لم يكتفِ الناس في سوريا من معاناتهم وأوجاعهم اليومية، التي فرضتها ظروف الحرب وما تبعها من أزماتٍ متلاحقة وتردٍ في الواقع الاقتصادي والمعيشي، حتى أتى فصل الصيف، الذي سجل هذا العام ارتفاعاً كبيراً وغير مسبوق في معدلات درجات الحرارة، وكان الأقسى على البلاد منذ عقود، ليزيد من قهر وعذاب الناس، المحرومين من أبسط مقومات الحياة، وليُقلق راحتهم ويؤرِّق نومهم ويحول حياتهم إلى ما يشبه الجحيم، في ظل عجزهم عن توفير أبسط ما يحتاجه الإنسان العادي لمقاومة ظروف الحر الشديد.
في وقتٍ بات فيه تشغيل المكيفات خلال الصيف أمراً طبيعياً وضرورياً يُحرم معظم الناس في سوريا من تشغيل أية وسيلة تبريدٍ، بما فيها مراوح الهواء، في ظل انقطاع الكهرباء التي لا تأتي غالباً سوى أربع ساعاتٍ على مدار اليوم. ومن أراد أن يحصل على نعمة التكييف، وهو أمر بات حكراً على الأثرياء، فسيحتاج إلى مولدات الكهرباء ذات الاستطاعة العالية، والتي تحتاج إلى تكاليف كبيرة نتيجة ارتفاع أسعارها وصعوبة توفير الوقود، أو سيلجأ إلى تركيب ألواح الطاقة الشمسية التي تُكلف عشرات ملايين الليرات.
ولكي يجلبوا بعض البرودة إلى بيوتهم التي تحولت إلى مخزنٍ للحر، لم يبق أمام معظم الناس سوى الاستعانة بالمراوح التي تعمل بواسطة البطاريات، وهو ما حملهم أعباء مادية تفوق طاقاتهم، إذ وصل سعر المروحة العمودية، المزودة بقاعدة متحركة والتي تعمل بواسطة الكهرباء أو البطارية، إلى نحو مليون ونصف المليون ليرة، فيما تخطى سعر المروحة، التي تعمل بواسطة بطارية خارجية، حاجز المليون ليرة، هذا عدا عن سعر البطارية التي ستحتاجها. ورغم أن تلك المراوح قد أصبحت خياراً وحيداً بالنسبة لمعظم الناس، إلا أنها لا تستطيع العمل لوقت طويل، إذ لا تكفي ساعة كهرباء لشحن بطاريتها التي تعمل في أحسن الأحوال لمدة أربع ساعات.
وفي ظل عجز كثير من الفقراء والمُعدمين عن شراء تلك المراوح لجأ الكثير منهم لشراء المراوح المُصنعة بطرقٍ بدائية. وتتكون المروحة من فَراش بلاستيكي بأربع أو خمس شفرات، موصول إلى محرك صغير يعمل بسرعة واحدة، مُثبَّت على زاوية معدنية صغيرة يمكن تعليقها على الجدار. وقد انتشرت تلك المراوح في الأسواق بشكل كبير، ويبلغ متوسط سعرها نحو 70 ألف ليرة، ويمكن تشغيلها بواسطة بطاريات الإنارة البديلة، لكنها، ورغم حجم الإقبال الكبير على شرائها، تفتقد لأبسط شروط الأمان، إذ يمكن أن تتسبب بأذى جسدي إذا تم لمس فَراشها غير المجهز بأي شبك حماية، كما يمكن للفَراش أن يخرج من مكانه خلال دورانه، ويمكن للمحرك أن ينفصل عن القاعدة، نتيجة عدم القدرة على التحكم في سرعة دورانه.
بسطات وعربات لبيع الثلج
في ظل أزمة الكهرباء وشلل عمل البرادات في معظم البيوت بات توفير مياه الشرب الباردة أمراً صعباً بالنسبة لمعظم الناس، وهو ما اضطرهم لشراء الثلج بشكل يومي، ليتحملوا أعباء مادية أثقلت كاهلهم، هذا إلى جانب صعوبة توفير الثلج في كثير من الأحيان، نتيجة عجز كثير من البقاليات والمحلات التجارية عن تأمين التبريد اللازم لحفظه. وفي ظل هذا الواقع انتشرت منذ بداية فصل الصيف، في الشوارع وعلى الأرصفة، بسطات وعربات لبيع قوالب الثلج الكبيرة، حيث يقوم الباعة بتقسيم القالب، الذي يباع كاملاً بأكثر من 25 ألف ليرة، إلى نحو ستة قطع، تباع القطعة، التي تزن نحو كيلو ونصف كيلو غرام، بسعر يتراوح بين خمسة وستة آلاف ليرة. وإذا ما أرادت العائلة أن تستعين بالثلج لتبريد الماء فستحتاج بالحد الأدنى لقطعتين أو لثلاثة أكياس من مكعبات الثلج، هذا في حال تم وضعه في حافظة للبرودة، وهو ما سيكلفها نحو عشرة آلاف ليرة يومياً، أي 300 ألف ليرة شهرياً، ما يعادل راتب موظف حكومي تقريباً.
ورغم أن قوالب الثلج المباعة على العربات والبسطات قد أوجدت حلاً لمشكلة توفر الثلج، إلا أنها قد تكون عرضة للتلوث وغياب الشروط الصحية، فهي غالباً تُلفّ بمواد غير صحية كالخيش والبطانيات، وتتعرض لأوساخ وغبار الشوارع، هذا بالإضافة لعدم معرفة مصادر معظمها، فقد تكون مُصنعة من مياه ملوثة وغير صالحة للشرب، وفي معامل غير مرخصة ولا تخضع لشروط التعقيم والرقابة الصحية، لذا قد تؤثر سلباً على صحة الناس وتكون سبباً لبعض الأمراض، كونها غير صالحة للاستهلاك البشري، إذ كان استخدامها ينحصر سابقاً في تثليج الأسماك وبعض أنواع اللحوم.
برادات عاطلة عن العمل
اعتاد معظم الناس فيما مضى على تخزين وتفريز الأطعمة والمؤونة في ثلاجات بيوتهم، لتوفر عليهم الكثير من الجهد والأعباء الإقتصادية، وتتيح لهم إمكانية تحضير العديد من أصناف الطعام في وقت قصير. ولكن نتيجة ارتفاع درجات الحرارة وغياب الكهرباء تحولت معظم البرادات في بيوتهم إلى “نملية”، ليحرموا من أبسط عاداتهم اليومية التي كانت تغني مطابخهم، ويتخلوا عن عادات المؤونة وتخزين الطعام، فباتوا يطهون كميات قليلة منه خوفاً من تعرضه للتلف، ويكتفون بشراء كميات محدودة من المواد الغذائية كالألبان ومشتقاتها والخضار والفاكهة واللحوم، فيما لجأ البعض لوضع عبوات المياه في برادات الجيران، الذين تتوفر لديهم المولدات الكهربائية أو أنظمة الطاقة الشمسية، واضطر البعض الآخر للعودة إلى الطرق البدائية في تبريد الماء، كوضعه في أباريق الفخار، ولفِّ عبوات المياه بأكياس الخيش والأقمشة الصوفية لتحافظ على برودتها.
وفي محاولة بائسة لبعث الحياة في براداتهم التي أصبحت شبه خاوية، لجأ بعض الناس للاستعانة بقوالب الثلج وعلب المياه المجمَّدة ليضعونها في الثلاجة بجوار الأطعمة والمؤونة، ليحافظوا على صلاحيتها لأطول فترة ممكنة، حالهم كحال الكثير من محلات بيع اللحوم التي باتت تغطي بضاعتها بقطع الثلج الكبيرة، لتحافظ عليها من التلف، في ظل ارتفاع درجات الحرارة، وتكتفي بعرض كميات قليلة منها، نتيحة عجزها عن تشغيل مولدات الكهرباء التي ستُحمِّلها أعباء مادية كبيرة، تجعل عملها غير مجدٍ، وتضطرها لرفع أسعار بضاعتها التي تراجع حجم الإقبال عليها بشكلٍ كبير.
أزمة المياه تفاقم مرارة الصيف
في وقتٍ يحتاج فيه الناس للاستحمام لأكثر من مرة يومياً لمقاومة حر الصيف والتعرق الشديد، ساهم الانقطاع الطويل للكهرباء في خلق أزمة مياه في عددٍ من أحياء العاصمة ومحيطها وبعض المدن الكبيرة ذات الكثافة السكانية العالية، وذلك نتيجة شلل عمل المضخات المركزية، التي تضخ المياه من الآبار والخزانات الرئيسة إلى الشبكات التي تغذي الأحياء والحارات، لتحرم كثيراً من البيوت من وصول المياه إلى خزاناتها، وخاصة في ظل شلل عمل المضخات المنزلية. كما شهدت بعض المناطق عمليات تقنين في المياه، التي يتم وصلها ليومٍ واحد مقابل يوم أو يومين قطع، فيما اقتصرت مدة توريدها إلى مناطق أخرى على أربع ساعات على مدار اليوم وأحياناً ساعتين فقط. وقد أجبر ذلك الواقع الكثير من الناس على نقل المياه إلى بيوتهم بواسطة الغالونات، التي يملؤونها من البقاليات وبيوت بعض الجيران، أو على تعبئة خزانات بيوتهم من سيارات الباعة الجوالين، التي نشطت في الآونة الأخيرة بشكل كبير في عدد من المناطق كمدينة جرمانا، وقد وصل سعر برميل الماء لأكثر من خمسة عشر ألف ليرة، وهو ما شكل عبئاً مالياً إضافياً على الناس العاجزين حتى عن توفير لقمة عيشهم.
