوّناتهم القومية، والاجتماعية، والثقافية، وعلى ضوء ذلك يتم الاستجابة للاستحقاقات الدستورية، والقانونية، والإدارية في سوريا الجديدة.

سادساً: حل القضية الكردية السورية بشكل ديمقراطي سلمي من أهم التحديات التي تواجه سوريا الجديدة، مع الأخذ بعين الاعتبار طوي صفحة، بل تجاوز ما حصل بشكل استثنائي منذ أربعة عشر عاماً، من جانب قوى، وأحزاب (كردية!) أيديولوجية، مرتبطة بالخارج، (هناك تجربة مماثلة على الصعيد السوري) أضافت تعقيدات مضاعفة إلى قضايا الكرد السوريين، بل حرفت المسألة عن مسارها الديمقراطي الإنساني الصحيح، فالخارطة السياسية للحالة الكردية السورية الخاصة تؤكد على حقائق جديدة وأهمها عدم مقبولية تحكم الأحزاب، وادعاءاتها الباطلة (بتمثيل شرعي وحيد) للكرد السوريين، وازدياد أعداد الوطنيين المستقلين خارج أطر الأحزاب إلى درجة الغالبية الساحقة، هذه الغالبية تشكّل الآن – الكتلة التاريخية – التي انخرطت بالثورة السورية، وربطت قضاياها بمصير الوطن، بعكس معظم أحزاب طرفي (الاستعصاء) في الساحة الكردية السورية التي حملت ومازالت تحمل الأجندة الخارجية، بل قسم منها يدعو إلى تدخلات خارجية من جانب أطراف لم تكن يوماً صديقة للكرد ولا لعموم السوريين، ومن حق هذه الكتلة التاريخية على الإدارة الجديدة المزيد من الرعاية، وقبولها كطرف كردي سوري وطني محاور، وشريك أساسي في إعادة بناء الوطن، وتحمل المسؤوليات.

وفي ختام حديثه مع “صالون سوريا”، يؤكد بدر الدين أنه على السوريين جميعاً أمام الامتحان، ولا شكّ أنّ اتحادهم كفيل بتحقيق الانتصار النهائي.  

عبدالله تركماني: تكريس القواعد الديمقراطية وبناء المؤسسات الدستورية

أما الباحث الأكاديمي والكاتب في الفكر السياسي الدكتور عبدالله تركماني، فيرى أنه بعد أن سالت دماء سوريات وسوريين من أجل التغيير الوطني الديمقراطي أضحى هذا التغيير على جدول الأعمال السوري بعد سقوط سلطة آل الأسد يوم 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، لذلك من المهم محاولة رؤية أهم التحديات السياسية والاجتماعية في سوريا الجديدة. استناداً إلى القياس على مطالب السوريين في التحوّل المؤسسي القائم على مجموعة قيم: الحرية والكرامة والشفافية والديمقراطية وحقوق الإنسان. 

ولا شكّ أنّ تحديد الأولويات ومراجعة الأهداف المزمع تحقيقها ضرورة ملحة في سوريا الجديدة، ليتم التركيز على متطلبات تكريس القواعد الديمقراطية وبناء المؤسسات الدستورية ومعالجة المشاكل المعيشية وتحديث الهياكل والبنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتحقيق التنمية والارتقاء بمستويات القدرات السورية.

تركماني أردف قائلاً: إنّ سوريا أحوج ما تكون إلى دولة كل مواطنيها بلا استثناء ولا تمييز، يشارك فيها الأفراد والمكوّنات الاجتماعية مشاركة فعلية من خلال المؤسسات. والحل المجدي الوحيد يكمن في قيام الدولة، التي عمادها المواطنة الكاملة القائمة على دستور عادل لا يميّز بين المواطنين على أساس ديني أو مذهبي أو قومي. ومن غير الممكن تصوّر سوريا لكل مواطنيها بمعزل عن عودة الروح إلى المجتمع المدني، وضمان مؤسساته المستقلة عن سلطة الدولة، كي يسترد المجتمع حراكه السياسي والثقافي، بما يخدم إعادة بناء الدولة السورية الحديثة. 

