الخبز الذكي” و الليبرالية الجديدة الحمقاء”

الخبز الذكي” و الليبرالية الجديدة الحمقاء”

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا

يرتبط مفهوم الأمان تاريخياً بالنسبة للعائلة السورية بشرط لازم وواجب وهو تأمين الخبز. وظلت عبارة “تأمين الخبزات” مزروعة في وجدان كل رب أسرة عندما يعود إلى منزله بعد انتهاء عمله. وليست من قبيل الصدفة أن يأخذ الارتباط اللفظيّ بين الأمان والتأمين ارتباطاً وجدانياً، ولن نكون مغالين إذا قلنا ارتباطاً وجودياً. وعندما يصبح هذا التأمين مهدَّداً، تظهر كل أعراض عدم الأمان من خوف وقلق ورعب يهدد الوجود نفسه.
عندما تجد بضع حبات من القمح في جرة تعود إلى ما قبل التاريخ، عندما تشاهد رجل يزيح كسرة خبز يابسة عن الطريق كي لا تدوسها الأرجل، عندما تراقب امرأة وهي بكامل الولع تلف الخبز، تعرف مدى القداسة (التي لن تكون دينية بالضرورة) بل قداسة إنسانية لهذا المنتج الإنسانيّ: الخبز.

لأجيال عديدة ظلت هذه البلاد زراعية الهوية الاقتصادية، وتنتج ما يكفي شعبها، وتصدر ما يزيد عن حاجتها، وشكل القمح المحصول الاستراتيجي للدولة. لكن المتتبع والمعايش لما يحصل في سورية اليوم من نقص حاد في المحصول وصعوبة تلبية حاجة الشعب من الخبز يدرك كم فقدت هذه البلاد من هويتها.
في الفقرات التالية سنحاول ربط الماضي بالحاضر من خلال الأرقام الإحصائية لإنتاج القمح في سورية معتمدين على إحصائيات وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي في سورية وأرقام منظمة الغذاء والزراعة التابعة للأمم المتحدة، لا لنعمق المأساة بل لنكشف حجمها، متتبعين حركية المحصول والقرارات المتعلقة به.

اقتصاد السوء الاجتماعي

في عام 2006 وفي خطوة وصفها الاقتصاديون بـ” المتسرعة” أو “غير المدروسة”، جرى تبديل شامل في سياسة الدولة الاقتصادية. وتم الانتقال من اقتصاد مركزيّ موجَّه يعتمد على الخطط الخمسية إلى ما دعي بـ اقتصاد السوق الاجتماعي. كانت الخطوة ارتجالاً وتحولاً مفاجئاً نحو الليبرالية الاقتصادية وتحرير الأسواق، صفق لها البنك الدوليّ!
وبسرعة وُزّعت الامتيازات حسب الولاءات، وأُسّست الشركات القابضة ذات الصيغ العائلية، وبدا الانفتاح براقاً وواعداً! وأصبح الاستثمار في المشاريع السياحية والخدمية هو الموجة الجديدة. وغزت مشاريع الفنادق مراكز المدن ومشاريع القرى السياحية والفلل تلال دمشق وأخواتها. كان المنظر باهراً على أتوستراد حرستا ووزعت السيارات بالتقسيط. بينما هُمشت الزراعة والصناعات المرتبطة بها، وأغرقت الأسواق بالصناعات الصينية الرخيصة متدنية الجودة، في حين ساهم انتشار البضاعة التركية في تهميش البضاعة الوطنية. هُجرت الحقول وزادت الهوة بين من يملكون ومن لا يملكون، وانتقلت سورية من بلد زراعيّ إلى بلد متحوِّل اقتصادياً. إن كلمة متحول لا تعني التغيير نحو الأفضل أو انتهاج تعددية اقتصادية، بقدر ما تعني انتهاج سياسات مصلحية يلعب فيها الامتياز والولاء الدور الأساسي. إنها تعني غياب النظام الاقتصادي وغياب الهوية. لم تتم خصخصة القطاع العام بل تم تأسيس قطاع خاص جداً كانت غايته الوحيدة على ما بدا إحداث شلل في القطاع العام وتهميشه وإفقاره. لقد تم إغلاق المعامل الوطنية المرتبطة بالزراعة، فأغلق معمل السكر في تل سلحب بسبب الخسائر وتراجع إنتاج الشوندر السكري تدريجياً والآن لم تعد حماه تنتج أي حبة شوندر سكري بعد أن تم إيقاف زراعة الشوندر السكري نهائياً بقرار حكومي. وأغلقت معامل الكونسروة في درعا والورق في دير الزور، ومعامل الصابون وأقلام الرصاص في دمشق، وتركتْ الدولة الساحةَ لطبقة صناعية طحلبية همها فقط الإثراء على حساب موت القطاع العام أو تمويته.

“وقمح..”

مهما قيل عن القمح السوري بأنه قمح قاس، يبقى أكثر طيبة من متخذي القرارات وصانعي السياسات الاقتصادية في هذا البلد القمحيّ بامتياز. يمتاز القمح السوري بـ”كبر الحبة وتشعب السنبلة والهيئة البلّورية واللون العنبري الأصفر وتأقلمه بشكل واسع مع البيئات المختلفة لحوض البحر الأبيض المتوسط بنسبة 60% قمح قاس و 40% قمح طري” وذلك حسب الهيئة العامة للبحوث العلمية الزراعية.

ومع التحول الاقتصادي جاء موسم 2007-2008 فقيراً بالأمطار ومنذراً بالجفاف، إذ سجلت محافظة الحسكة هبوطاً حاداً في معدل الأمطار بلغ 121.7 ملم بانخفاض 100ملم عن المعدل السنوي، علماً بأن الحسكة تقدم 60% من المحصول القومي للقمح في سوريا. وسجلت دير الزور معدل 56.3 ملم بانخفاض 90 ملم عن المعدل السنوي . وسجلت حماه 284 ملم بانخفاض بلغ 90 ملم.
وبالتزامن مع موسم الجفاف، قامت الحكومة في نيسان 2008 برفع سعر المازوت من 7 ليرات للتر إلى 25 ليرة، وقامت بتحرير سعر السماد. وبات المازوت يوزع عن طريق القسائم التي آذنت بظهور ظاهرة الطوابير في سوريا. وأدت هذه القرارات مع موسم الجفاف إلى نزوح عدد كبير من الفلاحين إلى المدن وهُجرت الحقول. بلغ إنتاج القمح في ذلك الموسم 2.1 مليون طن بانخفاض 2 مليون طن عن الموسم السابق. بررت الحكومة رفع سعر المازوت لسد العجز في الميزانية، لتعود وتخفض سعر اللتر 5 ليرات في بداية 2009.
سجل الموسمان التاليان معدل هطول مطري جيد، ووصل إنتاج القمح موسم  2011 إلى 3.9 مليون طن. في عام 2014 ضربت سوريا موجة جفاف جديدة متزامنة مع نقص المازوت وانقطاع الكهرباء وانعدام الأمن مما شكل صعوبة كبيرة في وصول الفلاحين إلى أراضيهم. وحسب تقرير منظمة الغذاء والزراعة FAO في 23 كانون الثاني 2013″45 % من الفلاحين لا يستطيعون الوصول” وسجل الموسم انخفاضاً قياسياً في إنتاج القمح بلغ حسب تقديرات المنظمة 1.3 مليون طن، قدرته الحكومة السورية بـ 1.7مليون طن.
ورغم الموسم المطري الجيد في 2015 فلم يتجاوز المحصول 2.4 مليون طن بعجز قدره 900 ألف طن عن الحاجة السنوية. وسجل تقرير الـ FAO في 23 تموز 2015 بأن “9.8 مليون سوري يعانون من انعدام الأمن الغذائي.”
وسجل عام 2016 ارتفاعاً طفيفاً بمعدل الإنتاج بلغ 2.9 مليون طن، ليعود وينخفض إلى مستويات قياسية في الأعوام اللاحقة (2017: 1.8مليون طن؛ 2018: 1.2مليون طن؛ 2019: 1.2مليون طن)، لتبدأ مسألة استيراد القمح الروسي الأقل جودة من القمح السوري وتبدأ أزمة الخبز بالظهور.