معاناة أخرى
ساهمت ظروف النزوح، خلال سنوات الحرب، في ازدياد حجم الكثافة السكانية بشكل كبير في دمشق ومحيطها وأريافها، وخاصة في المدن الكبيرة كجرمانا وصحنايا، وهو ما فاقم حالة الاختناق والاكتظاظ والازدحام البشري، وأدى لتزايد أعداد السيارات الخاصة والآليات ووسائط النقل والتكاسي، لتساهم بدورها بمزيدٍ من الاختناق وتلوث الهوء وازدحام الشوارع، وبالتالي في رفع معدلات درجات الحرارة، لتفاقم حجم المعاناة مع فصل الصيف.
وفي السنوات الماضية ازدادت نسبة البناء العشوائي في محيط دمشق وأريافها بشكل كبير، لتستوعب أعداد السكان القادمين من المحافظات الأخرى، وخاصة في مناطق المخالفات والعشوائيات، وقد ساهم شكل الأبنية العشوائية وغير المنظمة وتقاربها بل والتصاقها ببعضها في قتل مساحات التنفس وانعدام فرص التهوية أمام السكان، لتُطبق الخناق عليهم وتزيد من حرارة المكان.
ونتيجة تزايد الازدحام السكاني وانقطاع الكهرباء اكتظت معظم الشوارع والأرصفة وبعض شرفات البيوت بمولدات الكهرباء، التي يُشغلها السكان وأصحاب المطاعم والمقاهي والمحلات التجارية، ليساهم دخانها الكثيف في تلوث الهواء ورفع حرارة المكان وخلق شعورٍ من الاختناق لدى العابرين في الشوارع، هذا عدا عن ضجيج أصواتها التي تجعجع طوال الوقت لتصدِّع رؤوسهم وتطغى على أحاديثهم.
وفي ظل صعوبة التأقلم مع الحر الشديد داخل منازلهم، لم يبق خيار أمام كثير من الناس سوى الهروب منها إلى الحدائق العامة، المزدحمة بهم ليل نهار، ليفترشوا الأرض تحت ظلال الأشجار، حاملين معهم أطعمة ومشروبات تكفيهم لقضاء أطول وقت ممكن، فيما لجأ البعض إلى دخول المساجد، لقضاء بعض الوقت فيها، وخاصة خلال فترة الظهيرة، لينعموا بالقليل من هواء التكييف وبشرب الماء البارد.
كانت السباحة في نهر الخابور أو الفرات أحد النشاطات المحظورة علينا حينما كنا صغاراً إن لم يكن برفقتنا أحد من ذوينا، وذلك لأنهما كانا كغيرهما من الأنهار السورية في النصف الأول من التسعينيات خطرين بفعل استمرارية التدفق ومن الخطورة بمكان السباحة فيهما، وإن بقي الفرات بنسبة ما يتدفق حتى وقتنا الحالي، فإن أنهاراً مثل «الخابور وجغجغ – وزركان و – البليخ – والساجور”، باتت أنهاراً شبه جافة، ويمكن تشبيهها بـ “الوديان السيلية”، لعدم استقرار الجريان فيها وهي مرهونة بارتفاع معدلات الأمطار، والحال ذاته ينطبق على أنهار أخرى في سورية مثل العاصي وبردى واليرموك والكبير الجنوبي والكبير الشمالي وقويق وعفرين والنهر الأسود، إضافة إلى أنهار صغيرة في منطقة الساحل السوري، كلها باتت شبه جافة، وجريانها لم يعد يصل إلى مستويات التدفق التي كانت تعد طبيعية واعتيادية في ثمانينات القرن الماضي، وهو مرتبط بالأمطار وحسب.
انعكاس للمشكلة
يمكن اعتبار أزمة مياه الشرب التي تعاني منها مدينة الحسكة و54 منطقة وقرية تتبع لها في الريف الغربي انعكاساً لمستوى “الأمن المائي”، الذي تعيشه سورية حالياً، فالمحطة المشكلة من 22 بئراً كانت تعد المصدر الوحيد لمياه الشرب لهذه المنطقة قبل دخول القوات التركية إليها في تشرين الأول من العام 2019، وكانت “آبار علوك”، تعد في حسابات الحكومة السورية مصدراً احتياطياً وبديلاً لـ “محطة آبار رأس العين”، التي دخلت خارطة الحرب في وقت مبكر من عمر الحرب في سورية، وخرجت عن الخدمة بفعل سرقة محتوياتها بعد خروجها عن سيطرة الدولة في العام 2013، وحين البحث عن مصادر بديلة لـ علوك في المحافظة التي تحتوي ثلاثة سدود رئيسة هي “الشرقي – الغربي – الجنوبي”، تقول مصادر هندسية لـ صالون سورية إن المسطحات المائية للسدود الثلاثة لم تكن ضمن خيارات البدائل، فبحيرة السد الغربي في أدنى مستوياتها، وتتصل مع بحيرة السد الشرقي ذات العمق الضحل وبالتالي ارتفاع مستوى العكارة فيها لمعدل غير قابل للتعقيم، أما بحيرة السد الجنوبي والتي تعد الأكبر لم تكن صالحة للشرب بسبب ارتفاع مستوى الشوائب الثقيلة ضمن العينات المائية التي قطفت وأرسلت من قبل المؤسسة العامة لمياه الشرب في الحسكة إلى مخابر الوزارة لتحليلها والحصول على النتيجة التي كانت متوقعة قياساً على مستوى التسرب النفطي الذي شهدته البحيرة بين العامين 2015-2016 من حقول النفط الواقعة إلى الشرق من البحيرة وتعرف باسم “حقول البريج”. وعلى الرغم من أن الحكومة السورية كانت قد بدأت في مرحلة ما قبل الحرب بمشروعين ضخمين في المنطقة، الأول استجرار مياه نهر الفرات لتكون مياهاً للشرب في محافظة الحسكة، ولم يكتمل المشروع بسبب الحرب، والثاني وضع حجر الأساس في آذار من العام 2011 لاستجرار الحصة السورية من مياه نهر دجلة نحو منابع الخابور في رأس العين بما يعني أن المنطقة ستكون مؤمنة من حيث توافر المياه وتوسيع شبكات الري الزراعي، لكن المشروع لم يعد مسافة أبعد من “حجر الأساس”، بفعل الحرب أيضا. تقول معلومات نقلتها مصادر هندسية لـ صالون سوريا، إن مشروع استجرار مياه نهر الفرات اكتمل وبالفعل وصلت كميات تجريبية إلى خزانات الضخ التابعة لمؤسسة المياه في مدينة الحسكة، لكن لا يبدو أنها ستدخل ضمن كميات كافية للمدينة وما يتبعها من مناطق، وسيبقى نحو مليون ونصف الميلون من السكان متأثرين بالصراع السياسي بين القوات التركية وقوات سورية الديمقراطية الذي تحولت “محطة علوك”، إلى إحدى أهم أوراقه، وحتى الوصول إلى حل يعيش السكان على ما توفره الصهاريج من مياه بسعر يصل إلى 7000 ليرة سورية للبرميل الواحد، أي تكلفة أسبوعية تصل إلى 90 ألف، وشهرياً إلى 360 ألفاً، أي ما يعادل 24 دولارا شهرياً في ظل مستويات دخل لا تزيد عن 100 دولار شهرياً في أحسن الأحوال.
الفرات.. تحت رحمة السياسة
كشفت معلومات حصل عليها “صالون سوريا”، من مصادر هندسية أن العاملين في سد الفرات يحاولون الوصول بمخزون البحيرة إلى الحد الأعظمي بعد سنوات من عدم الوصول إليه، وذلك بالاستفادة من مستوى تدفق مستقر عند حدود 350 متراً مكعباً في الثانية من الأراضي التركية، علماً أن الاتفاق الذي وقع مع أنقرة في ثمانينيات القرن الماضي ينص على ضمان الجانب التركي لتدفق لا يقل عن 550 متراً مكعباً في الثانية، وتلتزم سوريا بتمرير 54 بالمئة من الوارد المائي نحو العراق، ويعد “سد البعث”، في الرقة آخر السدود الثلاثة التي بنتها الحكومة السورية على مجرى النهر إضافة إلى سدي الفرات وتشرين. وتقول المصادر ذاتها إن قلة الوارد قد تلمس في انخفاض مستوى النهر في مناطق الرقة قبل سد البعث، أما ما بعد السد وصولاً إلى البوكمال قد لا يلمس من قبل السكان انخفاض مستوى النهر إلا إن قل الوارد لمستوى أقل من 200 متر مكعب بالثانية من الأراضي التركية، وهذا الانخفاض ينعكس على عدة مستويات، أولها من ناحية جودة المياه التي تنقل من النهر إلى محطات ضخ مياه الشرب، والثاني بتوقف محطات الرفع والضخ الخاصة بالري، والثالث من حيث انتشار الحشرات وارتفاع مستوى التلوث في بعض مناطق النهر الأمر الذي يساعد على انتشار الأمراض الوبائية في مناطق ريف دير الزور والرقة.