كما أنّ عملية التحوّل الديمقراطي تقتضي إعادة صياغة القيم السائدة، وتغيير أنماط السلوك من خلال مجموعة كبرى متكاملة من التحوّلات. فحين يصبح هذا التمييز منغرساً في وعينا الجمعي، نستطيع ترتيب ولاءاتنا بشكل عقلاني وسليم، حيث تنتصب الدولة الوطنية، باعتبارها دولة حق وقانون، في المقام الأول، وتتصدر غيرها من الإعاقات، وهي كثيرة في سوريا، وفي مقدمتها حصول مصالحة مزدوجة: مصالحة المجتمع مع الدولة السورية الجديدة، على أنها بيت للجميع، ومصالحة الدولة مع المجتمع، باعتباره محور الدولة. ومما يؤسف له أنّ ما جرى من فصل بين الذكور والإناث في باصات النقل الداخلي العامة والخاصة، وكذلك القلق المسيطر على أبناء الطائفة العلوية بعد الحملة الأمنية للسلطات الجديدة في أحيائهم، إضافة إلى القرارات التي صدرت بشأن التعديلات في البرامج الدراسية، مثل: إلغاء وحذف قصائد الغزل، ومدونة حمورابي، والملكة زنوبيا، وإلغاء الموسيقى والأوبرا أثار جدلاً واسعاً وقلقاً شعبياً واعتراضاً في الشارع السوري، ما يشير إلى صعوبة المصالحة المطلوبة بين الدولة والمجتمع.

أخيراً يؤكد الدكتور عبدالله تركماني، على أنّ الحكم الصالح اليوم يتطلب دستوراً جديداً يؤكد قيم الحرية والعدالة، وينجح في إرساء تقاليد التداول على السلطة في ظل انتخابات حرة وشفافة وضمانات لكل مكوّناتالمجتمع مختتماً حديثه بالتساؤل التالي: هل يكون النظام الانتقالي مفتاحاً لتوافق سوري عام على محتوى التغيير المقبل، وفسحة لانتقال سلمي وهادئ نحو نظام جديد في سوريا؟  

محمود الحمزة: الحاجة لهيئة حكم انتقالية تمثل أوسع أطياف المجتمع

بدوره، يبين الأكاديمي والسياسي الدكتور محمود الحمزة، أنّ الشعب السوري استطاع بعد كفاح طويل ومكلف أن يسقط نظام الأسد الاستبدادي الذي ترك وراءه بلداً محطماً ومدمراً في كافة المجالات: الاقتصادية والثقافية والمجتمعية – البنية التحتية- المعيشية – التعليمية- الصحية- المؤسسات. وبالرغم من ذلك علينا اليوم أن ننطلق من كون سوريا بلد الحضارات والثقافات ومهد الديانات، ويجب أن تكون الجمهورية السورية الجديدة نموذجاً عصرياً ديمقراطياً، مع التأكيد على انتمائها التاريخي والحضاري والثقافي للمحيط العربي والإسلامي. وأشار الدكتور الحمزة إلى أنّ ما حدث في سوريا انتصار تاريخي لم يحصل مثله منذ قرون عديدة ويجب على السوريين جميعاً وبلا استثناء الحفاظ عليه وحمايته من قوى الثورة المضادة في الداخل والخارج، على مبدأ “سوريا لكل السوريين”.

يضيف الحمزة: نلاحظ أن قيادة السلطة الجديدة تتمتع بالنظرة البراغماتية وهي تطوّر خطابها ومواقفها العملية تبعاً للظروف، خاصة زعيمها أحمد الشرع الذي يظهر صورة القائد الحقيقي السياسي والوطني والدبلوماسي، وخطابه متوازن ويتمتع بحكمة ورصانة في الطرح. وواجبنا الوقوف إلى جانبه ودعمه والمساعدة في تجنب الأخطاء قدر الإمكان.

أما أهم التحديات التي يجب على القيادة الجديدة حلها سواء بالموقف السياسي أو الإجراءات العملية، وفقاً للحمزة، هي: الإسراع في اتخاذ إعلان دستوري أو اعتماد دستور 1950 مع بعض التعديلات وهذا أمر ملح لإعطاء صفة قانونية وشرعية للسلطة الجديدة ويسرع بالاعتراف بها بشكل رسمي دولياً. إنّ سوريا بحاجة لهيئة حكم انتقالية تمثل أوسع أطياف المجتمع من الكفاءات لكي تشرف على عقد مؤتمر وطني سوري ولاحقا تشرف على تشكيل حكومة انتقالية وإعداد دستور للبلاد وانتخابات برلمانية ورئاسية. ويجب أن تُصدر هيئة الحكم الانتقالية بياناً موجهاً إلى الشعب السوري يوضح التوجهات السياسية للمرحلة الانتقالية.

يؤكد الأكاديمي والسياسي الدكتور محمود الحمزة، أنّ سوريا بأمس الحاجة لمؤتمر وطني سوري جامع يجب أن يتم التحضير له بشكل جيد من قبل لجنة تحضيرية مكوّنة من شخصيات وطنية وكفاءات سورية مستقلة تمثل أوسع شرائح المجتمع السوري. ومن أهم قرارات المؤتمر التأكيد على هدف بناء دولة سورية واحدة وحكومة وطنية واحدة وجيش سوري واحد، والالتزام بوحدة سوريا أرضاً وشعباً وألا يكون هناك خارج سلطة الدولة أي فصائل مسلحة أو سلطات أمر واقع. كذلك يجب أن يحدد المؤتمر ملامح الدولة السورية الجديدة وخاصة في أن تكون دولة مدنية ودولة المواطنة. 