خبز ومازوت وقهر

في نيسان 2020، أُدخل الخبز على نظام البطاقة الذكية، بعد شهر على ظهور أزمة الخبز. عللت الحكومة الأزمة بعدة أسباب: عدم إرسال روسيا لكميات القمح المتفق على شرائه (بلغت كمية القمح المستوردة من روسيا 1.3 مليون طن عام 2017 و1.1 مليون طن عام 2019)؛ انخفاض كمية القمح المسلمة للدولة من قبل الفلاحين (بلغت كمية الحبوب المسلمة إلى الحكومة 500 ألف طن عام 2017؛ 1مليون طن 2019؛  500ألف طن 2020)؛ ضبط الاستهلاك المحليّ بحجة أن الطحين يهرب إلى المخابز الخاصة والسياحية ومعامل المعكرونة وإلى مربي الحيوانات بسبب نقص مادة العلف وإلى دول الجوار، والذي يشير إجمالاً إلى حجم الهدر والفساد في مؤسسات الدولة نفسها.
على نظام البطاقة الذكية، قدرت وزارة التجارة الداخلية حصة الفرد بـ 19.5كغ شهرياً، وقسمت الأسرة السورية إلى أربع شرائح حسب عدد أفراد الأسرة المسجلين على البطاقة (1-2  شخص ربطة واحدة يومياً، 3-4 أشخاص ربطتين يومياً، 5-6أشخاص ثلاث ربطات يومياً، 7 أشخاص وما فوق أربع ربطات يومياً). لقد أدت كل العمليات الفنية من استخراج بطاقة ومن ثم تعديل البيانات العائلية إلى أزمة طوابير أضيفت إلى الأزمة الأساسية وبات المواطن السوري من طابور إلى طابور وأعيد إلى نقطة الصفر ولم تنجح البطاقة في حل الأزمة بل أصبح القهر ملازماً لكل خطوة.
في عامي  2011و2012 كان سعر ربطة الخبز 15 ل.س وتزن 1800غ بـ 8أرغفة. ارتفعت في 2013 إلى 19ل.س، بينما بيعت في المناطق المحاصرة بأرقام تراوحت بين  600إلى 2500 ل.س. في الشهر السابع  2014ارتفع السعر إلى 25 ل.س وفي الشهر العاشر 2015 إلى50  ل.س. في حين ارتفع سعر لتر المازوت إلى 135 ل.س وسعر أسطوانة الغاز إلى 1800 ل.س.
في الشهر السادس 2016 أعلنت الحكومة ارتفاع سعر المازوت إلى 180 ل.س للتر وأسطوانة الغاز إلى 2500 ل.س في حين كان سعر صرف الدولار  470 ل.س.
واعتباراً من منتصف عام 2019 سيبدأ سعر الليرة بالهبوط أمام الدولار بوتيرة متسارعة وبحلول آذار من عام 2020تم رفع سعر ربطة الخبز من  50إلى 75 ل.س ونقص وزنها إلى 1100غ. لتعود وترتفع في تشرين أول من نفس العام إلى  100 ل.س مع كيس نايلون. كان ذلك السعر على البطاقة فقط ويحتاج المواطن إلى الوقوف ساعات طويلة في الطابور، مما أدى إلى ظاهرة بيع الخبز الحر، حيث تباع الربطة أمام الفرن مباشرة ب 500 و750 ل.س. ترافق ذلك مع وصول سعر ليتر المازوت بالسوق السوداء إلى 1200 ل.س ومع ذلك التدهور السريع في الخدمات من قطع جائر للكهرباء وعدم العدالة في توزيع المازوت على البطاقة وذل “تأمين الخبزات” وغلاء فاحش في الأسعار مع وصول سعر صرف الدولار إلى    4000 ل.س، بات المواطن السوري بعيد جداً عن نقطة الصفر المعيشي وأصبح تحت الصفر بدرجات. لقد أصبحت الأزمة مستدامة.

عام القمح

مع وصول الوضع المعيشي إلى مستويات متدنية، وارتفاع الأسعار غير المسيطر عليها والمتزامن مع ارتفاع سعر صرف الدولار، بقي مستوى الدخل ثابتاً أو مجمداً عند حدوده الدنيا، وبات المواطن السوري يشعر بالضياع وهو يستسلم لكارثة تحدق به من كل الجهات. ليست تلك الأرقام التي أوردناها مجرد أرقام، هي واقع يعيشه السوري بكل تفاصيله العشرية. إن العجز الحكومي والفساد الحكومي في سوريا ظاهرةٌ تدرَّس.
ومع ذلك تطلق وزارة الزراعة، في حملة دعائية وإعلامية، على موسم 2020-2021عام القمح معلنة بأنها تخطط لزراعة 1.8 مليون هكتار من القمح، وحددت سعر شراء القمح بـ 450 ل.س للكغ مع مكافأة تسليم 100 ل.س لكل كغ. ثم عادت في آذار 2021 لترفع سعر الشراء إلى  800ل.س لكل كغ.
ويبدو أنه من المستحيل الوصول إلى الأرقام القديمة 4 مليون طن مثلاً؛ فالحسكة وأراضيها والرقة وريفها وريف حلب وريف إدلب وجزء من ريف حماه خرجت من الناتج النهائي لمحصول القمح ولا يمكن تعويضها وسهل الغاب تحول إلى زراعة التبغ ليلبي نهم معامل الدخان العائمة قبالة الساحل السوري. ويبدو أن أسعار الخبز في طريقها للتحرير، فقد خرجت مديرة التخطيط والتعاون الدولي في المؤسسة العامة للمخابز بتصريح لجريدة الوطن في 10 آذار 2021لتقول:”إن بيع الخبز المدعوم يعتبر من الصعوبات التي تعرقل العمل وتسبب خسائر مالية للمؤسسة” مبررة ذلك بأن المادة “مسعَّرة اجتماعياً”!
هذا المصطلح لا يحتاج إلى تفسير. إن عملية الخنق جارية ومحاصرة للمواطن في أعز ما يملك، أي كرامته، التي باتت هي المستهدفة. والسوق السوداء هي التي تحكم.

 

سوريا بعد عقد… بلاد تنزف بلا حدود

سوريا بعد عقد… بلاد تنزف بلا حدود

مر عقد على بدء الاحتجاجات السلمية في سوريا، ضمن موجات «الربيع العربي». يختلف السوريون على موعد الذكرى، كما يختلفون حول أمور كثيرة أخرى. وخلال السنوات العشر الماضية، تغيرت أمور كثيرة في الجغرافيا والعسكرة والنسيج الاجتماعي، وفي السياسة. ربما شيء وحيد لم يتغير كثيراً، ألا وهو المعاناة.

يتجادل السوريون حول الكثير من الأمور، وتفرقهم قضايا ومسائل، لكنهم جميعاً يشعرون بأنهم في مأزق، داخل البلاد وخارجها، مع أو ضد، عمل سلمي أو عنفي، في مناطق الحكومة أو خارجها. وبصرف النظر عن اللغة و«الداعم»، فهناك جامع واحد: المعاناة. قد تختلف درجاتها، لكن من الصعب العثور على شخص لم يتأثر بشكل مباشر في السنوات العشر المنصرمة. الاستثناء الوحيد هو فئة، قلة قليلة، استفادت في مكان وخسرت في أمكنة، استفادت في الجغرافيا وخسرت التاريخ، أو كسبت الجغرافيا وخسرت المستقبل.

تطوي سوريا اليوم عشر سنوات وتبدأ سنة جديدة. إنها مناسبة للعودة إلى جذور الأزمة ومراجعة ما حصل بالعقد الأخير مع محاولة لاستشراف السنوات المقبلة.

– كيف بدأت؟

موجات «الربيع العربي»، بدأت شرارتها في نهاية 2010 في تونس وشمال أفريقيا. تأخر وصولها إلى سوريا. بدأت تجمعاتها بوقفات احتجاجية أمام السفارة الليبية في دمشق، لدعم الانتفاضات الأخرى، في «تحدٍ حذرٍ» للسلطات المقيمة في البلاد منذ عقود. كانت الهتافات تخاطب تونس وطرابلس والقاهرة، لكنها كانت «تتحدث» مع دمشق. همّ النشطاء كان نقل الشرارة إلى البلاد. ويقول الحقوقي مازن درويش لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، إن السؤال كان: «من هو البوعزيزي السوري؟»، في إشارة إلى البائع التونسي المتجوِّل الذي أضرم النار في نفسه في 17 ديسمبر (كانون الأول) 2010، وشكّل ذلك شرارة انتفاضة تونس.

وفي اعتقاده أن الشرارة كانت على جدران مدرسة في درعا جنوب البلاد، كُتب عليها: «أجاك الدور يا دكتور»، في إشارة إلى الرئيس بشار الأسد، ومصير نظيره التونسي زين العابدين بن علي. واعتقل فُتيان من درعا وتعرضوا للتعذيب؛ ما دفع المحتجين للخروج إلى الشارع. خرجوا في درعا، وتظاهر آخرون في سوق الحريقة وسط دمشق في 17 فبراير (شباط). لكن اليوم الذي خرجت فيه المظاهرات في شكل متزامن هو 15 مارس (آذار) 2011، ما اعتبره كثيرون تاريخ «بدء الانتفاضة السورية».

