كيف تمددت “الخريطة الروسية” جنوب سوريا؟

كيف تمددت “الخريطة الروسية” جنوب سوريا؟

ينتظر أبناء جنوب سوريا في درعا نتائج “الخريطة الروسية” على المناطق التي عرفت بـ “التسويات”، وهي عدة مدن وبلدات من شمالي وجنوب وغرب المحافظة وشرقها وافقت على تطبيق اتفاق التسوية في شهر تموز (يوليو) العام 2018 بعد تفاهمات روسية -اميركية -اردنية، تضمنت سيطرة الحكومة على المنطقة مقابل ابعاد ايران.
ووافقت روسيا حينها على بقاء السلاح الخفيف والمتوسط مع المقاتلين السابقين في المعارضة في درعا، وعاشت المنطقة بعدها حالة من الانفلات الأمني وانتشار الجريمة والقتل والاغتيال الذي استهدف شخصيات محسوبة على النظام أو المعارضة سابقاً أو قادة وعناصر مجموعات محلية انضموا بعد تسويات عام 2018 إلى الأجهزة الأمنية التابعة للنظام و “الفيلق الخامس” المدعوم من قاعدة حميميم الروسية.

بدايات
بدأت روسيا تطالب بسلاح العناصر والقادة الذي احتفظوا به وفق الاتفاق السابق، وكانت الانطلاقة من مدينة درعا البلد المدينة التي تحمل رمزية ثورية باعتبارها اولى مدن محافظة درعا التي انطلقت منها شراراه العبارات والمظاهرات المناهضة لدمشق في العام ٢٠١١، حيث طالب جنرال روسي مندوب إلى محافظة درعا لمتابعة ملف اتفاق التسوية في المنطقة من اللجنة المركزية للتفاوض الممثلة لأبناء وأهلي مدينة درعا البلد بعد اجتماع عقد بتاريخ 25 حزيران (يونيو) 2021، بتسليم السلاح الخفيف والمتوسط المتواجد في درعا البلد. رفض أبناء مدينة درعا البلد المطلب الروسي واعتبره مناقضا لما تم الاتفاق عليه في عام ٢٠١٨ الذي سمح لهم ببقاء السلاح الخفيف والمتوسط بعد تسليم السلاح الثقيل. وعقدت اجتماعات بعدها وحاولت اللجنة المركزية في درعا البلد التوصل إلى حل سلمي بدون تسليم السلاح لاسيما مع التهديد الروسي المستمر خلال جولات التفاوض باستخدام القوة العسكرية اذا لم تطبق مطالبه بتسليم السلاح الخفيف والمتوسط من درعا البلد.
ومع استمرار الاجتماعات كانت تتوافد تعزيزات عسكرية معروفه باسم “قوات الغيث”، نسبة الى العميد غياث دلا، التابعة لـ “الفرقة الرابعة” التي يقودها اللواء ماهر الأسد شقيق الرئيس بشار الاسد. واغلقت مداخل ومخارج مدينة درعا البلد وسمحت قوات دمشق، بخروج المدنيين من درعا البلد وطريق السد والمخيم من معبر طريق السرايا الفاصل بين درعا البلد ودرعا المحطة مركز مدينة درعا.
ومع استمرار رفض أبناء درعا البلد تسليم السلاح، بدأت “الفرقة الرابعة” تصعيدها العسكري على المدينة ومحاولات تقدم واقتحام للمدينة تزامنت مع قصف على أحياء درعا البلد، وكانت كل عملية تصعيد عسكرية على المدينة تترافق مع اجتماع بين الجانب الروسي واللجنة الأمنية التابعة لدمشق واللجنة المركزية للتفاوض في درعا البلد.
ومع استمرار التصعيد العسكري ومحاولات اقتحام المدينة وتطويقها وفشل محاولتين لتطبيق اتفاق التسوية وتهجير 35 شخصا من أبناء درعا البلد، واستمرار تطويق المدينة لأكثر من 50 يوما والمواجهات بين أبناء المدينة في درعا البلد وطريق السد والمخيم وقوات “الفرقة الرابعة”، طرح الجانب الروسي “خريطة طريق” جديدة للمنطقة الجنوبية ولجميع مناطق التسويات في درعا، تشمل “دخول قوة عسكرية روسية وقوة أمنية من الجيش إلى مناطق درعا واجراء تسويات جديدة تضمن إزاحة المطالب الأمنية عن المطلوبين وتسوية أوضاع الفارين والمتخلفين عن الجيش السوري، ودخول مؤسسات وخدمات الدولة السورية إلى المنطقة التي توافق على الاتفاق الجديد، مقابل تسليم السلاح الخفيف والمتوسط”.
وافقت مدينة درعا البلد بعد ذلك على تطبيق “الخريطة الروسية” واتفاق التسوية الجديد، ودخلت قوات من الشرطة العسكرية الروسية وقوة أمنية من النظام إلى درعا البلد واقامت مركز لتسوية الاوضاع وتسليم السلاح في حي الأربعين بدرعا البلد، وتم تسليم العدد المطلوب من السلاح الخفيف والمتوسط الذي حددته لجنة النظام السوري.

الريف الغربي
كانت أنظار الجانب الروسي واللجنة الأمنية تتطلع إلى ريف درعا الغربي بعد مدينة درعا البلد، وأجرت لجنة التفاوض في الريف الغربي من درعا المشكلة من قادة فصائل معارضة سابقاً ووجهاء وأعيان المنطقة مع الجانب الروسي واللجنة الأمنية اجتماعا توصلوا خلاله إلى اتفاق بتاريخ 15 ايلول (سبتمبر) يقضي بتطبيق بنود “الخريطة الروسية” في بلدات اليادودة والمزيريب ومدينة طفس أكبر مدن ريف درعا الغربي المشهورة بـ “مناهضتها للنظام السوري وتضم أعدادا كبيرة من قادة وعناصر المعارضة السابقين”.
وصرح حينها أحد أعضاء اللجنة المركزية في الريف الغربي إن “اللجنة المركزية للريف الغربي بعد تشاور مع وجهاء وأعيان المنطقة اتفقت على قبول الحلول السلمية المطروحة من الجانب الروسي، وإبعاد الحرب والآلة العسكرية عن المنطقة، وتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب للأهالي وللمطلوبين للنظام السوري، دون تصعيد عسكري أو تهجير ودمار”. ودخلت قوات الشرطة الروسية وقوات من الجيش وبحضور أعضاء اللجنة المركزية إلى المنطقة واقامت مراكز للتسويات وتسليم السلاح، وحددت لجنة النظام السلاح الخفيف والمتوسط المطلوب تسليمه من كل مدينة وبلدة، ولم تشهد المنطقة عمليات تصعيد عسكرية لكنها قصفت مدينة طفس قبل توقيع الاتفاق بأيام بالقذائف راح ضحيتها 3 قتلى بينهم سيدة.