يختتم الحمزة حديثه مع “صالون سوريا” قائلاً: الدستور الجديد من أهم المنجزات التي يجب العمل عليها وذلك يجب أن ينتج عن المؤتمر لجنة من الخبراء المشهود لهم بالكفاءة والاستقلالية لصياغة مسودة دستور عصري يحفظ حقوق الأفراد والجماعات وحقوق المرأة والشباب وحرية الاعتقاد والتعبير عن الرأي. وبعد ذلك يعرض الدستور على الاستفتاء الشعبي بمشاركة مراقبين دوليين. ويجب تحديد المدة اللازمة (على ألا تزيد عن ثلاث سنوات) لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية لكي تنتقل سوريا إلى المرحلة الشرعية الكاملة المنتخبة.

انتهت الحملة الأمنية في مدينة حمص ولم ينته الخوف

انتهت الحملة الأمنية في مدينة حمص ولم ينته الخوف

لا أعرف من روى نكتة أنه لو فُرض علينا حظر تجول لخرجنا نتفرج على حظر التجول! هذا ما حدث في الحي عند بدء الحملة الأمنية على بعض أحياء حمص التي وُصمت بالموالاة للتفتيش عن السلاح وفلول النظام كما قيل، إذ خرج سكان الحي ووقفوا “يتشمسون” أمام أبواب البيوت كي يراقبوا السماء حيث كانت الطائرات المسيرة تصور الحركة في الأحياء، محاولين استطلاع تقدم عمليات التفتيش في الشوارع.

ربما كان هـذا فضولاً أو رهاناً على الآخر الجديد والغريب الملثم بقناع ردع العدوان، من البسطاء الذين استغلهم بشار الأسد والذين تمنوا سراً كل يوم سقوطه. 

أربعة عشر عاماً من القمع والقصف والتعذيب في السجون وشيطنة الآخر وتجريمه بالخيانة والطائفية على يد النظام الذي زج بالشباب السوري في الدفاع عنه في حربه الطويلة ضد الثائرين عليه، بينما كان على مدى خمسين عاما يعمق الطائفية بين مكونات الشعب السوري فلم يتوقف منذ الثمانينات عن ضخ الماء العكر في القنوات ليسمم مكونات المجتمع. وبدل أن يمد جسور المواطنة كان يقطعها بتغذية الانتماءات الطائفية  والعشائرية والعائلية ليحافظ على وجوده أولاً وعلى خزان القوى البشرية لجيشه وعلى دعم فئات لها وزنها خارج البلاد.

إشارة استفهام حول معايير اختلاف التعامل مع السكان  

بدأت الحملة الأمنية دون إنذار مسبق، إذ استيقظنا على صوت رشقات  الرصاص من عدة أنواع من السلاح، للوهلة الأولى كنا بحاجة لوقت لاستيعاب الحدث وما يمكن أن يليه فكل الاحتمالات ممكنة، والخوف حالة غريزية عند الإنسان يثيره المجهول وغير المجرَّب حتى الآن. كان الوقت يمر ببطء في انتظار وصول الشباب للتفتيش حتى سمعنا صوت يحث الجميع على الدخول إلى المنازل، ولعلها نكتة حمصية أن نقول: إن الذين انصاعوا قلائل. 

عرّف شباب الحملة عن أنفسهم بالشرائط الملونة على الكتف وكان بعضهم يضع شرائط حمراء وبعضهم الآخر صفراء وخضراء فهل اختلف السلوك حسب لون الشريطة أم حسب الحي؟

بعضهم دخل المنازل وهو يعتذر قائلاً إنه لا يمتلك وقتاً لخلع الأحذية وعبر عن أسفه للأمهات لأن سجاد المنزل قد يتسخ، وبعضهم الآخر زاد على تهذيبه بعض التلميحات التي تحمل اللوم والتنديد بصمت سكان هذه الأحياء على قصف النظام لهم والمقارنة بين دخولهم إلى بيوتها ودخول شبيحة النظام الساقط إلى بيوتهم في سنوات سابقة وكيف أن الشبيحة لم يتورعوا عن ارتكاب المذابح والمجازر والتقاط الصور مع الضحايا.

بعضهم قام بكسر الآلات الموسيقية والشاشات ربما لأنه يرى الموسيقا حراماً والتلفاز بدعة! وثمة من لم يكتف بالكلام، بل صب جام غضبه المكبوت على بعض الشبان ضارباً ومعنفاً ومهيناً لهم إذ تناقلت الصفحات فيديوهات لإذلال الشباب بعد جمعهم سواء بالضرب أو الطلب منهم القيام بالنباح أو تقليد صوت الحمار. 