كُسر جدار الخوف، وتحطم الصمت، واتسعت المظاهرات. تصاعدت مطالبها بسبب العنف والدعم الخارجي، من شعارات محلية مطلبية، إلى لافتات سياسة تطالب بـ«إسقاط النظام». وبلغت المظاهرات ذروتها في يوليو (تموز) 2011 بمسيرة ضخمة في حماة، وقف فيها سفراء، بينهم السفير الأميركي روبرت فورد. وتركت زيارته إلى المدينة يومها، انطباعاً بأن حلفاء المظاهرات يؤيدون شعاراتها ويدعمون «إسقاط النظام». وجاء تصريح الرئيس باراك أوباما في أغسطس (آب) 2011 عن «تنحّي الأسد» ليعزز هذا الانطباع الخاطئ.
– كيف تحولت إلى العسكرة؟

تراكمت مجموعة من الأسباب للانتقال إلى العسكرة. بداية، واجهت قوات الحكومة وأجهزة الأمن المظاهرات بالعنف والسلاح و«البراميل» والقصف والحصار واتهامات بـ«مندسين» بالقيام بذلك. وتحدث كثيرون عن إطلاق آلاف المعتقلين من المتطرفين كانوا في سجون السلطات، عدد كبير منهم قاتل الأميركيين في العراق بعد 2003، واستغلوا تجاربهم التنظيمية والقتالية في التوسع في الأرض. وهذا الأمر وضع الغرب بين خيارين: النظام أو «داعش».

في المقابل، تشكلت كتلة «مجموعة أصدقاء سوريا» التي دعمت المعارضة، بدءاً من المنشقين عن الجيش، الذي شكلوا «الجيش السوري الحر». كما كان لافتاً أثر الانقسام بين الدول الداعمة للمعارضة ووجود اتجاهات مختلفة فيها. ودعمت «وكالة الاستخبارات الأميركية» (سي آي إيه) في نهاية 2012 برنامجاً سرياً لدعم المعارضة انطلاقا من الأردن وتركيا.

وخفت صوت المحتجين سلمياً، في وقت ذهب الدعم الخارجي إلى لاعبين آخرين، داعمين في معظمهم للنزاع المسلح. وفي 2012، حذر أوباما الأسد من استعمال الأسلحة الكيماوية، وقال إنها «خط أحمر». ويقول خبراء ومسؤولون غربيون، إنه عندما تجاوز النظام هذا الخط بعد عام، عبر هجوم كيماوي استهدف الغوطة الشرقية قرب دمشق في أغسطس 2013، امتنع أوباما عن القيام بتدخل عسكري انتظره كثيرون.

بالنسبة لكثيرين، كان تلك نقطة فارقة. كانت الفصائل المعارضة قد تمكنت من إلحاق خسائر كبيرة بالجيش السوري، الذي أضعفته أيضاً الانشقاقات. في المقابل، ساهم التدخل المبكر لإيران وميليشياتها و«حزب الله» في لجم تقدم المعارضة. لكنّ توصل روسيا وأميركا إلى اتفاق بنزع السلاح الكيماوي في سبتمبر (أيلول) 2013 وعدم استعمال القوة، أصاب المعارضين وحلفاءهم بالإحباط. والتطور الأهم هنا هو بدء تمدد تنظيم «داعش» والفصائل المتطرقة في البلاد، بحيث زادت سيطرتها على نصف مساحة سوريا.

– متى ولماذا تدخلت أميركا وروسيا؟

أمام تقدم «داعش» في سوريا والعراق في 2014، شكلت أميركا تحالفاً دولياً للقتال ضد هذا التنظيم، يضم حالياً نحو 80 دولة ومنظمة. وحددت أميركا هدفها بمحاربة «داعش»، وقلّصت دعمها للمعارضة في قتال قوات الحكومة. وفي بداية 2014، تدخل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا. وكان هذا أيضاً منعطفاً؛ إذ إنه بدأ الربط بين أوكرانيا وسوريا. وقتذاك، لم تمارس روسيا أي ضغط على الوفد الحكومي السوري في مفاوضات برعاية أممية لتطبيق «بيان جنيف» الصادر في يونيو (حزيران) والقاضي بتشكيل «هيئة حكم انتقالية».

وإذ واصل حلفاء المعارضة دعمها عسكرياً ومالياً، بحيث تراجعت مناطق الحكومة إلى حدود 15 في المائة في ربيع 2015، بعد خسارة جنوب درعا ومناطق إدلب، وجد الرئيس بوتين فرصة سانحة سارع لاستغلالها، وتمثلت في التدخل العسكري المباشر. هذا التدخل جاء بعد رجاء من قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني في صيف 2015 إلى الكرملين، للإسراع في التدخل و«إنقاذ الحليف السوري». والصفقة كانت كالآتي: روسيا في الجو، إيران على الأرض. والهدف: إنقاذ النظام – الحليف دون غوص روسيا في «المستنقع السوري»، كما حصل للاتحاد السوفياتي في أفغانستان.

التدخل الروسي الحاسم في سبتمبر 2015، غيّر المعادلات في الميدان تدريجياً لصالح الأسد، بعدما كانت قواته قد فقدت سيطرتها على نحو 85 في المائة من مساحة سوريا، تشمل مدناً رئيسية وحقول نفط. ووصلت فصائل المعارضة إلى مشارف دمشق. وبدعم من طائرات وعتاد ومستشارين روس، وبمساندة من مجموعات موالية لطهران، على رأسها «حزب الله»، استعاد الأسد زمام المبادرة، ونفذت قواته حملة انتقامية، متبعة سياسة «الأرض المحروقة» لاستعادة المناطق التي خسرتها.

– لماذا توغلت تركيا؟

قال الأسد في فبراير 2016، إن هدفه ليس أقلّ من استعادة كامل الأراضي السورية. وقال «سواءً أكانت لدينا القدرة أو لم تكن، هذا هدف سنعمل عليه من دون تردّد. من غير المنطقي أن نقول إن هناك جزءاً سنتخلّى عنه».

في نهاية 2016، بدأت الكفة تميل لصالح النظام؛ إذ استعاد الأحياء الشرقية من حلب. وتكرر هذا المشهد بـ«استسلام» مناطق معارضة أخرى جنوب البلاد ووسطها، بموجب اتفاقات تسوية تضمنت إجلاء عشرات الآلاف من المدنيين والمقاتلين إلى محافظة إدلب في شمال غربي سوريا، حيث يقيم قرابة ثلاثة ملايين نسمة حالياً، نصفهم نازحون تقريباً، في ظروف صعبة، تحت سيطرة «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة سابقاً).

لكن هذه الاستعادة للأراضي، أدخلت البلاد في مرحلة جديدة، وهي تأسيس «مناطق النفوذ». وفي مايو (أيار) 2017، أسست روسيا مساراً جديداً مع تركيا وإيران يتمثل بـ«عملية آستانة». وكان الهدف، عسكرياً، التوصل إلى اتفاقات «خفض التصعيد» في درعا وغوطة دمشق وحمص وإدلب. عملياً، أدى هذا إلى مقايضات بين المناطق: مقابل استعادة شرق حلب، دخلت فصائل موالية لتركيا إلى شمال حلب، وشكلت «درع الفرات». ومقابل استعادة الغوطة وحمص، دخلت فصائل موالية لتركيا، في عملية «غصن الزيتون»، إلى عفرين، شمال حلب، في بداية 2018.

وأمام الدعم الأميركي لأكراد سوريا في قتال «داعش» شرق الفرات، خفضت تركيا سقف توقعاتها للعودة إلى المصالح الاستراتيجية، وهي منع كيان كردي على حدودها الجنوبية. فـ«درع الفرات» قطعت الطريق أمام تواصل كيان كردي من شرق الفرات إلى غربه، و«غصن الزيتون» قطع أوصال إقليم كردي محتمل. وتكرر هذا المشهد أيضاً في أكتوبر (تشرين الأول) 2019، عندما تدخلت تركيا شرق الفرات وقلصت مساحة مناطق كانت تسيطر عليها «قوات سوريا الديمقراطية» المدعومة من أميركا.

إضافة إلى التوغل التركي ضد الأكراد، اتسع القلق الإقليمي من النفوذ الإيراني في سوريا. وبدأت إسرائيل بشن غارات على «مواقع إيران» لمنع تموضعها في سوريا، كما أن أميركا وروسيا والأردن توصلت في منتصف 2018 إلى «صفقة الجنوب» التي تضمنت إبعاد إيران وميليشياتها عن الجولان والأردن، وعودة قوات الحكومة السورية إلى ريفي درعا والقنيطرة.