حوض اليرموك
وبعد أن انتهى تطبيق “الخريطة”، في مناطق الريف الغربي القريبة من مدينة درعا، انتقلت إلى عمق مناطق الريف الغربي المعرفة باسم مناطق حوض اليرموك التي كانت قبل عام ٢٠١٨ تحت سيطرة تنظيم “داعش”، واتفقت الأطراف الممثلة بالجانب الروسي واللجنة الأمنية ووجهاء وأعيان حوض اليرموك بتاريخ 25 ايلول 2021 على تطبيق “الخريطة الروسية”، وتسليم العدد المطلوب من السلاح الخفيف والمتوسط مقابل عدم تدخل قوات “الفرقة الرابعة” في عمليات التفتيش والتسوية، وانسحابها من جميع النقاط التي انتشرت فيها مؤخراً في منطقة حوض اليرموك بريف درعا الغربي.
وقسم تنفيذ الاتفاق في منطقة الحوض إلى مراحل باعتبارها منطقة كبيرة تشمل بلدات تتوزع على مساحة جغرافية كبيرة. وكانت بداية تطبيق الاتفاق من بلدات سحم الجولان وجلين ومساكن جلين وحيط والقصر، وأحدثت مركزا لتسوية أوضاع المطلوبين المدنيين والعسكريين الفارين والمتخلفين عن الخدمة الاحتياطية والإلزامية، وتسليم السلاح الخفيف والمتوسط من هذه المناطق، وفتشت بعض المناطق والمنازل بحضور وجهاء المنطقة واللجنة المركزية والشرطة الروسية.
كما شملت التسوية الجديدة أوضاع عناصر وقادة التسويات الذين انضموا إلى الفرقة الرابعة عقب اتفاق التسوية عام 2018، وانشقوا عنها مؤخراً وطالبتهم بتسلم سلاحهم وبطاقاتهم الأمنية، ثم انتقل تطبيق “الخريطة الروسية” إلى المرحلة الثانية التي شملت بلدات الشجرة وتسيل وعابدين وجملة وعين ذكر والمزرعة وكويا ومعرية، وطبق فيها ذات البنود بإحداث مركز للتسوية وتسليم السلاح الخفيف والمتوسط، وتفتيش بعض المناطق.
وتدحرجت “الخريطة” بذات البنود والوتيرة في عملية التطبيق عبر وساطة مع وجهاء وأعيان مناطق ريف درعا الغربي والشمالي الغربي التي تمتد في المنطقة من مدينة نوى غربي درعا إلى مدينة جاسم وانخل والحارة شمالي غرب درعا وكانت تلوح اللجنة الأمنية التابعة للنظام بالخيارات العسكرية واغلاق مداخل ومخارج أي مدينة أو بلدة يرفض أبنائها تسليم السلاح المطلوب منهم، كما حدث في مدينة جاسم، وتنتهي حالة التهديد والتصعيد بتقليل كمية السلاح المطلوب تسليمها أو تسليم مبالغ مالية مساوية لقيمه السلاح المطلوب والذي يصر وجهاء المنطقة بأنه غير موجود.

التمدد شرقاً
في تشرين الاول (اكتوبر)، انتهى تطبيق “الخريطة” واتفاق التسوية في مناطق ريف درعا الغربي والشمالي كاملاً لتنتقل إلى مناطق الريف الشرقي وكانت بدايتها من المدن والبلدات القريبة من معبر نصيب الحدودي وهي بلدات نصيب وأم المياذن والطيبة، حيث افتتحت الشرطة العسكرية الروسية واللجنة الأمنية مركزاً للتسويات وتسليم السلاح في بلدة نصيب وأن يتم فيه تسوية أوضاع بلدتي أم المياذن والطيبة أيضاً في 9 تشرين الاول.
واستمر تطبيق اتفاقات التسوية في بلدات ومدن ريف درعا الشرقي والشمالي الشرقي بذات الإجراءات عبر دخول لجنة لإجراء التسويات وتسليم عدد تحدده اللجنة الامنية، من السلاح الخفيف، واختلف عدد القطع المطلوب تسليمها من منطقة إلى أخرى، وتهديد للمناطق الرافضة، وشملت التسويات إقبالاً من المطلوبين، وخاصة الفارين من الجيش السوري على أن يحصلوا على حكم قضائي بالعفو من عقوبة الفرار والالتحاق بقطعهم العسكرية في الجيش وعدم ملاحقتهم مستقبلاً، والمطلوبين المتخلفين عن الخدمة الإلزامية والاحتياطية في الجيش.

ختام… واستثناء
وأعلنت وسائل إعلام تابعة لدمشق في 20 تشرين الاول، عن انتهاء ملف التسويات في محافظة درعا جنوب سوريا، بعد استكمال تطبيقها في كامل المحافظة، وافتتاح مركز دائم لإجراء التسويات في مدينة درعا المحطة.
وشملت “الخريطة الروسية” والتسويات الجديدة كامل مناطق درعا باستثناء منطقة بصرى الشام معقل قوات فصائل التسويات جنوب سوريا بقيادة أحمد العودة الذي حضي باهتمام الروسي باعتباره أول قيادي كان محسوب على المعارضة وافق على تطبيق اتفاق التسوية جنوب سوريا عام ٢٠١٨.
وتزامن الإعلان عن انتهاء تطبيق الخريطة الروسية والتسويات الجديدة في مناطق درعا جنوب سوريا، مع أنباء عن تغير تبعية فصائل التسويات بقيادة أحمد العودة من قوات في الفيلق الخامس المدعومة من حميميم إلى قوات تابعة لشعبة المخابرات العسكرية. كما انسحبت مجموعات «الفرقة الرابعة» من مناطق ريف درعا الغربي إلى دمشق، وشملت عملية الانسحاب حتى المجموعات المحلية من أبناء ريف درعا الغربي الذين انضموا للفرقة الرابعة، إضافة إلى انسحاب حواجز ونقاط عسكرية كانت تنتشر على الاوتوستراد الدولي دمشق – عمان، وانسحاب حواجز من أرياف درعا الشرقي والغربي وعددها 5 حواجز ونقاط عسكرية.
كان لافتا ان تمدد “الخريطة الروسية” جاء بعد زيارة العاهل الاردني الملك عبدالله الى موسكو وواشنطن وبعد سلسلة زيارات قام بها مسؤولون سوريون الى عمان وقرار تشغيل “خط الغاز العربي” من مصر الى الاردن الى لبنان مرورا بجنوب سوريا، وقرار عمان ودمشق فتح الحدود بين البلدين.