وهو ما كان يفعله سجانو النظام  مع السجناء بإجبارهم على النباح أو تقليد أصوات الحيوانات،  فهل فكر هؤلاء الشبان وهم  يقومون بذات الفعل الذي قام به سجانو الأسد في النظام السابق بخطورة فعلهم؟ وهليفكرون بتحويل سوريا إلى سجن كبير؟ 

عدالة أم انتقام؟

كان الخطر يكمن في طبيعة النظرة التي تم إيصالها للآخر فهو حين يجبره على تقليد صوت حيوان عملياً يقول له إنه يراه بهذا المستوى ويحط من  كرامته الإنسانية إلى مستوى أقل في التطور، وهذا يعني أنه لا يريده شريكاً، وعلاقته لن تتعدى هذا المستوى. نتذكر كيف كان ينظر البيض إلى الأفارقة على أنهم بمستوى أقل إذ كان في بداية القرن الماضي يتم عرضهم في أقفاص، وهو ما يشابه ما قامت به السلطة النازية بإذلال الشعوب الأخرى على أساس التمييز العرقي.

يرافق الإذلال حين يكون علنياً ومصوراً إحساس بالخزي والعار وهنا يترك الممارس عليه عرضة لحالات مختلطة تتوقف على كونه فردياً أو جماعياً و تتراوح بين الانتحار والانتقام فإن كانت الجهة التي تمارسه لها شكل سلطة واضح ومحدد يزداد الشعور بعدم القدرة على رد الاعتبار وهو ما يمكن أن نراه في حالة البوعزيزي الذي أشعل الربيع العربي، أما إن كان غير ذلك فقد يؤدي إلى محاولة رد فعل عنفي، إذ يسقط الإنسان المقهور ذات الفعل على غيره في محاولة التعويض النفسي للإحساس بالخزي.

هل من عدالة في شعار من يحرر يقرر؟

سُجلت هذه الانتهاكات كحالات فردية وشعر الناس بالراحة بعد انتهاء الحملة الأمنية لكن ما حدث من حالات فردية زرع الخوف من طبيعة المرحلة القادمة في البلاد خصوصاً بعد الرد على كل انتقاد بشعار من يحرر يقرر وهذا تلميح بالسعي للانفراد بالحكم ورغبة ضمنية بإقصاء الآخر وتغيير جوهر الثورة التي قامت على أساس رفض ديكتاتورية الأسد التي انفردت بالحكم وأقصت سائر فئات الشعب الأخرى، الثورة التي نادت بالحرية هدفاً أول.

 إن هذه الأفعال الانفعالية والشعارات لا تبني سوريا القادمة التي تحتاج  إلى كل الجهود والترفع على الآلام والماضي مع محاسبة المجرمين والقتلة فالعدالة التي تبني سورية ليست الانتقامية والثأرية بل عدالة قانونية تستهدف كل من حمل إثم الدم السوري.

إن اللجوء إلى الفعل الانتقامي دون رقابة أمنية خطير لأنه يهدد الشراكة التي تقوم عليها الدولة والتي قام الأسد ونظامه بتدميرها، ليس فقط كمؤسسات بل أيضاً كقاعدة شعبية، ولنتذكر الآية الكريمة “لا تزر وازرة وزر أخرى” فبعض الشبان الذين تعرضوا للإذلال من أعمار صغيرة ولم يشاركوا بأي فعل عنفي  يستحق الانتقام. 

تم اعتقال كثير من الشبان أثناء ذلك، ثم تم الإفراج عن 360 شاباً منهم فقط بينما ما زال الأهالي ينتظرون أولادهم على أحر من الجمر. 

في هذه الأثناء تتواصل حوادث الاختطاف وتهدد السلم الأهلي في المدينة بينما يعرف الجميع أن التركة التي ورثها الشعب السوري من النظام الساقط ثقيلة كهذه الأيام، والكل يتمنى أن يتجاوز ذلك بأقل الخسائر، فهل ينجح؟ 

افتحوا النوافذ كي يدخل هواء الحرية النقي

افتحوا النوافذ كي يدخل هواء الحرية النقي

يصدمنا الإعلام الاجتماعيّ كل يوم بمقاطع فيديو وأخبار حول امتهان كرامة الإنسان في سورية عن طريق استفزازات لفظية وعنفٍ جسديّ يُمارَس ضد أشخاص تصنّفهم الآلة الإعلامية للمرحلة الانتقالية على أنهم من “فلول النظام“ السابق. ولقد سمعنا عن أشخاص تُقتحم بيوتهم ويُختطفون، ورأينا أشخاصاً يُرْفسون بالأقدام ويُنكّل بهم ويُهانون ويُشْتمون في استعراض مشهدي يهدف إلى الإذلال وإهانة الكرامة. يحاكي هذا الأداء ويستنسخ ممارسات الأجهزة الأمنية السورية القمعية والوحشية التي كرهها وعانى منها معظم السوريين الذين يتوقون إلى رؤية سلوك قانوني يجسّد مفهوم الدولة، ويحقق العدالة ويدين المجرمين في المحاكم، بعيداً عن الممارسات المخالفة للقانون التي تزرع الغضب في النفوس وتحصد الخراب. إن الانتقام، في المراحل الانتقالية، يهدم البلدان، ويعجّل في خرابها، ولهذا حذّر المفكرون والباحثون والفلاسفة والحكماء وعلماء السياسة من خطره.