– كيف تأسست «مناطق النفوذ»؟

استقرت المعارك والمقايضات على ثلاث مناطق: منطقة للحكومة بدعم روسي – إيراني، وتشكل نحو 65 في المائة من سوريا، وتضم معظم المدن والناس، ومنطقة للأكراد بدعم أميركي وتشكل 23 في المائة من البلاد، وتضم معظم ثروات البلاد الاستراتيجية، وأخيراً منطقة لفصائل للمعارضة تدعمها تركيا وتسيطر على ما تبقى من البلاد، وهي تتاخم القاعدتين الروسيتين في طرطوس واللاذقية غرب البلاد، وقاعدة للنظام السوري.

وبعد جولة معارك في بداية العام الماضي، توصل الرئيسان بوتين ونظيره التركي رجب طيب إردوغان إلى هدنة في إدلب، في 5 مارس 2020، واستغل الجيش التركي ذلك ونشر نحو 15 ألف جندي وآلاف الآليات وعشرات النقاط والقواعد العسكرية في شمال غربي سوريا.

لأول مرة منذ 2011، لم تتحرك خطوط التماس لأكثر من سنة، أي منذ بداية مارس 2020. ويبدو احتمال شنّ قوات الحكومة هجوماً، لطالما هدّدت به، مستبعداً في الوقت الحاضر. ويقول محللون، إنّ من شأن أي هجوم جديد أن يضع القوتين العسكريتين، أي روسيا وتركيا، في صدام مباشر، في وقت تقوم بينهما علاقات استراتيجية أوسع من إدلب.

وفي هذه «المناطق الثلاث»، هناك الكثير من المقاتلين والقواعد العسكرية ومئات نقاط المراقبة تحت مظلتين جويتين أميركية شرقاً وروسية غرباً، بحث جاز القول بوجود خمسة جيوش في البقعة السورية، وهي الأميركي، والروسي، والإيراني، والتركي، والإسرائيلي.

أيضاً، تقاسمت هذه الأطراف السيطرة على الحدود والمعابر. وقال الباحث المتخصص في الجغرافيا السورية فابريس بالانش، إنّ القوات الحكومية «تسيطر على 15 في المائة فقط من حدود سوريا». ويستنتج أن «الحدود هي رمز السيادة بامتياز، وبطاقة أداء النظام لا تزال فارغة تقريباً على تلك الجبهة». وتسيطر القوات التركية والأميركية والكردية والمجموعات المدعومة من طهران، بحكم الأمر الواقع، على ما تبقى من الحدود.

-الى أين؟

عليه، باتت البلاد بشكل غير رسمي مقسمة رسمياً إلى مناطق نفوذ متعددة، وتسيطر قوى متناحرة بشكل أحادي على معظم حدودها. وما على السوريين، الذين تتعمق جروحهم وتتفاقم معاناتهم إلا انتظار الفرج القادم من الآخرين وتفاهماتهم وصفقاتهم. وصدق قول أحدهم في دمشق «انتهت الحرب، بمعنى توقف القتال والمعارك، لكن جراحنا ما زالت تنزف».

جيل ضائع” بإدلب بين تسرب التلامذة وهجرة الاساتذة”

جيل ضائع” بإدلب بين تسرب التلامذة وهجرة الاساتذة”

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا

لم تكن فاطمة كردي ابنة الأحد عشر ربيعاً تعلم أن هناك على الجانب الآخر من وطنها، أطفالاً يواصلون دراستهم في غرف صفية نظيفة، ويتمتعون بالدفء، دون أن يتسلل البرد إلى عظامهم، ويحظون برعاية أسرهم ومجتمعاتهم، فهي لم  تدرك، حتى الآن ماذا يعني أنها تركت المدرسة في سن صغيرة وهي التي ولدت قبل عام واحد من عمر أزمتنا السورية. تحدثنا معها، وكانت أجوبتها بسيطة وعفوية، فتكلمت عن القصف المتواصل الذي طال مناطقها، وأن صوت الطائرة، بات جزءاً أصيلاً  ضمن مخيلتها، لا يحمل معه غير صفة الدمار والتشرد. وتسرد فاطمة ذكرياتها بحرقة وألم طفولي، وكيف نزحت مع أسرتها لأكثر من مكان، حتى استقرت  في أحد مخيمات أريحا شمال سوريا، وتؤكد بكلماتها المتناثرة بأن توقفها عن الدراسة في الصف الثالث الابتدائي (كما أخوتها الثلاثة الآخرين) لم يكن بإرادتها، بل بسبب الظروف القاسية التي أحاطت بها، فاضطرت مع أخوتها بأن تلتحق بسوق العمل في سن مبكرة، لتساعد  والدها. فعملت عند أصحاب الأراضي الزراعية في المنطقة التي تقطن بها، ورغم ابتعادها عن جو الدراسة، ما يزال لدى فاطمة حلم بامتلاك حقيبة مدرسية ودفتر وألوان، لكي تواصل دراستها كأقرانها ممن هم بعمرها. لكن يبدو أن الكارثة التي ألمت بسوريا، صنعت أطفالاً مشردين مسلوبي الحقوق والإرادة ، يعانون مرارة الحرمان والقهر.

إن الأرقام التي ترشح عن منظمات دولية وإقليمية ومحلية، لظاهرة الطلاب المتسربين من المدارس أو التلاميذ غير الملتحقين بالمدرسة أساساً، تدعو للقلق، وتعطي صورة قاتمة لمستقبل هذه الشريحة الهامة ضمن المجتمع السوري. ووفق إحصائية صدرت عن منظمة اليونسف لعام 2019 تخص الجانب التعليمي للأطفال من هم في سن التعليم، فقد قدرت المنظمة الدولية  عدد الأطفال غير الملتحقين بالمدرسة بأكثر من 2.4 مليون طفل، منهم 40 في المائة تقريباً من الفتيات، وهذه الأرقام لم تبق على حالها، بل ارتفعت، نتيجة تأثير جائحة كوفيد-19 التي أدت إلى تفاقم تعطّل التعليم في سوريا، بينما تغيب عن الأطفال القادرين على الالتحاق بالمدارس، المرافق الرئيسية، كانعدام شبكات الصرف الصحي والكهرباء والتدفئة والتهوية. كما لا يقتصر التعليم على المدارس المنشأة، بل ظاهرة التعليم في الخيام باتت منتشرة بكثرة في مناطق المخيمات بعد الدمار الهائل الذي لحق بالمنشآت المدرسية، نتيجة الحرب السورية الدائرة منذ أكثر من عشرة أعوام.

وفي تحقيقنا الاستقصائي ستتمحور عينة البحث على منطقة الشمال الغربي السوري (إدلب وريفها) وتسليط الضوء على واقع ظاهرة الطلاب المتسربين من المدارس في هذه المناطق، بعيداً عن المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري التابعة إداريا لمحافظة إدلب، حيث تعيش منطقة الشمال الغربي السوري ظروفاً صعبة من حيث غياب الناحية الأمنية والوضع المعيشي الصعب، الذي يعتبر  ضاغطاً على الكثير من الأسر التي عمدت على الامتناع عن إرسال أبنائها إلى المدارس وتشغيلهم في العديد من المهن وأبرزها العمل في الأرض، ما أدى إلى تعميق ظاهرة العمالة المبكرة للأطفال. وأيضاً لا ننسى أن مشكلة الزواج المبكر للفتيات من الأسباب الرئيسية للتسرب المدرسي، إلا أن جوهر المشكلة في هذه الظاهرة يبقى في الوضع الأمني والعمليات العسكرية الواقعة ضمن هذا القطاع الجغرافي، واستمرار القصف من قبل النظام السوري والقوات الروسية، ما أدى إلى تخوّف الكثير من الأهالي وامتناعهم عن إرسال أبنائهم للمدارس، علاوة على الظروف المناخية السيئة في فصل الشتاء والتي فرضت أيضاً إيقاعها على مشكلة التسرب.

النطاق الجغرافي للتحقيق

تعمل مديرية تربية إدلب (غير الخاضعة لسيطرة النظام السوري) على مساحة جغرافية تتضمن مركز المحافظة وريفها إضافة إلى بعض المناطق في ريف حلب الشمالي ويوجد عدة تجمعات ونقاط تعليمية حيث المناطق التي تغطيها تعليميا المديرية هي مجمّعات: حارم، جسر الشغور، الدانه، المخيمات بأكملها، أريحا، إدلب، ومجمع معرة مصرين. وتكمن أهمية معالجة قضية التسرب المدرسي للتلاميذ السوريين وخاصة في (إدلب وريفها) في أنها تسلط الضوء على ظاهرة اجتماعية خطيرة، ناتجة عن فقدان التعليم لشريحة اجتماعية هامة داخل المجتمع السوري وهي واحدة من أخطر الكوارث، لأن انهيار التعليم وغياب الحلول الاستراتيجية للقطاع التعليمي، لتدارك هذه الكارثة التي تشمل ثلث السوريين المؤهلين للدراسة، سيضع مصير جيل كامل في المجهول.