رحيل صباح فخري… غنى دون استراحة

رحيل صباح فخري… غنى دون استراحة

رحل امس “عمود الطرب العربي الاصيل”، صباح فخري، عمر ناهز 88 سنة، امضاها في الغناء والابداع الاسطوري… الى حد انه ذات مرة غنى في شكل متواصل لعشر ساعات.
ولد صباح الدين أبو قوس، وهم الاسم الحقيقي لصباح فخري، في العام 1933 في حلب القديمة حيث كان محاطا بشيوخ الطرب والمنشدين وقارئي القرآن وصانعي مجد القدود الحلبية، حيث اعتاد والده اصطحابه صغيرا إلى جامع الأطروش في الحارة القريبة حيث تقام حلقات الذكر والانشاد.
وفي باب النيرب كانت له أول حلقة إنشاد، وهو لم يتجاوز الثامنة من عمره، وغنى أولى القصائد أمام الملأ والتي تقول: “مقلتي قد نلت كل الأرب، هذه أنوار طه العربي، هذه الأنوار ظهرت، وبدت من خلف تلك الحُجب”. وكان تمكن من ختم القرآن وتلاوة سوره في جوامع حلب وحلقات النقشبندية مفتتحا أول تمارينه مع الشيخ بكري الكردي أحد أبرز مشايخ الموسيقى. وازداد تعلقه بالإنشاد والتجويد من خلال مجالسته كبار منشدي الطرب الأصيل واجتاز امتحانات غنائية صعبة على أيدي “السمّيعة” الذين يتمتعون بآذان لا تخطئ النغم وتكشف خامات الصوت وتجري اختبارات حتى لكبار الأصوات آنذاك مثل محمد عبد الوهاب وأم كلثوم اللذين زارا حلب للغناء على مسارحها في ثلاثينيات القرن الماضي.
التحق بالمدرسة الحكومية الحمدانية في حلب وهناك برز تفوقه كتلميذ يشارك في المهرجانات السنوية للمدرسة. ويروي كتاب “صباح فخري سيرة وتراث” للكاتبة السورية شدا نصار أبرز مراحل حياة فخري على مدى عقود حيث تقول إن الفنان سامي الشوا تعهده بالرعاية وغير اسم الفنان الناشئ إلى “محمد صباح” واصطحبه معه في جولات غنائية بالمحافظات. ولم يكد محمد صباح يبلغ الثانية عشرة من عمره حتى وجد نفسه يغني في حضرة رئيس الجمهورية السورية آنذاك شكري القوتلي خلال زيارته إلى حلب عام 1946 ما اعُتبر محطة مصيرية قفزت بفتى الموشحات إلى خارج حدود حلب، حسب تقرير لوكالة الصحافة الالمانية، كتبته ليلى بسام.
بمساعدة موسيقية من الفنان عمر البطش، وضع صباح فخري أولى تجاربه في التلحين عن عمر لم يتجاوز 14 عاما وكانت أنشودة: “يا رايحين لبيت الله / مع السلامة وألف سلام / مبروك عليك يا عبدالله / يا قاصد كعبة الإسلام).
انتقال حنجرة فخري من الصبا إلى الشباب تسبب في حشرجة فاجأت صاحبها وصعقت خبراء الغناء، إذ يقول الكتاب إن هرمونات الرجولة غيرت من طبيعة صوته وتكوين حنجرته الذي بدا كالمبحوح. وتقول نصار: “لعبت الحالة النفسية لصباح دورها السلبي. كلما حاول أن يرفع عقيرته للغناء كان يفاجأ بشخص آخر يغني من حنجرته. إنه ليس صوتي.. لست أنا ما الذي حصل؟ كلها تساؤلات كان يضج بها رأس الشاب الذي بدأ يشعر بفقدان أغلى ما وهبه إياه الخالق”.
وفي سن الخامسة عشرة أطبق صباح فخري على صوته واعتزل الغناء مكرها فراح يبحث عن لقمة عيشه في الترحال بين قرى ريف حلب إلى أن التحق بخدمة العلم عندما أصبح شابا يافعا. ومع “اكتمال رجولته تبلورت حنجرته واكتمل تكوينها لتعيد للكنز الدفين تألقه وعاد صوت صباح فخري الرجل يشق لنفسه مكانا بين ذكريات سنين المراهقة في أحياء حلب وبيوتها”.
جاء الى دمشق للانتقال الى القاهرة سعيا لصقل موهبته. لكن السياسي المخضرم فخري البارودي غير حياته، حيث اعجب بصوته. دخل القصر الجمهوري فتىً يافعاً وفقيراً في أربعينيات القرن الماضي، يحمل تحت ابطه سجادة صلاة، بطلب من زعيم دمشق وراعي فنونها الراحل فخري البارودي، الذي تبناه فنياً وأعطاه اسمه “فخري” بدلاً من اسمه الحقيقي “صباح الدين أبو قوس”، حسب مؤرخين سوريين.
أطرب الرئيس شكري القوتلي يومها، وتكرر ظهوره في عرس احدى بناته، ثم عندما أذن أمام الرئيس القوتلي ونظيره المصري جمال عبد الناصر في حلب، خلال زيارة الزعيمين إلى جامع جمال عبد الناصر في حي الكلاسة. لم يترك عاصمة عربية إلا ومر بها منذ ذلك التاريخ، تاركاً بصمات ما زالت واضحة في مخيلة كل من حضر حفلاته.
ذات يوم، سال موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب عن “الأراصية” التي طالما غنى عنها صباح فخري، وعند زيارته دمشق، طلب أن يستمع اليه شخصياً بعد أن قدم له الأراصية. ثم بدأ بالغناء، فوقف عبد الوهاب حينها وطلب من الحاضرين الوقوف قائلاً: “احتراماً لهذا الصوت الرخيم، عليكم جميعاً أن تقفوا معي!” كانت أم كلثوم تطلب من أصدقائها كلما زاروا سوريا: “والنبي، عاوزة كاسيت لصباح فخري.”
عاش فخري أضواء الشهرة من بوابة إذاعة حلب وسهرات إذاعة دمشق مع المطربة اللبنانية صباح. كما غنى صباح فخري “نغم الأمس” مع رفيق سبيعي وصباح الجزائري حيث سجل ما يقرب من 160 لحنا ما بين أغنية وقصيدة ودور وموشح وموال وقد حافظ على التراث الموسيقي العربي الذي تتفرد وتشتهر به حلب. كما تلى أسماء الله الحسنى مع الفنان السوري عبد الرحمن آل رشي والفنانة منى واصف والفنان وزيناتي قدسية.
وقف في عام 1974 أمام الفنانة وردة الجزائرية بطلا لمسلسل “الوادي الكبير” الذي تم تصويره في لبنان.
تقلد وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة عام 2007 “تقديراً لفنه وجهده في الحفاظ على الفن العربي الأصيل ولرفعه راية استمرارية التراث الفني العربي الأصيل” كما جاء في منشور التكريم. وشغل مناصب عدة بينها نقيب الفنانين في سوريا لأكثر من دورة ثم نائب رئيس اتحاد الفنانين العرب كما انتخب عضوا في مجلس الشعب السوري في دورته التشريعية السابعة لعام 1998.
رحل المطرب، الذي سجل رقما قياسيا من خلال غنائه على المسرح مدة تتجاوز عشر ساعات متواصلة دون استراحة في مدينة كراكاس الفنزولية عام 1968.

