يُعاني مُعظم السوريين من الحر الشديد في سوريا، وأنا على اتصال دائم مع الأحبة الذين اضطروا أن يحتملوا قطع الكهرباء لمدة خمس ساعات أو أكثر حسب المناطق، بعدها تأتي الكهرباء لمدة ساعة لا تكفي لإنجاز أي شيئ من استحمام أو تشغيل الغسالة أو شحن الموبايل. لكن المُخزي أكثر هو اضطرار المواطن للخضوع للفساد.
الرسالة: تبحلق عيون السوريين في شاشة الموبايل بانتظار الرسالة التي تحدد لهم موعد دور كل منهم في تعبئة السيارة بالبنزين بالسعر الذي حددته الدولة. كانت الرسالة تصل إلى صاحبها كل عشرة أيام، وكمية البنزين لا تكفي سوى لمشوار واحد فقط من اللاذقية إلى كسب أو صلنفة، أو حتى لقضاء حاجيات داخل المدينة. أصبحت رسالة البنزين منذ مدة تصل كل ستة عشرة يوماً وبالكمية الضئيلة ذاتها، و90 بالمئة من السوريين لا يملكون الإمكانية لشراء البنزين غير المدعوم بسبب أسعاره الخيالية. العديد من الأسر تؤجل مشاريعها في الذهاب إلى مصيف أو مشوار لأيام بانتظار الرسالة والكارثة الأكبر أن الميكروباصات التي يعتمد عليها معظم المواطنين السوريين (التي تنقلهم من الريف إلى المدينة وبالعكس) تتلقى كمية البنزين تماماً كمواطن عادي أي أن الميكروباص الذي يستلم حصته من بنزين الدولة يستطيع أن يقوم برحلة واحدة فقط في اليوم وإجرة الراكب 3500 ليرة. لكن أصحاب الميكروباصات لا يستطيعون تأمين حاجة أسرتهم من الخبز بالاعتماد على الحصة الضئيلة من البنزين كل سته عشرة يوماً فيضطرون أن يشتروا البنزين باهظ الثمن (غير المدعوم ويسمونه البنزين الحر) ليقوموا بعدة رحلات بين المدن والقرى. في هذه الحالة على المواطن المُسافر أن يدفع إجرة السفر أكثر من 3500 لتصبح إجرة الراكب (16 ألف ليرة سورية). ولو أرادت أسرة مؤلفة من أربعة أشخاص فقط السفر بالميكروباص عليها أن تدفع مبلغ (64 ألف) ذهاباً و(64 ألف) للعودة. وهذا المبلغ يعجز عنه معظم السوريين.
ليست مسؤولية أصحاب الميكروباصات أن يضطروا للجوء إلى شراء البنزين الحر (باهظ الثمن)، وهم مجبرون أن يرفعوا تسعيرة إجرة الراكب الذي هو بطريقة ما شريكهم في نوع من الفساد، فساد مفروض على المواطنين وعلى أصحاب الميكروباصات. ونتج عن هذا الوضع أن الكثير من الموظفين الذين يسكنون قرى قريبة من المدينة ألا يلتحقوا بعملهم يومياً لأنهم عاجزون عن دفع الإجرة. وتم التواطؤ بين الموظفين بتقسيم الدوام في العمل بطريقة منطقية أي يداوم الموظف ثلاثة أيام، ويعمل نيابة عن زميله الغائب والذي يسكن مناطق بعيدة، بعدها يأتي دور الموظف الغائب ليغطي العمل ثلاثة أيام عن زميله. الحال نفسه بالنسبة لطلاب المدارس وللمدرسين معظمهم يضطرون للتغيب عن الدوام بسبب عدم قدرتهم على دفع إجرة المواصلات.
أما الغلاء الفاحش لكل المواد حيث سعر كيلو اللحم (200 ألف لحم العجل و250 ألف لحم الغنم) أي ما يعادل راتب الموظف. غلاء الدواء وانقطاع العديد من الأدوية خاصة الأدوية لمعالجة السرطان وأدوية الطب النفسي (وإن توافرت فهي للأسف سيئة بإعتراف الأطباء النفسانيين)، وأصبحت مُعاينة الطبيب خمسين ألف ليرة سورية. أصبح العديد من المواطنين يلجؤون إلى الصيدلاني أو الصيدلانية ليصفوا لهم الدواء لمرضهم موفرين على أنفسهم معاينة الطبيب. ويجب أن نذكر أن الكثير من الأطباء هاجروا من سوريا إلى دول أوروبية أو دول الخليج لأن الضرائب التي تفرضها عليهم الدولة باهظة بشكل لامعقول ولأن ظروف العمل أصبحت صعبة في ظل انقطاع الكهرباء وفقر المرضى والظروف العامة بالغة الصعوبة. أخبرتني إحدى الصديقات وهي مهندسة أنها تحتاج كل شهر إلى 200 ألف ليرة سورية ثمن دوائها لكنها كما قالت مشتركة في التأمين الصحي لنقابة المهندسين، وعليها أن تدفع مليون ليرة سورية قيمة التأمين كل سنة. وراتبها التقاعدي بعد ربع قرن من العمل يساوي (160 ألف ليرة سورية) أي أقل من سعر كيلو اللحم.
المؤلم والمُخزي أن آخر الإحصائيات بينت تراجعاً كبيراً في النمو الجسدي والعقلي للأطفال لأن معظم غذائهم سندويش بطاطا، كنتُ أرى حشداً من العائلات في اللاذقية (أحكي ما كنت أراه منذ أربع سنوات قبل سفري إلى باريس) آباء وأمهات وأطفالهم يقفون في طابور أمام محلات الفروج المشوي (أو البروستد) يسيل لعاب الأطفال على قطعة لحم (صدقاً رأيت أطفالاً يسيل لعابهم)، لكن أهلهم لا يملكون سوى شراء سندويشات بطاطا (خبز وبطاطا مقلية). اليوم أصبح سعر الفروج المشوي 300 ألف ليرة سورية، وثمة معلومة طبية مهمة جداً أن اللحوم تحتوي على ثمانية أنواع من البروتينات لا توجد إلا في اللحوم الحمراء وهذه البروتينات ضرورية وأساسية لنمو الأطفال. أكثر من 87 بالمئة من أطفال سوريا محرومون من اللحوم والأسماك والخضار والفاكهة. هذا يؤثر على نمو العضلات والعظام والدماغ إضافة إلى أصعب ألم وهو الحرمان. السوري الذي يتلقى معونات وحوالات خارجية يتمكن من العيش الكريم، يستطيع أن يأكل ويطعم أولاده اللحم والسمك ويشتري لهم دمى ولباساً لا تفوح منه رائحة البالة.
