أغنّي العشب: فيروز جوزف حرب

أغنّي العشب: فيروز جوزف حرب

نقرأ في «سِفر التّكوين» أنّ الله أنهى في اليومين الأوَّلين من عُمر الكون خَلْقَ معظم ما يرتبط بالسّماء والفضاء: النُّور والنّهار والليل، ثمّ فصلَ المياه الدُّنيا عن المياه العليا. وفي اليوم الثّالث أخرجَ الأرض. لم يخلقها كما السَّماء، بل أخرجها من بين المياه، ليبدأ فيها سلسلة الخلق الدُّنيويّة. أوَّل ما أنبتته الأرض كان العُشب. العشب أوَّل ما ظهر في الدّنيا، أوّل ما يمكن أن يمثّل من حيث الجوهر ما ليس سماويًا أو إلهيًا. ليس هذا فقط؛ بل إنّه متمايز عن كلُّ ما نبتَ معه من بقل ونبات وشجر لأنّه – على عكسها – بلا بذر؛ بسيط، لا يرتبط بكلّ ما سواه إلا بالأرض؛ يتوالد من ذاته وفي ذاته. هذا العشب، أو أحد تجسُّداته، هو ما يمثّل فيروز جوزف حرب: قصائد/أغانٍ دنيويّة تولد في الحاضر وتنتهي فيه. ليست بسموّ قصائد سعيد عقل، ببساطة لأنّ عالم جوزف حرب لا يشبه عالم سعيد عقل. عالم عقل، كما أشرتُ في مقالة سابقة، أكبر من الأرض ومن الزّمن، أو في واقع الحال منفصل عن الأرض وعن الزّمن. لا زمن فيه لأنّه يبتلع الأزمنة ويُعيد تكوينها في عالمٍ حُلُميّ لا يشبهنا، ولن نشبهه، وإنْ كنّا نتوق إلى عيشه. هذا التّوق هو ما يجعلنا بشرًا: تمنّي ما ليس مثلنا، عيش الـ «يا ريت» التي تُكثّف عالم جوزف حرب. المقارنة بين هذين العالمين ليست مجحفة بقدر ما هي عبثيّة. عالمان مختلفان بالمطلق، لا يربط بينهما شيء حتّى فيروز التي تبرع، كما لا تبرع مطربةٌ أخرى، في التّماهي الكليّ مع عالم القصائد التي تغنّيها. فيروز سعيد عقل تغنّي السّامي، المطلق، اللامتناهي؛ فيروز جوزف حرب تغنّي الدنيويّ، الأرضيّ، العُشب. فيروز سعيد عقل ليست فيروز جوزف حرب، وليست فيروز زياد الرّحباني بالرّغم من تقارُب عالمَيْ جوزف وزياد.

يتماهى سعيد عقل مع المطلق، مع الإلهيّ. قد يبدو التّوصيف عجيبًا حين نتذكّر دنيا عقل خارج القصائد، إذ نعجز عن الحديث عن عقل بلا تحفّظات أو استطرادات تفسيريّة، وتبريريّة ربّما. ولكنّ التّوصيف صحيح بالرّغم من دنياه الشخصيّة النّابذة. التّوصيف صحيحٌ لأنّ دنياه نابذة، إقصائيّة، نخبويّة، مرعبة من فرط الكبرياء. سعيد عقل يشبه إلهًا توراتيًا لا يعرف إلا الغضب وإقصاء ما لا يشبهه؛ ولا أحد يشبه ذلك الإله وتجسّداته النّادرة في واقع الحال. عالمه الشِّعريّ لامتناهٍ، وعالمه الدنيويّ يسعى لأن يكون، أو يبدو على الأقل، لا متناهيًا. السّعي عبثيّ. ولأنّه عبثيّ، بات عقل محكومًا على الدّوام بهذا التّناقض المُفجع. جوزف حرب، بالمقابل، يشبهنا بفضائلنا وخطايانا. هو ابن الحاضر، ابن اللوعة والضحكة، والحِداد والبهجة، والنّقاء والعَفَن. ولأنّه ابنٌ متجذّر في الحاضر لا بدّ من أن يسعى إلى الانزلاق في فخ التّناقضات. يدرك البشريّ أنّه ليس إلهًا، وليس ملاكًا مُكرَّمًا في السّماء أو ملعونًا في الأرض، غير أنّه يدرك – في الوقت ذاته – أنّه وُجِد على صورة قوةٍ فوق-بشريّة، قوّة لادنيويّة، لا ترضى ولا تَقْنَع، بل تسعى (تتوق؟) دومًا إلى الكمال كخالقها، لترى – مثل خالقها – أنّ ما تفعله حسنٌ كلّما أبدعت أمرًا جديدًا. جوزف حرب ابن الـ «يا ريت» التي تُلخّص تراجيديا أن تكون مسجونًا في زمنٍ أوحد خانق، لا فرار منه إلا بالتمنّي، إلا بالخيال، إلا باستعادةٍ عبثيّة لزمنٍ مضى كي يكون الزّمنُ القادم أجمل. الماضي في دنيا جوزف حرب، وفي دنيانا، مرتبطٌ بالمستقبل لا بالحاضر. الحاضر زمن التمنّي والتحسُّر والتفجُّع فقط؛ تمنّي تكرار الماضي في مستقبل أجمل لأنّنا – بالتّحديد – نودُّ لو يشبه الماضي، لو يكون على صورته، بالرغم من إدراكنا الواعي أنّه لا يكون، ولن يكون.

 أوَّل ما يصادفنا حين نستعرض قصائد جوزف حرب الفيروزيّة الصّدمةُ التي ستصحّح فكرتنا المغلوطة السّائدة. يُشار غالبًا إلى أنّ فيلمون وهبي كان الملحّن شبه الحصريّ لقصائد جوزف حرب، ربّما بسبب انتشارها الهائل، وبسبب البصمة الفيلمونيّة الفريدة التي نلتقطها بسهولة من بين جميع ملحّني فيروز. الواقع مُغاير بعض الشيء. لحَّن فيلمون أغلب قصائد حرب حقًا، إلا أنّها أغلبيّة طفيفة. من بين أربع عشرة قصيدة (هي ما تمكَّنْتُ من إيجاده، ولعلّ العدد أكبر)، لحَّنَ فيلمون ثماني قصائد، ولحَّن زياد خمس قصائد؛ أما قصيدة «لبيروت» الشّهيرة فهي موسيقا خواكين رودريغو. تقسيم القصائد تبعًا للملحّن ليس تقسيمًا صارمًا تمامًا، وكذا الحال بالنّسبة إلى تقسيمها تبعًا لثيماتها، لذا سيكون تحليل القصائد مزيجًا من هذين التّقسيمين.

تنقسم القصائد ثيماتيًا إلى قسمين: القصائد «الوطنيّة» والقصائد الغنائيّة «العاطفيّة». القصائد «الوطنيّة» أربع هي (حسب الترتيب الهجائيّ): إسوارة العروس، رح نبقى سوا، فيكن تنسوا، لبيروت. أولاها من ألحان فيلمون، والأخيرة من موسيقا رودريغو، والثانية والثالثة من ألحان زياد. وضعتُ صفة «الوطنيّة» بين مزدوجين لأنّ القصائد لا تندرج بدقّة تحت هذا التّصنيف: ليست أغانٍ حماسيّة، بطوليّة، زاعقة، مع استثناء طفيف للأغنيتين الثانية والثالثة إذ تبدوان ناشزتين عن القصيدتين الأخريين، حيث نجد فيروز في عباءة الواعظ والمحرّض لتؤكّد لنا في إحداها: «جاي النصر وجاية الحريّة» وتحرّضنا في الأخرى: «لا تنسوا وطنكن». اللافت أنّ زياد هو مَنْ لحّن هاتين الأغنيتين اللتين تبدوان أقرب إلى عالم الأخوين رحباني. يغرينا وجود اسم زياد إلى الشكّ بأنّ الأغنيتين پاروديا، إذ تبدوان متسلّلتين من مسرحيّة «شي فاشل»، حيث الوطن الذي كان الرحبانيّان يغنّيانه قد اندثر ومُسخَ إلى موضوعٍ ليس جديرًا إلا بالسخرية اللاذعة. إلا أنّ الواقع صادم حقًا، فالأغنية فيروزيّة، ولم نسمع فيروز يومًا في پاروديا لصورتها الرحبانيّة القديمة بصرف النّظر عن مدى تغيُّر هذا الوطن الذي غنّت وتغنّي له. القصيدتان الباقيتان أجمل وأعمق بما لا يُقاس. لا مباشرة ولا تحريض حتّى حين يُذكّر «الوطن»، أكان تجريدًا عموميًا للبنان كلّه، أو تخصيصًا للجنوب، أو لبيروت، لأنّ الأماكن، ولبنان عمومًا، ليست الوطن نفسه الذي تُدبَّج له القصائد الحماسيّة. الجنوب وبيروت ولبنان، عند جوزف حرب، أماكن خريف، بِقاع رثاء، لا تختلف جوهريًا عن عالم الـ «يا ريت» الذي يُعرِّف عالم حرب. الشِّعر هنا شجيٌّ صافٍ كما لو كان قصيدة حبّ؛ مرثاة حبّ مضى وبقيت ذاكرته الموجعة. لا فارق إنْ كانت القصيدة محكيّة أم فصيحة لأنّ المجاز هو المجاز، والشِّعر هو الشِّعر: «لما بغنّي اسمك بشوف صوتي غلي/ إيدي صارت غيمة وجبيني عِلي» لا تختلف جمالًا ولوعةً وألمًا عن «أطفأت مدينتي قنديلها/ أغلقتْ بابَها/ أصبحتْ في السّماء وحدها». وطنٌ واحدٌ هو ما يغري جوزف حرب بالاستطراد والسموّ الشعريّ: وطن الخيبة، وطن الحرائق، وطن الحاضر الكالح، وطن الرّماد الذي سيُصبح مجدًا سرمديًا لبيروت قبل أن تنقله لمدننا كلّها. «مجدٌ من رماد» لها ولنا ولكلِّ من سيحاول يومًا التغنّي بالوطن، التغنّي بهذه الأرض الجاحدة التي تُرغمنا على هجرها، كي نقيس المسافات بلوعة الشِّعر.

