السخرية في مواجهة العدم

السخرية في مواجهة العدم

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا

تنهض السخرية من سباتها، تحرك الدم في عروقها، هذا أوانها، والساحة مكشوفة ومتاحة.

السخرية ليست نظرية ولا علماً إجرائياً بقواعد ناظمة، هي حياة موازية، نسق عيش يناور ويداور ويحتكر اللغة ويتحكم بالمشهد، مدعياً أنه الأقوى والأكثر حضوراً ومعرفة ونفاذاً.

جارتي تربي الدجاج على سطح البناية؛ بالأمس وهبتني سبع بيضات بلدية صغيرة الحجم؛ قالت لي: الدجاجات تحب طبخك الذي ترسلينه لهم. أضحك وأتساءل فقط عن الطريقة التي عبرت بها الدجاجات عن إعجابها بطبخي! على باب بيتها تقف جارتنا وتستمع لحديثنا، توجه الكلام لي وليس للجارة مربية الدجاج وتقول: لدي القليل من المجدرة المحمضة، هل يمكن تبديلها بكم بيضة بلدية لأطفالي؟ أُجيبها سنسأل الدجاجات عن رأيهن بطبخك وبعدها نتخذ القرار!

تصرخ سيدة “حرامي حرامي”. يندفع شابان متواجدان في المكان، يمسكان بفتى سرق محفظة صغيرة من حقيبة السيدة، يضربانه بشدة. فجأة، تبدأ السيدة بالصراخ وهي ترجوهم التوقف عن ضربه قائلة: “لقد سرق محفظة الأدوية اليومية ومحفظة النقود مازالت في أمان في زاوية الحقيبة”. يتركانه موجوعاً ومقهوراً، حتى سرقته التي دفع ثمنها ضرباً وركلاً كانت سرقة فاشلة وبلا جدوى.

تغيرت اليوم لغة باعة الخضار، لانت وتلونت بالسخرية المرة أيضاً، يقول البائع للسيدة: “خدي راحتك واختاري أصغر وأطرى خسة”. بات من الصعوبة بمكان شراء كل ما نريده. نصحها قائلاً: “اشتري الضروري فقط!” ضحكت وقالت له: “كله ضروري ويولد الغصات”، فأجابها: “غصة عن غصة تفرق”. اشترت خسة صغيرة وعندما رفضت أن يمنحها البائع كيساً خاصاً للخسة الضئيلة، قال لها: “قلبي أعلمني أن قلبك أطرى من الخس”. يضحكان وفي الوجدان تسري دفقة ساخرة.

توقف الناس عن السؤال عن سعر البضائع اليوم، حمى الأسئلة أفقدتهم وعيهم، لا داعي للسؤال طالما أننا لن نشتري. سألت سيدة البائع عن سعر مسحوق الغسيل، فأجابها: “واوا يا ماما”. قالت له “اتركه في مكانه يتلوى من العزلة.”

دمشق اليوم خالية من وسائل المواصلات، يوم الجمعة يوم عطلة الباصات العامة الكبيرة، لكن على مواقف الحافلات، يبدو الناس مشغولين بمونولوج داخلي، تدير الحوار وهي تكلم نفسها علناً، هل تواصل السير مشيا على الأقدام، هل تعود إلى بيوتها، هل تمشي بعكس مسارها وتعود إلى الخلف أملاً بمقعد فارغ،. يختلف أب وابنته عن أفضل طريقة لتأمين النقل، تصرخ به قائلة: “سأشتري ورقة يانصيب لأتمكن من شراء دراجة هوائية ولن أرافقك أبداً في مشاويرك المفلسة.”

على الزاوية رجال الشرطة يدفعون سيارتهم بأيديهم، يبدو أن البنزين قد نفذ منها أيضاً وعليهم تأمين ركنها على الزاوية تماماً حفاظاً على دورها المطلوب وكحماية ومستقر لهم.

في السوق الطويل وعلى عربات الملابس البالية، تقف النساء وتساوم الباعة على تخفيض الأسعار. يشكو البائع من وجع ظهره ومن السرقات التي تتزايد كل يوم. تشتري سيدة كنزة لوالدة زوجها، ترفض الابنة الفكرة من أساسها، تنصح أمها بأن تمنح الجدة قيمة الكنزة ويكفي. تعلق الأم قائلة: “سبحان الله، ثمة ما يمنعني عن إعطاء جدتك ليرة واحدة”. كانت تسخر من موقفها الدائم على ما يبدو، وأردفت: “عيب على الكنة أن تمنح عيدية نقدية لحماتها”. وتكمل: “على أبيك فك حزامه ودفع عيدية لي ولأمه”. كان رد الفتاة لاذعاً وساخراً حين أعلنت بأن أباها مستعد الآن لنسيان اسم أمه واسم زوجته ليهرب من عيدية عيد الأم لضيق ذات اليد وضآلة قيمة موارده.

على مقعد حجري في إحدى الحدائق الجرداء، يلعب بعض الرجال المتقدمون في العمر دق طاولة زهر، يقترح أحدهم أن يلعبوا على أساس شرط مادي يقتضي أن من يخسر عليه شراء النمورة للمجموع. يرد أحدهم نمورة ودفع مصاري ، معنى ذلك الإسعاف إلى المشفى فوراً جراء ارتفاع نسبة السكر في الدم بسبب النمورة وبسبب خسارة المال. يواصلون اللعب وأحدهم يؤكد لجاره بأن ابن جيرانهم يفكر بدعوة أصدقائه للعب القمار في بيته ليلاً مقابل المال. أحد الرجال  المتحلقين حول طاولة الزهر، يقسم بأنه سيخرب لهم البيت على رؤوسهم. أما الجار الآخر فيقول: “الجار أولى بالمعروف، إذا سمح لنا بالمشاركة أو المتابعة مجاناً، سنكون له من الشاكرين.”

يقص شادي أوراقاً من دفتر مدرسي مرمي في الشارع يوزع على أقرانه الأوراق قائلاً: هي مصاري! يتبادلون لعبة الشراء وكأنها عملية حقيقية، الكل يطلب بسكويتاً وكولا، إلا شادي يصر على شراء ظرف ثلاثة بواحد وهو مكون من نسكافيه وسكر ومبيض قهوة وهو مشروب غير صالح للأطفال أصلاً، يبرر رغبته قائلاً: “الثلاثة بواحد دواء لوجع الرأس”. يسأله رامي: “وجع رأس؟” يؤكد شادي كلامه قائلاً: “نعم رأسي يؤلمني من شدة التفكير بقلة النقود.”