في الطب النفسي وفي كتب علم الاجتماع هناك حالة اكتئاب عام يصيب المجتمع، حيث يستسلم المواطن للقهر والحرمان واليأس وقد أنهكته ظروف قاسية لا تُحتمل، وهو يرى أن الأوضاع تزداد سوءاً، والعبارة الموحدة بين الناس المكتئبين (ما باليد حيلة أو مناجاة رب العالمين). يُمكن تشبيه حالة الشعب السوري وظروف معيشته بما يُسمى في الطب الموت السريري أي أن كل أعضاء الجسم تمرض وتتوقف عن العمل خاصة الدماغ، وحده القلب يستمر في الخفقان كرقاص الساعة.
يستحق الشعب السوري حياة كريمة، يستحق ألا يجد نفسه متورطاً في تحمل ظروف ناجمة عن الفساد العام، بحيث يبدو وكأنه شريك في الفساد بتغيبه عن عمله لأيام بسبب غلاء المواصلات، خاصة وهو يرى أثرياء الحرب وفحش ثرائهم وهم يتباهون بسياراتهم الفارهة وحفلاتهم الباذخة وينشرون الصور على مواقع التواصل الإجتماعي.
الحياة ليست تراكم أيام، ليست كأوراق شجر يابسة متساقطة، السوري يستحق حياة كريمة وحرية انتقاد عيش ذليل دون أن تهبط عليه تهمة جريمة إلكترونية.
في عالمٍ باتَ مليئاً بالنجوم، نجوم السوشيال ميديا أو ما يسمّونهم صنّاع المحتوى، الخاضعين لخوارزميات و سياسات مواقعِ التواصل الاجتماعي، و آخرون يصنعُهم رعاةٌ مخلصون يروّضونَ تطور العقل البشري بحيثُ يظلّ القطيعُ بخير، نجوم تُبهر و تغيّر، و أخرى تعمي العيون، قد يكون رحيلُ أحد المُبدعين مناسبةً كي نبدأ بالحديث عن أعماله أو أقواله بموضوعيةٍ أو بعين النقدِ الحقيقية، بحثاً عن نجمٍ حقيقيٍّ احترق كي يضيء.
ميساء محمد فنانة تشكيلية سورية، من مواليد مدينة جبلة 1964، فُجِعَ مُحبّوها بخبرِ مرضِها في مكان إقامتِها في دبي أولاً، ثمّ غيابِها المُبكّر مؤخراً، كان مجتمعُ الفنانين التشكليين يتابعُ تجربتَها باهتمام، فقد قدّمت في مراحلِها الأخيرة سلسلةً من اللوحاتِ المتحفيّة كانت ثمرة تراكم خبرةٍ طويلةٍ في الرسم، و موهبة استثنائية في التعبيرِ عن مكنوناتِ النفسِ الإنسانيةِ عن طريقِ الخطّ و اللون. اللافت في تجربةِ ميساء هو تطوّرها الواضح باتجاه الواقعية التعبيرية، المبنيّة على امتلاكٍ حقيقيّ للرسم كأداةٍ مرنةٍ بينَ يدَيها، تشكّل من خلالِها وجوهاً ذاتَ طابعٍ سحريّ، و مناخاًغرائبيّاً، كأنّها تنقلُنا إلى عالمٍ موازٍ، شخوصُهُ تُشبهُنا، لكنّها تحملُ قدراً من الجمالِ و التصالحِ مع الذاتِ، يجعلُنا نقفُ أمامَها مشدوهين.
من الملفت أنّ ميساء لم تدخل تجربة الرسم بجديّةٍ إلا مع بداية الحرب السورية، ربما هرباً من أشباحِ الموتِ و الدمار التي سكنت البلاد، أو نتيجة شعور خَفيّ بنهايةٍ قد تكونُ وشيكة، ما جعلها تستخرجُ تلكَ الجوهرة التي طالما أهملتها في أعماقِها، و تعمل على صقلِها، “البحث عن الصمت، ملك الأطراف، حجر الدم، مقام الصبا، هناكَ أمل” هي عناوين لمجموعتها التشكيلية أو معارضِها التي أقامتها في كل من دمشق، دبي، زيورخ، و فينيسيا.
إنّها رسامة مشت بكلّ ثقةٍ صوبَ ذاتِها، فحفرت طريقَها حيثُ اتّجهت بوصلةُ قلبِها دونَ أن تتمكن منها مقولاتُ غيرها، ربما هذا سرّ تفرّدِها و أصالتِها، فهي لم تذهب إلى الخارج لتستورد مفردات، أو تعيدَ إنتاجَ تجربةٍ بعَينها، بل حفرت في روحِها و رسمت ما تُحب. و لأنّها أسّست أسلوبَها على ما يهوى قلبَها و يؤرقُ عقلها، كانت الشامُ حاضرةً في أعمالِها، هي التي شغلَها موضوعُ الهوية، حاولت أن تتمسّك بهويتها السورية التي شعرت أن الحربَ ستأتي عليها، فرسمتها، ” في لوحاتي لم أتعمّد العودة إلى الماضي، و لكن طبيعة الهوية هي التي تقودُني إلى ذلك، حاولت قدرَ الإمكان أن أكونَ وفيّةً لفكرةِ الجمال والرومانسيةِ العالية، التي اعتبرتها بمنزلةِ أدواتٍ لمواجهةِ عدو الثقافة و الهوية العربية التي مكّننا الفن التشكيلي من اكتشافِ كاملِ تفاصيلِها”. شخوصُها التي تطلُّ علينا من عالمٍ مُختلف، طفولي أحياناً و أسطوري أحياناً أخرى، ترتدي غالباً أزياء دمشق التراثية، التي يُقالُ إنّها تعودُ إلى تصاميم أزياء الملوك القدامى الذين عاشوا في دمشق أو تدمر،أفاميا، ايبلا، و أوغاريت، يذهبُ الشاعر و الناقد فاروق يوسف إلى ربطِ تجربتها بالفنان السوري نذير نبعة، فيما يخصّ طريقة معالجتِها للوجوه، والأجواء الشامية التراثية الباذخة، فالنساءُ بجمالهنّ الأسطوري، كأنّهنّ حفيداتُ الليليت وعشتار وإينانا والمجدلية و زنوبيا، يغنينَ مشهدها البصري و يمنحنَهُ بصمةً سوريّة خاصة.