من معاني الانتقام في اللغة العربية ”مقابلة السيئة بمثلها“. والانتقام ”معاقبة الشخص على ما صنع معاقبةً ناشئةً من القوّة الغضبية، و بدافع نفسي وذاتي“. ونظر حكماء العرب إلى الانتقام على أنه فعلٌ هدّام يمنح لذّة على المدى القصير لكنه يُورث الندم على المدى الطويل. وذُكر في مصادر التراث العربي أن المنصور قال لولده المهدي: إن ”لذّة العفو أطيب من لذة التشفي“. وانتقد ابن القيّم الانتقام قائلاً: ”وفي الصفح والعفو والحلم من الحلاوة والطمأنينة، والسكينة وشرف النفس، وعزها ورفعتها عن تشفّيها بالانتقام ما ليس شيء منه في المقابلة والانتقام“.

يتقاطع رأي المتنورين العرب مع رأي فلاسفة اليونان في أن للانتقام عواقب خطيرة. فقد انتقد أرسطو الانتقام قائلاً إنه ليس من العدل إلحاق الأذى بأي شخص، حتى وإن كان ذلك في إطار الرد، لأن الأذى في حد ذاته ليس عادلاً أبداً.كما أن الانتقام تعبير عن الرذيلة، لا الفضيلة، لأن الرجل الفاضل الحقيقي يتصرّف بهداية من العقل لا العاطفة، ويسعى إلى خير الجميع، وليس نفسه فقط، كما أن مقولة “العين بالعين”، تقوّض السّعْيَ العقلانيّ لتحقيق العدالة. 

يتّفق المفكرون الحديثون مع حكماء العرب، وفلاسفة اليونان، على أن الانتقام سمّ يقتل روح من يسعى إليه، ويلوّث العالم الذي يتم فيه. لكن العدالة، عن طريق الوسائل القانونية، تسمح بإمكانية الشفاء وإعادة البناء، كما تقول الباحثة القانونية الأمريكية، وأستاذة القانون في جامعة هارفارد، مارثا مينّو في كتاب صدر في ١٩٩٨بعنوان “بين الانتقام والتسامح: مواجهة التاريخ بعد الإبادة الجماعية والعنف الجماعي“. إن الانتقام، حين يُمارَس خارج إطار القانون، يؤدي إلى إدامة العنف. وإذا أصبح الانتقام مبدأ موجِّهاً للعدالة، من الممكن أن يقود إلى تأجيج الصراع، وإطلاق دورة لا نهاية لها من العنف والعنف المضاد. 

يولّد غياب حكم القانون، في أعقاب الانقلابات والصراعات وسقوط الأنظمة، فراغاً يتفشّى فيه العنف والانتقام دون رادع. ويقود في غالب الأحيان إلى وضع يسود فيه حكم الغوغاء والمجرمين. بالتالي، إن الاعتراف بحقيقة ما حدث، والمساءلة القانونية، ضرورة لا بدّ منها للتعافي المجتمعي، لكن الرغبة في الانتقام يجب أن تُدار بعناية عن طريقالعملية القانونية، والجهود الرامية إلى بناء مستقبل مشترك تحت مظلة العدالة الانتقالية. قد يقدّم القصاص لذة وإشباعاً عاطفياً، كما تقول مينو، ويمكن أن يعدّه البعض “عادلاً”، إلا أنه ينتهك المبادئ الأخلاقية. وعندما يحدث خارج إطار القانون يكون مدفوعاً بالغضب، أو الإذلال، أو الرغبة في التشفّي، وهي مشاعر لا تؤدي بالضرورة إلى نتائج عادلة. علاوةً على ذلك، إن القوى المنتصرة التي تستلم السلطة، إذا سعت إلى الانتقام بطرق غير قانونية، فإنها تخاطرُ بالتضحية بشرعيتها الأخلاقية، وتآكل الأساس الأخلاقي اللازم لإعادة بناء مجتمع عادل وديمقراطي. ويؤدي هذا إلى إضعاف القدرة على الحكم والحفاظ على النظام. وتشير مينو إلى أن الانتقام قد يوفّر إرضاء عاطفياً فورياً للضحايا، لكنه يهدّد الاستقرار على المدى الطويل لأنه ينكأ الجراح، ويُحْدث صدمة جماعية، ويفاقم المشكلة، ويزيد أيضاً من الانقسامات القائمة، مغذياً الاستياء بين الجماعات المتصارعة. وعندما يتم الانتقام خارج الأطر القانونية، فإنه يقوّض الثقة في القوى المنتصرة.  هذا ما حذّر منه الفيلسوف وعالم السياسة النرويجي جون إلستر حين قال: إن الأخذ بالثأر، خارج إطار القانون، يتمخض عنه في معظم الأحيان وضعٌ تصبح فيه العدالة تعسفية، وذات دوافع سياسية، وتتقوّض عملية الانتقال إلى نظام ديمقراطي، لهذا ينبغي أن يكون حكم القانون مبدأ أساسياً. 