نازحو ادلب يستقبلون الشتاء… بالعراء والغلاء

نازحو ادلب يستقبلون الشتاء… بالعراء والغلاء

يجلس أبو عمر (53 عاماً)، وهو نازح، يقطن في مخيم وادي التين بالقرب من منطقة الدانا شمال إدلب، على صخرة متوسطة الحجم، ربط بها أحد أوتاد خيمته، وتجلس إلى جانبه زوجته، وإحدى زوجات أبنائه، ويتحدثون بخوف وحسرة، عن فصل الشتاء الذي يتربص بهم وما يحمله من برد وصقيع، وظروفهم المعيشية المتردية، التي لا تسمح لهم شراء وسائل تدفئة صحية مثل المازوت أو الحطب.
ومع بداية فصل الشتاء، تتجدد معاناة ومأساة النازحين في شمال غربي سوريا منذ ما يقارب 10 أعوام، وما يحمل معه هذا الفصل من قسوة وآلام، تطال أكثر من مليون نازح، يقطنون مخيمات عشوائية، بعضها على سفوح الجبال الوعرة، وآخرى ضمن الأودية، في خيام مصنوعة من الشوادر والنايلون لا تقيهم برد الشتاء القارس، على الشريط الحدودي مع تركيا.

حطب
يقول أبو عمر: “منذ أن نزحت وأسرتي التي تضم تسعة افراد، عن مناطقنا بريف حلب الجنوبي، ولجوئنا إلى هذا المكان، قبل أربع سنوات، لم ننعم بالحد الأدنى من الدفء في فصل الشتاء، بسبب قلة المال وإنعدام فرص العمل الكاملة، التي تؤمن لنا ثمن وسائل التدفئة الصحية، بسبب أسعارها المرتفعة، التي لا تتناسب إطلاقاً مع أحوالنا المادية، حيث وصل سعر الطن من الحطب الآن إلى ما يقارب 150 دولارا أميركيا، بينما أسعار المحروقات المحلية وصل سعر الليتر منها مؤخراً إلى حوالي نصف دولار أميركي. الطبع هذه الأقام تشكل لنا حالة مرعبة، لعدم توفر الحد الأدنى منها في جيوبنا”.
ويضيف، “لدي إبن متزوج و لديه أسرة (زوجة وطفلان) وإبن ثاني (16 عاماً)، يعملون في ورشة لصناعة (الطوب)، بأجور يومية، لا تتجاوز 40 ليرة تركية، وبالكاد هذا المبلغ، يؤمن لنا مستلزماتنا المعيشية اليومية من خبز وغذاء وأدوية وألبسة. ومع قدوم فصل الشتاء يتوقفون عن العمل، بسبب توقف أعمال البناء، وتتفاقم أحوالنا المعيشية أكثر فأكثر صعوبة، مع حاجتنا في آن واحد للطعام و وسائل التدفئة، مما نضطر إلى دفع الأطفال الصغار إلى القرى المجاورة لجمع البلاستيك المستعمل وأكياس النايلون وبقايا الكرتون ليكون وسيلة بديلة للتدفئة، نستطيع من خلالها إشعال الصوبة والحصول على بعض الدفء، ومع إحتراق تلك الأشياء ونفاذها يتلاشى الدفء، ونقوم برمي الأغطية على الأطفال للمحافظة على سلامتهم من الأمراض ونزلات البرد الحادة”. وينهي حديثه بكلمة أخيرة: “هذا هو شكل حياتنا في فصل الشتاء منذ 4 أعوام إلى الآن”.

فحم … وزيتون أم أحمد ، وهي أرملة 5 أطفال دون العاشرة ، وتعيش في “مخيم الأمل” في منطقة دير حسان الحدودية ، تقول ، “أحصل وتعامل على سلة غذائية (6 كيلو سكر و 5 كيلو رز ومثله برغل بالإضافة إلى 5 كيلو حمص وعدس وعبوتين 4 ليتر زيت نباتي) ، من شركات المنظمات الإنسانية العاملة في البطولة ، وموادها الأساسية ، وموادها الأساسية من أضراره على صحة الأطفال ، نتيجة إنبعاث يطبع داخل الخيمة “. تضيف ، “منذ 4 سنوات نزحت من بلدي سهل الغاب بريف حماة ، ولجأت برفقة أكثر من 50 عائلة ، إلى المخيم ، وكنا حينها تصل إلى مساعدات غذائية ومساعدات أخرى خلال فصل الشتاء من المنظمات الإنسانية ، إلا أنه في عام ، توقفت العودة ، أحوالنا المعيشية تشهد تشهد تراجعاً مأساوياً ، إلى حد الفقر والعيش بحالة تقشف ، خشية جو الموتعاً ، وأخشى هذا الشتاء تتفاقم منازلنا أكثر ، أمام غلاء أسعار مواد بما فيها الغير صحية مثل الفحم أو البيرين (بقايا زيتون) المخلوط بالتراب والحجارة ” .

خط الفقر
وفقاً لدراسة أحوال النازحين المعيشية في المخيمات أجراها ناشطون سوريون مؤخراً، قال الناشط بكار الحميدي أن 70 % من النازحين السوريين في مخيمات الشمال السوري يعيشون تحت خط الفقر، نظراً لتراجع حجم المساعدات الإنسانية من المنظمات الدولية والمحلية، خلال العامين الماضيين، بالإضافة إلى قلة توافر فرص العمل في المجالات الصناعية والزراعية.
واضاف، أن هذه النسبة شملت أعداد المخيمات العشوائية والتي بلغت نحو 450 مخيماً عشوائياً يقطنها حوالي 250 ألف نازح، تم إنشاؤها على مساحات مستوية، غير مخدمة بمجاري وقنوات صرف صحي، و”مع قدوم فصل الشتاء وتزايد غزارة الأمطار، تتعرض معظمها للغرق، وإنسداد الطرق المؤدية لها، مما يزيد ذلك من معاناة النازحين، فضلاً عن أن الخيام المصنوعة من الشوادر والنايلون لا يمكنها مقاومة العوامل الجوية لفترات طويلة، وتتعرض للتلف أمام سرعة الرياح في فصل الشتاء ودرجات الحرارة في فصل الصيف، وغالباً ما تكون عمليات الإنقاذ والإستجابة الإنسانية ضعيفة، مقارنة بحجم الأضرار التي تتعرض لها المخيمات نتيجة الفيضانات وتشكل السيول في فصل الشتاء”.

ضيق تنفس
مع قدوم فصل الشتاء تزداد حالات الإصابة بأمراض مرتبطة بإلتهابات الجهاز التنفسي لدى النازحين، بسبب إستخدامهم وسائل تدفئة غير سليمة مثل أكياس النايلون والأحذية والألبسة المستعملة، وإنبعاث الروائح والدخان داخل الخيام، بحسب الطبيب إياد الحسن في منطقة كفرلوسين (تجمع مخيماث ضخم) بالقرب من الحدود التركية، شمال إدلب.
ويضيف الحسن: ” يلجأ النازحون إلى إستخدام هذه الوسائل الغير سليمة للتدفئة، نظراً لأسعارها الرخيصة، مقارنة بأحوالهم المادية الصعبة، ونتيجة إنبعاث الغازات السامة، ومنها غاز أحادي أكسيد الكربون الناتج عن عملية الاحتراق الجزئي لها، داخل الخيام، يتعرض الأطفال وتحديداً الرضع منهم لحالات إختناق شديدة، يجري إسعافهم إلى المراكز الطبية القريبة، وتقديم الإسعافات الأولية لهم، وإجراء عمليات رفع نسبة الأكسجة السريعة لديهم، وتزويدهم بجرعات رذاذ، وإنقاذهم من موت محقق، وأيضاً كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة يتعرضون لأمراض تنفسية وسعال حاد نتيجة ذلك”.