وفي هذا الصدد يقول أطباء من محافظة الرقة إن هناك حالات اشتباه بعودة مرض “كوليرا”، للظهور في مناطق الرقة ودير الزور خاصة في المناطق الواقعة إلى الشرق من نهر الفرات بسبب ارتفاع مستوى التلوث وانعدام التعقيم في محطات ضخ مياه الشرب، كما إن المسطحات المائية والسواقي التي تأخذ مياهها من الفرات تحولت في أجزاء منها إلى ما يشبه المستنقعات الأمر الذي يساعد على تكاثر الحشرات بشكل كبير في ظل غياب عمليات مكافحتها، ما يؤدي إلى الاشتباه بوجود مرضا “الملاريا”، عند بعض المرضى، ولا يمكن البت في تشخيص هذا المرض تحديداً لانعدام وجود القدرات المخبرية في مناطق الرقة ودير الزور التي تسيطر عليها “قسد”، وأخطر ما في الأمر أن السكان ولقلة وصول مياه الشرب لقراهم يعتمدون على مصادر غير آمنة لمياه الشرب ما يزيد من معدلات الإصابة بـ الأمراض الوبائية أو حتى الوهمية.
ري بالملوث
الأمر ذاته ينسحب على مناطق دمشق وريفها التي تعاني من قلة الوارد المائي من نهر بردى بفروعه كاملة خلال فترة الصيف وتحول أجزاء كبيرة منه إلى مجرى للصرف الصحي فقط. وبحال مماثلة تقريباً تعيش الأراضي الزراعية في مناطق حوض العاصي في محافظتي حماة وحمص، ونتيجة لاعتماد مصادر ملوثة لري المزروعات فإن احتمالية انتشار أمراض مثل “الكوليرا”، تبدو مرتفعة بشكل كبير.
يقول “أبو مصطفى”، في حديثه لـ صالون سوريا: أبلغ من العمر ستين عاماً، وأذكر أن بردى في سبعينيات القرن الماضي وحتى منتصف الثمانينيات كان مقبولاً، لكنه ومنذ أزيد من 35 عاماً تحول إلى مجرى للصرف الصحي صيفا، ونهر ملوث بنسبة كبيرة خلال فترة الشتاء إلا إن كان مستوى التدفق كبيراً في السنوات التي تشهد أمطاراً غزيرة، وعلى الرغم من معرفتي وغالبية الفلاحين بتلوث مياه بردى بمعدلات عالية إلا أننا لا نجد بديلاً لري المساحات الزراعية التي نملكها، لكن لا بد من الإشارة إلى أن ازدياد عدد المعامل والورشات المرخصة وغير المرخصة التي تصل مخلفاتها إلى النهر أحد أهم أسباب ارتفاع معدل تلوث المياه، ومع ارتفاع تكاليف حفر الآبار وصعوبة الحصول على تراخيص لذلك، يبدو أننا سنبقى نروي مزروعاتنا من بردى، أو سنقوم بحفر آبار بطرق غير نظامية ولو كان الأمر مكلفاً.
في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية في ريف حلب الشمالي، يعتمد السكان على حفر الآبار في ظل غياب وجود سلطات معنية بتنظيم استخراج المياه الجوفية التي تُعد الخزان الاحتياطي لسورية في سنوات الجفاف، ويقول “أبو ميلاد”، القاطن بالقرب من مدينة عفرين: لا يمكن الوصول إلى النهر، فأرضي بعيدة عنه، وهو أساسا شبه جاف في فصل الصيف، لذا حفرت بئراً بتكلفة عالية جداً قبل سنوات تعادل 5000 دولار أمريكي تقريبا، وهو الخيار الوحيد لضمان وجود مياه تؤمن عائلتي على مستوى الشرب ومزرعتي على مستوى الري الزراعي.
ظروف الحرب وتبعاتها، العمليات العسكرية التي أدت لإحراق واقتطاع وتجريف مساحاتٍ كبيرة من الأشجار في مختلف أنحاء البلاد، عمليات التحطيب الجائر، ازدياد أعداد المفاحم التي تعتمد على الأشجار، واندلاع الحرائق الكثيرة التي التهمت مساحاتٍ واسعة من الغابات والأحراج، كل ذلك أدى إلى تراجع حجم الغطاء النباتي، الذي مازال يتآكل يوماً بعد يوم، وبات يُنذر بأخطار بيئية كارثية على المدى القريب، قد تترك آثارها السلبية على الأجيال القادمة، مع ازدياد حجم التلوّث البيئي وتغير طبيعة المناخ وخسارة التنوع الحيوي وانتشار الأمراض التي يمكن أن يخلّفها غياب المساحات الخضراء، التي سيحتاج تعويضها إلى سنواتٍ طويلة.
في ظل تفاقم أزمتي الوقود والكهرباء اللتين تشهدهما البلاد منذ سنوات الحرب وحتى اليوم، لجأ كثير من الناس لاستخدام الحطب في التدفئة وطهو الطعام، فاضطروا لاقتطاع الأشجار وشراء الحطب من الأسواق التي انتعشت خلال السنوات الماضية، بعد تحول عمليات التحطيب الجائر إلى تجارة رائجة، ولجوء الكثيرين ممن جعلتهم ظروف الحرب فقراء وعاطلين عن العمل لمهنة بيع الحطب، كونها سهلة ومتاحة وتحقق أرباحاً جيدة. ولم يقتصر استخدام الحطب على البيوت فقط، وإنما انتشر استخدامه بشكلٍ كبير في كثير من المطاعم والأفران ومحلات الفطائر كبديل عن مادتي الغاز والمازوت اللتين بات من الصعب توفيرهما.
ولم تقتصر عمليات التحطيب الجائر، التي انتشرت في أغلب المحافظات السورية، على الأحراج والغابات ومختلف أنواع الأشجار البرية، بل طالت الكثير من أشجار الحدائق العامة والشوارع. ففي دمشق مثلاً، وبحسب وكالة الأنباء الرسمية سانا، نظمت مديرية الحدائق نحو 100 ضبط مخالفة لقطع أشجار مختلفة الأحجام خلال شتاء العام الماضي، هذا بالإضافة لضبط مستودعات أخشاب مُخالفة وغير نظامية، فيما تحدَّث مدير الحدائق في محافظة دمشق سومر فرفور عن ضبط أكثر من 25 حالة قطع للأشجار ضمن المسطحات الخضراء، وعن تعرض نحو 40 شجرة صنوبر، عمرها أكثر من 20 سنة، للتحطيب في منطقة عقدة القابون، وعن توقيف 15 شخصاً كانوا يقومون بقطع الأشجار والأغصان في الشوارع والأماكن العامة.
الغوطة التي كانت رئة العاصمة وسلة غذائها، وكغيرها من معظم مناطق ريف دمشق، تراجعت مساحات غطائها النباتي خلال سنوات الحرب وما بعدها، لتتحول إلى منطقةٍ شبه جرداء، فإلى جانب ما خسرته خلال العمليات العسكرية، التهمت عمليات التحطيب ما نجا من أشجارها، لتطال معظم بساتينها التي كانت تمدُّ أسواق دمشق بالفاكهة، وهو ما أدى لفقدان كثيرٍ من أنواع الأشجار التي كانت الغوطة تتميز بها، كالجوز البلدي والمشمش. وبعد أن كانت من أخصب الأراضي السورية، ساهم غياب الغطاء النباتي بتراجع خصوبة تربتها التي كانت تستمد المواد العضوية من مخلفات الأشجار، كبقايا الثمار والأوراق وغيرها، كما ساهم أيضاً في تغيير مناخ المنطقة، إذ كانت أشجارها تساهم في الحفاظ على الرطوبة الجوية وتنقية الهواء.
وفي محافظة السويداء لم تعد عمليات التحطيب، المستمرة منذ سنوات، تقتصر على العمل الفردي بل أصبح هناك مجموعات وعصابات مسلحة تعمل ليل نهار، مستعينةً بالمناشير الآلية، لتلتهم مساحات واسعة من الأحراج التي تضم أشجاراً معمِّرة، كأشجار السنديان، يصل عمر معظمها إلى مئات السنين، وخاصة في منطقة ظهر الجبل، التي لطالما كانت، بما تمتلكه من مناظر طبيعية ساحرة وهواء نقي، متنفساً لسكان المدينة ومقصداً للتنزه والاستجمام. وفي كثير من الحالات طالت عمليات التحطيب بعض البساتين والكروم لتفني أشجارها المثمرة التي يعتاش أصحابها من محاصيل ثمارها. ولم تعد عمليات التحطيب في المحافظة تقتصر على فصل الشتاء، بل باتت تنشط حتى خلال فصل الصيف، حيث تقوم بعض عصابات التحطيب بتخزين ما تقطعه من أشجارٍ في المستودعات، لتباع كأخشاب لبعض الورش الصناعية، أو كحطب خلال فصل الشتاء.