على الدكة الحجرية في الزقاق الشعبي، تجلس مرح وآية، فتاتان في الخامسة عشرة والسادسة عشرة من العمر، تعلن آية لمرح ودون مقدمات بأنها رفضت عريساً يحاول أبوها فرضه عليها للزواج، تضحك مرح بخجل وتقول مازلنا أطفالاً، ترد آية: “ناقصنا هموم!”

تنادي أم آية ابنتها طالبة منها الصعود إلى الغرفة التي تعيش فيها عائلة آية المكونة من خمسة أشخاص ضمن منزل متداع تسكنه ست عائلات، ترفض آية دعوة أمها وتصرخ: “ما بدي أتزوج”. يضحك الصبية الصغار ويصرخون: “آية عروس، آية عروس.”

تحاول إحدى الجارات إقناع أم آية بأن تزويجها خطأ كبير وغير مبرر. وتجيب أم آية: “الغرفة تحتاج فراشاً ناقصاً لتتسع لنا والحياة تحتاج فماً مغلقاً وغائباً ليتقلص جوعنا؛ لكن الجارة تؤكد رأيها الرافض لتزويج الطفلة وتقول لجارتها: “غداً ستعود آية وعلى حضنها طفل سيكون لزاماً عليكم تأمين فراش أوسع لهما، وربما سيتوجب عليكم استدانة ثمن الحليب لطفل لا خيار له حتى في التكون والحياة.”

تنهض السخرية من سباتها، تتراشق السباب والشتائم مع الصامتين والمنكرين لحضورها، لم تعد السخرية لغة ولا مجرد طريقة استعراض كلامية، تحولت لنموذج حياة، كفتيل الشمع، يذوب ليمنح بعضاً من ضوء باهت وخادع ويوحي بالقوة، حيث لا قوة تبقت لأحد، تتآكل الوقائع ويفتك الضعيف بالأضعف.

موسيقا الشباب في سوريا بين «كورونا» والحرب

موسيقا الشباب في سوريا بين «كورونا» والحرب

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا

مهرجان موسيقى الجاز، مهرجان الموسيقى الصوفية والموسيقى الشرقية، فعاليات قلعة دمشق، مهرجان آلة العود والبزق، يوم الموسيقى العالمي، موسيقى على الطريق، المهرجانات المتعلقة بالموسيقى الكلاسيكية وغيرها الكثير والكثير من الفعاليات الموسيقية التي كانت دمشق وغيرها من المحافظات تحتفي بها، قبيل الحرب، بشكل دوري، لتستقطب العديد من الفرق الموسيقية المتنوعة من بلدان عربية وعالمية مختلفة. وكان لتلك الفعاليات أثر إيجابي كبير على موسيقيي سورية آنذاك، إذ كانت تمنحهم فرصة المشاركة فيها كعازفين، وتبقيهم على اطلاعٍ دائمٍ ومكثّفٍ على تجارب الثقافات والحضارات الموسيقية المختلفة، التي تغني ذائقتهم وتجربتهم وخيالهم الإبداعي. وإلى جانب ذلك كانت أبواب السفر متاحة أمام جميع الموسيقيين،  خاصة طلاب المعهد العالي، ليسافروا بشكل دائم  لإحياء الحفلات في أصقاع البلاد مع الفرق المختلفة، السورية وغير السورية، ضمن العديد من المهرجانات العربية والعالمية، التي جعلتهم على احتكاكٍ وتفاعلٍ دائم، مع الموسيقا المعاصرة، وعلى صلة وثيقة بالمسرح، على اختلاف أنماطه وتوجهاته، وما ينتج عنها من تراكمٍ في الخبرات والمهارات.

 تلك المرحلة الذهبية لم تعد اليوم متاحة أمام الموسيقيين الشباب الذين امتهنوا الموسيقى خلال الحرب، إذ لم يشهدوا سوى تدهور واقع الفن والثقافة في البلاد، وحرموا من ممارسة أي دورٍ فاعلٍ في حركة الموسيقى في سورية التي لم يغادروها إلا نادراً، فيما لم تقدم لهم مسارحها خلال السنوات الماضية سوى بضع حفلات متفرقة لبعض الفرق الرسمية والمحلية التي تكرر الأعمال الموسيقية ذاتها وتضم العازفين ذاتهم، الذين يتنقلون فيما بينها، بعد أن خسرت خيرة عازفيها الذين غادروا البلاد. أما الفرق غير السورية فلم يكن لها سوى حضور خجول جداً ضمن بعض الحفلات البسيطة التي لا تكاد تذكر.

وبينما كان المعهد العالي للموسيقى، قبل الحرب، ينعم على طلابه  بخيرة الكوادر التدريسية والخبراء الأكاديمين في مختلف الاختصاصات، إلى جانب إخضاعهم للكثير من ورشات العمل مع خبراتٍ موسيقية مختلفة الجنسيات، بات اليوم يبخل عليهم  حتى بتوفير مدرسين للآلات، بعد أن خسر أغلب خبرائه، كالخبراء الروس: فيكتور بابينكو  وسيرغي خودييف وفلاديمير زاريتسكي، والخبير الأذربيجاني عسكر علي أكبر، وغيرهم الكثير. هذا إلى جانب خسارته لعدد كبير من الكوادر والخبرات التدريسية- التي خرَّجت أجيالاً من الموسيقيين المحترفيين- كمدرس آلة العود وقائد  فرقة الموسيقى العربية عصام رافع، ومدرسة الغناء الأوبرالي ورئيسة قسم الغناء الشرقي لوبانا القنطار وغيرهم .

 كل ذلك ترك آثاره السلبية على الموسيقيين الصاعدين، الذين لم يحصلوا على الخبرة والكفاءة اللازمة ولم يدخلوا عالم الموسيقى من بابه الأمثل والناجع، وكان عليهم أن يعتمدوا على ذاتهم وقدراتهم الخاصة وأن يثقفوا أنفسهم بأنفسهم ويشقوا طريقهم الفني بعناءٍ وتعبٍ كبيرين ليتحدوا جميع ظروف الحرب التي دمرت أحلامهم، علَّهم يبتكرون بصمتهم وهويتهم الإبداعية الخاصة.