و كما تستخدم ميساء الواقعية السحرية كي تأسرَ عين المشاهد، تستخدم كذلك الرمزية، فالحُلي والورود والغربان و السفن الورقيّة والزخارف الشرقيّة، كلّها أدوات تنقل مكنونات الفنانة وأفكارها، أمّا أداة التعبيرالأهم، التي تمنحُ لوحاتَها قوة تعبيريّة استثنائية فهي العيون، فإذا كنّا نريدُ أن نلجَ عالم ميساء محمّد، علينا أن نفهم ما تقولهُ عيونُ شخوصِها، فهي تتّسع كي تحيطَ بالواقع من كلّ الجهات، أحياناً تقفُ أمام العالمِ مذهولةً وأحياناً أخرى خائفة، لكأنّ هولَ المشهدِ جعلَها بكماء، وحدهُ بريقُ عيونِها يُفصحُ عما يدورُ في روحها، قد يكونُ بريق الوعي، أو حزن دفين يأبى أن يتدفّق ما يمنحُها سحرها الخاص، إنّ عيون ميساء محمد هي بحدّ ذاتِها موقف من العالم و وجهة نظر، تُعاتبُ و تُحبّ، تتأمّل، تحزن، وتفرح في نظرةٍ واحدةٍ، كأنّها لم تستطع أن تصرخَ في وجهِ الحربِ فحدّقت بها، وحين رحلت تركت لنا تلكَ النظرة الخالدة، لتجعلنا نتساءل و نتساءل، دون أن نتمكّن من سبرِ غورِ إحساسِها.
إنّها امرأةٌ من فصيلةِ النساء الساحراتِ، اللواتي منحتهُنّ الطبيعةُ مواهبَ استثنائية ليحاربنَ بها طغيانَ المجتمع، السحرُ هنا ليس بمعناهُ الشرير، إنّما هو السحرُ الذي يسخّر القوى الكامنة في الطبيعة من سبيل الخير، و إذا كانت ظاهرة ملاحقة الساحرات و السحرة قديمة قدمَ التاريخ، فإنّ أغلب النساء اللواتي اتُّهمنَ بممارسة السحر في العصور الوسطى في اوروبا، كنّ من المثقّفات والعالمات وصاحبات الفكر المتنوّر، ربما الفيلسوفة و عالمة الرياضيات هيباتيا التي قُتلت على يدِ حشدٍ من المتعصّبين في الاسكندرية عام 413م هي أول ساحرة معروفة تعاقبها السلطة الدينية.
تجلّى سحرُ ميساء فيما تجلّى في اللون، فقد استحضرتهُ في أعمالِها بكامل بريقه، ليساهمَ في تشكيلِ مشهدِها البصري الخاص، و منحِهِ بعداً غامضاً و شاعريةً مُختلفةً، فكان أن أظهرتهُ على العجينةِ اللونية للوجوه، فاقعاً، فاضِحاً شغفَها بالجسدِ الإنساني و مكنوناتِهِ، لقد حذت هنا حذوَ الانطباعيين في الابتعاد أحياناً عن المزج و إظهارِ تدرجات اللون على سطح اللوحة، كما اتكأت على المبالغة اللونية كطريقة في التعبير، اهتمّت ميساء بنضارةِ وصفاءِ ألوانها، كما استخدمت تلكَ المتكاملة والمنسجمة، لتمنحَ لوحاتها ضوءاً مختلفاً وبعداً سريّاً، لكأنّها هنا متأثرة بالفن الكنسي وكبار فنانّي عصر النهضة ، كما لجأت أحياناً إلى المبالغة في رسمِ أطرافِ نسائها، فتطاولت الأصابع و رقّت، ربما كي تحاكي رقّة الفنانة و سمو روحِها.
تنتمي ميساء إلى فئةٍ من التشكيلين السوريين الذين تمسّكوا بالرسم كقاعدةٍ لانطلاقهم في عالم الفن التشكيلي، فبحثوا عن أصالةٍ تشبهُهم دون الانخراطِ في تجربةِ النسجِ على منوالِ المدارس الغربية، فعلى الرغمِ من مقولات الحداثةِ و ما بعدها التي هيمنت على المشهد، صنعت ميساء حداثتَها الخاصة غير مكترثةٍ سوى بمقولاتِ روحِها، فعبّرت بطريقتِها عن فكر ومشاعر رسّامة أنثى، عايشت حقبةً من الحربِ و الهمجيّةِ ربما أودت بها في النهايةِ إلى مرضٍ و موتٍ مبكّر.
في وسطِ إحدى لوحاتِها المعجونةِ بتدرّجاتٍ رماديّةٍ، مساحة حمراء على شكلِ مستطيلٍ انفتحَت أطرافُهُ السفلى كأنّها دماءٌ تسيلُ، على هذه الخلفية جلست أنثى بثوبٍ أبيضٍ و بعينين هَلعتين، بطلة اللوحة تحضنُ إطاراً أحمراً مربوطاً في إحدى زواياهُ بشريطٍ أسود، أما داخل الإطار فتفاجئنا ميساء برسم بورتريه للأنثى الهلعة ذاتها المتربّعة في الوسط ، كأنّ البطلة تقفُ شاهدةً على موتِها، كأنّها تنعي نفسَها، هل تنبّأت ميساء هنا بنهايتها الوشيكة؟ هل كانت تعي ما ينتظرها من مصيرٍ سيحرمُها من ممارسة سحرها الخاص”الرسم”؟ لا نعلمُ حتى الآن مدى صدق نبوءة الشعراء و الرسامين، لكن و إذا كانت ميساءُ نجماً مرّ بسرعةٍ في عالمِنا فيبدو أنّها تركت أثراً سيدوم، يُقالُ إن بعض النجومِ التي لا يزال ضوءها ينيرُ ظلمتَنا هي في الحقيقة ميّتة، أن تكون نجماً حقيقياً يعني أن تتركَ وهجاً يدوم.
شق العود السوري طريقه نحو لائحة التراث الثقافي غير المادي الذي أدرجته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو” عام 2022، وذلك لعذوبة صوته وصناعته اليدوية المتقنة الممتدة لعقود طويلة، ليلتحق بصناعة نفخ الزجاج كعنصر تراثي جديد. إلا أن تحديات صعبة تواجه حالياً صناع العود، بدءاً من تكاليفه وصولاً إلى تراجع حركة السياحة التي انعكست سلباً على ازدهار هذه الصناعة، بعد أن كانت تعتمد بجزء يسير منها على السياح ما قبل اندلاع الحرب السورية. التحديات والعراقيل بمساحة لا تتجاوز المترين تتسع لشخصين فقط، اضطر صانع العود أنطون طويل الانتقال مرغماً إلى محله الضيق بعد أن كان يشغل مساحة كبيرة في سوق التكية السليمانية، الذي احتضن أكثر من 60 حرفياً من حرفيي العود والزجاج المنفوخ والسيف الدمشقي والخط والحلي والأزياء الفلكورية لمدة 52 عاماً بمساحة تصل إلى 11 ألف متر مربع منذ عام 1972. حالة أنطون طويل ناجمة عن صدور قرار إزالة التكية عام 2022 التي كانت محلاتها بصيغة عقود إيجار لتتحول فيما بعد إلى عقود استثمار سياحية. يقول طويل عن تجربته: “ورثتُ صناعة العود عن أبي منذ قرابة ثلاثين عاماً حين كان موجوداً في التكية السليمانية التي كانت مجمعاً لحرفيي المهن اليدوية وملتقى لأقدم الملحنين السوريين.”