وطن جوزف حرب يشبه وطن ميخائيل ليرمنتف حيث روسيا تلك التي لا فارق إنْ كانت قيصريّة أم لا، كما لا فارق إنْ كانت بيروت هي بيروت قبل الحرب أم أثناءها أم بعدها، إنْ كان ثمّة بعد لجحيم الحرب. يغنّي ليرمنتف، في قصيدته «أرضي»، الوطنَ من دون أن ينزلق إلى فخّ التّمجيد الأجوف: «ومع هذا فأنا أحبك – لا أكاد أعرف لمَ»؛ يغنّي الوطن من دون أن يغنّي «الوطن»، إذ يُفرِّق هذان المزدوجان بين عالمين متمايزين متباينين، بل متناقضين: عالم وطن الأمجاد، وعالم وطن التّفاصيل التي نحبُّها فنحبّ الأرض التي تضمُّها. يستطرد ليرمنتف في «تبريره» لحبّ الوطن (فهذا الحبّ بحاجة إلى تبرير حتمًا) حين يسرد تلك التّفاصيل التي تجعل الأرض وطنًا جديرًا بالحبّ وبالعيش: أرض الطبيعة، لا أرض البشر والحجر؛ أرض الأنهار والصخور والوديان والأشجار والأزهار والعشب. وكذا هي أرض جوزف حرب، وطن جوزف حرب؛ بيروت ليست أرض المقاومة أو الانعزاليّة أو الفينيقيّة أو العروبة أو اليسار أو اليمين، بل هي البحر والبيوت والصخرة التي كأنّها وجه بحّار قديم، والموج والغيم. الفارق بين ليرمنتف وحرب أن حرب لم يعبّر صراحةً عن حبّه للوطن (لحسن الحظ!)، أو عن تبريرات ذلك الحب غير المباشر؛ وأنّ ليرمنتف ابن الرومانتيكيّة وابن الطبيعة أكثر من حرب الذي لا نجده شاعر طبيعة صرفًا (في قصائده الفيروزيّة على الأقل)، إذ هو ليس ميشيل طراد أو طلال حيدر، بل هو أقرب إلى صلة وصل بين الطّبيعة التي غمرت فيروز من الخمسينيّات إلى السبعينيّات وبين المدينة التي بدأت تتسلّل شيئًا فشيئًا إلى أغانيها لتبلغ ذروتها في تعاونها مع زياد. كان جوزف الحرب الباب الذي عبرت منه فيروز إلى عالم المدينة، وإلى هموم الحب وتفاصيله بين حبيبين مدينيّين في الغالب. ليس مصادفةً ولعُ حرب الذي يقارب الهوس بالأبواب التي تشكّل مفتاحًا شديد الأهميّة في فهم قصائده، لا في الأغنية التي كُرِّست للأبواب كاملةً («البواب») وحسب. كانت تلك القصيدة بعبارتها الصارخة: «آه يا باب الـ محفور عمري فيك/ رح انطر وسمّيك باب العذاب» صدًى غير مباشر للوعةٍ أقدم هي لوعة إنكيدو الذي رأى باب انتصاراته الحربيّة القديمة بابًا لهزائمه القادمة ولاندثاره الموجع: «لو كنتُ، يا باب، أعرف أنّك تُضمر لي مثل هذا/ لو كنتُ أعرف، يا باب، أنّك ستكافئني هكذا/ لكنتُ حملتُ فأسًا وقطعتك». الباب لدى إنكيدو ولدى حرب سجلُّ ذاكرة، ذاكرة دنيويّة، دنيا الخيبات والهزائم، هزائم الغرباء العالقين بين عالمين. جوزف حرب، أيضًا، عالقٌ بين عالمين، كما هو عالق بين زمنين، لا سبيل إلى التّوفيق بينهما. نلمحُ توتّرًا في بعض القصائد لا يمكن فهمه إلا بكونه محاولةً عبثيّةً لإدخال ماضي الطبيعة في حاضر المدينة الحجريّ البارد، ولا سبيل إلى ربط هذين المتناقضين إلا عبر الباب الذي يُفتَح فيبدأ الحب ويُغلَق فيبدأ الحنين، يُفتَح فيتسلّل الماضي ويُغلَق فيهجم الحاضر. حالة تذبذب دائمة كانت الألحان أكبر تجسُّدٍ لها.

ألحان فيلمون وهبي طاغية تحاول التهام الكلمات والصوت لأنّها إيقاعات أزمنة متتالية طاغية هي الأخرى. يمكن أن نفهم كلاسيكيّة ألحان فيلمون بمعنييها الحرفيّ والمجازيّ: كلاسيكيّة من حيث التزامها الصّارم بالمقامات الموسيقيّة الراسخة، وكلاسيكيّة بمعنى التّقليديّة التي تشبه زمن الماضي وتُعرِّفه؛ الزمن الذي كان هادئًا لأنّه – ببساطة – يخلو من التمرّدات. العُرف سيّد الموقف دومًا حتّى في الحالات الحبّ التي تفترض وجود شراكة بين اثنين. المرأة أضعف في قصائد حرب الفيلمونيّة. امرأة الحسرة، امرأة ردود الأفعال التي تنتظر المبادرة من الحبيب حتّى في غيابه، ويكاد وجودها كلّها أن يُعرَّف بكونها مرتبطةً بذلك الحبيب. ضمير المثنّى الذي يسود قصائد حرب الفيلمونيّة ضميرُ مفردٍ في واقع الحال، ضمير ذلك الحبيب الذي يمسك خيوط العلاقة حتّى في غيابه. لا يحدث النّسيان إلا بمبادرة من ذلك الغائب، ولا يُعاوِد الحبّ تفجّره إلا بمبادرةٍ ممّن هَجَر: «اعطيني اهرب منك ساعدني إنساك/ اتركني شوف الإشيا وما تذكّرني فيك» أو «إذا رجعت بجنّ وإن تركتك بشقى/ لا قدرانة فلّ ولا قدرانة إبقى». امرأة حاضر تحاول استعادة ماضي ذلك الغائب الطاغية كي تخلق مستقبلًا يشبه ذلك الماضي في طغيانه، لتعود الأمور إلى «طبيعتها» حين تستمدّ المرأة وجودها من غيرها، ولا تكتمل إلا بالنّقصان.

حين بدأ زياد مشواره الفيروزيّ الحقيقيّ كان فيلمون وهبي قد رحل، إلا أنّ زياد بقي على إخلاصه الفيلمونيّ لا في الألحان فقط، بل أيضًا في ثيمات قصائد حرب القديمة. لن نجد فوارق لحنيّة كبيرة بين «حبّيتك ت نسيت النّوم» أو «زعلي طوّل» الزياديَّتَيْن وبين «لمّا ع الباب» أو «بليل وشتي» الفيلمونيَّتَيْن. وكذا لن نجد فوارق في صورة الحبيبة التي بقيت على حالها بالرّغم من شخصيّة زياد المتمرّدة التي لم تكن قد وضعت بصمتها المتفرّدة بعد. كانت أبواب جوزف حرب تُفتَح ببطء أمام عبقريّة زياد لأنّ حرب أطال وداعه لعبقريّة فيلمون. لن نجد غرابةً حين نصادف عبارةً مثل: «حبسي إنت إنت حبسي وحرّيتي إنت» أو «بتشوفن ما مرقوا إلا إيديك على هالبيت» لأنّها رواسب فيلمونيّة كانت تنتظر إغلاق باب حرب إغلاقًا تامًا كي تنتهي لحنًا وكلمة. أو لعلّه تردُّد زياد أمام سطوة ماضي فيروز الذي لم يكن ليتغيّر بأغنية أو اثنتين. أو لعلّه تحفُّظ فيروز التي لم تكن قد نفضت عنها الصورة الأيقونيّة التي تعهَّدها الرّحبانيّان وفيلمون. أو لعلّه بطء جوزف حرب نفسه حين لم يتحرّر من ذاته القديمة، وواصل النَّهل من منابعه المعتادة بالرّغم من الألق الجديد الخفيّ الذي شرع يظهر في القصائد الجديدة من ناحية نبذ الماضي وصور الطّبيعة، وتلمُّس تفاصيل محسوسة تنأى عن التّجريد القديم الذي كان يسم عالم فيروز عمومًا. لعلّها هذه الأسباب كلّها مجتمعةً، ولعلّه سبب آخر لا سبيل إلى معرفته. كان علينا انتظار العام 1987 كي تحدث المعجزة.

كانت المعجزةُ صدورَ ألبوم «معرفتي فيك» الذي شكَّل أولى الخطوات الزياديّة الواثقة في قلب عالم فيروز رأسًا على عقب، وفيه قصيدة/أغنية «خلّيك بالبيت» لجوزف حرب. كان الألبوم «فضيحةً» بالنّسبة إلى شريحةً كبيرة من جمهور فيروز التي هجرتْ أيقونتها وباتت امرأة دنيويّة سيّدة نفسها. كان رفض الجمهور لهذه «الهرطقة» الفيروزيّة/الزياديّة رفضًا صارخًا. صحيح أنّ هذا الرفض خفتت آثاره بالتّدريج إلى أن طوَّع زياد آذان وآفاق جمهور فيروز، إلا أنّ لحظة صدور الألبوم ما تزال أحد التّواريخ الأساسيّة في مسيرة فيروز وزياد، وفي مسيرة جوزف حرب أيضًا.