وطوال السنوات الماضية لم تتوقف الاعتداءات المتواصلة على الغابات السورية، سواء من قبل تجار الحطب، الذين يبيعونه لبعض المحافظات، أو من قبل بعض الفقراء الذين وجدوا في مهنة التحطيب مصدر رزقٍ أفضل من المهن الأخرى، التي تراجع حجم مردودها المادي بشكل كبير، وخاصة مهنة الزراعة التي تأثرت بارتفاع أسعار الأسمدة وأجور النقل وصعوبة توفير المياه والوقود. هذا بالإضافة للجوء كثير من أبناء المناطق الجبلية الباردة لتحطيب الأشجار المحيطة بهم، بما فيها أشجارهم، خلال فصل الشتاء لينعموا ببعض الدفء في ظل شح كميات المازوت المدعوم وارتفاع أسعاره في السوق السوداء، ووصول سعر طن الحطب لنحو ثلاثة ملايين ليرة.
نشاط عمل المفاحم
خلال سنوات الحرب وما بعدها ازدادت أعداد المفاحم في الساحل السوري بشكل كبير، وارتفعت وتيرة نشاطها على نحوٍ غير مسبوق، بعد أن تحولت إلى مصدر رزقٍ للعديد من المُعدمين والعاطلين عن العمل، وإلى تجارة رابحة لكثير من المتنفذين، خاصةً بعد تراجع استيراد مختلف أنواع الفحم، واعتماد معظم المطاعم والمقاهي وأسواق بيع فحم الأراكيل والشواء على الإنتاج المحلي.
وقد ساهم نشاط عمل المفاحم، التي تعتمد على تحويل الأشجار إلى فحم، في اقتطاع الكثير من أشجار الغابات والأحراج، وفي نشوب كثير من الحرائق، التي قد تندلع نتيجة تطاير شرر بعض الأخشاب والعيدان والقشور المشتعلة، لتلتهم مساحات واسعة من الأشجار، خاصة أن مواقع المفاحم تتواجد عادةً ضمن الغابات والأحراش وفي أماكن بعيدة يصعب الوصول إليها، وهو ما يشكل الكثير من المخاطر البيئية في ظل انعدام أبسط الشروط الفنية ومقومات الأمان والسلامة.
ويرى كثيرون أن بعض أصحاب المفاحم قد يكون لهم دور مباشر في افتعال الحرائق، لكي يقوموا باستثمار المساحات التي تعرضت للحرائق وتحويل أشجارها المحروقة إلى فحم، فيما قد يلجؤون لافتعالها، في بعض الأحيان، لكي يغطوا على عمليات قطع الأشجار التي تستخدمها المفاحم.
وإلى جانب التهامها لمساحاتٍ واسعة من الأشجار تَتسبَّب المفاحم في العديد من الأضرار البيئية، كونها تنتج كميات كبيرة من غاز أول وثاني أوكسيد الكربون وغيرها من الغازات والأبخرة التي تؤثِّر على الغطاء النباتي وحياة بعض الحيوانات، كما أنها تنتج كميات كبيرة من مركبات الهيدروكربونات، التي تساهم بشكل مباشر بالإصابة بأمراض السرطان.
سوريا تفقد أكثر من ثلث غاباتها
تشير بعض التقارير إلى فقدان سوريا نحو ثلث غاباتها خلال سنوات الحرب وما بعدها، وذلك نتيجة الحرائق الكثيرة، التي باتت تتكرر كل عام، ونشاط عمل المفاحم وعمليات التحطيب الجائر التي ساهمت أيضاً في اندلاع كثير من الحرائق، نتيجة تساقط بقايا الأغصان والأوراق اليابسة بين الأشجار الخضراء لتكون بمثابة وقود أولي لأي شرارة قد تتحول إلى حريقٍ كبير.
وتشير إحصاءات وزارة الزراعة إلى أن أعداد الحرائق، التي اندلعت في سوريا بين عامي 2011 و2018، قد تجاوزت الـ 3400 حريق، وأن المساحات التي تم إخماد الحرائق فيها قد تجاوزت 220 ألف دونم. وبحسب بعض المصادر المحلية فقد تم تسجيل نحو 400 حريق في عام 2014، التهمت نحو 1925 هكتاراً من الغابات والأحراج، وتسجيل ما يزيد عن 500 حريق في عام 2015، التهمت نحو 2867 هكتاراً، فيما سُجل نحو 819 حريقاً في عام 2016، التهمت نحو 2000 هكتار.
وقد شهد العام 2020 سلسلة حرائق كبيرة ، لم تعرف البلاد لها مثيلاً من قبل، من حيث الضخامة والكثافة وحجم الأضرار، التهمت مئات الدونمات والهكتارات، وتوزعت بين محافظات اللاذقية وأريافها، وطرطوس وريفي حمص وحماه، هذا بالإضافة لأرياف جبلة وصافيتا ومنطقة حميميم وأحراش القرداحة ومحيط جبل الأربعين وغيرها، وقد اقتربت النيران في بعض المناطق من منازل المدنيين، ووصلت إلى مستودعات التبغ وأدت لانهيار جزء من المباني، كما أدت إلى مقتل عددٍ من الأشخاص وإصابة العشرات بجروح وحالات اختناق. وقد تدخل الطيران الروسي حينها لإخماد الحرائق التي استمرت لعدة أيام، وتصدر هاشتاغ “سوريا تحترق” مواقع التواصل الاجتماعي.
أضرار بيئية كارثية
يلعب الغطاء النباتي دوراً بيئياً وحيوياً هاماً، إذ يقوم بتنقية الهواء، وتخزين الكربون والحفاظ على الرطوبة، لذا يؤدي فقدانه إلى حدوث تغيرات مناخية كبيرة وإلى تراجع كميات الأمطار وارتفاع درجات الحرارة وانعدام إمكانية امتصاص غازات الاحتباس الحراري، كما يؤدي فقدانه أيضاً إلى إبقاء التربة معرضة لأشعة الشمس بشكل دائم، وهو ما يفقدها رطوبتها وخصوبتها، ويؤثر على حياة بعض النباتات الصغيرة والأشنات والطحالب التي تعيش في ظلال الأشجار. وإلى جانب ذلك، تلعب جذور الأشجار دوراً هاما في تماسك التربة وحمايتها من الانجراف، وخاصة في المناطق الجبلية، وتساهم في نشر الرطوبة تحت الأرض، وبالتالي في إحياء الكثير من الأعشاب والنباتات البرية المفيدة للطبيعة، لذا غالباً ما تصاب المناطق غير المُشجَّرة بالجفاف وانجراف التربة.
من جهة أخرى، أدى تراجع الغطاء النباتي في سوريا إلى إحداث خللٍ في التنوع الحيوي، وإلى تراجع أعداد الحيوانات البرّية، التي تشكل جزءاً من الهوية البرية للغابات السورية، فالحيوانات الكبيرة والمتوسطة الحجم والتي تحتاج للاختباء بين الأشجار الكثيفة والمتقاربة، لم يبقَ لها مكان مناسب للعيش في كثير من الأحراج والغابات التي تآكلت بشكل كبير، فيما حُرم الكثير من الحيوانات الصغيرة من أي مصدر غذائي بعد غياب الأشجار التي كانت تتغذى على ثمارها، وقد ساهم هذا كله في تهجير بعض أنواع الحيوانات التي باتت مهددة بالانقراض، ومنها غزال اليحمور والضبع السوري والذئب العربي والنيص، هذا بالإضافة لاختفاء الكثير من أنواع الطيور من أماكن عدة، كطائر الحسون والحجل وبعض طيور البوم، وهو ما سيشكل خسارة وطنية كبيرة في التنوّع الحيوي الذي لطالما اشتهرت به سوريا لسنوات طويلة.
في ظل الظروف الصعبة والمتدهورة، يلجأ الكثير من الناس في سوريا إلى السحر لحل مشكلاتهم الشخصية المأزومة. تغّص دكاكين الشعوذة بالمريدين على نحو يفوق الوصف، تبيع الوهم لناس يركضون وراء بصيص صغير من الأمل ويدفعون الملايين لشراء ما يعتقدون أنه حلول.
أنفقت سمر (37عاماً) عشرات الملايين ثمناً لهوسها المجنون بزيارة رجال السحر والتبصير وجميع أعمال التنجيم دون أي شعور بالذنب في حالة تصل إلى درجة الإدمان، تقول: “منذ قرابة عشر سنوات وأنا مهووسة بقراءة الفنجان والطالع والكف والحسابات الرقمية. بدأ الأمر كتسلية ثم سرعان ما تحول إلى هوس مرضي، عندما أسمع عن أحد ما ماهر في هذه الأمور أقصده حتى لو كان في مكان بعيد جدا”.
لم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل بلغت درجة الهوس بالشابة التي تعمل صيدلانية لأن تتواصل مع دجال في المغرب كانت قد سمعت عن مهارته في ربط الزوج عن كل النساء باستثنائها، وتتابع حديثها: “لدي مخاوف من أن يهجرني زوجي، أو يتزوج بأخرى، يخفي عني دوماً تفاصيل عمله ولا يسمح لي بإمساك هاتفه. لدي شكوكي حول خيانته، لذلك ألجأ إلى أهل التنجيم لمعرفة أخباره وعما إذا يوجد امرأة غيري في حياته، في إحدى المرات دلوني على منجم معروف في المغرب، وتواصلت معه عبر الواتساب، طلبت منه حجاب لربط زوجي عن النساء وعدم زيارة أهله”.