تسببت إزالة التكية السليمانية وترحيل الحرفيين منها بعد أن كانوا يشغلونها لأكثر من خمسين عاما، بأضرار معنوية كبيرة، لاسيما كونها تُعد نقطة استقطاب جذابة للسياح العرب والأجانب ولعموم السوريين الذين كانوا يقصدونها من مختلف المحافظات السورية. يضيف أنطون طويل: “أصبت بالإحباط والاكتئاب لمدة أربعة شهور، الانتقال من مكان كان يغص بالحرفيين ويعد معلماً سياحياً ضخماً في البلاد كنت قد اعتدت عليه لسنوات طويلة إلى مكان ضيق ليس بالأمر السهل على الإطلاق، شعرت بالخذلان، كان محلي يضم قرابة 300 عود، بينما هنا بالكاد يتسع لعشرة أعواد”.
بخسارة التكية السليمانية، خسر الحرفيون معها بوصلتهم السياحية الأولى ومصدر رزقهم الحيوي وشريانها النابض، إذ أحدثت عملية الانتقال الإجباري ضرراً مادياَ جسيماً، ليتحول من مكان له مريدون وعشاق لا يهدأ من الزحام ويشهد غلياناً واندفاعاً إلى الشراء، إلى مكان يعاني من أزمة شراء وضعف في منسوب الإنتاج. يشرح صانع العود الوضع أكثر: “تراجعت كثيراً وتيرة الإنتاج، وبالتالي حركة الشراء، هناك حيث الأعواد والمعدات تتسع في المحل، بينما هنا اضطررت إلى إيداعها عند أصدقائي في ورشات عملهم، ويصعب عليّ تشغيلها لغلاء الوقود بسبب استخدام المولدات في ظل انقطاع الكهرباء الدائم.” ويضيف: “كنا معروفين من قبل الأوربيين، حيث كنا نصدر لهم عشرات الأعواد شهرياً، لكن الأمر تغير بعد إزالة التكية، تم القضاء على الذاكرة التراثية”. إلى جانب ذلك، يجد صانع العود أنطون نفسه أمام عائق جديد وهو أجور النقل عبر شركات الشحن الدولية في حال فكر بالتسويق عبر الإنترنت، ما انعكس سلباً على حركة البيع للخليج وأوروبا. ويوضح صعوبة هذا العائق: يكلف شحن ظرف صغير إلى ألمانيا حوالي 150 ألف ليرة سورية، ما بالك بالعود الذي يأخذ وزناً وحجماً، أحاول التركيز على الزبائن الذين يأتون إلى هنا في زيارة خاطفة، المشكلة الحقيقية تكمن في أجور الشحن”. تعد ارتفاع أسعار المواد الأولية الداخلة في صناعة العود السوري سبباً مباشراً في تضاعف ثمنه الذي وصل قرابة 700 ألف حسب مواصفاته، بينما كان يتراوح سعره قبل عام 2011 حوالي 5 آلاف ليرة سورية فقط. هذا الغلاء انعكس سلباً على كمية الإنتاج، ويشرح صانع العود أنطون طويل أكثر مصدر ارتفاع الأسعار: “غلاء مادة الخشب وهي أساسية في صناعة العود بالرغم من كونها محلية، إلى جانب الأوتار التي تعد من الأكسسوارات نستوردها من الصين التي تكون أيضاً مكلفة”. ويُعتقد أن جذور صناعة العود تعود إلى فترة حكم الأكاديين في العراق. وتمر عملية تصنيع العود السوري بمراحل عديدة تصل إلى 41 مرحلة كي يخرج بهذه الصورة الجمالية المتقنة وشكله الشبيه بفاكهة الكمثرى. وعن هذه المراحل، يشرح طويل: “يتكون العود من صندوق خشبي، يِصنع من أنواع مختلفة من الخشب، أهمها شجر الجوز الذي يتميز بعمره الطويل ويمنح الصوت عذوبة خارقة، فسجل عام 1879 أول عود مصنوع من الجوز في سوريا، بعد شراء كميات كبيرة من الحطاب، نقطع الخشب ونقوم بتجسيمه وفق مقاسات متنوعة تصل إلى 15 قطعة لنجمعها سوية وتصبح على هيئة صندوق خشبي مفرغ، كما تم إدخال خشب الأرز على الوجه السطحي للعود، ليتم شد خمسة أوتار في مشط الآلة الذي كان قديماً يصنع من أحشاء الحيوانات وتحولت إلى مزيج من النحاس والنايلون.”
يستغرق أنطون زمناً يتراوح بين العشرة أيام لغاية الشهرين في صنع العود، وذلك حسب التفاصيل المراد الاشتغال عليها من حفر وتنزيل الصدف وتلبيس الموزاييك وإغراقه بالزينة، ويوضح ذلك: “لكل عود خصوصية، حسب طلب الزبون، هناك من يفضل البدء بالعود التركي الذي يختلف عن العربي فهو أصغر بالحجم وأخف وزناً ويسهل حمله، بينما هناك من يفضل العربي ويتفنن بالزخرفة عليه.” إقبال على آلة العود لدى فئة الشباب لاتزال آلة العود الموسيقية التراثية تلقى إقبالاً لدى فئة الشباب السوري رغم تطور الآلات الموسيقية الغربية ورواجها مؤخراً. تقول ألين (19 عاماً) وهي تحاول أن تفاصل والدتها على سعر العود: “انتظرت انتهاء امتحانات الجامعة للبدء بدورة تعليمية على آلة العود التي أطرب لسماع صوتها، اشتريت الآن عوداً جديداً بالرغم من ثمنه الباهظ، سحرت بصوته عندما سمعته للمرة الأولى أثناء حفلة سهر لوالدي وأصدقائه”. لجأ عبد (30 عاماً) إلى أنطون لإصلاح الأوتار وشدها جيداً بعد أن أخذت بالارتخاء قليلاً، وقال لنا: أواظب على آلة العود التراثية منذ خمس سنوات تقريباً. اكتشفت صوت هذه الآلة مصادفة عند تدشين مطعم بدمشق القديمة وكان شقيق صديقي ضمن العازفين خلال الافتتاح.” ويُتابع حديثه: “العود متنفس جميل لي في ظل الضغوط الاجتماعية التي نعيشها، صوت الآلة جميل وعذب ينتشلك من الحاضر إلى بوابة الماضي وكأنك بزمن فريد الأطرش وعبد الحليم.”