تلاشت فيروز الرحبانيّة، وفيروز الفيلمونيّة، وظهرت فيروز جديدة تماهت مع ابنة المدينة، ابنة الجاز، ابنة علاقات الحب التي يحكمها السّجال الندّيّ لا الرّضوخ أو الرجاء. ستبلغ فيروز هذه ذروة تمرّدها بعد ألبومات عديدة إلا أنّ للحظة البداية إغواؤها الرائع. صارت فيروز جوزف حرب – للمرة الأولى – صاحبة المبادرة في علاقة الحب التي تومئ القصيدة إلى أنّها علاقة مساكنة لا زواج، علاقة عشق مدينيّ لا تقاليد قديمة. امرأة تسكن بيتًا بمفردها خارج سلطة العائلة، امرأة هي صاحبة المبادرة في ضبط إيقاع العلاقة، امرأة لا تُصرِّح بالحبّ وحسب بل بحبّ الحب: «هلق حبّيت» للمرة الأولى في بادرة غريبة عن عالم جوزف حرب. لا «يا ريت» هنا بالرغم من الرجاءات الظاهريّة التي لا تعدو كونها غنجًا لا تبعيّة، لن نجد عبارة مثل: «يا ريتك مش رايح، يا ريت بتبقى ع طول». حبيبان أمام البيت بعد انتهاء الوصال، كما كان العاشقان في «لمّا ع الباب»، إلا أنّ المرأة في «خلّيك بالبيت» لا تحبّذ الوداع ولا ترتضيه خيارًا. خلّيك بالبيت لا عند الباب. انتهت مرحلة الباب الفاصل بين عالمين، وصرنا في مرحلة البيت: بيت الحب المتكافئ، بيت العلاقة الندّيّة، لا محض لقاءات ليليّة مختلسة يليها تفجُّع؛ بيت زياد الرحباني في واقع الحال، غير أنّ هذا العالم لم يكن لينطلق انطلاقته الواثقة في ألبومات متلاحقة لولا «خلّيك بالبيت». ليس زياد وحده، أو فيروز وحدها، مَنْ هرطق ونسف صورة الماضي الأيقونيّة. جوزف حرب، أيضًا، هرطقَ، وإنْ لم يكرّر المحاولة أبدًا، إذ اكتفى بمحاولته الوحيدة وارتضى ولعه الأثير بالأبواب، بالتردّد، بالحافّة، لا بالبيوت التي استعادت هدوءً جديدًا لا يشبه هدوء الماضي الرّاضخ.

بقي جوزف حرب في ذاكرة كثيرين مرتبطًا بتلك الـ «يا ريت» القديمة، وغفلوا عن «خلّيك بالبيت»، ربّما بسبب وقوعهم في وهم أنّها لزياد لا لجوزف، إذ هي زياديّة حقًا. ترك جوزف حرب نفسه عند الباب وشرّعه أمام آخرين، وواصلَ إدمانه على هشاشة العشب الدنيويّ.

حين أرسل الله طوفانه، في «سِفر التّكوين»، محا جميع الكائنات عن الأرض، غير أنّنا لا نجد إشارة صريحةً حيال مصير العشب. لعلّه نجا من الطوفان خلسةً كما ينجو دومًا من العواصف التي تمحو كلّ شيء، بشرًا وشجرًا وحجرًا، ويبقى العشب بهشاشته سجلًا وذاكرةً على أبواب العالم الجديد بعد النّجاة. لعلّنا ننجو بهشاشتنا في نهاية المطاف. ربّما.

*تنشر بالتعاون مع جدلية.

من الأمة إلى الطائفة: سوريا في حكم البعث والعسكر: قراءة في آخر مؤلّفات الراحل ميشيل كيلو

من الأمة إلى الطائفة: سوريا في حكم البعث والعسكر: قراءة في آخر مؤلّفات الراحل ميشيل كيلو

برحيل ميشيل كيلو (مواليد 1940)، الكاتب والمترجم والمثقف والسياسي والمعارض البارز للنظام السوري منذ خمسة عقود، يوم الإثنين (19 من الشهر الحالي) في العاصمة الفرنسية باريس، إثر تدهور حالته الصحية بعد إصابته بفيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، عن عمر ناهز 81 عاماً، خسرت سورية قيمة فكرية كبيرة وقامة وطنية عظيمة.

كتاب «من الأمة إلى الطائفة.. سوريا في حكم البعث والعسكر»، الصادر مؤخراً عن دار “موزاييك للدراسات والنشر” السورية في مدينة إسطنبول، هو آخر ما صدر للراحل من كتب، والذي سنستعرضه في هذه المقالة، للوقوف على دراسته النقدية لحكم حزب البعث والعسكر في سوريا؛ والذي قسمه على ثلاث مراحل، امتدت أولاها من عام تأسيس حزب البعث عام 1947 إلى عام 1966. والثانية من انقلاب 23 شباط (فبراير) 1966 إلى 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1970؛ وهو عام انفراد الفريق حافظ الأسد (1930-2000) بالسلطة وكان حينها وزيرًا للدفاع. والمرحلة الثالثة من عام 1970 إلى قيام الثورة السورية في 15 آذار (مارس) 2011. مفصلاً آليات السلطة البعثية، وكيف استطاعت إحكام السيطرة على كافة مؤسسات الدولة السورية السياسية والعسكرية طيلة العقود الخمسة الماضية، ساعياً إلى توضيح صورة انقسام سوريا بعد الحكم الأسدي من خلال تطييف السلطة والمجتمع، ليقتصر عمل هذه السلطة (الأسدية) على بُعدها الطائفي.

جاء الكتاب في (386 صفحة من القطع الكبير)، ويقع في ثلاثة أجزاء: الأول عن الحزب، الذي تأسّس رسمياً عام ١٩٤٧، وما مرّ به من تحوّلات وتعرجات، نقلت مواقفه من النقيض إلى النقيض، فيما يتصل بأكثر قضاياه أهمية ومركزية كقضية الوحدة العربية، ناهيك عن الحرية والاشتراكية، وفهمه لهما. وينتهي هذا الجزء في العام ١٩٦٦، بالقضاء على بعث كلٍ من ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، وتأسيس بعث مختلف على يد ضباط (اللجنة العسكرية) العائدين من مصر، بعداء شديد للوحدة معها ولشخص الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، والرافضين لقيادة عفلق (المتهم بخيانة الحزب)، لأنه وافق على حلّه من أجل الوحدة مع مصر الناصرية.

يذكر المؤلّف في المدخل التمهيدي لهذا الجزء (الأول) الموسوم بـ «من تأسيس بعث عفلق إلى القضاء عليه أو من ١٩٤٧ إلى ١٩٦٦»، أنه “إذا كان هناك في تاريخ سورية الحديث تشكيل سياسي ناقض مساره الواقعي ما ألزم نفسه به من وعود ورفعه من شعارات، قبيل وعند وبعد إعلان ولادته يوم السابع من نيسان (أبريل) عام ١٩٤٧، ثم قبل وبعد مشاركته في الانقلاب على السلطة عام ١٩٦٣، والانفراد بها بين هذا العام وعام ١٩٦٥، فهو التشكيل الذي أسسه الراحلان ميشيل عفلق (١٩١٠ – ١٩٨٩) وصلاح الدين البيطار (١٩١٢ – ١٩٨٠)، وحمل اسم “حزب البعث العربي”، ثم ما لبث أن تغيّر إلى “حزب البعث العربي الاشتراكي”، بعد اتحاده عام ١٩٥٢مع “الحزب العربي الاشتراكي”، الذي كان قد أسّسه الراحل أكرم الحوراني (١٩١٢ – ١٩٩٦) في حماه وريفها عام ١٩٥٠. مبرزاً ما دار من صراعات وانقلابات في سورية قبل وبعد منتصف ستينات القرن الماضي، حيث “بدأت مرحلة صراعات أشد ضراوةً وعنفًا، استمرت حتى عام ١٩٧٠، ودارت داخل (اللجنة العسكرية) وبين أجنحتها، ومرت بانقلابين عسكريين كبيرين: وقع أولهما يوم الثالث والعشرين من شباط (فبراير) عام ١٩٦٦ ضد الفريق أمين الحافظ (١٩٢١ – ٢٠٠٩)، رئيس الجمهورية المقرب من ميشيل عفلق، تخللته معركة استمرت ساعات عديدة في حي أبي رمانة، أرقى أحياء دمشق، أرسل بعد حسمها إلى سجن المزّة. ووقع ثانيهما يوم السادس عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) عام ١٩٧٠، عندما أطاح وزير الدفاع الفريق حافظ الاسد بالأمين القطري المساعد لحزب البعث اللواء صلاح جديد في انقلاب سلمي لم ترق فيه دماء، وأُرسل غريمه إلى سجن المزّة العسكري بصحبة العدد الأكبر من رفاقه في قيادة الحزب، حيث بقي إلى أن توفاه الله بمرض مفاجئ يوم ١٩ آب (أغسطس) عام ١٩٩٥، بعد خمسة وعشرين عاماً من احتجازه دون محاكمة أو تهمة”.

وبعد استقراء نقدي للفترة ما بين 23 شباط (فبراير) 1966 و16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1970؛ عام انفراد الفريق حافظ الأسد بالسلطة. يحلّل صاحب «دير الجسور»، أبعاد الصراع بين تياري حافظ الأسد وصلاح جديد، وكيف قاد حافظ الأسد انقلابه العسكري في 16/11/ 1970، والذي أطاح فيه بصلاح جديد، ورفاقه في الحزب واللجنة العسكرية، وقبض عليهم ورماهم في سجن المزّة، إلى أن ماتوا فيه أو خرجوا منه إلى القبر،

مستعرضًا في السياق، الطريقة التي تم بها نصب فخ لمصر وعبد الناصر من خلال اللجنة العسكرية، التي أفادت من موقف عفلق، الذي انتقل من رؤية الحزب بدلالة الوحدة إلى رؤية الوحدة بدلالة الحزب، وصراع عبد الناصر على زعامة العالم العربي باسم الوحدة، وتولت الإعداد للحرب التي أطاحت به، وانتهت بالتخلّص من نظامه، وبصعود نظام حافظ الأسد إلى موقع قيادي في العالم العربي، خلال الحقبة التالية، وفق علاقات قوى جديدة مع إسرائيل.