يتقاطع ما قاله الفيلسوف النرويجي مع ما أكّده عالم اللاهوت الكرواتي ميروسلاف فولف، الذي شدّد على أهمية الصفح في مجتمعات تمرّ في مراحل انتقالية بعد الصراعات، أو سقوط الأنظمة. فالصّفح ليس مجرّد عمل أخلاقيّ بل عمل سياسي يمكن أن يمهّد الطريق للسلام. وفي المجتمعات التي تمرُّ في مرحلة ما بعد الصراع، يجب فصل الانتقام عن العدالة، لأن الانتقام يرتبط بالماضي، في حين ترتبط العدالة والمصالحة بالمستقبل وبنائه. علاوة على ذلك، يعوق الانتقام عملية التعافي لهذا يجب على المجتمعات أن تجد سبلاً للصفح والتسامح من أجل إعادة بناء نسيجها الاجتماعي كما شدّد كبير أساقفة جنوب أفريقيا السابق، الحائز على جائزة نوبل للسلام في ١٩٨٠، ديزموند توتو، الذي عيّنه الرئيس الراحل نيلسون مانديلا رئيساً للجنة الحقيقة والمصالحة، التي شُكلت للتحقيق في جرائم ارتكبها جانبا الصراع في جنوب أفريقيا إبان حقبة الفصل العنصري. 

تتقاطع هذه الآراء مع آراء ناشطين سوريين بارزين شاركوا في الثورة السورية في بداياتها المدنية، وتعرّضوا لأحكام سجن ظالمة وغير إنسانية، من أمثال الناشط الحقوقي ومدير شؤون المحتجزين في فريق الطوارئ السوري، عمر الشغري ابن قرية البيضا في بانياس، الذي عبّر في إحدى حلقاته على إنستغرام، عن رؤية عميقة تثير الإعجاب (نظراً لتجربته المأساوية، ونجاته بأعجوبة من الموت في السجن) حين قال: إننا يجب أن ننطلق من أساس قانوني يخدم العدالة مبتعدين عن الغضب والانتقام كي لا نرتكب جرائم قمنا بإدانة نظام الأسد لأنه اقترفها. في السياق نفسه أكّد المحامي السوري، وناشط حقوق الإنسان، ورئيس المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، والمعتقل السابق مازن درويش، في حوار أجْرته معه ”مجلة المجلة“ أن الجرائم التي ارتُكبت في سوريا لم تكن أحادية الجانب، بل تمّت على أكثر من مستوى، وفي أكثر من سياق، ومن قبل أكثر من طرف. تحدّث مازن درويش عن مستويات في الصراع السوري لها أساس طائفي، وأخرى لها أساس عرقي ومناطقي، وعن صراعات بينية حتى بين القوى المنتصرة، ما يقتضي التعامل بنزاهة قانونية مع الجرائم التي ارتُكبت. 

يتطلع السوريون إلى الخروج من نزعة القبائل والطوائف والعشائر الثأرية إلى المساءلة القانونية، تحت مظلة العدالة الانتقالية، التي يطبقها ”شعب“، أو “مجتمع حضاري“ يعيش في دولة قانون ومواطنة هي وحدها الكفيلة ببناء وطن للجميع. إن تحقيق العدالة يتطلب معاقبة مرتكبي الجرائم، والاعتراف الجماعي بالمعاناة، والالتزام بالحقيقة، وخلق مساحات للمصالحة كما يُجمع علماء السياسة. في غياب هذه العناصر، قد يتحوّل الانتقال من الدكتاتورية إلى الديمقراطية إلى انتصار أجوف، من شأنه أن يعمّق الانقسامات، ويطيل من أمد العنف. وكما قال الأب ديزموند توتو في خطبته التي حملت عنوان ”لا مستقبل من دون صفح“: إن الصفح لا يعني التظاهر بأن الأمور مختلفة عما هي عليه في الواقع، إن الصفح مواجهة، وذكر للحقيقة كما هي، وتخلّ عن الانتقام، ونظر في عينيْ الوحش. إنه كمثل فتح نافذة لجعل الهواء النقي يدخل إلى غرفة مغلقة ورطبة ومظلمة، وإزاحة الستائر كي يغمرها الضوء“.