لا منابر تحتضن الموسيقيين  

  قصر العظم ، خان أسعد باشا، مكتب عنبر، المركز الثقافي الروسي، الفرنسي والإسباني، البيوت الدمشقية العريقة، الغليريهات وصالات الفنون، حديقة القشلة والسبكي والفورسيزن وغيرهم من الحدائق، العديد من الساحات والشوارع التي كانت تحتضن فعاليات موسيقى على الطريق. تلك بعضٌ من المنابر  الكثيرة التي كانت متاحة  أمام جميع الموسيقيين، بمن فيهم الهواة، ليقدِموا موسيقاهم ويعرِّفوا الناس بولادة فرقهم الواعدة. لكن أغلب تلك المنابر أغلقت أبوابها في وجههم خلال الحرب، ولم  يتبق  سوى بضعة أماكن تستقطب فئة محددة من الموسيقيين دون سواهم، تحكمها الشللية والمحسوبيات والاعتبارات السياسية.

وبعد جائحة كورونا انعدمت الآفاق أكثر، فحتى البارات والمقاهي التي كانت خلال الحرب ملاذاً للبعض ضاقت هي الأخرى في وجههم، فيما أدت الجائحة لحرمانهم من السفر لإقامة حفلاتٍ في الخارج، بل ومن التنقل بين المحافظات السورية، وهو ما أدى لشلل نشاطهم الموسيقي بشكل كبير. وقد أدت العوامل السابقة لتغييب صوت الشباب ونتاجهم الإبداعي عن المشهد الموسيقي السوري، في ظل تراجع وجود البيئات الحاضنة لهم وغياب أي محفزات تدفعهم ليلتقوا ويتفاعلوا فيما بينهم. فبينما كانت البلاد قبل الحرب تكتظ بعشرات الفرق الموسيقية الشابة كفرقة جين، حرارة عالية، إطار شمع، ارتجال، وجوه وغيرها، نلاحظ اليوم تراجعاً كبيراً في حجم ولادة  الفرق الشبابية الجديدة، التي لم تسجل خلال السنوات الماضية سوى حضور خجول لم يخلق أي بصمةٍ فنية أو علامةٍ فارقة تُذكر.

وعن تجربته مع أزمة كورونا يحدثنا عازف الغيتار سومر (35 عام) قائلاً : “قبل كورونا كنت وأصدقائي نعزف في بارين ومقهى، بمعدل ثلاث حفلاتٍ أسبوعياً،  ونتيجة قرارت الإغلاق وقواعد التباعد الاجتماعي، التي فرضتها الأزمة، إلى جانب ما خلَّفته من آثارٍ اقتصادية، تراجع عملنا بشكل كبير ليقتصر على حفلاتٍ شبه شهرية لا تكاد تذكر، وذلك نتيجة ضعف إقبال الناس، بعد تردي واقعهم المعيشي، على المقاهي والبارات وعجز أصحابها عن دفع أجور العازفين”. ويضيف ” كنت أسافر بشكل شبه دوري إلى لبنان والأردن ودول أخرى في حفلات متفرقة بصحبة مطربين وفرق موسيقية مختلفة، لكن منذ نحو عام لم أغادر دمشق أبداً، وأصبحت أكتفي بعزف الموسيقى في منزلي الذي أصبح مسرحاً وحيداً، لا جمهور فيه سوى بعض الأصدقاء”.

العقبات الاقتصادية تحاصر حلم الموسيقي

في ظل أزمة التضخم وتردي الواقع الاقتصادي وانعدام القدرة الشرائية بات شراء آلة موسيقية احترافية حلماً يصعب تحقيقه عند معظم الموسيقيين الصاعدين. وعن ذلك يحدثنا عازف العود عمران (24 عام): ” قبل أزمة كورونا كنت أدخر المال، من عملي في تدريس الأطفال والعزف في المقاهي، لكي أجمع مبلغ 200 ألف ليرة لشراء عودٍ جيدٍ، ثم جاءت الأزمة وما نتج عنها لتدمر ما سعيت إليه، حيث تجاوز اليوم سعر ذلك العود المليون ليرة، وهو مبلغ بات يستحيل عليَّ جمعه في ظل تراجع عملنا كموسيقيين وتدني مستوى دخلنا بشكل يثير الشفقة”.

لم تستطع يارا (20 عام) أن تقتني آلة البيانو التي حلمت بها فاكتفت باقتناء  كيبورد (أورغ) مستعمل، لا تشعر معه بأي نوع من الشغف أو المتعة في العزف، ولا يطور مهاراتها وقدراتها المهنية، ولا يلبي رغباتها وطموحاتها الموسيقية، ولكنه كان خيارها الوحيد بعد أن أصبح حلمها  يحتاج لملايين الليرات.

وبينما يعجز الكثيرون عن شراء آلة موسيقية، يُجبر آخرون- نتيجة للظروف الاقتصادية ذاتها-  على بيع آلاتهم كحال عازف الدرامز حازم (26 عام)، الذي باع آلته مكتفياً بصناعة درامز تدريبي يُبقيه على تواصلٍ ما مع الموسيقى، على أمل أن يقتني آلة احترافية بعد سفره الذي يسعى إليه.

الواقع ذاته أجبر عازف الكمان حسام ( 34 عام) على ترك مشروعه الموسيقي، حيث يقول :” كنت أفرِّغ يومياً نحو أربع ساعات من وقتي لكي أتدرب وأفكر في مشروعي الموسيقي الذي أسعى لتأليفه، لكن تدهور الواقع المعيشي وتراجع مستوى دخلي من التدريس في المعاهد الخاصة أجبرني على زيادة ساعات العمل  والتوجه للعمل في المقاهي والمطاعم لكي أتمكن من تأمين متطلبات حياتي ودعم عائلتي، وهو ما سرق مني كل وقتي فأدى إلى ابتعادي عن تحقيق حلمي”.