بالرغم من أن أحد الأسباب التي تدفع لأعمال السحر هو الثراء، غير أنها تبذر مالاً كثيراً لقاء هذه الرغبة، ما يجعل المعادلة غير منطقية، تقول: “لا أستطيع ذكر الرقم على وجه الدقة، لكنه يتجاوز 100 مليون على مدار السنوات، كنت وما زالت أقصد أي أحد أسمع بوجوده سواء في دمشق أو في أي محافظة سورية”.
“معملك عمل” بهذه الكلمات تلقت الشابة سارة تعليقات لا متناهية على منشورها في إحدى مجموعات “الفيسبوك” حول شعورها المتواصل بالتعب والإرهاق والبكاء الهستيري والهلوسات وعدم القدرة على النوم ليلاً. بعد أن أجرت تحاليل طبية اتضحت أنها سليمة، تقول: “جافاني النوم منذ شهرين، تجتاحني نوبات هلع وبكاء هستيري غير مبرر، كما كنت أرى ملامح أشخاص غير واضحة، سمعت كثيراً عن أعمال السحر لكن لم يخطر ببالي أن الأمر سيحدث معي بالفعل”.
امتثلت الشابة لنصائح الفتيات واحتمالية إصابتها بالسحر وأن عليها البحث جيداً في منزلها عن قطعة مشبوهة مرمية في زاوية ما، وبالفعل عثرت الفتاة على قطعة قماش مهترئة أسفل عامود سريرها بعد أن قلبت بيتها رأساً على عقب بالبحث، وتضيف: “بحثت والدتي وأختي في كل شبر بالمنزل وفي جميع الأماكن غير المتوقعة، وبعد التنقيب الدقيق لمدة ست ساعات وجدنا خرقة قماش ممزقة ملتفة على بعضها بعضاً بإحكام، قمنا بفكها بصعوبة لنجد ورقة صغيرة مكتوب عليه طلاسم غير مفهومة. تكمل الشابة حديثها: “اتصلت أمي على الفور بجدتي لترشدها ما العمل، فنصحتها بإحراقها على الفور ورش ملح مقروء عليه آيات قرآنية في أرجاء المنزل، وبالفعل تحسنت بعد ذلك بكثير وعدت إلى حالتي الطبيعية”.
صور عارية بحجة فك السحر
يستغل المنجمون حوائج الناس وتعلقهم بقشة الأمل للخلاص من مشاكلهم ووضع حد نهائي لمعاناتهم، فيمتثل الكثيرون والكثيرات لرغبات المنجمين وطلباتهم الغريبة دون وعي. وفي الوقت نفسه، هناك بعض الناس ممن لا يذعن لها، كحال فادية الذي دفعها تدهور حالتها الصحية بسبب عمل مكتوب لها من قبل طليقها أن تلجأ إلى أحد الدجالين للخلاص، إلى جانب العراقيل التي تواجهها طوال عامين، تقول لنا عن تجربتها: “عشت جحيماً لا يطاق مع زوجي السابق، لجأت إلى أحد المنجمين الذي بدأ يطلب مني صوراً عارية للقسم الأيسر من جسمي بحجة تطهيري من السحر الذي يتسبب لي بكل هذا الألم، وأنه سيستدعي الجن لخدمته في طرد العمل ورده إلى صاحبه.” تُضيف قائلة: “يتذاكى البعض ولا يطلب صورة لكامل الجسد، بل جزءاً منه للتمويه كي يبرهن أن قصده شريف ولمتطلبات العلاج، باعتبار أن الشخص الذي قد يبيت نوايا سيئة سيطلب حتما صورة طولية لأغراض جنسية بحتة، لكني لم أصدقه وقطعت التواصل معه”.
لم تكن أناهيد بمنأى عن الطلبات الغريبة لمزاج رجال التنجيم تحت مسمى الاتصال بالجن السابع ونيل مبتغاها، تقول السيدة: “لم أنجب لزوجي طفلاً ذكراً ويهددني منذ سنوات بالزواج من امرأة أخرى كي تنجب له ذكراً يحمل اسمه، ذهبت إلى أحد الشيوخ لصنع عمل له كي يمنع ذلك.” تتابع حديثها: “ينجح الأمر لكن يكلفني مبالغ كبيرة مع صور لأجزاء من جسدي، أحياناً يطلب صورا لقدمي أو أصابع يدي وهي مطلية باللون الأسود، أو ارتداء ملابس داخلية باللون الأحمر، لا أمانع في الأمر طالما أن زوجي لن يكون مع امرأة غيري”.
ضغوط الحياة تدفع الأشخاص للالتحاق بقوى غيبية لتحقيق أهدافهم
تؤكد أريج الرز المتخصصة في علم الاجتماع أن “السحر أمر متداول منذ القدم، وتشتهر فيه المجتمعات الشرقية على مر التاريخ، ما يفسر لجوء العديد من الأفراد إليه وممارسته على نحو مستمر، فهو أمر شائع وأصيل ضمن هذه المجتمعات نتيجة القصص المروية عن النتائج المحققة والتي قد تكون محض خرافات وليست حقيقية.” وتضيف أن إيمان البعض بأنها قصص حقيقية عزز لديهم الرغبة باللجوء إلى هذه الأعمال لتحقيق رغبات معينة لديهم يعجزون عن تحقيقها.
اللجوء إلى أعمال التنجيم لا يقتصر فقط على الشريحة البسيطة غير المتعلمة، بل يطال أيضاً فئة المثقفين، والسبب كما توضحه الأستاذة أريج المتخصصة في علم الاجتماع هو: “بعض المثقفين ونتيجة حالة العجز التي قد يمرون فيها لتحقيق أهدافهم، وكثرة القصص المحكية عن أعمال السحر ونتائجه أثيرت لديهم الرغبة في التجربة وتحقيق ما عجزوا عنه..” وتتابع حديثها: “لكن إغفال العقل واللحاق بهذه الأفعال بصورة مطلقة يعتبر أمراً منافياً للعلم، ما يجعل لحاق المثقفين بالسحر أمراً مستغرباً، لكن في ظل الضغوطات التي يعاني منها معظم السوريين\ات ستظهر ميول للالتحاق بقوى غيبية لتحقيق الأهداف المأمولة”.
لا تنكر الرز أن عوامل التربية والعادات الشعبية التي تعمل على ترسيخ مفهوم قوى السحر بتحقيق المستحيل تعمل على تعزيز هذا المفهوم لدى الفرد وتجعله إحدى الطرق التي قد يسلكها عند الحاجة، لا سيما أننا في مجتمعات مارست و تناقلت وترسخت لديها هذه الأعمال على مدار السنين.
منذ بدأت الثورة في سورية (مارس/آذار 2011)، راحت تتكشف معها التداعيات الاجتماعيّة حول طبيعة الأفراد والجماعات التي ينتمون إليها في سورية، صورة العنف المشترك من كلّ الأطراف، إضافة إلى تصاعد خطاب الكراهيّة؛ إمّا بسبب الانتماء أو بسبب الاختلاف السياسيّ والفكريّ.
لقد برزت البثور الفكريّة في الأفعال المنافية للإنسانية، وبدأنا نرى صور الفساد الضارب في عمق البلاد، مشاهد تؤكد على امتلاك الأغلبية لمعرفة مزيفة عن تقدير الإنسان لبلده وجذوره.
ربّما بدأت الأفكار – في هذه الثورة – على أنّ هدفها الرئيس هو إسقاط النظام السياسيّ، ومع تلك الأفكار والطموحات؛ ظهرت الآفات الكامنة تحت طغيان هذا النظام.
وفي الواجهة تقدّمت السلوكيّات الطاغية لأزلام السُلطة، سواء كانوا قادة حراك شعبيّ أو قادة فصائل مسلّحة.. معارضة أم موالاة، أو كانوا يتربعون على عروش الأزمات في سوريا حتّى قبل الثورة، كان الجميع يشترك، على نحو ما، في تدمير حاضر البلاد وماضيها.
الهدف مما أشرنا إليه أعلاه، هو محاولة تقديم صورة عن المناخ العام حول سؤالنا عن أثر الصراع القائم على الهويّة السورية فيما يخص الحفاظ على الآثار التاريخيّة في تراث تلك الهوية، حيث تعيش الانتماءات وفقاً للقيم والمنظومات والعادات والتقاليد التي تكرسها المجتمعات حسب شرائحها وطوائفها وثقافاتها المتنوعة، والمعروفة بكثرتها وتشعباتها في سورية.
انتماءات رتبت أولوياتها بعيداً عن سؤال وجودي متربط جوهرياً بالتاريخ: ما هي سورية؟ ومن نحن في هذه الجغرافية التاريخيّة الممتدة لآلاف السنوات؟
ربّما لاحظنا كيف كانت العودة للسلف والانتماء العرقيّ أو الدينيّ، هي أوّل الأشياء التي نمّتها السُلطة بين أفراد المجتمع، وكان ذلك خلال المظاهرات وانتشار السلاح والفوضى. وكيف قسّمت المناطق والمدن والمؤسسات والهيئات الإداريّة للبلاد، منذ زمن وفق توازنات مذهبيّة أو ولاءات سياسيّة، حيث أصبح للتفرقة عنوان واحد هو: الاختلاف.