تساؤلات مشروعة

إن أي معالجة لظاهرة داخل المجتمع، لا بد أن يسبقها مجموعة من التساؤلات قبل الخوض في تفاصيلها وتشعباتها من أجل تقديم إجابات معمقة لفهم المشكلة المطروحة:

  • ما الأسباب الرئيسية وراء ظاهرة تسرب تلاميذ المدارس؟
  • هل الظاهرة تقتصر على مناطق إدلب وريفها الخارجة عن سيطرة النظام السوري، أم تمتد على كامل الجغرافية السورية؟
  • ما الآثار التي يمكن أن يتركها غياب التعليم عن شريحة كبيرة من أطفال سوريا؟
  • أين دور المنظمات الدولية والمحلية في توفير الدعم لشريحة هامة من المجتمع السوري؟
  • هل توجد استراتيجية تعليمية شاملة، لإعادة تأهيل الطلاب الذين فاتهم قطار التعليم، سواء التعليم التقليدي أو التعليم المهني الفني ؟
  • متى يتحرك المجتمع الدولي، ويعي حجم الكارثة التي يعيشها أطفال سوريا في ظل مستقبل غير واضح المعالم؟

أرقام مُحبطة

قبل عام وفي شهرشباط\فبراير من العام 2020 أقرت المديرة التنفيذية لليونيسف هنريتا فور أمام مجلس الأمن في حديثها عن وضع الأطفال في سوريا أن الحرب السورية سلبت فرصة التعليم بوحشية بالنسبة لـ 280 ألف طفل في الشمال الغربي السوري، وهناك حوالي 180 مدرسة لا تصلح للعمل نتيجة تدميرها أو تعرضها للضرر أو استخدامها كملاجئ. بالمقابل فإن الأرقام المحبطة التي أرسلها لنا فريق (منسقو استجابة سوريا) عن الواقع التعليمي في المناطق التي تشمل محافظة إدلب وريفها، وهي حديثة وصادرة خلال العام الجاري 2021 توضح حجم كارثة قطاع التعليم في هذه المناطق، حيث تتضمن الإحصائيات بحسب فريق منسقي استجابة سوريا مجموعة من النقاط حول عدد التلاميذ والمدارس والكادر التعليمي كما تبين الوثيقة أدناه.

وثيقة من “منسقو استجابة سوريا” توضح وضع التعليم في محافظة إدلب وريفها

ويقول الدكتور المهندس محمد حلاج مدير (منسقو استجابة سوريا) : “إن التعليم في ادلب بشكل عام يعاني من مشاكل كثيرة، حيث لا يوجد استقرار بشكل كامل فيما يتعلق بالتلاميذ ولدينا نقص كبير بوجود الكوادر التعليمية، علاوة على الدمار الكبير للمدارس حيث الكثير منها متضرر جزئياً، وهذا كان له أثر سلبي على ارتياد التلاميذ  للمدارس. وبالنسبة للمخيمات فإن الوضع التعليمي أشد سوءاً ويكون مرتبطاً بالكوارث الطبيعية التي تحدث بالمخيمات نتيجة انقطاع الطرقات أثناء الأمطار. كما أن المخيمات لا يوجد فيها مدارس كافية، مما يساهم في كثافة أعداد الطلبة ضمن الغرفة الصفية الواحدة.”

216 ألف تلميذ متسرب

الأرقام التي حصلنا عليها من مديرية التربية في محافظة إدلب -التابعة للحكومة السورية المؤقتة- لعدد التلاميذ المتسربين في المناطق الجغرافية التي تغطيها التربية قد تكون مختلفة قليلاً مقارنة مع الأرقام السابقة التي تم استعراضها من قبل منسقو استجابة سوريا”، ويمكن تبرير ذلك أنه لا يوجد مركز إحصائي متخصص في سبر الأرقام الحقيقية، كما أن المعطيات المتغيرة على الأرض في تلك المناطق وعدم الاستقرار نتيجة الظروف الأمنية المضطربة، لا تساعد في الوصول إلى رقم دقيق.

وفي حديث مع الأستاذ محمود الباشا رئيس دائرة التعليم الأساسي في مديرية التربية بإدلب أوضح أن عدد الأطفال المتسربين في المنطقة التي تشرف عليها مديرية التربية في إدلب حسب إحصائية العام الحالي 2021 يبلغ حوالي 216 ألف طفل متسرب. طبعاً هؤلاء الأطفال مسجلون في المدارس لكنهم انقطعوا عن الدوام، بينما الأطفال غير المسجلين في النفوس أو المدارس، فأعدادهم قد يتجاوز الأعداد المعلن عنها بالأساس. بينما الصعوبات التي تواجه الطلاب في هذه المنطقة هو النقص في عدد المدارس والتجهيزات، مما يسبب ضغطاً كبيراً  على المدارس في منطقة المخيمات والدانة، ويوجد في الفصل الدراسي الواحد أكثر من 50 طالباً.

 ويرجع الباشا أسباب التسرب لمجموعة من الأسباب أبرزها أن أهالي الأطفال يقومون بتشغيل أبنائهم بورشات للعمل من أجل مساعدتهم، كما أن الأطفال الذي يعيشون ضمن الخيم المتفرقة وهي بعيدة عن التجمعات ولا يمكن الوصول إليهم بسبب وعورة المنطقة، ولا تساعدهم على إيصال التعليم لهم، فمن المستحيل تفريغ معلم لتدريس طفل أو طفلين في هذه الخيم، فمديرية التربية تعمل على كل تجمع يوجد فيه حوالي 60 تلميذاً، ويوضع له خيمة تعليمية حيث تكفل منظمة إغاثية هذه الخيمة، الذي يدرس فيها مدرس اسمه معلم قائد أو جوال وممكن أن توفر المديرية مدرسة من الخيام إذا كان عدد التلاميذ يفوق 100 تلميذ وتكفلها منظمة تطوعية.  والمنهاج الذي تدرسه مديرية التربية الحرة يتوافق مع منهاج السوريين، مع اختلاف طفيف في بعض المواد المتعلقة بالتربية القومية، وتتكفل طباعة الكتب مؤسسة  قطر الخيرية.

المزيد من القصص الإنسانية المؤلمة

قصة عائلة عليوي من  معرة مصرين تشبه الكثير من قصص حرمان الأطفال من التعليم،   فهذه العائلة التي لديها ثمانية أطفال خارج المدرسة، وبأعمار تبدأ من خمسة أعوام إلى خمسة عشر عاماً، تخبرنا عنهم أم عبادة عليوي التي تقطن مع أبيها ووالدتها في إحدى المدارس في ظل الظروف الأمنية الصعبة التي تعيشها العائلة أسوة بالكثير من العائلات في المنطقة، الأمر الذي ساهم في عدم ارتياد أولاد أخيها الخمسة  للمدرسة، والانتقال للعمل مع والدهم، كما أن  أختها التي لديها ثلاثة أولاد ليسوا أحسن حالاً من أولاد أخيها، فجميعهم  لم يتم تسجيلهم بالمدرسة، ويعيشون على  المساعدات التي تأتيهم من المنظمات الدولية أو ما يتبرع به أصحاب الخير.

بينما أبو إبراهيم بكري من منطقة جسر الشغور لديه ولدان خارج المدرسة، فيبرر عدم ارتياد أولاده للمدرسة بمجموعة أسباب وأولها الوضع المعاشي الصعب، مما يضطره لأخذهم للعمل في الحقل، كما أن المسافة ما بين منزله والمدرسة تتجاوز 600 متر، وفي فصل الشتاء يكون قطع هذه المسافة صعباً، وكثيراً ما يعلق الدوام في مـدارس المخيمات، فهذه الأسباب يعتبرها غير مشجعة لإرسال أبنائه إلى المدرسة.