العقبات الاقتصادية تقف أيضاً في وجه من يحاول إنتاج الأعمال الموسيقية، كحال الملحن وعازف الغيتار ضياء (37 عام) الذي لحَّنَ عدداً من الأغاني ووزَّعها، لكنه لم يتمكن من تسجيلها، وعن ذلك يقول: “يستحيل علي اليوم أن أتدبر نفقات التسجيل الذي بات يحتاج إلى ملايين الليرات بعد ارتفاع أجور الموسيقيين وأجور استديوهات التسجيل وما يتبعه من عمليات المونتاج والمكساج والنسخ والطباعة وغير ذلك”. ويضيف: “حاولت اللجوء إلى حلول أخرى فقمت بتسجيل أغنيتين في منزلي، بواسطة برنامج تسجيلٍ على الكومبيوتر، مستعيناً فقط بغيتاري وبصوت فتاةٍ هاوية،  لكن النتيجة التي حصلت عليها لم تكن مرضية فعزفت عن ذلك الأمر”.

ضغوط الحياة اليومية تقتل الإبداع

يحتاج الموسيقي إلى راحة نفسية وجسدية وحالة من الإسترخاء والصفاء الذهني ليتمكن من تطوير قدراته المهنية وتفجير طاقاته الإبداعية، لكن ضغوط الحياة اليومية والمزاج النفسي العام يمنعه من ذلك. وتلخص عازفة البيانو ياسمين (29 عام) ذلك الواقع بقولها: ” كيف يمكننا أن نبدع وخيالنا محاصر ونعيش حالة دائمة من القلق والتوتر وانعدام الأفق والخوف من المستقبل؟. كيف سنوجِّه طاقاتنا نحو الموسيقى ونحن غارقون في آلاف التفاصيل اليومية المؤلمة، التي تشتت تركيزنا، كانتشار الفقر وارتفاع الأسعار الجنوني، مشاهد الفقراء والمتسولين الذين يملؤون الشوارع ويبحثون في حاويات القمامة عن طعام، الانشغال  بتأمين الغاز والمازوت والخبز، وانتظار قدوم الكهرباء والماء… الخ؟”. وتضيف بيأس وقهر” لقد أصبح قصارى حلمنا فقط أن نجد فرصة سفرٍ تنقذنا من هذا الواقع، فكل شيءٍ حولنا يرهقنا ويؤذي مزاجنا ويقتل شغفنا وحماسنا ليحرمنا من تحقيق حلمنا الموسيقي”.

 معاناة مشابهة يعيشها عازف العود علاء (27 عام) الذي يسكن في قبوٍ تملؤه الرطوبة، حيث يقول: “البرد يخترق جسدي ويجمِّد أصابعي- في ظل انعدام أي وسيلة للتدفئة-  فأشعر أنني مقيد الحركة وأصابعي مشلولة لا تقوى على العزف. انشغالي بتدريس الموسيقى لساعات طويلة، من أجل تأمين لقمة العيش، يُشعرني بالتعب والإجهاد ويؤثر على طاقتي ومزاجي الإبداعي. صوت مولدات الكهرباء التي تزعق طوال النهار في حارتي تؤذي أذنيَّ وتشتت تركيزي وتجتاح عالمي الخاص. وفي الليل تُشعرني الإنارة الخافتة في ظل انقطاع الكهرباء- بالاكتئاب وتمنعني من قراءة كثير من الكتب والمراجع والنوتات الموسيقية، فيما ينفذ شحن اللابتوب الذي أستخدمه لتدوين بعض الجمل الموسيقية التي تحضر إلى رأسي، كل ذلك يعرقل ما أسعى لتحقيقه”.

 وخلال أزمة كورونا وفي ظل غياب الحفلات الموسيقية لجأ ويلجأ اليوم بعض الموسيقيين إلى مواقع التواصل الاجتماعي التي صارت وسيلتهم الوحيدة لإيصال صوتهم الإبداعي ونشر ما يعزفونه على الجمهور، لكن تلك الوسيلة لم تخلُ أيضاً من العقبات، إذ يصعب على بعضهم تحميل مقاطع الفيديو التي يسجلونها نتيجة ضعف سرعة الانترنت وانقطاعه الدائم إلى جانب انقطاع الكهرباء الطويل وما يخلفه من آثار سلبية تسهم في زيادة تلك العقبات.

” لا أمل لأي إبداع هنا” هي مقولة بات يتبناها الكثير من الموسيقيين الصاعديين الذين يؤجلون مشاريعهم وأحلامهم الموسيقية إلى ما بعد السفر، ليحذوا بذلك حذو من سبقوهم من أقرانهم، الذين فجروا طاقاتهم الإبداعية في أوروبا وغيرها من بلاد الاغتراب.

غلاء المعيشة يغير تقاليد عيد النوروز

غلاء المعيشة يغير تقاليد عيد النوروز

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا

تزامن عيد النوروز (الذي يصادف الحادي والعشرين من آذار في التقويم الميلادي) هذا العام مع ظروف اقتصادية صعبة ومعيشية متردية من جهة، وفيروس كورونا من جهة ثانية، ولمن لا يعرف هذا العيد، فهو عيد رأس السنة الفارسية والسنة الكردية، ويوافق يوم الاعتدال الربيعي وبدء دورة الحياة الجديدة، حيث تعني “نو” جديداً بالفارسية، أما “روز” فتعني يوماً، فتأتي “نوروز” مجتمعة بمعنى “اليوم الجديد.”

فتيات يرتدين الزي الفلكلوري المضرج بالألوان الزاهية كأيام الربيع، وجوه ملطخة بالأحمر والأخضر والأبيض، حلقات متماسكة لأيدي متشابكة إيذاناً بالدبكة، خيم منصوبة في عراء الطبيعة، أناشيد وأهازيج تصدح في السماء، أغطية ممددة على العشب تُفرش عليها المأكولات، هذه بعض من مشاهد احتفال أكراد مدينة الحسكة. هذه المشاهد التي تضج بالحياة والفرح تعبر عن إصرار أكراد الحسكة على إحياء العيد الذي له مكانة خاصة لديهم، بالرغم من الأوضاع المعيشية السيئة التي تمر بها سوريا، والتي تلقي بظلالها على شتى مظاهر الحياة، وتؤثر حتماً على شكل الاحتفالات بعيد النوروز.