الجزء الثالث، والذي يقع في قرابة مائتين وخمسين صفحة، وهو الأهم والأطول في الكتاب، يحلّل فيه صاحب «قصص واقعية من عالم الأشباح.. ذكريات من سجون الأسد»، باستفاضة ظاهرة الأسدية تحليلًا بنيوياً شاملاً، شارحاً فيه كل ما يتّصل بتاريخ الأسد الأب وخياراته وآليات اشتغاله والنتائج البعيدة المدى التي ترتبت عليه. مقدمًا من خلاله قراءة مغايرة لكل ما كتب سابقًا في هذا الصدد، في محاولة تكون الأقرب إلى كشف واقعه.

يؤكّد كيلو في كتابه، أنّ علاقات حافظ الأسد الأب مع إسرائيل كانت السبب الرئيس لتسليمه السلطة عام ١٩٧٠، بعد ثلاثة أعوام على تسليمه الجولان لها. وأنه عمل (أي الأسد الأب) على إرساء علاقته مع الإسرائيليين على ركيزتين هما: انصرافه، من جهة، عن اعتبار وجودها غير شرعي ويستدعي التحضير لمعركة معها، تتجاوز سورية إلى فلسطين وأمن وسلامة العالم العربي، الذي كان جليًا على الدوام أنها جهة مكلفة بضبطه، ومصمّمة عليه. ونقل سورية، بالمقابل، من طرف معركته الإستراتيجية معها إلى جهة معركتها مع العالم العربي، بذريعة محاربة عملائها، الذين كان يكفي أن يكونوا مختلفين معه أو مناوئين ومعارضين لنهجه حتى يعاديهم كعملاء للصهيونية، التي جلست مسترخية في الجولان، دون أن يسمح النظام الأسدي بإزعاجها.

يلفت كيلو في سياق تحليله، إلى أنّ حافظ الأسد عمل تحت مظلة إسرائيل، ولم ينفذ غير المهام التي وافقت عليها، كما فعل عندما غزا لبنان، بذريعة حمايته أرضاً وشعباً، وخاض حرباً منظّمة ضد منظمة التحرير الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات، وضد قوى الحركة الوطنية اللبنانية بحجة المحافظة عليها، بينما احتلت إسرائيل ١٢٪ من إجمالي مساحة لبنان وأقامت منطقة عازلة في جنوبه، دون أن يفعل جيش النظام السوري شيئاً، والسبب هو تفاهم على إدخاله إلى لبنان مقابل تقاسم وظيفي له، وحق إسرائيل في الإشراف على دوره فيه، ورسم خطوط حمراء لا يتخطاها في جنوب الليطاني ومنطقة كفريا في جبل لبنان، مقابل المنطقة المسيحية، وإطلاق يده في خصومها (الفلسطينيون واللبنانيون).

ويرى المؤلّف، أنّ التزام بشار الأسد بهذين المحددين، بالإضافة إلى إبقاء المجتمع السوري خارج الشأن العام، وانفراد الأجهزة الأسدية بإدارة الدولة والمجتمع، انطلاقاً من أسس طائفية بنتها السلطة كي تُبقي المجتمع مقسماً وموزعاً على جهات متناحرة، ليست إسرائيل بين همومها، ضمن الأسد الابن بعد الثورة كرسيه، مقابل تدمير دولة ومجتمع سورية كهدف رئيس جدًا من أهداف تل أبيب، ما كانت لتتمكّن من إنجازه دون خسائر فادحة تلحق بها، وقاها الأسد منها.

  • كيف جعل الأسد من طائفته جزءًا من أدوات قمعه..

تميّزت قراءة المؤلّف لظاهرة الأسدية في الجزء الثالث من الكتاب، ببناء نظام تديره أجهزة معظمها سري وقمعي، نافية للمجتمع، تنتمي إلى مجتمع سلطوي راكب على سوريين مشتتين ومقموعين ودون حقوق من أي نوع كان، وقادر على انتزاع كل ما هو بحاجة إليه من موارد لإعادة إنتاج نفسه في إطار يعمق ويعزز حضوره في الشأن العام، وتفوقه على عدوه الداخلي كما يتمثّل في المجتمع الخاضع.

وفي تلخيصه لماهيّة بنية السلطة الحزبية والأمنية والعسكرية الأساسية التي أرساها حافظ الأسد لضمان بقاء نظامه بعد الاستيلاء على السلطة رسمياً بانقلابه العسكري. رأى كيلو أنها بنية إجرامية مكرسة لاحتكار الحقل السياسي واحتلال المجال العام، ومنع الشعب السوري من امتلاك حقوقه أو المطالبة بها، وهو ما تأكّد بعد الثورة، حين انقض بجيشه، الذي سلم الجولان عام ١٩٦٧ دون قتال لإسرائيل، وفرّ في حرب ٧٣، واندحر خلال أربع وعشرين ساعة، اخترق الجيش الإسرائيلي بعدها القطاع الشمالي من الجبهة، بعد أن احتوى هجوم آلاف الدبابات الأسدية، الذي اعترف حافظ الأسد في حديث له مع الصحافي الأميركي أرنو دو بوشجريف بتدمير ١١١٢ واحدة منها خلال أربع وعشرين ساعة، واِدّعى أنّ جيشه خاض أكبر معركة دبابات في التاريخ، والحقيقة أنّ معظم الدبابات لم يدمّر، بل تُركَ في أرض المعركة لأنّ أوامر “القيادة” إلى ضباطها كانت تلزمهم بعدم التضحية بحياتهم كي لا ينهار النظام. هذا الجيش الذي يتعايش مع احتلال الجولان منذ أربعة وخمسين عاماً، لم يتعايش يوماً واحداً مع مطالبة السوريين بالحرية، التي وعدهم حزب البعث بها منذ نيف وسبعين عاماً، وتشدق الأسد الأب بوعدها في جميع خطبه، بل انقض عليهم كما لم ينقض جيش استعماري على شعب مستعمر، وقتل وجرح وشوه وعذب الملايين منهم!

يذهب كيلو عميقًا في تشريح علاقة النظام بطائفته التي جعل منها جزءاً من أدوات قمعه،

شارحًا بنية هذا النظام بتركيزه على الأسدية بوصفها قائمةً على طائفية عميقة اتّخذت من الطائفة العلوية محورها الأساس وركيزة لها لحكمها الطائفي، وكيف عمل الأسد الأب على عزل الطائفة التي ينتمي إليها عن باقي مكوّنات الشعب السوري، وتحويلها إلى أقليةٍ معاديةٍ له، عامداً إلى بقاء دائرته الطائفية مغلقةً على ذاتها.

يقول كيلو: “في حين يجب أن تبقى دائرته الطائفية مغلقة على ذاتها، لتبقى شيفرتها ولغة تداولها وشبكات تواصلها ومسارات عملها وخططها خارج متناول من لا ينتمون إليها، أو لمن هم خارجها من أعضاء الهيئة الاجتماعية العامة، لا بد أن يبقى المجتمع مكشوفاً وممنوعاً من التكور على ذاته، وأن يبقى بالتالي منقسماً إلى جماعات وجَمعات متفاوتة الحجم والأهمية والدور، والأهم من هذا وذاك متناحرة ومكشوفة في الوقت نفسه أمام تدخل الأجهزة، ومفتقرة إلى لغة تخاطب وأقنية تواصل وشبكات تفاعل خاصة بها، كي لا تبني بمعونتها عالمًا خاصًا بها، تواجه به السلطة”.
جدير بالذكر أنّ للراحل ميشيل كيلو قرابة أربعين كتاباً مترجماً في الفكر السياسي والفلسفة والاقتصاد والتاريخ، نذكر منها: «من هيجل إلى نيتشه – التفجر الثوري في فكر القرن التاسع عشر: ماركس وكيركجارد»؛ «برلين-كابول موسكو (أوسكار ريتر فون نيدرماير وجغرافية ألمانيا السياسية)»؛ «نظرية الدولة» لنيكوس بولانتزاس؛ «السياسة في الحرب العالمية الثانية» لماكس فيبر؛ «الديمقراطية الاشتراكية» لارتور روز نبرج؛ وكتاب أ. ك. أوليدوف «الوعي الاجتماعي»؛ و«الإمبريالية وإعادة الإنتاج» و«لغة السياسة» لجورج كلاوس. إضافة إلى قصة طويلة بعنوان «دير الجسور» (2019)؛ و«قصص واقعية من عالم الأشباح.. ذكريات من سجون الأسد» (2012)، والتي كشف فيها تفاصيل حياة أليمة عاش السوريون فظاعاتها طيلة عقود خمسة في مملكة الصمت الأسدية.

ومن المؤلّفات المشتركة التي ساهم فيها كتاب «الجولان السوري المنسي وموقعه في سورية المستقبل»، الذي أصدره مركز حرمون، في عام 2017، بمناسبة ذكرى هزيمة حزيران/ يونيو 1967، ومرور نصف قرن على احتلال الجولان.

بعد الاستراحة: النقل في دمشق والحلم مقعد بكرامة

بعد الاستراحة: النقل في دمشق والحلم مقعد بكرامة

أن تتعلم الركض، التسلق، والسباق، كنوع من أنواع الرياضة هذا أمر طبيعي، وربما هواية تحب تنميتها، لكن في سوريا وفي دمشق بالتحديد يجب أن تستخدم هذه الأنواع من الرياضة للركوب في “السيرفيس، والباص الأخضر.”