هجرة المدرسين

إن هذه الحالات التي تم استعراضها ليست سوى غيض من فيض، فنسبة  التسرب المدرسي، في الشمال السوري عالية جداً، ويقول المدرس السابق محمد الحسين الذي ترك مهنة التدريس منذ أكثر من عام وكان يدرس ضمن مديرية التربية والتعليم في إدلب: “إن نسبة تسرب الطلاب في محافظة إدلب وريفها والمناطق المجاورة تتجاوز 35%، أي ما يزيد عن 240  ألف طالب خارج العملية التعليمية، علماً أن عدد طلاب محافظة إدلب بلغ العام الماضي بحدود 414 ألف طالب من المرحلة الابتدائية إلى الثانوية.” أما عن أسباب التسرب فيرجعها الحسين إلى أسباب عديدة وأبرزها الأوضاع الأمنية غير المستقرة، وخاصة عمليات القصف والتدمير التي طالت المدارس والمنشآت التعليمية المختلفة في المناطق الشمالية. كما أن المدارس المدمرة رافقها عدم استقرار في العملية التعليمية وخوف الأهالي من إرسال أبنائهم إلى المدارس إضافة إلى قلة الكوادر التعليمية المؤهلة بسبب الهجرة والتشرد وعدم وجود الدعم المادي لهم وهذا عامل رئيسي. كما أن الكثير من المدرسين فصلوا من عملهم، وظلوا بدون رواتب لعدم دعمهم من المنظمات التعليمية، حيث اضطروا للذهاب إلى أعمال حرة من أجل تأمين لقمة العيش لأسرهم.

تهديد استقرار المنطقة

وفي هذه النقطة  يؤكد الدكتور فايز نايف القنطار أستاذ سابق في جامعة دمشق في كلية التربية  أن أول ضحايا هذه الحرب الإجرامية المستمرة هم الأطفال. ويتساءل القنطار كيف يمكن أن يعيش في القرن 21 هذا الجيل الذي حرم من التعليم وهو أبسط حقوق الطفل وهذا الخطر لا يشمل سوريا فقط بل يهدد أمن واستقرار المنطقة. ويحذر أن هؤلاء الأطفال المتسربين يمكن أن يصبحوا مرتعاً خصباً للتطرف والاستقطاب من قبل المنظمات الإرهابية؛ فالطفل الذي يترك المدرسة سيكون عرضة للاستغلال، وعرضة للعمل المبكر وعرضة لكل أشكال الإذلال والاهانة وسيكون الطفل مضّطرباً وغير متوازن ويعيش مهمشاً.

غرف صفية بدون أسقف

بينت نتائج تقرير أعدته وحدة إدارة المعلومات IMU (في وحدة تنسيق الدعم ACU) خلال عام 2019  لتقييم التعليم المشترك الخاص بالأطفال خارج المدرسة JENA في شمال غرب سوريا في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري أن 66% (1.130.299 طفلاً) من الأطفال في شمال غرب سوريا ملتحقون بالمدارس؛ فيما كان 34% (582.239 طفلاً) منهم خارج المدرسة (متسربون من المدارس). كما رصد التقرير ظروف المخيمات الصعبة حيث تنقطع الطرقات في فصل الشـتاء في فتـرات هطـول الأمطار ممـا يجعـل وصول الطلاب إلى المدارس صعبـاً. وتشـير المعلومات أن ضمن مـدارس مخيمات الشـمال السـوري غـرف اسـمنتية مسـقوفة بلـوح توتيـاء (صفائح معدنيـة)؛ كما تواجدت مدارس مكونة من غرف اسـمنتية بدون أسـقف ويتم تغطيتهـا بعوازل مطريـة فقط؛ إذاً من خلال ما تقدم في معطيات التقرير، نجد أن البنية التحتية للمدارس في مناطق الشمال الغربي السوري لا تحقق المعايير الحقيقية في توفير بيئة تعليمية مناسبة للدراسة.

جيل في مهب المجهول

وبما أن البيئة التعليمية غير متوفرة في تلك المناطق، فإن للتسرب المدرسي آثاراً سلبية نفسية واجتماعية واقتصادية خطيرة على المجتمع. وتفشي هذه الظاهرة في سوريا، يثير قلق منظمات المجتمع الدولي، لما سوف تتركه من آثار كارثية ليس على المتسرب فقط بل على المجتمع ككل. فالتسرب يزيد من معدل البطالة وانتشار الجهل والفقر وغير ذلك من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، لذلك يرى الدكتور طلال عبد المعطي المصطفى أستاذ علم الاجتماع في جامعة دمشق سابقاً والباحث في مركز حرمون للدراسات المعاصرة خلال حديثنا معه بأن كارثة التعليم هي واحدة من أخطر الكوارث التي ضربت المجتمع السوري، فانهيار التعليم الكمي والنوعي، وانخفاض عدد الكادر التدريسي المؤهل، وانعدام حوافز العملية التعليمية وضبابية أهدافها، بالإضافة إلى فقدان التمدرس الذي يشمل ثلث السوريين المؤهلين للدراسة حاليا، سيضع مصير جيل كامل في مهب المجهول، ويضع مصير وطن ممزق أمام المزيد من الأزمات والانقسامات المقبلة.

 ويصف المصطفى كارثة التعليم بالكارثة المزدوجة بمساريها الفردي والمجتمعي، وهي من الكوارث التي تترك آثاراً مديدة وتمتد إلى أجيال لاحقة لما يترتب عنها من تبعات اقتصادية واجتماعية ونفسية على المديين القصير والمتوسط، وربما على المدى الطويل أيضاً، لذلك  فردم الفجوة الحاصلة في التعليم هي من أولى المهمات لإعادة البناء البشري والمادي، وهي الاستثمار الحقيقي الأمثل القادر على ردم الفجوات الاقتصادية والاجتماعية، وخلق قاعدة صلبة يمكنها المساهمة الفعالة في عملية التعافي وإعادة البناء، وقهر العجز للوصول إلى حالة التنمية المستدامة.

تحديات

نحن أمام قضية خطيرة، قضية الأطفال المتسربين وجيل تم تجهيله بأكمله، وعلى ما يبدو أن هذا الأمر مقصود ومسيس بعد مرور10  أعوام على الأزمة السورية، فالأطفال الذين عاشوا الحرب بتفاصيلها وتركوا التعليم سيكونون لاحقاً عرضة للانحراف في ظل الفوضى الموجودة والسلاح المنفلت. ومن المؤكد أن الآثار التي ستنتج عن شريحة الأطفال غير المتعلمين ستكون كارثية وخطيرة وسيشكلون عالة على المجتمع في حالة عدم حصولهم على إعادة التأهيل والتدريب لهذه الفئة المتسربة من المدارس في مرحلة معينة وبالتحديد في مرحلة استمرار الحرب وتعطيل الحل السياسي، لذلك هذه الشريحة المغيبة إذا استمر الوضع على حاله سيرسخ لديها الميل إلى العدوانية والعنف الزائد، في ظل فقدان كامل للرعاية الأسرية اللازمة في هذا السن المبكر، أضف إلى غياب دور المنظمات الدولية، وعدم  تخصيص شبكة ضمان اجتماعي خاصة بالأسر للحد من استغلال أطفالهم لغرض الأعمال التي لا تتناسب مع أعمارهم وشخصيتهم. أما في حال حصول الحل السياسي وبالتالي السلام، فمن المفترض أن يكون هناك إعادة بناء في سورية على كافة الصعد ومنها الصعيد التعليمي والتأهيلي، وبهذه الحالة وبحكم العمر المتقدم لهؤلاء المتسربين من الضروري أن يخضعوا لدورات تعليمية مكثفة للكبار وتأهيل مهني حتى لا يكونوا ضمن الفئة المهمشة في المجتمع.

ذاكرة الأمكنة

ذاكرة الأمكنة

*تتناول هذه المادة مشاهدات وذكريات الكاتبة عن مقهى الحجاز قبل البدء بهدم هذا الصرح التاريخي  في دمشق بداية الشهر الحالي.

يشغل مقهى الحجاز مكاناً مميزاً وكأنه عقدة الربط ما بين سوريا كلها، لدرجة تدعونا للاقتناع بأن كل ما حوله من أماكن عامة، رسمية وخاصة، قد صممت من أجله، من أجل شحنه بأعداد متجددة من البشر، بقصص لا تخفض صوتك حين تتلوها،عقدة الربط ليست مجرد بقعة محددة من الجغرافيا تتوسط المسافات، بل هي إيحاء عارم بأنك في مكانك، لا بل إن المكان ملك لك وأنت سيده وصاحبه.

 يتحول مقهى الحجاز إلى ما يتفق على تسميته بالطاحون، التي تخلط قمح الجميع بماء الحياة اليومية أملاً بالحصول على غلال مجزية، كل الدروب تؤدي إليه. وكل الأجساد تدب السير نحو هذه الملاذ الآمن بصخب وأنفاس الأعداد الكبيرة والمتنافرة من البشر، حين يكتظ المكان بالغرباء عن المدينة، تصير الغربة تفصيلاً طبيعياً. تقول لنفسك: كلنا غرباء هنا، وكأنك تقول كلنا متشابهون هنا، الغربة تجمعنا.