تقول آنا شبيبه وهي إحدى المشاركات في الفرق الراقصة والمسرحية معاً: “هذا العيد مقدس بالنسبة للجميع، لما فيه من رمزية ثورية، ففي هذا اليوم تحرر الفكر الكردي، نقضيه بعرض المسرحيات الثورية الهادفة وحلقات الدبكة والموسيقى والأشعار”. تعتبر الشابة أن مجرد إحياء العيد هو تحدي كبير بالنسبة للأكراد، خاصة في ظل الظروف المادية الراهنة، مضيفة: “الغلاء المستعر أثر بشكل كبير على الاحتفال، حيث غير من العادات الاستهلاكية للعديد من الأهالي الذين اضطروا إلى التقنين في الطعام، إذ جرت العادة بأن يقوم المحتفلون بتحضير طبق المشاوي الذي يعد أساسياً، لكن بسبب ارتفاع الأسعار، انصرف البعض منهم عنه ليستبدلونه بأطباق صغيرة غير مكلفة يحضرونها من منازلهم”.

الزي الرسمي الفلكلوري بات عبئاً مادياً مضافاً ولم يعد بمقدور الجميع تكبد نفقاته، وحول هذه النقطة تقول شادن: “اعتدنا شراء الملابس التراثية الخاصة بهذه المناسبة كل عام، كان لا يمر عام دون زي جديد، أما الآن فقد تغير الوضع، بات سعره غالياً، حيث يصل سعر الزي الواحد ما لا يقل عن 100 ألف ليرة سورية”. وتتابع حديثها: “ارتدى غالبية المحتفلين ملابس العام الماضي، وهناك من تبرع بزيه القديم الذي لم يعد بحاجة إليه، أو عمد الناس إلى الاستعارة  من بعضهم بعضاً حيث أطلقت العديد من المجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي مبادرات إيجابية لتبادل واستعارة الأزياء الشعبية بين الفتيات الكرديات، بالنسبة لي استعرت الزي من صديقة لي”.

فرض فيروس “كورونا” نفسه على العالم أجمع، ووضع شروطه الخاصة، فجاء النوروز هذا العام في ظروف استثنائية، خاصة في ظل اشتداد الموجة الثالثة التي تشهدها سوريا، إلى جانب تكاليف المعقمات ومواد التنظيف، ويوضح نوجدار: “العائلة بأسرها ستخرج للاحتفال  دفعة واحدة وبالتالي شراء المزيد من الكمامات والكحول، والكثير من الازدحام، صحيح أنها تكاليف إضافية وتحدي كبير لنا، لكن الأمر يستحق العناء، فهو يوم واحد في السنة ولا يجب تفويته أبدا”.

هذا وتقام الاحتفالات بعيد النوروز وسط إجراءات أمنية احترازية مكثفة خشية من تكرار الحوادث المأسوية التي وقعت عام 2015 بعد أن نفذ تنظيم “داعش” تفجيرين مزدوجين في حي المفتي بمدينة الحسكة، أسفرا عن قتل ‏35 شخصاً وعشرات الجرحى.

مبادرتان خاصتان في عيد النوروز

أطلقت  مجموعة  جميلات روج آفا التي تضم آلاف الفتيات والنساء مبادرتين على مواقع التواصل الاجتماعي، الأولى لجمع أكثر من 100 زي كردي من العائلات الميسورة والتبرع بها، أما الثانية لتوزيع كميات من اللحوم على العائلات الفقيرة ليتمكنوا من الاحتفال في عيد النوروز. وعن هذه المبادرة تقول مؤسسة المبادرة هيلين عثمان: ” جمعنا تبرعات مالية من داخل الجزيرة وخارجها، حيث وزعنا حوالي 300 فستان فلكورلي خاص باللباس الكردي التراثي على الفتيات مجاناً نظراً لغلاء القماش وارتفاع أسعار الفساتين وأجور الخياطة، كما وزعنا لحوم بقيمة مليونين و380 ألف على الأسر المحتاجة، خاصة أن المشاوي تُعد طبقاً أساسياً في طقوس عيد النوروز”.

قصة عيد النوروز

ترمز قصة النوروز الكردية إلى الانتصار على الظلم، حيث تقول الأسطورة الكردية إن رجلاً يدعى “كاوة الحداد” قام بثورة على الملك الظالم “الضحاك” الذي كان “يأكل الأطفال” من خلال اثنتين من الأفاعي ربطتا على كتفه، ليعمد كاوة إلى إشعال ثورة استعان فيها بأطفال أنقذهم من الموت ودربهم في جبل كانوا يحتمون به، لذلك تعد النار بالنسبة للأكراد مقدسة.

ويحتفل الأكراد بهذا العيد، ويعدونه عيداً قومياً، حيث يقومون في ليلة العشرين والتي يطلقون عليها “وقفة العيد” بإشعال الشموع وإحراق الدواليب والقفز فوقها لوداع آخر شروق للشمس في السنة، مع ترديد ترانيم خاصة مثل: “يا نار خذي لوني الأصفر” (في إشارة منهم لذهاب  الأمراض)  ثم القول “امنحيني لونك الأحمر” (في إشارة إلى منحهم الصحة).

وفي اليوم الحادي والعشرين، أي ليلة النوروز يفتتحون العيد بالحديث عن الأوضاع السياسية والعسكرية التي تشهدها المنطقة، ونبذة عن  قائدهم عبد الله جيلان.

وجدير بالذكر أن مائدة النوروز تحتوي أطباقاً خاصة تسمى “هفت سين” أو السينات السبعة وهي مكونة من الثوم (سير)، و السنابل أو الورد (سنبل) والخل (سيركة) وعملة معدنية (سكة) والخضروات (سبزي أو سبزه) وحلوى (سمنو) و ثمرة (سنجد) البرية.

عمال المياومة: أكثر المتضررين من الأزمة الاقتصادية السورية

عمال المياومة: أكثر المتضررين من الأزمة الاقتصادية السورية

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا

يعيش عمال المياومة أزمة اقتصادية خانقة لحقت بهم خلال السنوات الماضية، فساعات عملهم المرهق الطويلة مقابل أجور لا تفك متطلبات المعيشة لنصف يوم بل أحياناً قد تلبي احتياجات أحد أفراد الأسرة فقط دون بقية الأفراد. ورغم أن الأعمال لم تنقطع إلا أن عمال المياومة كانوا من بين أوائل ضحايا الأزمة الاقتصادية في سوريا خصوصاً أن أجورهم المتدنية لم تعد تلبي متطلبات المعيشة لديهم.