مناشدات
أطلق فريق “منسقو استجابة سوريا” تحذيراً من شتاء قارس ينتظر النازحين شمال غرب سوريا وسط توقعات بتدني درجات الحرارة بشكل كبير خلال الفترة القادمة،في ظل الفقر والعوز الذي يعانون منه. وقال الفريق في بيان أن 1.512.764 نازحاً سورياً معظمهم من النساء والأطفال على موعد مع فصل الشتاء، وسط الفقر والعوز في الخيام والمباني غير المكتملة التي يعيشون فيها، في ظل عجزهم عن توفير أبسط سبل التدفئة. ولفت التقرير إلى أن الحاجة الماسة في الوقت الحالي للنازحين هو تحسين بيئة المأوى، منوها إلى أن العديد منهم اضطر إلى النزوح عدة مرات في ظل محدودية الأماكن التي يمكنهم العيش فيها، في وقت تعاني فيه مخيمات النازحين من الاكتظاظ السكاني، حيث زادت أعداد المخيمات في مناطق شمال غرب سوريا خلال الفترة السابقة إلى 1.489 مخيماً، بينها 452 مخيماً عشوائياً يقطن فيه 233.671 نازح من مختلف المناطق السورية.
وأوضح التقرير أن جميع النازحين السوريين بحاجة ماسة إلى المساعدات التي تشمل الغذاء والمأوى والمياه والصرف الصحي والنظافة والتعليم، مناشداً جميع الفعاليات العمل على مساعدة الأهالي في مناطق شمال غرب سوريا عبر زيادة المساعدات الإنسانية لمواجهة أزمة البرد والأمطار المقبلة وتأمين الاحتياجات الأساسية للنازحين، في ظل الإرتفاع اليومي الذي يطرأ على أسعار المواد الغذائية و وصل إلى 200% خلال الأشهر الماضية.

تحذير
وحذر وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية، مارتن غريفيث، أمام أعضاء مجلس الأمن الدولي، الأربعاء 27 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، من شتاء قارس ينتظر السوريين في ظل استمرار تفاقم الأزمة الإنسانية والاقتصادية.
وقال غريفيث، “سيواجه السوريون قريباً شتاءً قارساً آخر، فمع بدء درجات الحرارة في الانخفاض، سيؤدي هطول الأمطار والبرد والشتاء إلى تفاقم المصاعب التي يواجهها ملايين الأشخاص”. وشدد قائلاً “نحن بحاجة إلى حقنة عاجلة من المساعدات المنقذة للحياة، خاصة وأن السوريين يستعدون لفصل الشتاء”.
واحتلت سوريا المرتبة الثالثة ضمن قائمة الدول الأكثر هشاشة عالميًا لعام 2021، بحسب تصنيفات دولية.

المستقبل خلف الظهر في قصص “فودكا مغشوشة، بانتظار أن يأكلنا الزومبي”

المستقبل خلف الظهر في قصص “فودكا مغشوشة، بانتظار أن يأكلنا الزومبي”

خلال عقد المأساة السوريّة المستمرة منذ 2011 صدرت عدّة مجموعات قصصيّة تركز على الحرب الراهنة، من بينها مجموعة حديثة (2020) بعنوانفودكا مغشوشة.. بانتظار أن يأكلنا الزومبيعن دار دال في دمشق، وهي الإصدار البكر للقاصّ زياد حسّون.  

في هذه المجموعة القصصية، الزمان هو زمن الحرب، والمكان مدينة لا معارك طاحنة فيها، إنّما تقبع تحت لا رحمة القذائف. مدينة تنتشر فيها رائحة الموت والعبث، لدرجة أن: “أصبح الموت نمط حياة باعثاً للملل.” فلا أفراح أو أحزان حقيقيّة لقاطنيها، سواء الأصليّين أو الهاربين من جبهات الحرب. 

هنا، يستبدّ الزمانُ بالمكان، أو يتداخلان فيما يمكن تسميتهالزمكان المستبدّ“! وهو ما شخّصه القاصّ بفنّيّة لافتة، راصداً تأثيره البالغ بالشخصيّات حيث يقودها ويحدّد مصائرها ويعطّلها عن فعل الحياة، فلا يبقى لها غير الانتظار!  

إنّما انتظار زياد، لا يماثل أيّ انتظار عرفناه، فمثلاً، هو ليس انتظاراً خصباً بالأمل كانتظار بينلوب لأوليس، ولا هو شبيه بانتظار كفافيس المرير الساخر للبرابرة، رغم أنّ انتظار حسّون محقون بالسخرية السوداء، ومضمّخٌ بالعبثيّة، إنّما ليست كعبثية انتظار بيكيت، فهنا، لا غودو قد يأتي. و(قد) المستقبليّة تنتفي في السطور، لأنّ المستقبل توارى بعيداً في الخلف، واختفى كما يغيب البرابرة صنّاع الحرب وقوّادها، لسبب موضوعيّ، فانشغال القاصّ ينصبّ على تصوير إحداثاتهم المدمّرة. أو لسبب فنّيّ أيضاً، فقد جعل من الحرب مجرّد خلفيّة لحكاياته، فهو لا يوثّق لمجازرها وجنازاتها، ولا يوجّه اتهامات، أو يدبّج رسائل وخطابات ممجّة أو يختلق أملاً كاذباً إزاء واقع يسطع فيه اللا أمل! 

هنا، لا فكرة لدى الشخصيّات عمّا تنتظره، إنّما يترجّحُ احتمالٌ واحدٌ: “ربّما أن تجتاحنا قطعان الزومبي وتأكلنا حتّى آخر أبله فينا، أو ربّما نتمكّن نحن من أكلهم اللعنة!… كم هو ميئوس من أمرنا إذاً!” 

زمن الحرب هو الإطار الظاهر للقصص، لكنّ زمناً ثانياً موازياً يحضر بقوّة اليأس، وهو زمن اللحظة الراهنة، تفرّ إليه الشخصيّات من سطوة الزمن الأوّل. لم يعد من فسح للعيش سوى اللحظة الآنيّة، وقد نسيها المستقبل وتوارى خلفها بعيداً! ففي قصّةفنجان قهوة ساخنمثلاً، يقبع آدم في غرفته، تفصله عن الخارج نافذة وستارة لا يزيحها إلّا دويّ انفجار، فكما في قصّةبائع القهوة الميتالبديعة: “هناك ملايين الاحتمالات في الخارج. إنّه مكان خطير للغاية.” وأفضل ما يفعله آدم الاستلقاء والنوم أو ما تيسّر له من ممارسة للجنس في هذه الغرفة، ممارسة باتت تخلو من المشاعر والأحاسيس! أو أنّه يهرب إلى المقاهي كما في قصّةالنادلة، حيث سيكفيه الضجرُ بالتحديق في مؤخّرة النادلة، هذه التي يخمّن أنّها نازحة وتعمل بدافع العوز.