فقط في بلاد الحرب تحني ظهرك وتدخل وسيلة النقل البيضاء، وعندما تريد أن تستدير لتجلس، تأتيك ضربة ركنية من اليمين أو اليسار من شريكٍ آخر في الوطن، ليخرجك مرة أخرى إلى الطريق وتعاود رحلة البحث عن مقعدٍ في سرفيس أبيض، لأن التكسي الصفراء رفاهية أول الشهر فقط لموظف أو طالب أراد أن يرفه نفسه بمبلغ من تعبه الشهري!

ربما إن سمع هذا الحديث مواطن أجنبي، يتخيل أنه مشهد من كوميديا سوداء فقط، لتشرح حقبة زمنية من تاريخ ما في البلاد، لكنها الحقيقة المُرة عن أزمات المواصلات وحلم مقعد السيرفيس الكريم حتى إن توفر البينزين.

بين سطور هذا التقرير، أقدم عرضاً عن أحلام شباب وشابات بمقعد سرفيس بكرامة، ومواقف مضحكة حصلت معهم بغية الركوب تحت سقف سرفيس أبيض!

حطَ الوقود الرحال!

لمدة خمسة عشر يوماً، شعرت رشا (الموظفة في شركة خاصة) أن دمشق فارغة وأنها مواطنة معززة مكرمة تحصل يومياً على مقعد سرفيس قرب النافذة، حيث تنبي أحلامها لمدة 10 دقائق حتى تصل لمنزلها في العشوائيات. لم تعش رشا هذه التجربة منذ أن وصلت دمشق، مع أزمة وقود أو بدون أزمة وقود، وتعقب أنها لا تتذكر متى آخر مرة، قبل هذه المرة ركبت فيها السيرفيس بكرامة، ولم تستند على حضن شاب أو فتاة.

في بلاد العالم تختلف أحلام الناس، فهناك من يحلم بسيارة خاصة موديل هذا العام، ومنهم من يحلم بكاميرا حديثة، وآخر بمنزل في منطقة فخمة، لكن كل هذه الأحلام عند غالبية الشباب والشابات السوريين/ات، تتلخص بمقعد في وسيلة نقلٍ عامة. بات الحلم بـ”المقعد الذهبي” أمنية للكثيرين بأن يجلسوا معززين مكرمين بـ100 ليرة سورية تقلهم بين أطراف العاصمة وتشكل جزءاً لا بأس به من دخلهم الشهري. منذ عشرات السنين تعاني دمشق تحديداً مقارنةً ببقية المحافظات السورية ازدحاماً شديداً في وسائط النقل العامة، تضاعفت هذه الأزمة منذ بداية الحرب إلى اليوم، حيث زداد عدد الوافدين من مناطق الصراع إلى العاصمة وضواحيها الآمنة.

هدأت شوارع دمشق قسراً خمسة عشر يوماً، وأعلنت الجهات المعنية تخفيض الدوام في المؤسسات الرسمية، والاستغناء ببعضها عن موظفي الريف، حتى حطت ناقلات النفط رحالها منتصف الأسبوع الماضي، لتعلن الجهات المعنية عودة المدارس والجامعات الحكومية والخاصة، بعد أن أغلقت هي الأخرى خلال عامٍ مرتين، أول مرة بسبب كورونا، والثانية بسبب أزمة الوقود في البلاد.

اليوم الأول!

أكثر من 100 مواطن ينتشرون عند ساحة الهدى في منطقة المزة غرب العاصمة، هي تركض باتجاه سرفيس رفض التوقف، وآخر يصيح بمواطن ينافسه على مقعد، ومن ينظر من بعيد يشعر أن مخرجاً تلفزيوناً يجب أن يصرخ (cut)، لإيقاف هذا الازدحام، إنه اليوم الأول للإعلان عن عودة الحياة إلى مجاريها بعد إيقاف دام خمسة عشر يوماً، ريثما حطت ناقلات النفط القادمة من دول الجوار رحالها في المتوسط. أجبر فجر (25 عاماً، طالب الطب)، أن يركب التكسي ليلحق محاضراته، وبلغت تكلفة 5 دقائق من الركوب في التكسي 3000 آلاف ليرة سورية. وفي التاكسي دار بين فجر وشوفير التكسي حديث يُشابه معضلة من أتى أولاً البيضة أم الدجاجة في وضع لا يتوقف فيه اللوم بين الزبون وسائق التكسي؛ ففجر يعاني من كونه طالباً ومصروفه الشخصي من أهله، بينما يعاني شوفير التكسي من كونه معيلاً لأسرته.

عاد الازدحام إلى شوارع دمشق مجدداً، لكن هذه المرة مع وقود لوسائط النقل وصعوبة رغم ذلك في الحصول على مقعد في المدينة التي حضنت غالبية الوافدين من المحافظات السورية نتيجة فترات الصراع وممن اتخذوا من دمشق مكاناً دائماً للإقامة ما أدى لمضاعفة مشكلات النقل في العاصمة.

مغامرات بالسيرفيس!

قبل أعوام كانت إيلا أحمد 30( عاماً)، تخجل من أن تركب في المقعد بجانب سائق “السيرفيس”، وتنتظر أخاها أو ابن عمها كي تتجرأ على فعل ذلك لأن المجتمع لم يكن يحبذ هكذا تصرف على حد تعبيرها، لكن في زمن صعوبة الركوب حتى في وسائط النقل العامة اليوم، بات كل شيء مباحاً للحصول على مقعد أو على سقف “سيرفيس ينقلها إلى بيتها”. تتحدث إيلا عن موقف حصل معها: “ركضتُ لأجلس بجانب سائق السرفيس كما كل يوم، ودون أن أنتبه جلست بحضن شاب حتى وصلت منتصف الطريق لتدرك ذلك نتيجة تعبها”.

تتعدد المواقف التي حصلت مع السيدات السوريات في أزمات الوقود المتكررة وأثناء فترات الازدحام الشديد في أوقات الذروة في العاصمة. فمثلاً حصلت ميريام 27( عاماً) منذ أسبوع على مكان في “السرفيس”، حيث جلست على رجليْ فتاة أخرى، ليأتي القدر ويفاجئ الركاب بحادث بسيط جداً أجبر السائق الضغط على ” الفرام”، لتجد نفسها بحضنٍ عجوز سبعيني. بينما تشير سوسن 40( عاماً) أنها تجلس بأي طريقة لتحصل على مقعد في سيرفيس يقلها إلى “قطنا” في ريف العاصمة البعيد، وكذلك الناس الآخرين، وحصل معها أن رجلاً من عمرها تقريباً، استأذن الجلوس على طرف ساقيها، لتكتشف أنه زميلها في مكان العمل، قبلت بكل صدرٍ رحب، وتتابع في وسائط النقل العامة “كلنا أهلية بمحلية”. بينما لم تكترث رهف (22عاماً) لتنورتها القصيرة وجلست على المقعد الجانبي مع 4 أشخاص ليسند الشاب يده على أرجلها، ويعتذر لها “عفوا أختي!” الحياة في مجتمع “السرافيس” ووسائط النقل الجماعية العامة مليئة بالمغامرات والقصص التي ربما يؤلف أحد عنها يوماً قصة تشبه ألف لية ولية.

ضحايا الوقود!

بعد انتظار دام أكثر من ساعة قرب شارع العابد وسط دمشق، وهو الطريق اليومي للصحفية الثلاثينية خلود التي يئست من الفوز بمقعد في سرفيس في اليوم الأول من عودة العمل الطبيعي لوسائط النقل العامة بدأت توقف “تكاسي الأجرة” التي طلبت أقل واحدةٍ منها بأجرة “3500 ليرة سورية” وأكثر واحدة بأجرة “5000 ليرة سورية” لمسافة لا تتجاوز السبع دقائق في السيارة!

حوار ولوم بين سائق التكسي “العشريني” والصحفية يشبه الحوار الذي دار بين فجر طالب الجامعة وسائق التكسي الآخر، ربما الحديث بات “كليشية” جاهزة بين السوريين في وضع بات الجميع فيه ضحايا للوقود مثلما هم ضحايا للحرب الطويلة. وأشار السائق أنه خرج مسافة 25 كم إلى منطقة الصبورة، حتى استطاع الحصول على لتر بينزين حر بمبلغ “50 ألف ليرة سورية”، وعن صعوبة حاله شرح السائق: “كيف أستطيع العيش إن أخذت ثمن هذه التوصيلة كما كنت أخذ يوم الأحد ليلاً 1500 ليرة سورية!”

وفي المقلب الآخر علا صوت رجل سبعيني في أحد وسائط النقل العامة خط “مزة جبل كراجات”، وذلك بعد أن صاح السائق: “200 ليرة ولي مو عاجبوا ينزل”! كلمة هادئة سقطت من فم الرجل السبعيني: “آخ يابلد”!

وهنا لا بد من الإشارة أن الجهات المعنية وعدت بزيادة كميات الوقود المخصصة للتكاسي العامة بحيث، ستصبح 40 ليتراً من البينزين كل 4 أيام، بدلاً من 20 ليتراً.

 

مشروع رفاهية!

ماذا تفعل الـ”100 ليرة سورية حالياً؟ وماذا تشكل من دخل الناس؟ ولماذا استنكر الرجل السبعيني؟”، أسئلة دارت بين من يقلهم “السيرفيس”، ليجيب الرجل: “لاتفعل شيئاً له، لكنها جزء من معاشي التقاعدي الذي يبلغ 45000 ليرة سورية!”

الرجل الذي جادل على 100 ليرة سورية، لايمكن له الركوب بتكسي من أواخر عام 2020 حتى هذا اليوم. تدرجت أسعار أجور تكاسي الأجرة ومع كل فقدان للوقود يزيد السعر بشكل عشوائي. وبشكل متوسط يقف سائق تكسي الأجرة على مدى يومين عند محطة الوقود لتعبئة 20 لتراً كل أربعة أيام حسب القرار الأخير لمحافظة دمشق، وهي لاتكفي سوى نصف يوم، والباقي يحصل عليه حراً بـ50 ألف ليرة سورية للـ20 لتر!