آخر أيام النظام السوري: كيف عمل الصحافيون في غرف الأخبار

آخر أيام النظام السوري: كيف عمل الصحافيون في غرف الأخبار

في مساء ٢٩ تشرين الثاني / نوفمبر تعلن “إدارة العمليات العسكرية”، إطلاق معركة “ردع العدوان”، وتبدأ هجوما على خطوط “الجيش السوري”، في ريف حلب الغربي، وبشكل سريع تبدأ وحدات الجيش بالانسحاب لتصل قوات الإدارة العسكرية لتخوم حلب. في تلك الأثناء كان الاستنفار في غرف الأخبار قاطبة على أشده، وبشكل سريع انتقل الخبر السوري على سلم الأولويات لوسائل الإعلام الدولية وتصدره. كان التواصل مع المراسلين شبه مستحيل، إذ لم يجرؤ أحد على تبني معلومات الانسحاب خشية من رد فعل مخابرات نظام الأسد، وكان الاتصال بمحافظ حلب ينتهي سريعا بجملة “ماني فاضي”، بمجرد أن يعرف أن المتصل أحد العاملين في غرفة أخبار أي وسيلة إعلامية سورية. وعلى الرغم من تأكيد المراسلين والصحافيين والسكان لخبر دخول “إدارة العمليات العسكرية”، إلى حلب، لم يجرؤ أحد على نشر الخبر قبل أن تنهي وزارة الدفاع سلسلة الأخبار التي تتحدث عن إرسال تعزيزات عسكرية إلى حلب، بخبر “إعادة التموضع”، وهكذا تباعا حتى بدء اقتحام ”حماة”. وكانت البيانات تنفي كل ما تقوله قوات المعارضة إلى أن أتى خبر “إعادة التموضع”، وهكذا استمر الأمر حتى يوم السابع من كانون الأول/ ديسمبر حين قررت وسيلة إعلام سورية ألا تنتظر خبر “إعادة التموضع”، الرسمي حول حمص وأذاعت ما يحدث بشكل منفرد رغم الخوف من استخبارات النظام، وعند الساعة التاسعة من ذاك المساء بدأ الذعر يسري في كل مكان.

مقدمات السقوط

كان الاتصال بمصادر عليا من قبل القائمين على وسائل الإعلام ينتهي بمعلومات تبدو خطرة وخيالية، فمن كانوا في المكتب الإعلامي في القصر الجمهوري لم يوقفوا اتصالات التوبيخ والتهديد بسحب التراخيص والاعتقال حتى يوم السقوط، فمن ينشر أخباراً عن انسحاب قوات الجيش من الجنوب السوري سيُحاسب، في وقت يُطلب فيه الحديث عن “طوق دمشق”، والمقصود به تحصين العاصمة قبل بدء الدخول في مفاوضات لتطبيق القرار ٢٢٥٤، بعد أن يبقى للنظام سيطرته على دمشق والساحل. في الوقت نفسه كانت الأنباء التي ترد من الساحل بانسحاب قوات الجيش لا يمكن نشرها تحت التهديد بسبب اتصال هاتفي من محافظ اللاذقية آنذاك يهدد ويتوعد، ثم تأتي اتصالات تصر على نشر تصاريح مسؤولين من مستويات بسيطة كـ “رئيس بلدية دوما”، ينفي فيها دخول أي قوة إلى المدينة ذات الخصوصية الكبيرة بالنسبة لـ “الثورة السورية”، ثم التأكيد على وجود “قائد شرطة ريف دمشق”، على رأس قوة لإنهاء أي تظاهرة أو مظهر مسلح في مدينة “حرستا”، التي تعد ذات بعد استراتيجي كبير في حسابات الدفاع عن العاصمة. وكان رفض نشر هذه الأخبار مغامرة كبرى من قبل من رفضوا، فماذا لو أن حديثهم عن تفاوض يقوده الأسد كان صحيحاً، ماذا سيكون رد فعل المخابرات على أفعال من يسميهم النظام بـ “المندسين”، بين صفوفه؟!
ضجيج مفاجئ في الأحياء ذات الصبغة العلوية في العاصمة دمشق، نزوح بأشكال مختلفة، وسيارة صغيرة قد تكون مكتظة بعشرة أشخاص يحاولون الفرار إلى الساحل الذي ما زالت الأنباء تؤكد بقاء الجيش في نقاطه رغم الأنباء عن إخلاء المربعين الأمني والعسكري في العاصمة. كانت الساعة تشير إلى الواحدة ما بعد منتصف الليل، غرف الأخبار مكتظة بالقلق والتخبط والأنباء التي ترد ولا يجرؤ أحد على نشرها رغم أن وسائل إعلام عدة تنقلها على الهواء مباشرة، وكانت إجابة مدير أي وسيلة تبث من دمشق على سؤال: ماذا نفعل؟: ”انتظروا شوي”.
كان الخروج إلى الشارع في ذاك الوقت مع كاميرا يبدو مغامرة، الكل يركض، ثمة أشخاص بزي مدني لا تعرف تبعيتهم يطلقون الرصاص في الهواء بكثافة في منطقة المزة ومحيط ساحة الأمويين، وعند الساعة الثانية فجراً بدأ تحليق مكثف للطيران الحربي مع انفجارات ناجمة عن القصف. في تلك الساعة بدأت مغامرة العمل في غرف الأخبار تأخذ شكلا أكثر درامية، والكل يحاول تقديم أخبار لا تورطه مع النظام، فيكتفي بنقل أخبار مثل “سماع أصوات رصاص – سماع أصوات انفجارات – تسجيل حرائق – أنباء عن سقوط ضحايا”، دون الاقتراب من خبر إخلاء المواقع العسكرية والمقار الأمنية في العاصمة ومحيطها، ولا حتى خبر النزوح الجماعي، فالأمر ما زال مثيرا للرعب من رد فعل النظام، ورغم إن التسابق على نشر الأخبار والحصول على لقب “أول من نشر كذا”، كان سباقا محموماً طيلة سنوات الحرب، غير أن كتابة خبر “سقطت دمشق”، كان يبدو خطرا، ثقيلا، ومغامرة قد تنتهي برصاصة في الرأس من عنصر في مخابرات النظام، أو حبل مشنقة في سجن صيدنايا.
الساعة الثالثة يخرج خبر يؤكد فرار الأسد وعائلته، لم يكن ثمة مصدر واضح لهذا الخبر لكنه كان مؤكدا لجميع من يعمل في الإعلام السوري الحكومي والخاص، ولم يكن أحد ليمنع أي أحد بمغادرة مكان العمل، ولأن التلفزيون السوري توقف عن البث ودخلته عناصر من الفصائل التي تقدمت من الجنوب السوري نحو العاصمة، بات الأمر محسوما، لكن الخوف الذي زرع في نفوس الصحفيين منعهم من التجرؤ على القول: سقطت دمشق، وتركوا الأمر للناس لتعرفه وحدها.