وتتنوع أعمال هؤلاء العمال بين العمل في الزراعة أو نقل وتحميل الأثاث المنزلي أو مواد البنك أو قطف المحاصيل مقابل أجر يومي يتفق عليه مع صاحب العمل. وحسب ما أفاد به عدد من عمال المياومة، فإن القليل منهم تصل أجورهم اليومية إلى قرابة 7000 ليرة سورية بينما يحصل الغالبية على أجور تكاد تتوسط 3000 ليرة سورية أي باتت أجورهم لا تتعدى 2 دولار أمريكي.

ويبدو أن العديد من عمال المياومة اضطروا منذ سنوات إلى ترك أعمالهم واتجهوا إلى البحث عن وظائف تمنحهم أجوراً أفضل من تلك التي يتقاضونها لقاء أعمالهم الاعتيادية.

دخل زهيد

يضطر عمال المياومة إلى البحث يومياً عن عمل ما يوفر لهم دخلاً زهيداً بالكاد يغطي لهم المصاريف المعيشية، ويقول البعض منهم إنهم مضطرون للعمل في هذا المجال بسبب قلة فرص العمل.

وخلال إعداد هذا التقرير، تواصلنا مع أمجد (38 سنة) وهو أحد عمال المياومة في شمال سوريا، حيث يقول لنا: “نعمل من أجل توفير رغيف الخبز لا أكثر، أجورنا قليلة لا تتجاوز 15 ليرة تركية (قرابة 2 دولار أمريكي) ولا تكفي لسد متطلبات الحياة خصوصاً إن كان لدى العامل عائلة”.

ويضيف، المشكلة أيضاً أن عملنا ليس مستقراً، نعمل أحياناً لعدة أيام ومن ثم نبحث عن عمل آخر وأحياناً ننقطع عن العمل لأيام فكيف لنا أن نغطي مصاريفنا اليومية مع غلاء المعيشة!

وعن طريقة تحديد الأجور، فإن عدداً من عمال المياومة أفادوا بأن صاحب العمل يعرض عليهم طبيعة العمل مثل تحميل مواد بناء أو نقل أثاث منزل أو غير ذلك والمبلغ الذي سيدفعه وإن وافقوا يأخذهم لمكان العمل، وبمجرد إنجاز العمل يتقاضون أجورهم.

ويؤكد أمجد، أنه نادراً ما يحصل البعض منهم على فرصتي عمل يومياً ليتقاضى لقاء ذلك مبلغاً جيداً قد يصل إلى ما يعادل 4 دولارات في يوم واحد.

عمل ثابت

اتجه العديد من عمال المياومة إلى البحث عن أعمال ثابتة تجعلهم على الأقل غير عاطلين عن العمل في بعض أيام الشهر محاولين توفير قوت يومهم في ظل غلاء السلع والخدمات وارتفاع تكاليف متطلبات المعيشة.

ويبدو أن الأعمال الثابتة رغم الرواتب القليلة التي يتقاضاها العاملون لقاء عملهم إلا أنها أفضل من عمل المياومة المتقطع، حسب إفادات عدد من العمال في شمال سوريا.

وفي لقائنا مع عدد من عمال المياومة ومن بينهم أبو جهاد (31 سنة) الذي يعمل الآن في أحد محال الحلويات بريف حلب، أوضح لنا تجربته: “الراتب قليل لكنه أفضل من العمل المتقطع، كنت أحياناً أعمل وأحياناً اضطر للجلوس في المنزل، على الأقل في العمل الثابت يمكنني توفير إيجار منزلي شهرياً”.

ويتابع، كان لدي سيارة قبل سنوات ولكنني اضطررت لبيعها والآن أعمل كل شهر بشهره فما أحصل عليه في شهر يكاد يوفر لي ولعائلتي مصروفنا الشهري.

وليست حالة أبو جهاد الوحيدة من نوعها بل هناك الكثير من السوريين الذين تأثروا بالأوضاع الاقتصادية السيئة التي رافقها الغلاء المعيشي وقلة مدخول فرص العمل المتوفرة.

تحت خط الفقر

تشير الأرقام الواردة في الدراسات والأبحاث التي أنجزت عن الملف الاقتصادي في سوريا إلى مدى الآثار السلبية التي لحقت بالسوريين في شتى المجالات.

وفي تصريحات صدرت عن المدير الإقليمي للشرق الأوسط في اللجنة الدولية للصليب الأحمر، فابريزيو كاربوني، منذ أيام، قال خلالها: إن “ما يقارب من نصف الشباب السوري فقدوا دخلهم بسبب الصراع في سوريا، ونحو ثمانية من كل عشرة أفراد يواجهون صعوبات من أجل توفير الطعام والالتزامات الضرورية الأخرى” وفق ما نقلته وكالة رويترز.

وأضاف أيضاً، النساء السوريات تعرضن أيضاً لأزمة اقتصادية حيث يوجد 30% من النساء لا يمتلكن أي دخل على الإطلاق لإعانة عائلاتهن.

في المقابل، حذر برنامج الأغذية العالمي، الشهر الفائت، من تفاقم كارثة غذائية تشهدها سوريا، حيث أكدت أرقام البرنامج الأممي، أن 90% من السكان تحت خط الفقر مقابل ارتفاع أسعار السلع الغذائية لأكثر من 200% خلال أقل من عام.

وتضرر معظم السوريين من الأزمة الاقتصادية الخانقة وفي مقدمتهم العمال الذين يتقاضون أجوراً قليلة بما فيهم عمال المياومة.

هل من حلول؟

لا يبشر الواقع الاقتصادي في سوريا في أية حلول مستقبلية قريبة من شأنها أن تحسن الأوضاع المعيشية لدى السكان خصوصاً مع عدم استقرار الليرة السورية في ظل استمرار تدهور قيمتها خلال السنوات القليلة الماضية.

وفي اتصال هاتفي مع محمد أبو بلال وهو أحد السوريين المهتمين بالمشاريع الاقتصادية، يقول لنا: “لا توجد بيئة استثمارية مستقرة في سوريا وهذا يعود لأوضاع البلاد الأمنية، حيث يؤثر ذلك بالدرجة الأولى على صعوبة توفير الموارد الأولية ومتطلبات التشغيل وآليات التوزيع والتصريف خصوصاً للمشاريع الكبيرة”.