دعونا من البديهية القانونية والإنسانية والأخلاقية في حق الشعوب في مكافحة المحتلين، وبالتالي دعونا من المبررات القانونية والسياسية والعسكرية والأخلاقية لطوفان الأقصى. ولنسلِّم جدلاً بالرواية الصهيوأمريكية بأن طوفان الأقصى كان البداية وأن الفلسطينيين هم الذين باشروا في الإثم والعدوان. وإن من حق الدولة السامية البريئة والمسالمة، أن تدافع عن نفسها، وأن تعاقب المعتدين، وتسترد الأسرى الإسرائيليين، ولأن الفلسطينيين هم المعتدون – حسب هذه الرواية – فإن البادئ أظلم، والصاع يجب ان يرد لهم صاعين. لكن ما حدث يفوق أي منطق حسابي، لأن الصاع يُرد هنا ألف صاع، بلا وازع من قانون أو ضمير.
وطالما أن الأمر متعلق بالعم سام، ورأس ماله الذي يُغرِق الغرب ويتحكم بقراراته، فلا راد لأمره، ولا اعتراض على حكمه، ولا على جرائمه، لذا رأينا مواقف معظم الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية، على قلب رجل واحد في دعمها المُخجل للمحتل.
أعلنت إسرائيل منذ البدء أهداف الحرب، وهي القضاء نهائياً على حماس وعلى كل من شارك بالقتال ضدها، وحينما أعطى الغرب لها الحرية التامة والحق التام في الدفاع عن النفس، عبَّرت الدوائر الإسرائيلية بأن أهداف الحرب مسح غزة عن الخريطة، وقتل الغزيين عن بكرة أبيهم، أو ترحيلهم إلى سيناء، أو رميهم في البحر. كل هذا عمل أخلاقي غايته النبيلة هي الدفاع عن النفس، ليس ضد بشر عاديين، بل ضد وحوش بشرية، مأساة الهنود الحمر بالقارة الأمريكية تتكرر هنا في غزة، ليس فقط على مرأى العالم الحر والديمقراطي والإنساني، بل بدعم مباشر من هذا العالم عبر إرسال آلاف الأطنان من أحدث الأسلحة الفتَّاكة، وفي دعم لوجستي ومخابراتي وعملياتي من قِبَل أعظم دول العالم.
والمضحك المبكي أن أمريكا التي تتسيَّد العالم الحر والديمقراطي، لم يكن أمامها لكي تستمر بمسرحية الديمقراطية والإنسانية، إلا أن تعتمد تكتيكاً مفاده: تقديم كل أنواع الأسلحة والدعم العسكري لإسرائيل، مقابل تقديم كيس من الطحين أو خيمة ورغيف خبز للفلسطينيين، يا لها من نزاهة وحيادية، السلاح مقابل الخبز، إنه المكيال الواحد للولايات المتحدة الأمريكية، المكيال الواحد الذي تحدث عنه وزير خارجيتها، هكذا من دون أن يشعر بأي حرج أو خجل، ولا أقول عذاب ضمير، ففاقد الشيء لا يعطيه. أمريكا لا تكيل بمكيالين، هذه حقيقة، لكن هذا المكيال يكيل بالقمح للصهاينة، وبالعلقم للفلسطينيين.
والمضحك المبكي أيضاً، أنه يتم التسويق لجيش الاحتلال المغوار بأنه جيش أخلاقي، وأن حربه في غزة هي حرب نبيلة ومقدسة، فمن جهة مقدسة فهي كذلك لأن دولة الاحتلال برمتها، قامت وتقوم على مغالطات تلمودية، وتحريفات وتأويلات توراتية، قائمة ابتداءً على أساس ديني عنصري. ولا تتجلى حربهم النبيلة إلا في مسح غزة عن وجه الأرض، وفي عدد شهداء تجاوزوا ثمانية وثلاثين ألفاً، وجرحى زادوا عن ثمانين ألفاً، إضافة إلى تدمير المستشفات، كما لم يحدث في التاريخ، وأخيراً قصف و حرق الخيام وقتل وجرج العشرات النازحين. الأمر الذي يدل دلالة رفيعة المستوى على درجة النبل والشرف المفقودين أساساً، وإنما البيِّنة على من ادعى بدون خجل أو وجل.
والملفت أن شيئاً من الأهداف المعلنة من الحرب، من قِبل حكومة الاحتلال لم يتحقق، فلم يستطع جيش الاحتلال أن يحرر أسيراً واحداً بالقوة، وما تم تحريره بالمفاوضات كان يمكن تحريره حتى بدون حرب، وقد أعلن الفلسطينيون استعدادهم لذلك قبل بدء الحرب، لكن حتى لو أطلق الفلسطينيون الأسرى قبل الحرب، كانت إسرائيل ستشن حربها، لأن طوفان الأقصى أفقد دولة الاحتلال هيبتها، فكان لا بد من استعادة هذه الهيبة، وهذا يستلزم – حسب الاعتبارات الاسرائيلية – نصراً يقضي على حماس وربما على كل الغزيين أو الفلسطينيين، وأهمية تحرير الأسرى كانت تأتي لاحقاً، وربما أخيراً، وإن كان يتم الإعلان خلافاً لذلك. وما يؤكد ذلك هو عدم جدية إسرائيل في المفاوضات من أجل تحرير الأسرى. ولعمري أن حكومة نتنياهو ونتنياهو شخصياً يتمنى لو مات جميع الأسرى لكي يخسر الفلسطينيون ورقة ضغط في المفاوضات.
الدعم اللامحدود الذي تلقاه الصهاينة من الغرب، دفعهم للغطرسة والتمسك بخيار عدم إيقاف الحرب، لكن هذه الغطرسة لم تكن بلا ثمن، وثمن ذلك هو فقدان وخسارة أعداد تفوق عدد الأسرى المراد تحريرهم، وفشلهم في تحقيق أي هدف، فلم يحقق الاحتلال في غزة هدفاً إلا قتل الشعب الأعزل، وكل انتصاراته إنما هي أوهام يسطرها الإعلام المضلل. منذ الأيام الأولى للحرب أعلن الاحتلال تحرير شمال غزة ثم وسطها، ومع ذلك كل يوم نسمع عن عمليات بطولية لأبطال غزة في الشمال والوسط، ثم وبعد عجز نتنياهو عن تحقيق أي نصر حقيقي، أراد أن يصنع نصراً وهمياً، فراح يعلن أن حربه ستتكلل بالنصر المطلق في رفح، في غباء منطقي وعسكري، حيث أراد إيهام العالم بأنه انتصر بغزة ولم يتبقَ إلا رفح، في حين أن جيشه المغوار لم يتمكن من حسم المعركة في شبر واحد من قطاع غزة.