لا تصعد ولادة 32( عاماً) والتي تعمل في ورديتين صباحاً ومساءً، في تكسي منذ بداية العام وحدوث أزمة للوقود، وتقول متهكمة: “كنت رفه حالي أول الشهر أعمل شعري عند الحلاق وأركب تكسي، بس خلصت الحكاية!”

سؤال مشروع!

يتساءل السوريون اليوم، متى ستحدث أزمة الوقود التالية؟ أم أن الأزمة الراهنة هي الأخيرة في البلاد؟

متى سيحصل كل مواطن على مقعد كريم؟ دون أن يجلس على جنب السيرفيس؟

كلها أسئلة مشروعة لا إجابات عليها، سوى برسم أقدار هذه البلاد المتعبة!

 

الخسائر الاقتصادية السورية في عشرة أعوام

الخسائر الاقتصادية السورية في عشرة أعوام

أنهت الحرب السورية عامها العاشر بصمت عسكري شبه مطبق، لتحل مكانه مشاكل الاقتصاد التي طفت على السطح كنوع من الأوضاع الصعبة والتي يبدو أنها ستكون طويلة الأمد، فقرار الصباح الاقتصادي ينسفه قرار الليل الأشد وطأة، حتى صارت حياة السوريين من سيء لأسوأ مع مضي كل يوم واقتراب كل غد، وسط غياب تام للحلول وافتقار الداخل لسبل معالجة ما يمكن الاصطلاح عليه بأنّه كوراث بات من المستحيل حلها، فالمشكلة لا تكمن في عدم توافر البنزين وغلاء سعره وانتظار الأيام على “طوابير” محطات التعبئة، بل تجاوزتها الأزمة لتشمل كل مستلزمات الحياة. الغلاء وحده هو المشهد المسيطر في البلاد التي لا يتخطى راتب موظفها في أفضل الأحوال 20$، في حين يتطلب توفير أبسط مستلزمات الحياة ضعف هذا الرقم بعشر مرات على الأقل.

الانهيار الاقتصادي

نشرت الأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر عام 2020 تقريراً حول الواقع السوري يتناول الثماني سنوات الأولى من عمر الحرب السورية وخلصت فيه إلى أنّ خسائر الاقتصاد السوري بلغت حتى ذاك الوقت نحو 442  مليار دولار.

كذلك فإنّ قطاع النفط تكبد خسارات هائلة تقدر بنحو 92 مليار دولار بحسب تصريحات لوزير النفط والثروة المعدنية “بسام طعمة” أدلى بها تحت قبة البرلمان في شباط/فبراير من العام الفائت. وبحسب تصريح الوزير فإنّ ما يقارب 80 برميلاً من أصل 89 برميلاً يتم إنتاجها يومياً كانت تستخرج من المناطق خارج سيطرة الحكومة السورية، ليطرح الوزير مقارنةً مع ما كانت تنتجه سوريا في عام 2010 والذي قارب نحو 400 برميل نفط يومياً.

وأيضاً انخفض راتب الموظف الحكومي أكثر من مئة بالمئة وتدهورت قيمة الليرة السورية حوالي مئة ضعف أمام الدولار الأمريكي في السوق السوداء والذي وصل عتبة 4700 ليرة سورية قبيل منتصف آذار/مارس الفائت مقابل كل دولار أمريكي واحد، لتتحسن الليرة في نهايات الشهر المنصرم وتسجل 3700 مقابل الدولار. بينما حافظ المصرف المركزي على سعر الصرف بمعدل 1250 ليرة سورية مقابل الدولار الواحد، وهو رقم لا شك يعتبر رفاهية اقتصادية مواربة، فكل شيء يتم تسعيره في سوريا على قياس السوق السوداء، بدءاً من الإبرة والخيط وصولاً للعقارات، مروراً بكل ما يلزم للمعيشة من أساسيات ورفاهيات، الأساسيات التي ارتفع سعرها قياساً بالليرة السورية بصورة متفاوتة ما بين خمسين ومئة بالمئة.

الكارثة بالأرقام

قالت نقابة عمال المصارف في دمشق في الشهر الأول من العام الحالي عبر بيان تلاه رئيس النقابة “أحمد حامد” خلال المؤتمر السنوي للنقابة إن “خسائر الاقتصاد السوري بلغت حتى الآن أكثر من 530 مليار دولار، أي ما يعادل 9.7 أضعاف الناتج المحلي الإجمالي للبلاد عام 2010”.

وأشار التقرير أنه “في ظل الحرب قد انعدمت التنمية التي أوصلت أكثر من 80 بالمئة من شعبنا إلى خط الفقر وما دونه، وباتت المجاعة تلوح في الأفق بالرغم من الجهود المبذولة على مستوى الحكومة”.

وأضاف التقرير أنه “حتى هذه اللحظة لم تقدم أي مبادرات حقيقية لتجاوز الأزمات التي نعيشها اليوم بل ازداد احتكار الثروة في أيدي قلة قليلة من المستفيدين على حساب الشريحة الكبرى من المجتمع وأخلّت الحكومة بمسؤوليتها عن واجباتها في إمكانية النهوض بالقطاع العام وإصدار القرارات لتشجيع القطاع الخاص على استثمارات حقيقية ما أدى إلى توقف نشاط المستثمرين الاقتصادي وإغلاق منشآتهم والهجرة خارج البلاد مع أموالهم التي سببت خسائر للاقتصاد الوطني.”
فيما قدرّ التقرير نسبة الدمار في البنية التحتية بنسبة تخطت 40 بالمئة.
وبحسب الأمم المتحدة فهناك أكثر من 13 مليون سوري بحاجة لمساعدات إنسانية عاجلة، وبحسب برنامج الغذاء العالمي فهناك نحو 12.5 مليون سوري في الداخل يكافحون بشتى السبل للحصول على طعام يكفيهم ليومهم، وكذلك أشارت منظمة “أنقذوا الأطفال” عن وجود ما يقارب 60 بالمئة من الأطفال الذين يعانون من الجوع.

وتتحدث المفوضية العليا لشؤون اللاجئين عن ملايين السوريين الذين هاجروا خارج بلادهم، والنسبة الأكبر باتجاه دول الجوار، ثلثهم من الأطفال، وهو ما يشي بحجم الكارثة الاقتصادية والتخلخل المجتمعي الذي أدى لتشظي الناس، بعد الأخذ بعين الاعتبار أنّ المعارك هي الفصل في ملف الهجرة، إلّا أنّ ذلك لا يعني أن العامل الاقتصادي لم يلعب دوراً مؤثراً وأساسياً في الإطار.

وبحسب دراسة أعدها المركز السوري لبحوث الدراسات فإنّ نسبة الفقر ارتفعت في سوريا من 1% في عام 2010 إلى نحو 86% من السوريين مع نهاية 2019.

وأضافت الدراسة أنّ سوق العمل فقد ما يعادل 3.7 ملايين فرصة عمل، وبالتالي رفعت الخسارة الضخمة لفرص العمل نسبة الإعالة الاقتصادية من 4.13 أشخاص لكل مشتغل في عام 2010 إلى 6.4 أشخاص في عام 2019.

أرقام صادمة

أصدرت منظمة world vision، وشركة frontier economics، تقريراً مشتركاً حول الواقع الاقتصادي السوري، وقالت فيه إنّ الخسائر حتى اليوم بلغت 1200 مليار دولار أمريكي، وفي حال توقفت الحرب اليوم فستستمر الخسائر الاقتصادية حتى عام 2035 بواقع 1400 مليار دولار إضافي، أي تصبح الخسارة المجملة 2600 مليار دولار أمريكي، وبإضافة ملف الحرمان من التعليم والنظام التعليم فقد يصل الرقم إلى 3100 مليار دولار أمريكي.

في الشارع

ليس من الصعب، بل يكاد من المستحيل عدم ملاحظة الأوجه المكفهرة في الطرقات، الناس يعيشون تحت وطأة غضب عارم سببه الفقر والحاجة، فتذبذب أرقام البيع والشراء في المتاجر للأساسيات يختلف ما بين الصباح والمساء. يتعامل التجار (الصغار منهم والكبار) بالدولار ويضعون الأسعار على أساسه، في عملية مداورة لحظية يدفع المواطن ثمنها في فرق ارتفاع الأسعار نحو الأعلى. أما في حال تحسن سعر الصرف، فإنّ الأسعار تبقى على نفسها، ما شكل عبئاً وضغطاً إضافياً بات لا يطاق لذوي الدخل المحدود، وبالمجمل فإنّ كل السوريين تقريباً هم من ذوي الدخل المحدود، أو معدمي الدخل.

في البقالية ارتفع صوت المهندس رامي .د في خلاف مع البائع الذي طلب منه ثمن “صفد” البيض 7 آلاف ليرة، لينتهي الخلاف إلى عدم شراء المهندس للبيض، ليكمل سيره متأففاً من الغلاء، وفي حديث خاص عن تجربته يقول: “يحدث هذا كل يوم، بل وكلّما أردت شراء شيء من الأساسيات لأسرتي، الغلاء لا يصدق، أعمل موظفاً بشهادتي لثماني ساعات يومياً لأتقاضى راتباً بحدود 50 ألفاً، هو لا يكفي لأول ثلاثة أيام بالشهر، هو حرفياً لا يكفي هذه الأيام”. يتساءل رامي عن المصير المقبل، وما الذي ينتظر السوريين: “أنا يائس، لا شيء ينبئ أنّ حلاً اقترب أو يقترب، نحن في كل يوم يستجد نصبح فقراءً أكثر”.