ويتابع، من الملائم للعمال السوريين أن يؤسسوا لأنفسهم في الوقت الحالي مشاريع صغيرة توفر دخلاً إضافياً لهم ولو كان محدوداً، على الأقل يغطي تكاليف معيشتهم.

وعن كيفية الوصول إلى أفكار لمشاريع صغيرة بالنسبة للسوريين المتأثرين بالأوضاع الاقتصادية يُجيب، هناك عدة عناصر يجب التركيز عليها مثل الحاجة للمنتج أو الخدمة المقدمة والقدرة على منافسة السوق وسهولة وصول المواد الأولية.

اليابان…اعمار سوريا وانتخاباتها

اليابان…اعمار سوريا وانتخاباتها

أعلنت اليابان استعدادها للمساهمة في إعادة إعمار سوريا «عندما تحقق العملية السياسية تقدمها بما ينسجم مع قرار مجلس الأمن 2254»، قائلة، إن الانتخابات الرئاسية السورية المقبلة قبل انتهاء ولاية الرئيس بشار الأسد في يوليو (تموز) المقبل «لا بد أن تُعقد بمشاركة جميع السوريين، وبتفهم المجتمع الدولي».
وقال المنسق الياباني لشؤون سوريا أكيرا إيندو، في بيان، إنه مع حلول «الذكرى العاشرة للأزمة السورية، لم يتم بعد التوصل إلى وقفٍ لإطلاق النار في جميع أنحاء سوريا، وبات الوضع الإنساني أكثر قسوة على نحو متزايد. كما أن العملية السياسية لم تشهد تقدماً بعد. ويساور اليابان القلق، حيث نشهد ركوداً طويلاً وفقداناً للزخم إزاء تسوية الأزمة. ومن منظور تحقيق الاستقرار على المدى المتوسط والبعيد في الشرق الأوسط، لا يجوز التخلي عن الشعب السوري في ظل الظروف الراهنة غير المستقرة».
وإذ أشار إيندو إلى أن «السلام والاستقرار الدائمين في سوريا لا يمكن تحقيقهما بالسبل العسكرية، ولا يمكن التوصل إليهما دون حل سياسي عبر تقدم العملية السياسية بما ينسجم مع 2254»، أمل في «تعجيل مناقشات اللجنة الدستورية وتقدمها» لدى استئناف عملها في جنيف برعاية أممية.
وكان لافتاً موقف طوكيو من الانتخابات الرئاسية السورية المقرر عقدها في انتهاء ولاية الأسد في 17 يوليو المقبل. وقال المبعوث الياباني «بغية تحقيق الحل السياسي للأزمة السورية، لا بد أن تُعقد الانتخابات الرئاسية السورية المقبلة بمشاركة جميع السوريين، وبتفهم المجتمع الدولي».

وكان وزراء خارجية الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا، قالوا في بيان مشترك قبل أيام «الانتخابات الرئاسية السورية المقترحة هذا العام لن تكون حرة ولا نزيهة، ولا ينبغي أن تؤدي إلى أي إجراء للتطبيع الدولي مع النظام السوري». كما أن مفوض الشؤون الأمنية والسياسية في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل، قال في بيان، إن هذه «الانتخابات لا تفي بمعايير قرار 2254، ولا يمكن أن تسهم في تسوية الصراع، ولا تؤدي إلى أي إجراء للتطبيع الدولي مع النظام».
في المقابل، أعلن الناطق باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف، أن الكرملين «يعتبر الأسد رئيساً شرعياً لسوريا». كما أن لافروف قام بجولة خليجية بهدف حث دول عربية على إعادة دمشق إلى الجامعة العربية وتمويل إعمار سوريا واعتبار الانتخابات الرئاسية «نقطة تحول».
وتجاهل بيان للخارجية التركية عن الذكرى العاشرة للأزمة السورية، موضوع الانتخابات الرئاسية السورية.
إلى ذلك، أكد المبعوث الياباني التزام «تقديم المساعدات الإنسانية لجميع السوريين الذين يواجهون الصعوبات، حيث قدمت اليابان دعماً بقيمة إجمالية تزيد على 2.9 مليار دولار أميركي منذ عام 2012 للمساعدات الطارئة والإنسانية في مجالات كالغذاء والماء والنظافة والصحة والتعليم. وفي ضوء تعدد الاحتياجات الإنسانية الناجمة عن الأزمة المطولة، والآثار الاجتماعية والاقتصادية لفيروس كورونا المستجد، قررت اليابان تقديم مساهمة جديدة تقارب قيمتها 200 مليون دولار أميركي كمساعدات إنسانية إضافية ومساعدات أخرى لسوريا ودول جوارها في عام 2021».

وأشار إلى «التزام المساهمة في إعادة إعمار سوريا عندما تحقق العملية السياسية تقدمها بما ينسجم مع 2254».
وأعلنت الخارجية الفرنسية، أنها «ستواصل مع شركائها جعل إعمار سوريا وتطبيع العلاقات مع دمشق مشروطين بتنفيذ حل سياسي دائم حسب 2254»، وهو موقف مشابه لبيانات الاتحاد الأوروبي.

الانتحار في سورية: أزمة حرب أم ظاهرة طبيعية

الانتحار في سورية: أزمة حرب أم ظاهرة طبيعية

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا

أثار انتحار شاب وفتاة سوريين خلال أسبوع واحد، جدلاً واسعاً على وسائل التواصل الاجتماعي، في البلاد التي تعاني منذ عشر سنوات من حرب طاحنة، ترافقت مع أزمة اقتصادية خانقة، دفعت الأمم المتحدة للتحذير من أن 10 ملايين سوري يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وباتوا غير قادرين على إطعام أسرهم.

وانقسم السوريون بين من يرى أن هذه الحالات طبيعية وتحدث في كل الدول، وبين من يرى أنها من مفرزات الحرب التي قلصت مساحة الأمل لدى الشباب، ولم تترك لهم سبيلاً للخلاص إلا الانتحار. سجلت العاصمة دمشق أول حالة انتحار في 3/3/2021، وتعود للشاب حسين شماس (18 عاماً) وهو طالب في المرحلة الثانوية، إذ أقدم على شنق نفسه في منزله، تاركاً رسالة مؤثرة لأصدقائه وأقاربه، طالبهم فيها بألا يشعروا بتأنيب الضمير لعدم قدرتهم على تقديم المساعدة له، لأنه هو ذاته غير قادر على تقديم المساعدة لنفسه.