وبعد مرور هذه السنوات من الصراع المؤلم في سوريا بين السُلطة الحاكمة والجيش السوريّ من خلفها وحلفائها من جهة، ومن يعارضها من الشعب ومسلحيّ المعارضة وحلفائهم من جهة أخرى، ثمّ فيما بعد تحوّل الصراع إلى مُحاصصات إقليميّة حيّدت السوريّ، ولم تعد تهتم لأمر السوريّ – السوريّ، إنّما جعلت التبعية أساساً لمنح امتيازاتها ودعمها، فنتج أمامنا مثلاً: السوريّ- الإيرانيّ، السوريّ-الروسيّ، السوريّ-المعارض، السوريّ-البعثيّ، السوريّ-الإسلاميّ، السوريّ- الكرديّ، السوريّ- الموالي، السوريّ-التركيّ…إلخ، وضمن هذه التقسيمات اللّاسورية، والتي تحكمها نوعية التحالف ضدّ السوريّ الآخر- المختلف، تلاشت تقريباً الاهتمامات السياسية والاجتماعيّة والثقافيّة بالهوية السورية في عمقها التاريخيّ، هُرّبت الآثار، نُهب معظمها، دمّر منها الكثير، اختلفت أسباب الاستهتار والاتجار بها واتفق الجميع على تحويلها إلى شيء بلا قيمة إنسانيّة!
واليوم، بعد مرور هذه السنوات منذ عام 2011، توجهنا إلى أشخاص لازالوا في سورية، يهتمون لشأن الآثار السورية وأخبارها التي يرثى لها، ترى كيف ينعكس حال الآثار السورية اليوم على تراث الهويّة السوريّة التاريخيّ؟ وما هي السُبل الحقيقية برأي المختصين لضبط وتوثيق وحماية ما تبقى من الآثار في سوريا؟
الآثار بخير؟
“تصف حال الآثار السورية بأنّها تستحق الرثاء، ولكني أقول إن الوطن السوريّ هو الذي يستحق ذلك” هكذا يبدأ د.فاروق إسماعيل، الباحث التاريخي حديثه لصالون سوريا، ويضيف: “لو تأمّلنا الواقع المعيشي للإنسان السوريّ المقيم أو النازح ضمن الوطن وخارجه، وما آلت إليه سوريا من تمزيق على أيدي عابثين ومغامرين وسياسيين وتجار الحروب والمعتقد الديني الذين فرضوا سلطتهم في معظم أرجاء سوريا، ويتصرفون بنهج استبداديّ أسوأ من السلطة المستبدّة التي هبت الثورة للتخلص منها، وقارنا ذلك بوضع المواقع الأثرية، فسوف نستخلص أن الآثار بخير. وتتحدث عن “غياب الاهتمام الحقيقي بها”، وهل هناك مبالاة بالإنسان وحياته؟ أعتقد أن وضع الآثار أفضل من معظم جوانب حياة الإنسان السوريّ، وأن الضرر الأكبر الذي لحق بها؛ من عبث وتخريب وسرقة وتجارة، تم خلال مرحلة سيطرة التنظيمات الجهاديّة الإرهابيّة، التي ما تزال مستمرة في مناطق سورية” بحسب رأيه.
تراث مشترك
فيما يرى الكاتب والباحث تركي المصطفى، المقيم في الداخل السوريّ اليوم، أن النظام يتحمل مسؤولية ما حدث لسوريا، فيما بقيت المنظمات الدولية “تراقب” كلّ ذلك، ويقول: ” كان هناك عملية تدمير منظم للآثار السوريّة التي تكشف عن حضارة عريقة، مرنة، تمكنت من استيعاب كلّ الحضارات التي أسهمت في تشكيل التاريخ البشريّ وتطور المراكز العمرانيّة، وتطوّر المجتمع السوريّ وتشكيل هويته الحضاريّة، ولعلّ أهمّ تلك الصروح هي ممالك “ماري” و “إيبلا” و “أوغاريت” والمدن الأثرية في الشمال السوريّ”.
وفي حديثه يتأسف “المصطفى” الشاهد على ما وصلت إليه حالة الآثار السوريّة من عمليات تنقيب عشوائيّة خارجة عن القانون: “بالأخص في منطقة وادي الفرات الواقعة تحت نفوذ الميليشيات الإيرانيّة، علاوة على تدمير المواقع الأثريّة بالطيران الحربيّ ومدفعية قوات النظام، كما في آثار تدمر التي قُصفت أعمدتها وأبنيتها” على حد قوله.
ويؤكد “المصطفى”: “لقد طال التدمير مدينة حلب وسوق المدينة التاريخيّ، ودمّر الطيران الحربيّ العديد من أحياء المدينة القديمة، ومثل ذلك فعل في مملكة “إيبلا”، وفي ظل الفلتان الأمنيّ وغياب الأجهزة المسؤولة عن حماية الآثار؛ باتت غالبيّة المواقع الأثرية السوريّة عرضة للسرقة وللتنقيب العشوائيّ، ومع ذلك، ورغم حالة الفوضى التي تسود الجغرافية السوريّة يمكن التحرك لحماية ما تبقى من آثار، فقبل أيام قليلة زرتُ “كنيسة قلب لوزة” الواقعة شمال غرب مدينة إدلب فوجدتُ أنّها بحاجة عاجلة للترميم قبل انهيارها وتهديد سلامتها، ومثلها غالبية المواقع الأثريّة، وباعتبار الآثار، إرثاً عالميّاً، فمسؤولية حمايتها تشمل المهتمين بالآثار من مؤسسات ومراكز دولية تتمتع بخبرات وكفاءات عالية سواء كانت حكوميّة وغير حكوميّة، كما ينبغي إشراك عامّة النّاس في نشر الوعي حول إشعارهم بالملكية والاعتزاز بالتراث الثقافيّ كمنجز اجتماعيّ وتكنولوجيّ تاريخيّ، وبالتالي لابد من إيجاد صيغة قانونية دولية لحماية الآثار السوريّة لردع الأنشطة غير القانونية. مثل فرض قيود على أعمال التخريب والتنقيب العشوائي والتجارة في الآثار وتصنيفها كمواقع محمية. وتقديم تسهيلات لإعادة القطع الأثريّة من خلال تعاون دوليّ للحفاظ على تراثنا الإنساني” بحسب تعبيره.
مشكلة الانتماء عمل الباحث السوري، ماهر حميد، على موضوع الآثار السوريّة دون رغبة منه “بالانخراط في الموضوع السياسيّ”. وفي حديثه يؤكد “حميد” أنّه قام بإعداد تقرير منتصف العام 2015، وقدّمه للمبعوث الأمميّ آنذاك “دي ميستورا” وقد ناقشه د.عارف دليله، ويقول: “تعاني الآثار السوريّة من تدمير كبير اليوم، إضافة إلى السرقات التي حدثت والتنقيب غير المدروس الذي يدمر الطبقات الأثريّة، وذلك ما عانت منه مدن أثرية مثل “إيبلا” و “ماري” و”دوروا اوروبوس” و “أفاميا” على حد قوله.
ويشير “حميد” بالكشف عبر تقريره بأن “تنظيم داعش” وخلال سيطرته على مناطق شمال سوريا، وبعد تعرض التنظيم لحصار عسكريّ، ولم يعد لديه موارد اقتصاديّة بعد توقف تجارة النفط، توجه “التنظيم” إلى بيع الآثار السوريّة للاتجار بها، وتمريرها عبر تركيا من أجل تمويل أنشطته، وقد أنشأ ديواناً خاصاً لهذا الأمر أسماه آنذاك ديوان “الركاز”، يقول: “كنتُ قد طلبت أن يقوم التحالف الدوليّ ضد “التنظيم” برمي مواد معدنيّة وخردوات من طائرة على المواقع الأثريّة، وبالتالي أثناء عمليات النبش غير المدروس التي كان يقوم بها “التنظيم” في المناطق الأثريّة، سنجد أن معظم “النبّاشين” العاملين مع “التنظيم” و”النباشين” في المناطق الأخرى والذين كانوا ينقبون باستخدام جهاز كشف المعادن، تصبح عملياتهم بلا جدوى” بحسب قوله.
ويضيف “حميد”: “ومن بين الاقتراحات التي تضمنت التقرير هي أنّ تشكّل لجنة من الدول التي يقال عنها إنّها من أصدقاء سوريا (…) كي تشتري هذه الآثار من اللصوص في تركيا! مقابل أن تمتلكها لتسع وأربعين سنة، سواء اشترتها فرنسا أو ألمانيا أو غيرها من أصدقاء سوريا، وبعد انقضاء تلك المدة تعود لسوريا. لأنها لو بقيت أكثر من ذلك أي خمسين سنة ستصبح ملكاً للمقتني ولن تعود، ولكن لم يؤخذ بكلّ ذلك” على حد تأكيده.