لا يبدو الحال أفضل بالنسبة لميساء .ن (ربة الأسرة التي تعيش وزوجها وطفلها على راتبه الذي يتقاضاه من عمله الخاص)، وعن وضع أسرتها تقول: “صحيح أنّ راتب زوجي أفضل من رواتب الحكومة بقليل، ولكن ماذا سيكفي؟ سينتهي في بضعة أيام قليلة، نحن نعيش مستندين على أهلي، لولا أنهم يساعدوننا في المصروف لكنا الآن في الشارع نتسول ربما، أنا أقول الحقيقة، نحن ستصل بنا الحاجة إلى هناك”. وتؤكد ميساء أنّها لم تجد حلاً بعد بحث طويل بينها وبينَ زوجها سوى الهجرة خارج سوريا والبدء بحياة جديدة.

ومن جهته، يقول أبو سعيد صاحب بقالية في دمشق: “ما ذنبي أنا إذا كنت أشتري من التاجر الكبير بسعر الدولار في السوق السوداء، لستُ سعيداً أنني أبيع بهذه الأسعار، فأنا أولاً وأخيراً مجرد صاحب بقالية صغيرة، مثلي مثل هؤلاء الناس، لكنني أيضاً أريد أن أعيش، لست سعيداً ولكن كيف سأعيش إذا بعت بخسارة، كل الناس تشتمنا وتلومنا، ولكن ماذا نفعل، هذا قضاء على الجميع”. ويختتم حديثه بتمنيه أن يتحسن سعر الصرف لئلا يظل يتحمل نظرات الناس التي تشعره بأنّه يجني منهم أكثر مما يستحق بكثير.

ويشترك العديد من الأشخاص الذين التقيتهم بنظرتهم عن انعدام شرود توافر الحل الذي يمكن أن يحسن الوضع قريباً، ويجمع هؤلاء الأشخاص أن الأفق مبهم والأمور تسوء يوماً بعد يوم، ولا شك أن رأيهم صار يمثل السواد الأعظم. وهذا لا يعني بطبيعة الحال عدم وجود أشخاص متفائلين، وهم أشخاص يعتقدون أنّ الحل سيأتي عاجلاً أم آجلاً، وسيحمل معهم أياماً مريحة، إلّا أنّ هؤلاء الناس نفسهم يئنون تحت وجع الحاجة والفقر، ومثلهم كل البلاد تئن قبالة طبقة فاقت في ثرائها كل ما هو متوقع، الحرب برعت في خلق الأمراء الجدد، الأمراء المتباهين بثرواتهم فوق فقر السوريين وعوزهم.

قبل الحرب

بحسب الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي والمكتب المركزي السوري للإحصاء كانت سوريا صاحبة واحد من أعلى معدلات النمو العالمي بالنسبة للدول النامية عشية اندلاع الحرب في آذار/مارس 2011، إذ كانت تنتج حوالي 85 بالمئة من أغذيتها ودوائها واحتياجاتها وتصدر منتجاتها إلى أكثر من 60 دولة. وكانت سوريا تحتل مرتبة بين الدول الخمس الأولى في إنتاج القطن وتربية المواشي وتنتج من الحبوب ما يصل إلى 6 ملايين طن سنوياً ما كان يؤدي لفائض عن حاجة السوق المحلية والذي كان يتم تصديره. ووصل راتب الموظف الحكومي إلى قيمة تتراوح ما بين 300 إلى 600 دولار أمريكي في عام 2010، بحسب ما أورده تلفزيون dw مفصلاً.

إضافةً إلى النشاط السياحي الكبير الذي وصل حدّ استقبال نحو 8 ملايين سائح سنوياً حوالي عام 2010، مع توافر كل الاحتياجات الأساسية من نفط وغاز وبنزين وتعليم وطبابة وأدوية وخبز وأرز وسكر مقابل أسعار لا تشكل شيئاً قياساً بالدخل الجيد حينها.

 في ظل كل هذه المعطيات بين الأمس واليوم يمكن الاستنتاج بأنّ الواقع السوري بات مشوهاً اقتصادياً واجتماعياً ما يستدعي البحث في حلول ووضع خطتين واحدة قصيرة الأمد لانتشال ما يمكن انتشاله وإصلاح ما يمكن إصلاحه، وأخرى طويلة الأمد لتستعيد سوريا القدرة على إنتاج احتياجاتها وتحقيق الاكتفاء المعيشي لسكانها، وهو ما يبدو أنّه بحاجة سنينٍ طويلة ليتحقق، ولتعود سوريا لتحظى بمكانتها الانتاجية السابقة كمصدِّر لا مستورد، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ عقوبات “قيصر” الأخيرة جعلت الكثير من الملفات الاقتصادية أكثر تشعباً وتعقيداً في ظل واقعٍ غير مستقرٍ ومدمّرٍ بالأساس.

Photo credit: Mohammad Alzain, Shutterstock*

حوالات المغتربين في سوريا: مصدر معيشة آلاف العائلات

حوالات المغتربين في سوريا: مصدر معيشة آلاف العائلات

يداوم مغتربون سوريون على إرسال الأموال بشكل شهري إلى ذويهم في سوريا بالتزامن مع ارتفاع التكاليف المعيشية وقلة الأجور التي تكاد لا تسد احتياجات بعض العائلات لأيام قليلة.

وليس تحويل الأموال من قبل المغتربين إلى أهاليهم واقعاً جديد بل كان يحصل حتى قبل عام 2011، لكن يؤكد أصحاب مكاتب الحوالات في سوريا أن نسبة الحوالات القادمة من الخارج باتت مرتفعة وبشكل ملحوظ منذ العام الماضي.

ويتزامن ذلك مع انخفاض الليرة السورية إلى مستويات قياسية أمام العملات الأجنبية مقابل ارتفاع أسعار السلع والخدمات فيما لم تسهم زيادة الأجور في سوريا بعلاج هذه الأزمة.

ويؤكد ارتفاع الأسعار ما أعلنه المكتب المركزي للإحصاء في سوريا مؤخراً، حيث تجاوزت أسعار المستهلك اليوم 2000% مقارنة بالأسعار عام 2010، أي قبل الأزمة التي تشهدها البلاد.

وحسب اطلاعنا على العديد من الحوالات التي ترسل إلى سوريا بشكل يومي، يبدو أن أكثر الحوالات المالية تتراوح قيمتها ما بين 50 دولاراً و300 دولار أمريكي.

حوالات شهرية

بات هناك حوالة مالية شهرية يرسلها الشاب السوري بسام لأهله المقيمين في حلب، حيث تُضاف إلى باقي مصاريفه الشهرية كفواتير الماء والكهرباء وإيجار المنزل، ويقول بسام عن تجربته: “الحوالات التي أرسلها شهرياً لأهلي هي مصدر أساسي لهم لتغطية المصاريف في ظل الأزمة المعيشية التي يشهدونها”.

ويتابع أنه رغم أن الحوالات تذهب عبر عدة مكاتب حتى تصل إليهم ولكن لا توجد أية طريقة مباشرة لإرسال الحوالات إلا عبر مكاتب التحويل السورية.

ويضطر الشاب العشريني إلى إرسال الحوالات لمكتب صرافة في تركيا والذي بدوره يُعاود إرسالها إلى سوريا، ما يجعله يتكلف المزيد من الأجور.

وليس بسام هو الوحيد الذي يفعل ذلك، حيث يؤكد أن هناك أصدقاء له يرسلون أموالاً بشكل شهري لذويهم في سوريا في ظل الأزمة المعيشية التي يعاني منها غالبية السوريين.

مصدر أساسي

يبدو أن العائلات السورية التي لديها أحد أفرادها في الخارج وقادر على إرسال الأموال بشكل شهري، لا تزال صامدة نوعاً ما أمام الأزمة المعيشية التي تفشت في البلاد.

ومع قلة فرص العمل ذات الدخل الجيد، يضطر العديد من السوريين للعمل مقابل أجور قليلة تكاد لا تكفي لدفع إيجار منازلهم في بعض الأحيان مما يضطرهم للاستعانة بمصادر دخل إضافية.

وخلال إعداد هذا التقرير، تواصلنا مع أبو قصي وهو رب عائلة سوري يقيم في حلب، وشاركنا عن معاناته مع غلاء المعيشة قائلاً: “راتبي التقاعدي البالغ قرابة 50 ألف ليرة سورية وما يتقاضاه ابني من خلال عمله في محل معجنات لا يكفينا لأول أسبوع من كل شهر بسبب غلاء المعيشة”.

ويضيف أبو قصي أن أحد أبنائه في تركيا ويرسل له شهرياً مبلغا مالياً يعين العائلة على تغطية مصاريف بقية أيام الشهر، واصفاً الوضع بالـ”كارثي.”

ولا تتوفر إحصائية دقيقة توضح قيمة الحوالات المالية التي تدخل إلى سوريا خصوصاً أنها تحصل عبر مكاتب تحويل خاصة وغير مرخصة لدى النظام، كما أن الكثير من الحوالات يتم تحويلها لدول الجوار ومن ثم يعاد تحويلها لداخل سوريا.

مكاتب بالجملة

خلال السنوات الماضية، أسس سوريون مئات مكاتب الحوالات المالية، بعضهم افتتح مكاتب وبدأ عمله على نطاق واسع وآخرون اقتصروا على إرسال واستلام الحوالات دون أن يكون لديهم مركز محدد.

وبات هناك المئات من مكاتب الحوالات في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، حيث أصبحت بمثابة الوسيلة الوحيدة لإرسال واستقبال الأموال من وإلى سوريا.

وفي ظل قلة فرص العمل ذات الأجور المناسبة للأوضاع المعيشية في سوريا، لجأ البعض إلى هذه المهنة، ومن بينهم أبو ياسر وهو اسم حركي لشخص يعمل في مجال الحوالات بحلب، حيث يشرح قصته من خلال اتصال هاتفي: “بدأتُ العمل في مجال الصرافة والحوالات منذ قرابة سنتين، ولو لم أعمل في هذا المجال لكنت قد صرفت أموالي التي جمعتها منذ سنوات بسبب غلاء المعيشة”.