وكتب الشماس على صفحته قبل أيام من انتحاره: “لم أستطع أن أفهم اللعبة لذلك قررت تسجيل الخروج”. كما شارك منشوراً جاء فيه أن: “الاغتراب ليس الابتعاد عن مسقط رأسك، بل الاغتراب الحقيقي هو شعورك بأن المكان الذي توجد فيه غير مناسب لنموك وتحقيق أحلامك”.

وغصّت صفحة الشماس على “فيسبوك” بآلاف التعليقات على منشوراته أظهرت حقيقة الانقسام السياسي والثقافي الحاد في سوريا، كما وصلت الأمور إلى حد السخرية منه، كقيام البعض باستخدام جملته الأخيرة حول عدم فهم اللعبة دون أي داع ومبرر كنوع من الاستهزاء والاستخفاف به.

لا تقتصر حالات الانتحارعلى العاصمة دمشق، ففي محافظة القامشلي مثلاً قررت الشابة مهى النزال (17 عاماً) إنهاء حياتها، بإطلاق النار على نفسها مِن مسدس حربي داخل منزلها في المدينة. وقعت هذه الحادثة بعد ثلاثة أيام من تاريخ الواقعة الأولى، فيما أكد نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي أن حادثة انتحار الفتاة حصلت في الأسبوع الأخير من شهر شباط.

وكتبت الفتاة وصيّةً لعائلتها بخط يدها، أوضحت فيها أسباب انتحارها، وهي أن الحياة ليس جميلة ولا تحبها، وتشعر دائماً أنها على خطأ في هذا العالم، داعية من يحبها إلى مسامحتها.

حالات الانتحار هذه تركت الباب موارباً حول صحة بعض الأخبار المتداولة عن قصص مشابهة، فقد تداول السوريون المقيمون خارج البلاد صورة لشاب على أنه انتحر وترك رسالة للشعب السوري، يقول فيها إنه قرر قتل نفسه لكي تذهب حصته من الطعام إلى أخوته، ليتبين فيما بعد أن الخبر كاذب، وأن الصورة المتداولة هي لشاب مصري يدعى محمد المنشاوي، وهو يعيش في النمسا حيث ظهر على صفحته لينفي ما تم تداوله عنه.

بدوره، نفى مدير هيئة الطب الشرعي السورية الدكتور زاهر حجو في وقت سابق في تصريح رسمي له على القنوات الرسمية السورية وجود أي ازدياد في حالات الانتحار كما يشاع، مشيراً إلى وجود انخفاض في عدد الحالات المسجلة مقارنة بذات الفترة من العام الماضي.

وأوضح حجو أن “سورية سجلت حتى الآن 31 حالة انتحار في العام 2021، بينما سجلت في الفترة ذاتها من العام الماضي 35 حالة انتحار”، مؤكداً أن “سورية تعد من الدول ذات معدلات الانتحار المنخفضة، فالنسبة لا تتجاوز 1 من كل 100 ألف رغم الحرب التي تعاني منها وتبعاتها، في حين حسب إحصائيات منظمة الصحة العالمية فإن النسبة العالمية تتراوح ما بين 5 إلى 10 من كل 100 ألف”.

وأوضح حجو أن عدد المنتحرين من الذكور أكثر من الإناث، فبلغ عدد الذكور 24 في حين تم تسجيل انتحار 7 إناث، مشيراً إلى أن ” 21 منهم انتحروا شنقاً و5 بطلق ناري و2 سقوط من مرتفع شاهق ومثلهما انتحرا بالسم” مشيراً إلى أن ” أكثر المحافظات التي تم تسجيل فيها حالات انتحار هي ريف دمشق 7 حالات بعدها دمشق 6 حالات وحماة 4 وذات العدد في طرطوس.”

وأعربت العديد من الهيئات الصحية عن قلقها من تعمد العديد من الأشخاص والمواقع الإخبارية، نشر أخبار كاذبة عن ضحايا وهميين أو حوادث ملفقة، بهدف استقطاب القراء والمعجبين على وسائل التواصل الاجتماعي، محذرة من قيام البعض بتغليف أخبار الانتحار الحقيقية بقالب من التعاطف الوهمي، الذي قد يشجع المراهقين الذين يعانون من مشاكل نفسية، إلى التفكير بالانتحار والإقدام عليه، بعدما يتم تسويق هذا الفعل على أنه الحل الوحيد والبطولي.

من جهته، كتب أستاذ الطب النفسي أسعد الخليل على صفحته على مواقع التواصل الاجتماعي منشورا منبهاً إلى “أن حالات الانتحار ناجمة عن اضطرابات نفسية، ومن الخطير اليوم أن نرى هذا الكم من التبريرات غير الواقعية لفعل الانتحار”. وأضاف الخليل “لا شك أن الحرب وما رافقها من أزمات تركت آلاماً وكوارث كبيرة يجب معالجتها، ولكن التركيز يجب أن يكون على السبب الرئيسي وهو الاضطراب النفسي ومن ثم تقديم الدعم النفسي لكل محتاج”.

بدوره قال الطالب الجامعي جورج حنا في حديث معنا: “كم هو مؤلم أن نرى كل هذا الثناء على شاب أقدم على الانتحار بسبب مرض نفسي، ما فعله حسين ليس بطولة أو شجاعة، أو موقفاً يستحق عليه الثناء، ما فعله مأساة حقيقية”.

وقال المعارض المقيم في ألمانيا أحمد قزموز: “إن كل مواطن داخل سوريا بات قنبلة موقوتة ستفجر نفسها أو ستنفجر بوجه غيرها، وهذا كله بسبب تمسك النظام السوري بالسلطة” حسب تعبيره.

من جهتها، قالت الطالبة في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق سارة بوظو “إن السبب الوحيد لتمسكنا بحياتنا المقرفة كسوريين هو أن الانتحار حرام، أيامنا مليئة بالذل والهوان، ولا مستقبل مشجع ينتظرنا”. وختمت بوظو بالقول: “بمعنى آخر لو كان الانتحار محللاً دينياً لما بقي سوري على قيد الحياة”.