الشخصيّات خائفة، مأزومة مهزومة، مستسلمة، مستهترة، صامتة وهاربة. وأحياناً تبدو، كمصابة باكتئاب حادّ، في حالة دائمة من جلد الذاتّ، تتّهم نفسها بالحماقة والبلاهة وسوء الحظّ، يسيطر عليها شعورٌ خفيّ بالذنب، وكأنّما هي المسؤولة عن عدم موتها بعد.

تحضر شخصيّتان رئيستان، بالتناوب، بطلان لهذه القصّة أو تلك، هما الصديقان آدم وحازم، ويجتمعان في ثلاثيّة القصصيّة، مرقّمة بـ(1-2-3)، وردتْ تحت عنوان موحّد، ينضح بالسخرية: “فودكا مغشوشة من أجل حوار بنّاء، باعد القاص في مواقعها بين النصوص، ليعزّز بعض طروحاته، فالتباعد بين البشر بات سمة في حياة الشخصيّات، يعزلها الموات عن التواصل والتفاعل المجتمعيّ، فلم يعد للأحاديث جدوى، حتّى أنّ لقاء الصديقين، في قصّة: “فودكا مغشوشة من أجل حوار بنّاء (3)”، حدث بعد غياب امتدّ لتسعة أشهر! ويبدأ القاص هذه القصّة بهذه العبارة: “ثمّ اجتمع الرفيقان مجدّداً في ذات الحانة…” ليكون لـ (ثمَّ) هذه شأنها الموضوعيّ في عطف هذه القصة على القصتين السابقتين من هذه الثلاثيّة، وأيضاً شأنها الفنّي في إبراز الفكرة الأساسيّة مجدّداً؛ التباعد/العزلة، وتأكيدها بتكثيف بالغ التأثير، تأثير يحدثه بامتياز حرفُ عطفٍ بمفرده!

يلتقي آدم وحازم، في الحانة ذاتها لشرب الفودكا، وفي صباحي القصّتين السابقتين للأخيرة، وكلّ منهما نام في منزله، يكتشفان إثر صداع رهيب أصابهما، أنّ الفودكا كانت مغشوشة جدّاً! ويختم الكاتب هاتين القصّتين بهامش موحّد، بشرحٍ لماهيةالفودكا المغشوشةفهي: “كحول رديء معبّأ محلّيّاً في عبوات تقلّد ببراعة الماركات المعروفة عالميّاً. وتُعدّ هذه الظاهرة كإحدى النتائج البعيدة للحرب السوريّة.” كرّرها زياد لغايتين، فنّية وموضوعيّة، تاركاً للقارئ كشف المستور، والتقاط السخرية العميقة الكامنة خلفها بدهاءٍ فنّي! لكنّه لم يُلحق ذاك التعريف الماكر للفودكا المغشوشة بهامش القصّة الثالثة، لسبب مرصود للخاتمة. ففي سهرة الصديقين مع الفودكا، وحوارهما الذي لم يبتعد في عمقه العبثيّ عنه في القصّتين السابقتين، تتضح نتائج هذا الواقع العصيب الذي أبطل فعل الكلام، ووأدَ أيّ حوار بنّاء! فها هو آدم مستسلماً يقضي يوميّاته التافهة في زراعة نباتات الصبّار في أصص صغيرة، ترميزاً لتقزّم الصبر وضآلته! أو في مراقبة الفضاء والنجوم عبر منظار اشتراه خصّيصاً لذلك، ما قد يعني أنّ بشاعة مرعبة في الأسفل لا يطيقها النظرُ، ليعيد إلى ذهن القارئ ما ذكره الطفل متأفّفاً وهو يتسلّق الجدار العالي في قصّةعن الحرب الباردة وخزان الماء“: “لا تنظر إلى الأسفل وسيكون كلّ شيء على ما يرام.”  كما أنّ القاص يلمّح بذلك إلى دور الفلك والتنجيم الذي ينشط ويزدهر في واقع يسوده الوهن والإحباط والعجز، ليشكّل التنجيم المعادل الموضوعيّ لهذا الواقع!  

وعلى عكس ما شهدنا في القصّتين السابقتين، لم ينفصل الصديقان لينام كلٌّ في منزله! بل لزما الحانة، فقد حدث أنّهما بعد جدال صاخب، اتفقا على شرب نخب الانتظار، وما كاد كأساهما يلتقيان حتى دمّر انفجار هائل المكان!  

تتوارى سخرية حسّون السوداء وتظهر بفنيّة عذبة، تنبثق هنا وهناك، بصمت وهدوء، كانبثاق قطرات الماء من بين شقوق الصخر، وتسيل هنا وهناك بين الصفحات، وصولاً إلى آخرها. في وصف جثة حازم، كتب: “…كان عنقه ملويّاً بطريقة مضحكة، وعيناه المفتوحتان تنظران إلى آدم بمزيج من الذهول والبلاهة، وكأنّهما تحاولان قول شيء من قبيل: ألم أقل لك: هل نسيت أين نعيش؟ 

لا تعتمد القصص حبكة التشويق التقليديّة، أو الخواتيمّ/ بؤرة التنوير، بل تسير في مسار سرديّ أفقيّ يتصاعد بطيئاً هنا أو هناك زاخراً بالتشويق، وببراعة التصريح والتورية، بتوصيف دواخل الشخصيّات، العفويّة المفعمة بالصدق، واللغة المقتصدة البسيطة بأناقة، فلا تكاد تشغل القارئ، يسوقها أسلوب سرديّ سلس، رشيق، وتكثيف مدهش.

يدفع حسّون بقارئه لاستعادة مضامين القصص كلّها، ليكتشف الفنّيّة المخاتلة في اعتماد القاصّ خلفيّة مزدوجة لقصصه، فهو يصرّح بخلفيّة الحرب، ويواري خلفية اللحظة الراهنة جاعلاً منها أرضيّة مكينة بأغوار صادمة ثرّة تتشابك فوقها دلالات القصص برمّتها وتتداخل بحذاقة لصياغة مبنىً قصصيٍّ فنّيّ جميل.

تُباغت قصص زياد حسّون القارئَ وتغويه للمتابعة، ليكتشف متأخّراً أنّها لا تسلّم نفسَها له بسهولة، وأنّ مقولاتها إنّما هي رؤية ورؤيا، معاً، وقد انكتبت برمّتها لتوضيح ما قاله آدم، في آخر القصص: “حتى ونحن نعيش هنا، الأمر ليس أين نعيش، بل كيف نعيش.”

 وإذاً، لم ينج أيٌّ منّا، نحن السوريّين، من كوارث الحرب، أينما سكنّا في هذه البلاد اليباب! 