أما بخصوص المواقف الدولية، فقد تغيَّرت نسبياً من الحرب، وصورة إسرائيل حمامة السلام التي تدافع عن نفسها، لم تعد تنطلي على أكثر دول العالم، باستثناء الموقف الأمريكي المتماهي أساساً مع دولة الاحتلال، ومسرحية الخلافات الأمريكية الإسرائيلية لم تعد تنطلي على أحد. الموقف الأمريكي لم تغيّره عشرات الآلاف من القتلى والجرحى الفلسطينيين، ولم تغيره قرارات الجنائية الدولية، التي ورغم أهميتها فقد ساوت بين الضحية والجلاد، كما لم يتغيَّر تحت وطأة المواقف العربية الضاغطة، لأنها بالأساس مواقف هزيلة لم ترتقِ لمستوى الفاجعة الحقيقية، لا شعبياً ولا رسمياً. وما يؤكد ذلك هو مواقف بعض الدول غير العربية، ابتداءً بالمبادرة الرائعة من جنوب أفريقيا في الجنائية الدولية، مروراً بالمظاهرات الطلابية، وصولاً إلى اعتراف بعض الدول الأوربية بالدولة الفلسطينية.
لكن ثمة سؤالاً يكشف عن سخرية الواقع العربي شعبياً وسياسياً، فعلى المستوى السياسي لماذا لم تتقدم الدول العربية، أو دولة واحدة منها، إلى الجنائية الدولية بدلاً من جنوب أفريقيا أو معها ؟ هل جنوب أفريقياً أقرب إلى الفلسطينيين من العرب ؟ أم أن استقلال القرار السياسي لساسة جنوب أفريقيا، قد كشف العجز والتبعية لدى أنظمتنا العربية. لماذا لم تجرؤ دولة عربية واحدة، على الاعتراف الرسمي بالدولة الفلسطينية، كما فعلت إسبانيا والنروج وأيرلندا ؟ واكتفى البعض من العرب بالشكر والتقدير والإعجاب بما فعلته تلك الدول الأوربية. كإشارة إلى الموافقة الضمنية من قِبل الأنظمة العربية، على قيام الدولة الفلسطينية. الحق ينبغي أن نشكر الدول العربية على هذه النية الطيبة، وعلى هذه الشجاعة في الدعم الضمني للقضية الفلسطينية !!، حيث لم ولن نتوقع منهم أكثر من ذلك. ونرجو أن يكونوا قد تعلموا الدرس من أبطال غزة الذين أذلوا كبرياء الكيان الذي لا يقهر.
أما على الصعيد الشعبي، فإن الجماهير العربية، تحديداً الطلابية منها، خذلت هي أيضاً الفلسطينيين، فلماذا تشهد جامعات الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا مظاهرات مستمرة واعتصامات داعمة للفلسطينيين، في حين يكتفي طلابنا وجماهيرنا بدعم الفلسطينيين على الفيس بوك ومواقع التواصل الاجتماعي، وبتجمعات خجولة يوم الجمعة نتيجة احتشادهم التلقائي للصلاة.
وعلى كل حال فإن ما تلقاه الفلسطينيون وما سيتلقونه من دعم لم يكن ليحدث لولا البطولة الأسطورية للشعب الفلسطيني، فبعد ثمانية أشهر، ما يزال أبطال غزة يسطرون ملاحم بطولة أسطورية، كل شيء هالك إلا شجاعة وبطولة قوم كنا منذ عهد قريب، نظن أنهم خاملون يائسون، لكنهم كانوا كنار تحت رماد، ما لبثت أن شبت فألهبت وأبهرت عقولنا وقلوبنا، وأشعلت حدائق الغازين وجناتهم الموعودة كذباً وزوراً، وقد أقامها هؤلاء العابرون، القادمون إلينا من شتات المعمورة، راسمين صورة للقدر الجائر.
المشهد الفلسطيني رغم كل سوداويته، وكل الخسائر والنكبات، يمكن أن نقرأه إيجابياً على أكثر من صعيد، فطوفان الأقصى يمثِّل أقسى انتكاسة عسكرية تتعرض لها دولة الاحتلال باعترافات قادتها ومسؤوليها، ما فعله أبطال غزة في أيام، لم تفعله جيوش كاملة على مدار عقود، كل يوم وحصاد طوفان الأقصى يزيد، ونحن على موعد مع الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ولعمري لو لم يحصد الفلسطينيون غير قيام دولتهم، تحت أي شرط أو رهان، لكفاهم ذلك عوضاً عن التغريبة الفلسطينية.
منذ البداية ندرك أن رغبة الكاتب باسم خندقجي في روايته “قناع بلون السماء” تتخطى هاجس دحض قصة دان براون عن مريم المجدلية في رواية شيفرة دافنشي، إلى التلويح بأهمية كشف الزيف الذي عممته الحركة الصهيونية على العالم، خشية أن يكرسه الزمن لدى الأجيال الجديدة بينما مازال هناك فلسطينيون تُغيّب حياتهم بقسوة، فالبطل نور دارس الآثار يرى أن في إحياء حكاية مريم المجدلية المغيبة قسراً إحياء لهويته المسلوبة والتي تعمل دولة الاحتلال على محوها، إذ أغفلتها كتب التاريخ المتبناة من قبل المؤسسة الدينية الرسمية وأهملت إنجيلها، رغم أنها أقرب التلاميذ للمسيح. ويرى ذلك في صلب تفكيك التفاصيل المعرفية والثقافية والتاريخية للدولة المستعمرة من أجل تمزيق الأقنعة التي تحتال بها على العالم عبر إحياء حقائق أغفلها التاريخ. هكذا تعيش رواية في قلب رواية خندقجي وتنتظر أن يكتبها بطله، فتتشابك الروايتان وتستمد إحداهما الإشارات من الأخرى، في سرد يجدله بطريقة مثيرة للانتباه، مليئة بالإسقاطات من الحكاية إلى الواقع إذ يستطيع القارئ أن يلاحظ كيف يوازي بين رموزه ليمنح الحياة لإحدى روايتيه من الأخرى وبالعكس، بينما يقوم بطله نور بإطلاعنا على الحقائق التي وصل إليها وطريقته بالتقصي، في أسلوب شيق وذكي يخرج من البكائيات إلى المغامرة في التعامل مع واقع الاحتلال الضاغط. يعيش البطل أزمته العامة تحت خطر الاعتقال والاختطاف والحرمان من الحقوق كما حدث مع صديقه مراد في مخيم يضيق بسكانه، إضافة لأزمته الخاصة في أسرته التي سُلب تاريخها النضالي وتراثها العريق فانكفأت للصمت. كانت ملامح نور الأوربية الشبيهة بملامح الأشكناز تساعده في المواقف الحرجة كما لو كانت قناعاً يساعده في التنقل، إلى أن دعمتها الصدفة بقناع آخر، حين عثر على هوية إسرائيلية باسم أور شابيرا في معطف ابتاعه من سوق الخردوات، فاستطاع التحرك بحرية ودخول القدس للعمل ومن ثم الالتحاق ببعثة أثرية في سهل هر مجدون سعياً وراء مشروعه الروائي. يقدم باسم خندقجي عبر تنقلات بطله صورة حية عن الداخل الفلسطيني الذي يتقلب على السفود، في ظل محاولات تهويد القدس وتهجير سكان حي الشيخ جراح والهجوم المتكرر على الأقصى ومقاومة الفلسطيني الأعزل، كما نتعرف على حياة سرية للقدس كوجود جماعات صوفية فيها، ونرى وجه السكان الآخر (المحتلون) عندما يزور المستوطنة القريبة من مكان البعثة الأثرية، متتبعاً آثار المجدلية. يوازي الكاتب بين نور والفخار المكسور في الحفريات بينما يشعر نور أثناء التنقيب أنه يلتحم بالأرض، ويصبح معها جسداً واحداً، كأنه يستعيد انتماءه الذي جرد منه وهويته المسلوبة، وثقته بنفسه منفصلاً عن العالم الذي أنكره كما أنكر بطرس المسيح.