مقابل المقهى وزارتا الزراعة والإسكان ومؤسسة الاتصالات، وعلى امتداده القصر العدلي، ساحة المرجة، شارع خالد بن الوليد، زقاق أو شارع رامي، الإطفائية وسوق البالة وسوق الحميدية. إذن كل الدروب تؤدي الى مقهى الحجاز، وكل الدروب تبدأ منه.

يتفق المراجعون مع محاميهم على مواعيد في مقهى الحجاز، يرتبون تفاصيل الدعاوى المطلوبة، يقابلون وسطاء لإتمام معاملة الحصول على عقد آجار لأرض مستملكة أو من أملاك الدولة، ينتظرون وصول طرد بريدي أو اتصال قد تأخر.

 فقط هنا يمكنك المغادرة بعد أن منحت قدميك حصة من الراحة وبعد أن تقبلت راضياً مذعناً تأخر صاحب الموعد المزعوم دون أن تدفع ليرة واحدة.

يقابل الأصدقاء المفلسون بعضهم فيه، هنا فقط يمكنك أن تنتظر ساعة كاملة دون أن تطلب مشروباً، بذريعة أنك تنتظر صديقاً أو قريباً.

يتحول النادل في مقهى الحجاز إلى مرشد سياحي وقد يدلك على محام بارع أو معقب معاملات حاذق، وقد يدلك على عنوان فندق رخيص للإيجار.

في رحاب المكان، وأنت تمضي إلى عنوان ما في مدينتك التي تدعي أن تعرفها جيداً، تسمع صوتا يناديك مباشرة باسمك! هنا في مقهى الحجاز تتحول وأنت سائر إلى وجهتك إلى نقطة مكشوفة، لمن يجلس في عليائه على إحدى مناضد المقهى، ولو أنك لا تولي أي اهتمام برواد المقهى، تتحول مناضد المقهى إلى منصة عالية، شرفة مرتفعة تسمح للجالسين هناك بالإشراف على المشهد العام للمدينة. كل رواد المقهى منشغلون في متابعة حركة السائرين، من يجلس يراك ويناديك وكأنه في بيته، وكأنك مدعو الى بيته، لا تملك ترف الاعتذار. مقهى الحجاز هو المواعيد الدافئة غير المرتبة مسبقاً، المواعيد المقررة على عجل وبكامل اللهفة، لن يضيرك التلاعب بنصف ساعة من الوقت تقضيها مع صديق كان ينتظر عبورك، لتجددا تصاريف الصداقة المؤجلة.

 مقهى الحجاز هوالمكان الأول الذي تعرفت فيه إلى سيدة بلباس فولكلوري مميز تجلس إلى أحد كراسي المقهى بثقة عارمة. هي المرة الأولى التي أتعرف إلى آثار الحبر الأزرق موشوماً على ذقون النساء وأيديهن. المرة الأولى التي أتعرف فيها على امرأة تدخن وباكيت الدخان والقداحة مركونة في عبّها المنفلت على راحته دونما حمالة صدر. على كراسيه تعرفنا إلى لهجات دافئة، حزينة ومليئة بالأسئلة.

على كراسي المقهى تسمح لنفسك ببناء قصة لا تعرفها أصلاً، لكنك ترى شابة تبكي أو امرأة تشتم وتسعل وهي تنفث التنباك الأصلي من فمها، على مناضده تشتم القهوة الرخيصة وضيق ذات اليد والأحلام المطعونة، ترجع ظهرك إلى المسند الخشبي لكراسي الخيزران التراثية وقد تفوز بشرف كتابة سطرين أو أكثر، سترميهما لاحقاً لأنك تأكدت من سذاجة موهبتك الروائية، قد تعجب بمقطع خططته من قصة لم ولن تكتمل، قد تدقق مادتك الصحفية الأولى والأخيرة، وقد لا تفعل شيئاً إلا تمزيق الورق.

على جدرانه الخارجية يقف باعة متجولون، ملابس عتيقة، ديارة أطفال رخيصة، وكأنما ينبغي على كل خارج أو داخل إلى المقهى أن يشتري غرضاً يحتاجه، المفاصلة سهلة، والباعة كرماء، لكن على الجميع أن يشتروا ليثبتوا حضورهم في المكان، فأنت في مركز العالم، أنت في الشام الموعودة، وكل غرض منها مكسب وهدية ثمينة، ذرة مفرطة، حفارات كوسا وسكاكين هندسية لتقطيع الجزر والخيار والبطاطا.

باعة المحابس المعدنية الرخيصة، وتذكارات الحب الخشبية سيئة التنفيذ، وباعة حافظات الهوية الشخصية العادية والكريستال وحافظات شهادة السواقة وجواز السفر.

أنا في مقهى الحجاز! العنوان الأكثر إيجازاً والعصي عن أن تضيعه، الجميع سيدلك عليه، وعندما يسأل المتصل على الجهة الثانية من الخط السيدة المتصلة: (وين المقهى)؟ فتجيب بزهو وثقة:(بالشام يا ول)! وتردف: (معقول ما تعرف الشام)؟

اعتاد السوريون والسوريات على التفريط بذاكرة الأمكنة، ليس طواعية ولكن بحكم قوة الأمر الواقع، تحولوا منذ أيام الحرب الأولى ليسكنوا الحدائق العامة، في حديقة شارع الثورة أعداد غفيرة من النساء تفترش المقاعد الحجرية، حضّرن أنفسهن جيداً لمواجهة العراء بحرامات صوفية كبيرة، ذات يوم ستظن أن المكان معرض للأغطية الصوفية، إنهن مرافقات لأحفادهن المرضى أو أبناء أو أزواج يراجعون العاصمة من أجل فرصة للعلاج. هنا في نفس الحديقة وعلى أنقاض قذرة صنع أحدهم كافتيريا لبيع الشاي والقهوة، لا حوض لغسل الكؤوس مجرد وعاء بلاستيكي أو بدونه، حيث تغسل الكؤوس على عجل وبماء بلا صابون.

أرى المشهد بكل وضوح الآن، سيتحول رواد مقهى الحجاز إلى هذه المساحة الخربة، القذرة، يستبدلون الوطن المؤقت، الشام التي يعرفونها أو التي ظنوا أنهم ينتمون إليها بأماكن تتنكر للعابرين وتخنقهم في مجاهل الإهمال والغربة المتجددة.

لن يناديني أحد بإسمي وأنا أعبر من قرب ما كان اسمه مقهى الحجاز، نغرق في خنق الذاكرة ولن أستمتع بلعبة التخفي التي تمارسها القداحة في عب السيدة صاحبة اللهجة المحببة وعبارة كيفك يمه.

يفقد السوريون والسوريات فضاءهم، سيتم بناء فندق خمس نجوم هنا، قد لا نجد ممراً بعد اليوم، وستصبح التفاصيل شبحاً باهتاً للذاكرة التي تجف وتجف حتى تبلغ اليباس، وأتساءل عن سر هذا التنافر الذي سيملأ المكان، من سيسكن أو يشغل هذا الفندق سيكون غريباً أيضاً عنه وعنا.

لن نألف الوجوه الغريبة الجديدة، ولن نكون معاً في ذات المكان، تغرق الأمكنة في حالة القسوة العامة، حالة التنافر العاطفي والامتلاء بالإهمال والغربة.

 كل المراكز والأماكن التي تناغمت مع مقهى الحجاز ستفتقد معنى وجودها هنا، سيقول مراجعو القصر العدلي: لم يعد لنا مكان نجلس فيه وننتظر، تضيق مساحة الشراكة، الشام بات غريبة وموحشة، نعم! لم نعد نعرف الشام ولا تعرفنا، هي حقيقة تفرض نفسها كل يوم والشام تتنكر لنا وبقوة الأمر الواقع أيضاً.

عيادات الكترونية لتأمين المعاينات الطبية للسوريين مجاناً

عيادات الكترونية لتأمين المعاينات الطبية للسوريين مجاناً

باتت زيارة الطبيب رفاهية لا مكان لها في الوقت الراهن بسبب الظروف الاقتصادية السيئة التي تمر بها البلاد؛ فبالتزامن مع تضاعف نفقات تشخيص الأمراض وأجور المعاينات الطبية التي وصلت عند بعض الأطباء إلى ما يعادل نصف راتب موظف حكومي، ارتفعت أيضاً أسعار الأدوية في الفترة الأخيرة إلى ما يقارب 500 %.

وفي نفس الوقت، ظهرت الكثير من المبادرات الطبية من قبل أطباء سوريين متطوعين من مختلف الاختصاصات على مواقع التواصل الاجتماعي وميدانياً، الغاية منها تقديم الاستشارة الطبية بصورة مجانية  وتوفير العلاج  لتخفيف الأعباء الاقتصادية عن الناس. ومن هذه المبادرات مجموعة “صحتك نعمة”، منصة “سماعة حكيم”، ومبادرة “عقمها”، “Med Dose”منصة المجتمع الطبي.