ويضيف أنه يعمل بشكل سري خوفاً من حصول مكروه له، حيث يحرص على تسليم الحوالات عبر لقاء الزبائن في الشوارع، أما المردود فهو قليل مقارنة بمخاطر هذا العمل عليه.

وفيما يخص المردود من الحوالات المالية، فحسب إفادات عاملين بهذا المجال، تصل الأجور إلى قرابة 5 دولار مقابل تحويل كل 100 دولار أمريكي إلى سوريا.

رئاسة “سلسة” واحدة… وانقلابات كثيرة

رئاسة “سلسة” واحدة… وانقلابات كثيرة

أحد ممثلي «معارضة الداخل» محمود مرعي تقدم إلى جانب 12 شخصاً آخرين أحدهم الرئيس بشار الأسد، بطلب الترشح إلى انتخابات الرئاسة السورية، ليكون العدد غير مسبوق منذ أول اقتراع قبل حوالي تسعة عقود.

وينتهي الترشح في 28 الشهر الجاري، على أن تجرى الانتخابات في 26 الشهر المقبل، بموجب دستور العام 2012، الذي ينص على وجوب أن يحصل المرشح على 35 صوتا من أعضاء مجلس الشعب ذي الـ250 مقعداً. وفي انتخاباته العام الماضي، حصلت «الجبهة الوطنية التقدمية» التي تضم تحالف أحزاب مرخصة بقيادة «البعث» على 183 مقعداً (بينهم 166 بعثياً)، ما يعني أن قرار الترشح الرئاسي بأيدي الحزب الحاكم وائتلاف الأحزاب المرخصة. وأعلنت دول غربية بينها أميركا أن الانتخابات «لن تكون حرة ونزيهة وذات مصداقية.

وحسب قرار مجلس الأمن 2254، تتطلب الانتخابات ذات المصداقية في سوريا إشراف الأمم المتحدة وبيئة آمنة تضمن حماية جميع السوريين، بمن في ذلك اللاجئون والنازحون داخلياً، لممارسة حقهم في التصويت». ولن يكون معظم اللاجئين في الخارج (عدا في لبنان)، قادرين على المشاركة بسبب وجود شرط «الخروج الشرعي» من البلاد لتملك الحق بالتصويت، كما أن معظم الدول الغربية أغلقت البعثات الدبلوماسية السورية. في المقابل، اعتبرت روسيا وإيران هذه الانتخابات «استحقاقا دستورياً»، حيث يتوقع أن يفوز الرئيس بشار الأسد بها بولاية رابعة مدتها سبع سنوات.

لكن كيف وصل رؤساء سوريا للحكم؟

تحمل الانتخابات المقبلة الرقم 18 منذ عام 1932 التي جرت تحت الانتداب الفرنسي الذي تسلم البلاد في 1920. تنافس ستة مرشحين، ما كان يمثل أكبر عدد من المتنافسين في انتخابات رئاسية في تاريخ البلاد قبل ارتفاع العدد في الانتخابات الحالية إلى 13 مرشحاً.

قبل تسعة عقود، كان اثنان من المتنافسين حاكمين سابقين للبلاد، هما حقي العظم رئيس «دولة دمشق» ورئيس الدولة السابق صبحي بركات، واثنان أحدهما رئيس الوزراء الحالي والسابق وقتذاك، تاج الدين الحسني ورضا الركابي. أما المرشحان المتبقيان فأصبحا في وقت لاحق أول وثاني رئيس لسوريا: محمد علي العابد وهاشم الأتاسي. الأول، كان سفير السلطنة العثمانية في واشنطن ووزير المال في «الاتحاد السوري الفيدرالي» والثاني، ممثل «الكتلة الوطنية».

في 1936، ترشح الأتاسي وفاز بالتزكية لغياب المنافسين، فيما عين قائد «قوات فرنسا الحرة» شارل ديغول تاج الدين الأتاسي في 1941. وأصبح أحد أركان «الكتلة الوطنية» شكري القوتلي رئيساً بعد فوزه دون منافس في 1943 و1947. وفي 1949، قام حسني الزعيم بأول انقلاب في تاريخ سوريا وأجرى استفتاء ليكون الأول في عهد البلاد. هنا اللافت، أن ممثل «حزب الله» السوري بشير كمال، الذي نشط في حلب بشكل سلمي تحت تأثير أفكار غاندي، رشح نفسه، لكنه «نصح بالانسحاب من السباق» وسرت إشاعة منظمة بأنه «مجنون».

بعد فترة وجيزة، قام سامي الحناوي بانقلاب ضد حسني الزعيم وأصبح رئيسا لأركان الجيش، وطلب من «القائد التاريخي» هاشم الأتاسي «الإشراف على انتخابات مؤتمر تأسيسي». أصبح رئيسا للحكومة وبعد المؤتمر التأسيسي، انتخب الأتاسي رئيساً. وعندما نفذ أديب الشيشكلي انقلابه عين فورا، وزير الدفاع فوزي السلو في الرئاسة. وفي 1953، جرت في «برلمان مصغر» انتخابات الشيشكلي.

بعد خروج الشيشكلي «كي لا تراق دماء» في 1954، عاد هاشم الأتاسي لإكمال ولايته. بعد سنة، جرت أشهر انتخابات في التاريخ المعاصر لسوريا، إذ ترشح خالد العظم، وهو «رئيس دولة» سابق في 1941 خلال الحرب العالمية الثانية ورئيس حكومة في 1948، ضد شكري القوتلي الذي فاز بالقصر.

تخلى القوتلي عن الرئاسة للرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي فاز باستفتاء بعد الوحدة السورية – المصرية في 1958. وفي «عهد الانفصال»، فاز ناظم القدسي ضد سعيد الغزي في تصويت تحت قبة البرلمان في 1961 خلفاً لعبد الناصر.

وبعد تسلم حزب «البعث» الحكم في 1963، عين مجلس قيادة الثورة الضابط لؤي الأتاسي رئيس «مجلس قيادة الثورة». وبعد «حركة» يوليو (تموز) أصبح أمين الحافظ «رئيس مجلس الرئاسة» إلى حين قيام صلاح جديد بـ«حركة» فبراير (شباط) في 1966، وتسلم نور الدين الأتاسي منصب «رئيس الدولة». بعد قيام وزير الدفاع حافظ الأسد بـ«الحركة التصحيحية» في 16 نوفمبر (تشرين الثاني) 1970، عين أحمد الخطيب «رئيس دولة» إلى مارس (آذار) 1971، حيث أصبح رئيسا للبرلمان، وفاز الأسد بالرئاسة عبر استفتاء، الأمر الذي تكرر إلى حين رحيله في 2000. وإثر تعديل الدستور، فاز بشار الأسد بالرئاسة في استفتاء. وفي 2012، تمت صياغة دستور جديد بالتحول من «الاستفتاء» إلى «الانتخابات».

وفي 2014، ترشح الأسد واثنان آخران، هما وزير التنمية الإدارية في حسان النوري والنائب ماهر الحجار.

وما هو مصير الرؤساء السابقين ومرشحي الرئاسة؟

في 1936 أجبر محمد علي العابد على الاستقالة كما هو الحال مع هاشم الأتاسي في 1939. الأول توفي في منفاه في مدينة نيس الفرنسية في 1939، وتوفي الثاني لكبر سنه في حمص في 1960.

وكان تاج الدين الحسني الذي عينه الفرنسيون في 1941، الرئيس الوحيد الذي يموت في «فراش القصر» في 17 يناير (كانون الثاني) 1943. وأخرج شكري القوتلي من القصر بانقلاب عسكري في مارس (آذار) 1949 قاده حسني الزعيم الذي خرج أيضاً بانقلاب آخر في أغسطس (آب) قاده سامي الحناوي.

الزعيم قتل بـ176 رصاصة في جسده في انقلاب الحناوي الذي سجن ثم قتله حرشو البرازي في بيروت في 1950. كان أديب الشيشكلي نفذ في ديسمبر (كانون الأول) 1949، انقلابه ووضع الحناوي بالسجن لمدة قبل أن يطلقه تلبية لضغوطات وطلبات. أما الشيشكلي الذي ترك البلاد بعد الحكم، فاغتيل في البرازيل في 1964 بسبب «ممارساته ضد الدروز» جنوب سوريا.

غادر هاشم الأتاسي مقعد الرئاسة في نوفمبر (تشرين الثاني) 1951، بعدما تسلمه مؤقتا في ديسمبر (كانون الأول) 1949. أمام فوزي السلو، فإنه غادر «طوعا» لصالح أديب الشيشكلي في 1953.

في سبتمبر (ايلول) 1955، جرت مراسم التسليم والتسلم الشهيرة بين هاشم الأتاسي وشكري القوتلي، ليكون «الانتقال السلس» الوحيد في تاريخ البلاد، حيث عاد القوتلي واستقال لصالح جمال عبد الناصر في 1958، على عكس لؤي الأتاسي «الذي نصحه العسكر بالاستقالة» بعد أحداث يوليو (تموز) 1963، ثم توفي في حمص في 2003.

أما القوتلي، فإنه توفي في منفاه في بيروت بجلطة في «نكسة» يونيو (حزيران) 1967. أمين الحافظ، الذي «خلعه» صلاح جديد في 1966، سجن. غادر إلى المنفى ثم عاد وتوفي في حلب في 2009.

نور الدين الأتاسي وضع مع صلاح جديد في السجن من الأسد لدى تسلمه الحكم في 1970. توفي الثاني في المعتقل، فيما توفي الأول بمجرد خروجه منه. أما أحمد الخطيب «رئيس الدولة» في أول سنة من حكم الأسد، فأصبح رئيسا للبرلمان لسنة ثم تنحى من العمل السياسي، كما هو الحال مع مرشحي العام 2014، الذي صار أحدهما وزير تنمية، ثم «اعتزل السياسة».