قناع لكل البلاد كانت هوية أور قناعاً لنور، بينما نشاهد أن الاحتلال ألبس البلاد كلها قناعا ليخفي الماضي الذي لا مكان له فيه، فأعاد رسم الجغرافيا على هواه، وزرع سفوح الجبال بالأشجار ليدفن بقايا القرى المهجّرة والمدمرة، وآثار الفلسطينيين المهجرين. وهو ما ذكرته عدنية الشبلي في روايتها “تفصيل ثانوي” إذ تختفي من الخارطة عشرات القرى الفلسطينية ويصبح مكانها منتزه كندا، وما يؤكده الكاتب اليهودي أبراهام يهوشع في روايته، كما يخبرنا خندقجي، حيث يجعل الفلسطيني حارسا للغابة ويقطع لسانه فيقوم هذا بحرق الغابة لتظهر الحقيقة عارية في بقايا القرى المطمورة. لكن خندقجي لم يستخدم أسلوب عدوه رغم كل ذلك، بإلغاء وجود الآخر وتاريخه في معرض دفاعه عن وجوده التاريخي، فالبحث الذي أنجزه نور في دراسته كان عن ثورة باركوخبا اليهودية بعد سنة من صلب المسيح ضد الرومان، والتي أخمدت على يد الفيلق الروماني السادس الذي عسكر في منطقة تنقيب البعثة الأثرية. يزيد استخدام القناع الهوية من تمزق نور النفسي حيث يصبح العدو ليس فقط في خارجه بل يعيش في جسده وهذا الالتباس يجعله في ذروة التوتر وعدم تحديد المفاهيم فيشعر بالخيانة والخجل من زميلته في البعثة الأثرية (سماء الحيفاوية) التي كانت تحاول شرح الحقائق للأعضاء الأجانب دون خوف. تنتهي أعمال البعثة بشكل طارئ بعد اشتعال المواجهات بين حماس والاحتلال فيقوم نور بإنهاء تمزقه النفسي بتمزيق الهوية القناع والذي يعني في اللغة العبرية المسخ، مستعيداً كيانه وانتماءه الذي يعلو على زيف الجغرافيا كأنه سماء ناصعة ويشتبك ذلك بإعلانه الانتماء لسماء الحيفاوية التي يراها في لحظة ما صورة المجدلية النورانية. تابع باسم خندقجي في روايته التي نالت البوكر العربية هذا العام، شد القارئ بلغة جميلة ومعبرة صادمة وسرد شيق وغني بالمعلومات يتنقل بين الميتا سرد والاسترجاع والمونولوج عبر أسلوب الرسائل الصوتية التي كان يسجلها البطل لوضع التصور الروائي لروايته أو للتواصل مع صديقه مراد رغم أنه لن يسمعها، و لتفريغ الغضب المحتقن جراء الازدواجية التي يعيشها وتقريعه لنفسه بتهمة الخيانة، كما تجلى الصراع الداخلي في حواراته مع أور شابيرا صاحب الهوية المتخيل في لعبة ذكية لإيصال صوته المقموع والمصادر، في غزارة تاريخية و كثافة أدبية لافتة. هكذا يلعب خندقجي وهو الأسير المحكوم بالسجن مدى الحياة وحيث كتب رواياته ودواوينه الشعرية، لعبة الثنائيات: بين الماضي والحاضر، فعمل نور وعمل مراد صديقه في السجن والذي ينجز رسالة الماجستير عن بنية الدولة الاسرائيلية الكولونيالية عملان يسيران في طريقين متعاكسين زمنياً ومترابطين بدقة. وثنائية المحتل اللاجئ، الحرية والسجن خلف القضبان أو في المخيم المحاصر، إلى ثنائية الهوية في شخصيته المقنعة بينما صديقته سماء وشمت على يدها (حيفا 1948) في دلالة انتماء لا يبطله إلا الموت أما أور شابيرا اليهودي فقد نسي هويته في معطف باعه في سوق الخردوات وأي هوية تباع في سوق الخردوات؟ لنصل إلى الثنائية التي يشير إليها منذ البداية وهي ثنائية الواقع والخيال فنور يتعجب كيف استطاع الخيال أن يقود شعباً لاستملاك بلاد ليست لهم، وتهجير أهلها والاستمرار بالخديعة التي يصفق لها العالم كتعويض عن الهولوكوست، مقارناً بين المخيم والغيتو ومتسائلاً عن مستقبل المخيم بعد سبعين عاماً! الخيال ذاته جعل براون يمنح المجدلية حياة متخيلة، هكذا يكتب الرواة رواياتهم، فهل للفلسطيني أن يعيد حكايته للتاريخ في رواية تقلب الطاولة على رؤوس الرواة جميعاً؟
بعد قطيعة استمرت اثني عشر عاماً، تعود العلاقات السورية السعودية من بوابة فتح الحج وقبول طلبات السوريين لأداء فريضته، على أن تنطلق رحلات الحجاج من مطار دمشق الدولي إلى مطار جدة، في إجراء قد يبدو أنه لن يكون الأخير وسيمهد لإعادة فتح السفارة السعودية في العاصمة دمشق وتوطيد العلاقات بين البلدين.