المعاهد الخاصة بقعة ضوء تتحدى  مشاكل التعليم شمال سوريا

المعاهد الخاصة بقعة ضوء تتحدى مشاكل التعليم شمال سوريا

أنهى أحمد العمر دوامه في معهد “البيادر” الخاص في مدينة معرة مصرين، لينتقل الآن إلى “المعهد التخصصي” في بلدة كللي شمال ادلب ليدرس مادة الفيزياء والكيمياء لطلاب الثانوية العامة الفرع العلمي.

أحمد كما المئات من الطلاب، اتجهوا للدراسة في المعاهد الخاصة في الشمال السوري بالفترة الأخيرة، نتيجة تدهور العملية التعليمية بسبب ظروف الحرب، إذ تساهم هذه المعاهد برفد التعليم، ويدرّس فيها العديد من الأساتذة المعروفين في مختلف المواد، أغلبهم من النازحين.

منهم المدرس أحمد العمر، الذي نزح من مدينة حلب بسبب استيلاء قوات النظام عليها عام 2016، يقول أحمد :“ بعد أن انقطع الدعم المادي عن التعليم، لم يبق رواتب للمدارس العامة والحكومية بسبب الحرب، فقررت أنا ومجموعة من زملائي المدرسين أن ننشئ معهداً لتعليم المراحل الأساسية كالشهادة الإعدادية والثانوية، واعتمدنا فيها على تأسيس الطالب بالمعلومات الأساسية إضافة لمنهاجه الجديد كي يعوض فترات الانقطاع عن المدرسة ” 

تتوزع هذه المعاهد على كافة المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة،  فبحسب دائرة التربية والتعليم يوجد في إدلب نحو مائتي معهد خاص تم ترخيصها من قبل مديرية التربية، إضافة لخمسة وعشرين معهدا لاتزال قيد الترخيص، و”نظرا لأن هذه المعاهد تحظى بقبول واسع، فقد تم تقديم وتسهيل حصولها على التراخيص المطلوبة من قبل مديرية التربية” بحسب تصريح المديرية.

وبالإضافة لمساعدة الطلاب، ساهمت المعاهد الخاصة بخلق فرص عمل لعشرات المدرسين، يقول المدرس جمال وهو مدرس لمادة الرياضيات من مدينة الدانا أنه تعاقد مع عدة معاهد خاصة بآن واحد، محاولة منه لإيجاد عمل يؤمن من خلاله مصروفاً لعائلته، ويوضح جمال “ان ازدياد أعداد المعاهد الخاصة نابع أساسا من رغبة الأهالي بتعويض الفقد التعليمي لأولادهم، وتحسين ظروفهم التعليمية التي تضررت بسبب الحرب”. 

ولا تقتصر الدراسة في هذه المعاهد على ميسوري الحال، فالبرغم من أن هيا، 16عاما، تقيم مع عائلتها في مخيم للنازحين إلا أن فقر الحال لم يمنع والديها من تسجيلها في المعهد الخاص، فقد باعت أمها ما تملكه من مصاغ لتسديد أقساط المعهد.

وتختلف اقساط التسجيل بين معهد وآخر بحسب عدد الطلاب، وتجهيزات كل معهد والميزات التي يمنحها للطلبة، بحسب مدير معهد التخصصي في بلدة كللي الأستاذ مصعب عربو، وتبلغ رسوم التسجيل لمعهده ب 175 دولاراً لطلاب البكلوريا العلمي و 150دولاراً لطلاب البكلوريا الأدبي و100دولار لطلاب الشهادة الاعدادية.

 ويوضح عربو بأن “هذه الأقساط تستعمل لتغطية أجار المعهد، وكلفة تجهيزه وأجور المدرسين والدعم اللوجستي اللازم للعملية التعليمية”، وتتقاضى المعاهد الخاصة رسوم التسجيل مباشرة لكن معاهد أخرى تقبل بتقسيطها على أشهر الدراسة تسهيلا لدفع الرسوم.

تقول هبه وهي طالبة بكلوريا إن الذي شجعها على التسجيل في معهد كللي الخاص “هو القسط المريح الذي يتوزع على أشهر حيث تدفع 17 دولاراً كل شهر فقط”. 

ويختلف عدد الطلاب بين معهد وآخر بحسب القدرة الإستيعابية للمعهد، وحسب مهارة المدرسين المشرفين عليه، حيث يتفاخر الأستاذ عمر بالعدد الكبير من الطلاب الذين يدرسهم، ويرجع هذا لسمعته الحسنة في مهارته لإيصال المعلومات إلى طلابه بشكل مبسط، ويقول “أقوم بتدريس مادتي الفيزياء والكيمياء لأربع شعب في معهد واحد ناهيك عن المعاهد الأخرى التي أتعاقد معها للتدريس”.  

اضطرت بعض المعاهد إلى النزوح بكوادرها مع الأهالي بعد الهجمة على ريف إدلب الجنوبي، وسيطرة النظام على أجزاء منها، أحمد تعتاع مدير معهد الهدى في كفرنبل يقول :“ بالرغم من أننا نقلنا مقر معهدنا إلى إدلب المدينة إلا أن الإقبال عليه لايزال ممتازا، خاصة وأننا تعاقدنا مع كوادر تدريسية جيدة مما شجع الطلاب على الإقبال للتسجيل”، ويوضح تعتاع أن السبب الرئيسي الذي يقف وراء إقبال الطلاب على هذه المعاهد هو : أسلوبها وطريقتها بالتدريس الذي يختلف عن اسلوب المدارس العامة، حيث تبدأ دوامها قبل العام الدراسي، وتقوم بمراجعة المعلومات السابقة قبل البدء بالمنهاج الجديد، مما يساعد الطالب على فهم واستيعاب المعلومات الجديدة.

كما يجري التعتاع وزملاؤه اختبارات مستمرة، لمراقبة استيعاب الطلاب للدروس قبل نهاية العام الدراسي، ويجري لهم امتحانا رئيسيا مشابها للامتحان العام الوزاري، بهدف إدخال الطلاب لأجواء الامتحان، “ليعرف الطالب مستواه بشكل أفضل مما يدفعه لمضاعفة جهده” بحسب قوله

ولتشجيع الطلاب تقوم إدارات هذه المعاهد بتكريم المتفوقين من الطلاب، فقد تم تكريم 31 طالبا عام 2020، من بين المكرمين طلاب حصلوا على المجموع التام أو نقصتهم درجة واحد في معهد “الهدى” مثل عائشة خطيب، من بلدة كللي وهي تدرس في جامعة إدلب، التي تمكنت بفضل “المعهد التخصصي” من تحقيق حلمها بدخول  كلية الطب البشري.