ويعتقد “حميد” أن ما تعاني منه الآثار السوريّة لن ينعكس على الهويّة السوريّة، مبرراً ذلك بأن: “هوية الهلال الخصيب أصلاً مقسّمة، هناك جزء كبير من تراثنا أصبح في تركيا. ومن المعروف أن حضارة ما بين النهرين كانت واحدة وفيما بعد قسّمت إلى العراق، لبنان، فلسطين، الأردن، سورية. فالهويّة أصلاً مُفتّتة! مثلاً لو وجدنا قطعة أثريّة في الأردن، ماذا نسميها؟ آثاراً أردنيّة؟ بالطبع لا، هي آثار سوريّة، ولكن الهوية فُتت إلى خمسة أو ستة أجزاء. أعتقد أن المشكلة هنا هي في الانتماء. مثلاً، بعض الناس سرقوا مؤسسات الدولة، وأحياناً سرقوا بيوت الآخرين. فقد اعتبر هؤلاء أن الآثار هي جزء من الدولة التي هم بطبيعة الأحوال ضدها، نحن مشكلتنا سياسية، وبالتالي يعتبرون “بشار الأسد” هو مؤسسة المياه ومؤسسة الكهرباء وجميع مؤسسات الدولة (!) وهو في الوقت نفسه الآثار المدفونة تحت الأرض لأنها جميعها مرتبطة بشخص الحاكم.” بحسب رأيه.
ويروي “حميد”: مع بداية الأحداث في سوريا، أصبح هناك نوع من الفلتان الأمنيّ في منطقة (دير الزور) إلى (البوكمال) وبدأت تنتشر الكتائب ذات الأسماء الإسلاميّة مثل “كتيبة أبو بكر، كتيبة عثمان.. إلخ” وأنت تغادر من (دير الزور) إلى (البوكمال) وعلى الطرقات، بعد انطلاق هذه الكتائب، كنا نرى على طرفي الطريق خيماً كثيرة تحتوي على أشخاص من جنسيّات مختلفة، على “أمريكيين وسويسريين وبريطانيين. أتراك” وكلّ خيمة تحت “حماية” لواء من تلك الكتائب الإسلاميّة، وكلّ هؤلاء كانوا مختصين بالآثار، فصرنا نرى الفلاح الذي لا يعرف ما هي “ماري” يذهب مباشرة بتوجيه من إحدى الخيام إلى معبد “دجن” من أجل أن يحفر دون أن يعلم ما هي ماري أصلاً! ربما هذا المعبد معروف من قبل المختصين من الباحثين وسواهم، إنّما بالنسبة للفلاح فهو لا يعرف ما هو! فكانوا يحفرون ويبيعون ما يجدونه” على حد قوله.
توافق على التدمير! يعتقد الكاتب والباحث السوريّ سعد فنصة أن السؤال اليوم عن الآثار السورية وانعكاسها في تراث الهوية السورية، “قد فات أوانه” لأن: “سوريا تتفكك، وهذه الحروب العبثيّة على أرضها شوّهت البشر قبل الحجر، وحماية بقايا الأوابد التي دُمرت أو نُهبت عن عمد مسألة لديّ شكوك عميقة ومبررة حولها”. ويرى “فنصة” خلال حديثه معنا بأن: “سوريا محتلة من قبل جيوش متعدّدة وحشود طائفيّة وإثنيّة، وتعاني من انعدام الأمن والاستقرار، وهذا ما يجعل مثلاً من حماية الأطفال من التشرد والفاقة والاستغلال؛ شأناً قريباً جداً من حماية الممتلكات الثقافيّة والإنسانيّة في سوريا، ولكنه للأسف بعيد المنال”.
ويضيف: “لقد تمّ نهب الإنسان في سوريا، هُجّر الملايين من سكنهم وحياتهم، واستقدم المحتلّ إلى الأرض السوريّة وجوهاً غريبة ومسلّحة، تمتلك الأرض وما عليها، وهي صاحبة الحقّ السياديّ حتّى على منظومة الحكم المتداعية، القائمة إلى اليوم في دمشق”.
ويؤكد “فنصة” أن كلّ هذه الحرائق التي نشاهدها ونسمع عنها بين الفينة والأخرى في المدن الأثريّة، ونهب حتى حجارتها الأثريّة وتغيير معالمها، هو جزء من خطة ما بعد التدمير الهائل للآثار بالآلة الحربيّة ولمرحلة تتعمق وتتسع، يقول: “أعتقد أن هناك مصالح عالميّة مشتركة في مسح الهويّة الحضاريّة والإنسانية والأثرية للشعب السوريّ. شاهدي وإثباتي فيما أدعيه هو أنّه ثمّة ست مدن سورية أثريّة هي في نطاق الحمايّة الدولية باعتبارها جزءاً من ذاكرة الإنسانيّة، نظراً لأهمية آثارها ومكتشفاتها ومخططاتها العمرانيّة! ماذا فعلت المنظمة الدوليّة (اليونسكو) في حماية ما سبق أن حرّرت عنه القوانين والمحاضر الملزمة في حماية الآثار السورية؟”.
ويوضح “فنصة”بأن المتاحف قُصفت بالبراميل والصواريخ، وكذلك أهم المواقع الأثريّة في بصرى وتدمر و “إيبلا” و “دورا اوروبس” و”ماري” و”أفاميا” وحلب القديمة وغيرها المئات من المدن الأثريّة التي عُدّ دمارها خسارة كبرى لذاكرة الشعب والوطن وعلم الآثار، يقول: “بعد ذلك هجم الجراد الحربيّ، ينبش في تربتها الأثريّة ويخرّب طبقاتها وينهب بقايا مكتشفاتها، هناك أكثر من مليون قطعة أثريّة من مختلف العهود نهبت من سوريا، وهي تباع اليوم في المزادات العالمية ومواقع التسوق بحسب أهميتها وارتفاع أثمانها”.
ويرى “فنصة” أنّ ما حصل في سوريا؛ حصل سابقاً في العراق، وأنّ كلّ الدراسات وأعمال المنظمات الدولية والمحلية ليست أكثر من مجموعات للإحصاء والتقصي! ليس لها وزن أو صوت أو فاعليّة على المواقع المُستهدفة بالنهب أو التخريب. كلّ ذلك لم يتوقف يوماً، منذ تاريخ طويل قبل الحرب أو الثورة أو الانتفاضة الشعبيّة العارمة في سوريا منذ العام 2011، وفي هذا السياق الكارثيّ، طالما بقيت الأمور السياسية والتحصينات العسكريّة والقوانين والتشريعات القديمة التي فاتها الزمن، على حالها، ودون حلّ سياسيّ بتأسيس مؤتمر وطنيّ شامل للسلام وتفعيل القرار الأممي 2254 المُلزم بخروج كلّ القوات المسلّحة المحتلّة للأرض السوريّة وإنهاء المنظومة الأمنيّة القائمة، لا أرى أيّة بارقة أمل في حماية الآثار قبل حماية النّاس والأبرياء من القتل والتعذيب والمعتقلات والتهجير” بحسب تعبيره.
ويرى “فنصة” أن الحلّ يبدأ من التفكير بمحاسبة المتسببين بالكارثة البشريّة والبيئيّة والأثريّة ووضع القوانين الحازمة الملزمة بملاحقة اللصوص والقتلة والمجرمين، دولياً، إلى آخر الدنيا، والذين ساهموا بشكل مباشر أو غير مباشر بسرقة ونهب وتدمير الآثار السوريّة، يقول: “كلّ ذلك كان يمكن الإصرار عليه عبر حزمة متكاملة من مشروع العدالة الانتقالية الذي جاء عليه القرار الأممي، ولكنّه بحاجة إلى شخصيات وطنيّة حقيقيّة تتحمّل مسؤولية حمل تبعات تنفيذ القرار الأممي، وملاحقة المسؤولين الدوليين عن تأخيره ولكن ليس بهذه المعارضة الوهميّة المائعة في رموز الائتلاف التي وظفتها الاستخبارات العربية وصنعوها من مافيات سياسية دولية لمفاوضة الأسد على تقاسم السلطات طوال السنوات الماضية والتي ولم ولن تحصل عليها” بحسب رأيه.
ويختم “فنصة” كلامه بالقول: “الشأن السياسيّ لا ينفصل عن الشأن الإنسانيّ في الصحة والتعليم والثقافة وحماية الآثار. إن سوريا مكتبة معارف أثريّة عريقة -كما أردد دائماً- تمّ تدميرها عن عمد وهيهات أن تُستعاد في ظلّ الظروف والشخصيات المرتزقة نظاماً ومعارضة!”.
الكلمة نفسها؛ تستخدم لوصف جرح بسيط في اليد أو لمخاض الولادة، يمكن ربطها بالصداع الطفيف أو بألم الأسنان الشديد، قد نستعملها لتجسيد حرق سطحي من الدرجة الأولى أو للنوبات القلبية الحادة!
كسوريين، ندخل عامنا الرابع عشر للحرب، نسأم من كلمة “مؤلم” التي لم تعد تُسعفنا لنعبّر عن مختلف أوجاعنا الجسديّة والنفسيّة، نستحضر تفاصيل ذاكرتنا المُتخمة، نطرق أبواب اللّغة بأيادٍ شققتها الحرب، لكن أجسادنا المنهكة تنقاد نحو أدبيات جديدة لتروي حكايتنا.
الأجساد تتكلم
“حاسة في هدير براسي، متل هدير الطيارات”، تتذكر نور (اسم مستعار) الكلمات بصورة مشوشة في عيادة طبيب الأمراض الداخلية في بلدة “زملكا” بريف دمشق الشرقي، حين تستحضر الأعراض التي تعاني منها.