ما بعد السقوط

تبين صباحاً أن عناصر “هيئة تحرير الشام”، لم يصلوا بعد لدمشق، الشوارع مزدحمة بين حاملي السلاح من سكان دمشق، يمكن تمييزهم عن عناصر الفصائل التي دخلت من جنوب سورية بسبب الفارق بين الزي المدني النظيف، والزي العسكري الذي يرتديه عناصر الفصائل، وهنا نوع من الناس كان يحتفل حاملا أعلام الثورة، لكن المشهد المؤلم تمثل بـ “التعفيش”، أو بصورة أدق “أفعال السرقة”، وللمصادفة فإن من دخلوا القصور الرئاسية وسرقوها كانوا من سكان المناطق القريبة منها، وبمعنى أدق هم من “أثرياء دمشق”، وهؤلاء من تولوا مهمة سرقة السيارات وكل ما هو ثمين، بينما وصل سكان الأحياء البعيدة (الفقراء)، متأخرين، لترى سيدة تخرج حاملة عبوة “قهوة”، أو شاب يحمل “كرسياً خشبياً”، غير أن لقية هؤلاء الحقيقية تمثلت بشركة “إيما تيل”، التي يملكها شكلاً “أبو علي خضر”، ومضموناً “أسماء الأسد”، والتي جعلت من الهاتف الجديد حلماً لكثير من الفقراء، فسطوا على كل ما يحتويه مقر ومنفذ البيع الخاص بالشركة، لكن هذه الفوضى لم تكن لتليق بـ الثورة والتحرير، ولم يتحدث أي من الصحافيين هذه الفوضى خشية من رد فعل “الثوار”، كذلك لم يذكره أحد من الصحافيين الذين أتوا إلى دمشق مع إدارتها الجديدة، رغم أن هذه الإدارة ما تزال تطالب بإعادة المسروقات من المؤسسات الحكومية والخاصة.
إن توصيف “فلول النظام”، الذي يطلق جزافاً على أي صحافي يحاول الحديث عما يحدث في سورية، يقابله توصيف “مندس”، الذي كان يطلقه النظام على من يخالف ”حكومة بشار الأسد“. وثمة تهم جاهزة مثل “التحريض الطائفي”، يوجهها جمهور الإدارة الجديدة لكل من يكتب منتقداً تصرفات “حكومة تسيير الأعمال”، ما يجعل من العمل الصحافي في سورية في الوقت الراهن ينطوي على الكثير من الخوف، فالقوانين لم تتضح بعد، وفي ظل انعدام وجود مؤسسة نقابية يمكن أن تحمي الصحافيين، سيبقى الأمر كذلك.