 

شوفينية التفرد بالألم.. السوريون والأمر الواقع بعد عشر سنين من الحرب

شوفينية التفرد بالألم.. السوريون والأمر الواقع بعد عشر سنين من الحرب

من صاحب شركة رائدة في صناعة الديكور ومعدات المطابخ إلى عامل في سوق الهال، ومن ثم صاحب بسطة دخان، إلى مستأجر لمحل صغير بعد أن تمكن من جني مبلغ صغير نتيجة تنقله في عدة أعمال، مما مكنّه من جمع المبلغ بالتشارك مع صديق له لافتتاح محل صغير لبيع زينة الهواتف النقالة، هذا ملخص رحلة زين مع الحرب.

 الرحلة التي مرت بعشرات المطبات، أولها تدمير شركته في عام 2011 في حي دير بعلبة الحمصي وكذلك منزله، بعيد اندلاع المعارك هناك، ومن ثم ليبدأ رحلة حياته من جديد، الرحلة التي اعتقد أنه انتهى من بناء مقوماتها يوم عاد من الخليج إلى سوريا في عام 2007. لتحول الحرب مستقبله الذي كان ينمو ويزدهر إلى أثر، فقد حطمت الحرب أحلامه وأعادته تحت خط الصفر.

كان الاقتصاد السوري ينمو بوتيرة جيدة نسبياً، مما جعل الاستثمار في المشاريع الصغرى والصغيرة والمتوسطة فعالاً، أما الحديث عن المشاريع الاستثمارية الضخمة، فهذا بحث آخر وهو شائك للغاية، فرجال أعمال ما قبل الحرب كانوا بمعظمهم شركاء بالقوة في أي مشروع جديد في بلدهم، أما بعد الحرب، فلم يختلف الحال كثيراً، فالأثرياء الجدد حلوا محل القدامى، وبات لهم من كل استثمار نصيب.

لا يغْلَبُ الصحفي السوري إذا أراد الحديث عن قصص الناس في الحرب، بل إنّ هناك مقولةً يتداولها الصحفيون بكثرة خلال تحضيرهم لإعداد فكرة ما، مقولةٌ تنص على أنه تحت كل حجر في بلادهم ثمة قصة، وعلى بساطة القول، إلا أنّه يخفي ما يخفي خلفه من قفز فوق حال الوجع الذي صار عنواناً لمشهدية تتكرر في كل مدينة، كل حي، وداخل كل منزل أيضاً، فهل ثمة سوري لم تتغير حياته في سنوات الحرب الطويلة والمريرة؟

أحلام مُدمّرة..

تقول سماح، وهي مهندسة مدنية في دمشق إنها لم تكن تتخيل أن يصل بلدها إلى ما وصل إليه، و تضيف: “كانت أحلامي كبيرة حين تخرجت من الجامعة، وظيفة دولة براتب ممتاز يساوي بضع مئات من الدولار، وبدأت أخطط كيف سأشتري سيارة بالتقسيط، وكذلك منزلاً، وكيف وكيف وكيف، ولكن الحرب عاجلتنا وسرقت طموحنا وآمالنا، اليوم أذهب لعملي وأعود بباصات النقل الداخلي، راتبي ينتهي في أوائل أيام كل شهر، كنت أسعى لأكون علامةً فارقة في مجتمعي، وكنت أنظر للمجد الذي ينتظرني، وكيف أنّ ابنة المزارع الفقير ستتطور حياتها بشكل لافت وسريع، ولكن، الآن، صغرت أحلامي كثيراً، صار حلمي أن أعثر على مقعد في باص النقل الداخلي الذي أستقله إلى مكان عملي”.

حلمت منال ذات العشرين عاماً دائماً أن تكمل تعليمها، ولا زالت تحلم، لولا أنها الآن أم لطفلين، منال التي تربي أطفالها وترفض الاعتراف أنّها صارت أما، إذ تعتبر أنها فجأة وجدت نفسها بين أحضان رجل يكبرها بعشرين عاماً، الفتاة المنحدرة من دوما زوّجها أهلها بالإكراه إبان سيطرة جيش الإسلام على الغوطة الشرقية لقريب والدها، “كنت متفوقةً في دراستي، وكنت الأولى على مدرستي الابتدائية، ولكن مع تقدم الحرب انقطعتُ عن الدراسة مكرهةً، وفجأة وجدت نفسي متزوجة من رجل لا أحبه، أنا أساساً لم أكن أعرف ما هو الحب، كيف لفتاة صغيرة أن تعرف ما هو الحب والزواج والارتباط، أنا الطفلة التي كانت كلما سألتها معلمتها ماذا تريدين أن تصبحي حين تكبرين كنت أقول بكل ثقة طبيبة، طبيبة، حقاً كنت أقول ذلك، أما الآن فكل شيء انتهى”، تقول منال.

المتفوق المتنازل عن حلمه

أما سليمان حامد، مهندس الميكانيك الذي تخرج من جامعته بدرجة امتياز فيقول “كنت أنتظر بفارغ الصبر أن أتخرج من الجامعة وأسافر إلى أوروبا لأعمل هناك، ولكن فجأة وجدت أن طريقي إلى أوروبا سيكون عبر (البلم)، وغالباً سأغرق في طريقي البحري تهريباً إلى اليونان، الآن أنا بأفضل حال، لأنني تصالحت مع فكرة أني صرت لاشيئاً، وأن مستقبلي انتهى، الآن أفكر كل يوم لأي شركة منتجات غذائية سأقدم سيرتي الذاتية الفارغة من الخبرة العملية ليوظفوني بمئة ألف ليرة سورية، في اختصاص غير اختصاصي حكماً، ربما محاسباً، وربما عاملاً، اليأس يفعل أكثر من ذلك”.

شوفينية التفرد بالألم

يبدو الإيجاز أكثر الأمور منطقية في الحديث عما تغير في حياة السوريين خلال الحرب، الأجدى أن نقول: ما الذي لم يتغير؟. الحرب لم تتسبب الخسارات الجسدية وحسب، بل أيضاً خسارة الأمنيات والأحلام والآمال، فقتل الحلم هو ذاك النوع من القتل الذي تصير حياة الأجيال المتواترة بعده أكثر تعقيداً و حدةً، فالدم يجيء بالدم، والكره بالكره، والحزن بالحزن، والفقر بالفقر، كل شيء يجيء بمرادفه، إلا الماضي –وإن كان جميلا- وهذا عينه موضع شك، لكنه على الأقل أفضل من الحاضر، إلا أنّه لن يجيء بالمستقبل المنشود.

الأسى الذي عاشه السوريون في عشرة أعوام، لا يبالغون حين يقولون عنه إنّه ما مر شبيه له في التاريخ الحديث، فالحرب تخلق الشوفينية، وهي شوفينية سلبية بالتأكيد، إنها من النوع الذي يتآمر مع الحاضر على الناس، على قاعدة أنّ ما لم تخربه الحرب ستخربه آثارها النفسية الهائلة في النفوس.

السوري بات سقف طموحه جرة غاز، عشرين ليتراً من البينزين، مئة ليتر من المازوت، ربطة خبز، صاحب بقالية لا ينصب عليه، تأمين قوت عياله، وكذا صارت أحلام الناس في البلاد، حقيقةً هي كوابيس، كوابيس يتمنون أن يصحوا منها ليجدوا أنفسهم في عام 2010.