تنشج بحرقة وألم فيما تغطي وجهها بكفيها، تتلعثم حين تتابع بكاءها، ثم ترفع رأسها وتتشاغل بتقليب منديل ورقي بين يديها، تسود برهة من الصمت قبل أن تنطق: “كنت خاف من الطيارات، صارت الطيارات جوا راسي”.
يؤكد الفحص السريريّ كما يقول الطبيب (ش. ن) أخصائي الأمراض الداخلية أن (نور) تعاني من صداع مترافق مع ارتفاع ضغط الدم، لكنها تصف الصداع الذي تعاني منه بعبارة “يشبه هدير الطائرات”، فيما يشير المرضى عادةً إلى هذا العرض بكلمة “طنين”.
خاضت (نور) كما الكثير من السوريين تجارب صادمة ومؤلمة تسبّبت بها الحرب الدائرة في البلاد، أثرّت بشكل مباشر على أدبيات لغتنا كضحايا حرب، وحوّرت طرقنا ومفرداتنا في التعبير عن الآلام والأوجاع.
يقول الطبيب (ش. ن) إن عمله كطبيب أخصائي مع جمعية أهلية سورية (نتحفظ عن ذكر اسمها بحسب رغبة الطبيب) في بلدتي “زملكا” و”سقبا” في غوطة دمشق الشرقية؛ قد جعله على احتكاك مباشر مع ضحايا الصراع العسكريّ الدائر على مدى أكثر من عقد من الزمن في هاتين المنطقتين اللتين شهدتا حصاراً عسكريّاً امتدَّ لنحو خمس سنوات.
يستعرض الطبيب ملاحظاته عن تغيير واضح في المفردات التي يستخدمها المرضى اليوم للتعبير عن الأعراض الجسديّة التي يعانون منها، واستخدامهم لمصطلحات مستوحاة من الحرب للتوصيف رغم انتهاء الصراع العسكريّ ميدانيّاً، مثل “حاسس راسي رح ينفجر”، “في صوت هدير طيارات براسي”، “في ألم حارق وكأنّ في شظايا اخترقت جسمي”، “كأنّ قنبلة عم تنفجر بداخل بطني”، وبالتحديد في المناطق التي عانى سكانها بشكل مباشر من مواجهات عسكريّة ميدانيّة مروّعة.
تضليل التشخيص
يشير الطبيب (ش. ن) إلى أنّ استخدام المرضى لهذه المصطلحات أثناء أخذ قصتهم السريرية قد يؤثر بشكل مباشر على تشخيص الطبيب، فمن المحتمل أن تبعد هذه المصطلحات الطبيب إلى حدّ ما عن التشخيص الصحيح للأمراض العضويّة كالضغط ونقص التروية وتوجهه أكثر نحو الاضطرابات النفسيّة، سيما مع إمكانية إغفال المريض عن ذكر بعض الأعراض المرافقة مثل تسرّع القلب أو اللّهاث أو ضيق التنفس.
ويؤكد الطبيب (ش. ن) على ضرورة قيام مقدمي الرعاية الطبيّة بشكل عام وفي المناطق التي تعرضت لمعارك عنيفة واشتباكات عسكريّة بالاستقصاءات الطبيّة اللّازمة كالتخطيط الكهربائيّ والإيكو والتحاليل للتشخيص، وبعد نفي هذه المشاكل العضويّة التوجه للاضطرابات النفسيّة، مع أخذ تأثير الحرب على سلوكيات المرضى ولغتهم وتوصيفهم بعين الاعتبار.
جغرافيا
من جانب آخر، يبدو أن هذا التغيير السلوكيّ يرتبط بشكل وثيق بجغرافيا البلاد، وتباين شدّة الصراع الدائر على اختلاف المناطق، حيث تنفي الطبيبة أخصائية الأمراض العينية، وفاء الحسن، مصادفتها لأيّ تبدل بمفردات الشكايات الطبيّة عند مرضاها في منطقتي “جرمانا” و”السيدة زينب” بريف العاصمة الجنوبيّ، واللتين لم تشهدا مواجهات عسكريّة ميدانيّة على الأرض.
توضح (د. وفاء) في حديثها معنا أن تعرض المريض لأهوال الحرب قد يدفعه ليسقط ألمه النفسيّ على ألمه العضويّ لكي يصف أوجاعه، بمعنى آخر يجسّد المريض ألمه النفسيّ جسدياً. وتشرح أكثر: “نقوم بأخذ القصة السريريّة للمريض للأعراض التي تهمنا في اختصاصنا، كالسوابق المرضيّة، الأدوية، العمليات الجراحيّة السابقة، العوامل التحسسية، الشكاية، والأعراض التي يعاني منها المريض، ثمَّ نقوم بجمع هذه المعلومات ونقاطعها مع كلّ من فحصنا السريريّ والاستقصاءات الطبيّة الإضافية كصور الأشعة والتحاليل وغيرها لنصل للتشخيص الصحيح وهذا ما يسمى بـ “دراسة الحالة”، ولا نكتفي فقط بأخذ القصة السريريّة”.
وعن تأثر التشخيص الطبيّ باستخدام المريض لهذه المصطلحات، ترى (د. وفاء) أن التشخيص الطبي لا يتأثر في حال قام الطبيب بالاستقصاءات الطبيّة المطلوبة، ومقارنة نتائج دراسة حالة المريض مع المصطلحات التي يستخدمها لوصف الألم، وبشكل عام من المهم جداً أن تتكامل القصة السريريّة مع الاستقصاءات والتشخيص من قبل مقدمي الرعاية الصحية.
“جسدنة الألم”
في كتابها “الحرب اليوميّة” الصادر عام 2023، تستعرض الباحثة (غريتا لين أولينج) اللّغة المتجسدة التي يستخدمها الأوكرانيين من ضحايا “الحرب الروسية الأوكرانية”، وتوضح أن ذكريات الضحايا لا تُفقد بالضرورة، بل في كثير من الأحيان تتجسد في شكل أحاسيس جسديّة، وقد يجد الناجون أنفسهم يلجأون، بوعي أو بغير وعي، إلى طرق مختلفة لوصف تجاربهم.
وبحسب (يولينغ) فإن الضحايا يروون قصصهم من خلال الإشارة إلى التغيرات الجسديّة التي مروا بها، ويسمّي علماء النفس هذا الأمر “الجسدنة”: عندما يعبر الضيق العقليّ والعاطفيّ عن نفسه جسديّاً.
اللغة تمتلك جسداً “لبيساً”!
يشير اختصاصيّ علم الاجتماع الإعلاميّ، ماهر الراعي، في حديثه معنا إلى أنّ هذه الظاهرة هي ظاهرة طبيعية جداً بل متوقعة بغض النظر عن الجغرافيا المحددة، فحتى المناطق التي لم تتلق ناراً مباشرة من الحريق السوريّ الكبير لم تنجو من تسرب لغة الحرب الى قاموس أفرادها.
يتابع الراعي حديثه: “اللّغة تملك جسداً لبّيساً، من السهل أن تحضر مفردات الحرب أو مفردات أي ظاهرة بمجرد عايشها البشر لفترة مهما قصرت فمثلاً كارثة الزلزال الذي ضرب سوريا مؤخراً وانتشار لغة التحليل العلميّ سربت عدة مفردات إلى لسان الناس يستخدمونها بمقامات ومواقف غير ذات صلة بقضية الزلازل والكوارث كأن يقول جاري لصديقه: (جايبلك دخان عربي تكتوتني)، أو شاب يصف صبية مرت بقربه: (هلا فهمت ليش “فرانك” بضل يتوقع زلازل تضرب منطقتنا…)، فما بالنا بسنوات طوال من العيش قرب تفاصيل الحرب والاقتتال السوريّ”.
ويردف: “عادة ما أراقب ملامح الأطفال حين يستمعون بقصد أو بغير قصد إلى أحاديث الأهل وأكاد أجزم أنّني كنت ألمح بدقة جهاز “الإيكو” كيف تستطيع مفردة “شهيد، أو فطيسة، أو شظية، أو جريح، أو انفجار، أو كمين أو أو”.. كيف كانت تتموضع في رؤوس الأطفال الصغيرة.. ولا بد أن هذا القاموس سيتم استخدامه لاحقاً فالانسان بالعموم كسول فيما يخصّ الاستخدام اللغويّ إذ عادة ما يستعير مفردات وينقلها بين الميادين ما إن يشعر أنّها صالحة للتعبير والإفصاح، لكن وعلى الرغم من كلّ هذا وعلى الرغم من الحضور الطاغي للغة الحرب إلا أنّني أظن أنّها لن تستمر طويلاً فيما لو خرجنا من الحرب -وهذا مجرد تخمين أستند فيه إلى اعتقادي بأن العقل يملك آلياته وأساليبه لنفض ما يؤذيه من الذاكرة كنوع من التعافي وبذلك سيلعب لعبته بتناسي هذه المفردات وإقصائها من الاستخدام بشكل لا شعوري”.
انتهت الحرب أم لم تنته، لا يهم، عالمنا الداخلي والخارجي قد تغير بالفعل، صبغتنا الحرب بالدم والبؤس، وأطبقت على لغتنا كما أعناقنا، صارت آلامنا قنابل تتفجر وطائرات تهدر وشظايا تتطاير عند أول منعطف!