وكانت لجنة إدارة مصرف سورية المركزي أصدرت التعليمات الخاصة بتسديد عوائد الخدمات المترتبة على أداء مناسك الحج للعام الحالي ممن حصلوا على موافقة وزارة الأوقاف. وتنص التعليمات على إلزام جميع الراغبين بالحج الذين وصل عددهم قرابة 17500 شخص ممن استوفوا شروط العمر، بالإيداع النقدي بالقطع الأجنبي في الحساب المحدد من قبل وزارة الأوقاف لهذه الغاية لدى بنك البركة سورية بكل فروعه.
كلفة الحج تعادل راتب الموظف لـ 30 عاماً
تختزل الآية الكريمة “ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً” حال السوريين الراهنة إزاء تأدية مناسك الحج الذي بات حكراً على شريحة اقتصادية معينة وذلك بسبب نفقات رحلة الحج والتكاليف الباهظة. تقول السيدة الستينية التي كان يراودها حلم الحج منذ سنوات عديدة: “منذ اندلاع الحرب وأنا أتمنى زيارة مكة المكرمة، لم تسمح الأوضاع بسبب تعليق الحج، وعندما عادت الأمور إلى مجاريها أصبحت التكلفة باهظة جداً. الأغنياء فقط من يستطيعون دفع ما يفوق 100 مليون ليرة سورية، هذا رقم فلكي بالنسبة لأسرة سورية متوسطة الحال”. تؤيدها بالرأي فاطمة (48 عاماً) التي تجد أن الحج للمقتدرين مادياً، فلم يعد بمقدور الفقير تأدية فرائض دينه في ظل هذه التكاليف المرتفعة، فالأولوية للطعام والشراب وحبوب الدواء ودفع إيجار المنزل، تختتم حديثها بالقول: “النية موجودة، لكن الاستطاعة عدم”. أما جهاد (55 عاماً) فيرى أن التكلفة الخيالية للحج تعادل راتب الموظف السوري درجة أولى لمدة 30 عاماً، ما يعني أن الأمر مستحيل لأصحاب الدخل المحدود، ويضيف ساخراً: “صارت الكعبة رفاهية ففرضوا علينا جمركة، التضخم أثر على أركان الإسلام”.
بدورها، ترى نورمان (26 عاماً) أن المبالغ الباهظة غير المنطقية التي وصلت ما بين (85 ـ 200) مليون ليرة سورية كتكلفة رسمية لتأدية فريضة الحج من الأفضل أن تدفع لبناء المدارس أو كفالة اليتامى وإطعام الفقراء الذين هم أولى بالمال وتجوز عليهم الرحمة. يوافقها بالرأي عمار الذي يعتقد أن التبرع بهذه الأموال الطائلة للشرائح الأكثر عوزاً أو القيام بعمليات جراحية للمحتاجين قد يكون أكبر أجراً وإحساناً، بينما يجد الشاب الثلاثيني رامي أن يستثمر هذا المبلغ في مشروع شخصي له أو السفر به إلى أوروبا.
أصحاب الجيبة العامرة وحدهم من يحجون
في الوقت الذي يكابد فيه السوريون لتأمين لقمة العيش يومياً ويصارعون للبقاء في ظل تكاليف الحياة الباهظة، غير أن البعض منهم لا تشمله خريطة الفقر ولا حدود الجوع، لتجد الفئات الغنية نفسها قادرة على دفع مبلغ 6 آلاف دولار وفق سعر المصرف المركزي (13400 ألف ليرة سورية) بسهولة كبيرة، لنصبح أمام فجوة طبقية ساحقة. تكفل راتب بدفع مبلغ 125 مليون ليرة سورية لوالدته الستينية لتأدية مناسك الحج، وهي المرة الأولى لها، يقول الخمسيني وهو تاجر قماش في سوق الحميدية بدمشق: “هذا المبلغ يشمل تذكرة الطيران وحجز فندق 3 نجوم ووجبتي فطور وغداء ورسوم التنقل في الحرم، يفتدي المال خدمة الله وطاعته وهو فريضة من استطاع إليها سبيلاً، والحمد لله أنا مقتدر مادياً.”
يعترف عبد الخالق (58 عاماً) أن عمله في تجارة الطاقة الشمسية والدخل الشهري العالي الذي يجنيه يسمح له بتحمل تكاليف الحج، يقول: “لن أفوت الحج خاصة هذه هي المرة الأولى بعد 12 عاماً، سأعتبر نفسي أنني أخذت إجازة شهر كامل.” وقد دفع الرجل قرابة 185 مليون سورية مقابل خدمات مميزة وحجز فندقي 5 نجوم والترتيبات اللوجستية، ناهيك عن تكاليف التبضع التي سيتكبدها هناك.
تناوب الأشقاء الستة المنتشرون في أوروبا في على تقاسم مبلغ 6 آلاف دولار لإرسال والدتهم الخمسينية إلى الحج، حيث اقتطع كل واحد منهم جزءاً من راتبه لتكبد النفقات، يقول عثمان أحد الأخوة: “تشاركت مع أخوتي على اقتسام الكلفة وإسعاد والدتنا التي لطالما حلمت بهذه اللحظة، من غير المعقول أن نحرم أمنا من هذه السعادة، المبلغ ليس بكبير إذا قسم على الجميع، اختصر كل واحد منا بعض النفقات وأجلها للشهر القادم في سبيل تحقيق أمنية الوالدة.”
الحج بالنيابة
في ظل انعدام الدخل وتكاليف الحج الباهظة يلجأ بعض السوريين إلى توكيل شخص يعيش في السعودية للحج بالنيابة عن الآخر، حتى لو كان قادراً جسدياً لكنه عاجزاً مادياً، في محاولة لتقليص النفقات إلى النصف. هذا ما فعلته فادية (50 عاماً) التي فوضت صديقتها المقيمة في السعودية بالحج بالنيابة عنها مقابل دفع تكاليف بسيطة كالتنقل وشراء لباس الحج، وتشرح لنا تجربتها: “لا أستطيع أبداً دفع مصاريف الحج، طلبت من صديقة الطفولة الحج بالنيابة عني، ولم تمانع أبداً، حتى أنها عرضت استضافتي في منزلها، لكن بالرغم من عرضها السخي أجد نفسي عاجزة عن دفع تذكرة الطيران والفيزا، هذا حل جيد ومريح نفسياً ومادياً، إلى حين يرزقني الله والحج شخصياً”.
ويضيف المحلل الاقتصادي عابد فضيلة شارحاً الأمر أن الأثر الاقتصادي في تسيير أفواج الحج “عبء مادي على مدخرات الحجاج السوريين من القطع الأجنبي، لكنه في الوقت ذاته عبء محبب وشرعي ومرغوب على المستوى الاجتماعي، كما أن له آثاراً اقتصادية إيجابية تتمثل بالنفقات الاحتفالية التي تصرف عند عودتهم من الحج إلى بلادهم مثل كثرة الإنفاق على الضيافة والزينات والهدايا لصالح السوق السورية وإنعاشها”.