مجوعة “صحتك نعمة”

قرر مجموعة من الأطباء إنشاء مجموعة “صحتك نعمة” وهي مجموعة مغلقة تضم حوالي 46 ألف متابع ومجموعة كبيرة من الأطباء المشرفين من مختلف الاختصاصات الطبية “جلدية، عامة، هضمية، صدرية، عينية، أطفال، بولية، نسائية، جراحية وغيرها من الاختصاصات”. تهدف المجموعة لتوفير الاستشارة الطبية عبر مواقع التواصل الاجتماعي بصورة مجانية.

ويتم إرسال الحالة المرضية عبر منشور ومن ثم تتم الإجابة عليه من قبل الطبيب المختص. وكمثال على ذلك يقوم أحد الأعضاء بإرسال صورة تظهر البقع البنية التي ظهرت بصورة مفاجئة على الجلد ويطلب استشارة طبيب الجلدية، ليجيب أحد الأطباء المشرفين ويسأله عن الأعراض المرافقة لذلك ومن ثم يصف الدواء المناسب.

وعن الدور الإيجابي لهذه المجموعات، تصف ريم (26 عاماً وهي خريجة كلية التربية وتقيم في دمشق) تجربتها الإيجابية حيث وجدت من خلال المجموعة علاج لعدة مشاكل صحية تعرضت لها موضحة: “أغلب الناس أصبحت لا تستطيع الذهاب ومراجعة العيادات بسبب الفقر الذي يعم البلاد، فمن حوالي شهر كنت أعاني من التهاب في عيني اليسرى مع ظهور بقعة حمراء على بياض العين وألم، فقمت بنشر منشور شرح الحالة وما أشعر به مع إرفاق صورة لعيني، وعلى أساس ذلك قام الطبيب بتشخيص الحالة ووصف الدواء، والحمد لله في اليوم الثالث من تناول الدواء تحسنت.” وتضيف: “من فترة يومين سألت عن مشكلة جلدية لوالدتي المريضة وبدوره الطبيب المختص وصف لي الدواء المناسب وأيضاً استفدت كثيراً.”

من خلال تصفح المجموعة سوف تجد كم الجهد المبذول من قبل الأطباء لمساعدة الناس على علاج حالتهم بشكل مجاني وفي بعض الأحيان تأمين الدواء بصورة مجانية أيضاً.

وفي حال أراد المريض إرسال رسالة خاصة والاحتفاظ بسرية الحالة وخاصة إذا كانت تتضمن صوراً محرجة غير مناسب نشرها يمكن طلب الاستشارة عبر تطبيق خاص لذلك.

منصة المجتمع الطبي “Med Dose”

هي مجموعة مفتوحة تعرف عن نفسها كمنصة تهدف للنهضة بالمنظومة الصحية والطبية، وتشارك أحدث المعلومات الطبية حول العالم وتسعى لنشر الثقافة الطبية في المجتمع. تشترط المجموعة من الأطباء من المشرفين إرفاق المعلومات المنشورة بمصدر طبي موثوق مع إضافة اسم الطبيب أو الصيدلاني. وتضم المجموعة حوالي 72 ألف عضو بالإضافة إلى مجموعة من الأطباء المشرفين من مختلف الاختصاصات. تقوم المجموعة أيضاً بنشر تجارب الأطباء والصيادلة مع المرضى الذين يعانون من أمراض مختلفة وتزويد المتابع بالمعلومات الطبية الصحيحة ونفي الشائعات والمعلومات الخاطئة.

وكان الطبيب “محمد عمران” (أخصائي بالجراحة العظمية والتنظيرية وأحد الأطباء المشرفين في المنصة) قد نشر منشوراً رحب من خلاله بالمرضى في عيادته ومعاينتهم بصورة مجانية يوم الخميس من كل أسبوع  لمن لا يستطيع دفع المعاينة وأرفقه بعنوان العيادة ورقم الهاتف.

و تنشر المنصة في جانب آخر من نشاطها منشورات عن الحالات التي تحتاج لمساعدة مادية لتأمين تكلفة العلاج مثل مرضى السرطان أو مرضى كورونا بهدف جمع التبرعات اللازمة لتزويد المرضى المحتاجين بالأدوية والمعدات الطبية ضمن الظروف الصعبة من ارتفاع الأسعار التي طالت أسطوانات الأوكسجين والمواد الطبية بشكل جنوني وأدت إلى استغلال البعض لحاجة الناس لزيادة الاحتكار والأرباح.

سماعة حكيم

تعد هذه المنصة من المنصات الطبية الأشهر التي تقدم الاستشارة الطبية ويتابعها 412 ألف متابع. وبالإضافة إلى تقديم المعلومة الطبية، تنشر المنصة مقالات العلمية وأخبار أحدث التطورات الطبية. يدير هذه المجموعات فريق طبي تطوعي مكون من طلاب كلية الطب البشري وأطباء أخصائيين من مختلف القطاعات الطبية. يبلغ عدد المشرفين 150 طبيباً من مختلف المحافظات السورية. كما يهدف الفريق إلى دعم المبادرات الطبية ونشر الأخبار المتعلقة بالمشافي ونقل المعلومة الطبية الصحيحة في ظل انتشار المعلومات الطبية الخاطئة.

وأطلق مؤخراً الفريق تطبيق “سماعة حكيم” حيث يستطيع المريض طلب استشارة من طبيب مختص استناداً للأعراض الذي يشعر بها المريض ثم يتلقى أسئلة يمكن الإجابة عليها بشكل فردي، للحصول على تشخيص مشتبه به بناءً على إجابات المريض حول الأعراض التي يعانيها، وتزويده بالمعلومات الفردية التي يمكن أن يحتاجها ومراجعة الطبيب بشكل مباشر إذا استدعى الأمر. والهدف من التطبيق حسب القائمين على المجموعة هو تقديم الاستشارة الطبية مجاناً.

مبادرة “عقمها”

وهي المبادرة الأبرز في سوريا لمواجهة انتشار فايروس كورونا والتي بدأ نشاطها مع بداية انتشار فيروس كورونا في البلاد في آذار/ مارس من العام الماضي ٢٠٢٠. تسعى هذه المبادرة لتقديم الدعم الطبي والتوعية للناس من خلال شبكة من المتطوعين والمتبرعين، عبر نشر معلومات التوعية الصحية وتقديم الدعم الطبي الميداني.

بدأت الفكرة من خلال مجموعة على مواقع التواصل الاجتماعي واكتسبت شهرة واسعة في دمشق ومحيطها حيث وصل عدد متابعيها إلى ما يزيد عن 273500 عضوً. تضم المجموعة 11 مشرفاً و50 متطوعاً و20 طبيباً. وتقدم خدمة طبية هاتفية 24 ساعة، حيث يتوفر أطباء للإجابة الفورية على المرضى بما يتعلق بأعراض فيروس كورونا سواء بتقديم الاستشارة الطبية اللازمة أو تأمين طبيب يقوم بزيارة منزلية للمريض المحتاج بصورة مجانية. إضافة إلى ذلك يقوم الفريق بتأمين اسطوانات الأوكسجين للعالم المحتاجة وذلك وفق تقييم الأطباء المتواجد بالفريق، كما يتم تأمين فريق تعقيم لتعقيم المنازل التي كان لديها مصابون بفايروس كورونا.

تقدم المبادرة خدماتها عبر الساعة عبر شبكة من متطوعيها من مختلف الاختصاصات بإمكانيات محدودة وباستخدام ما توفر من تقنيات طبية بسيطة، وينوه الفريق بشكل مستمر أن الخدمات جميعها تقدم بصورة مجانية.

التسويق الهرمي في سوريا: شركات للنصب بحلة قانونية

التسويق الهرمي في سوريا: شركات للنصب بحلة قانونية

تنتشر اليوم العديد من الشركات التي تعتمد التسويق الهرمي في عملها، فما هي هذه الشركات وهل هي جديدة على السوق؟ وما مدى قانونيتها؟ هل تعتبر الاتهامات التي تطالها بأنها شركات نصب واحتيال صحيحة أم زائفة؟

يقوم مبدأ هذه الشركات على بيع مجموعة من المنتجات عبر اعتبار الزبون شريكاً في الشركة، حيث يشتري المنتج ويعمل أيضا على تسويقه؛ فالزبون بهذه الحالة هو فرد من فريق تحت اسم الشخص الذي أدخله على الشركة وبدوره يعمل الزبون لإنشاء فريقه الخاص ليكونوا تحت اسمه. وهكذا يتشكل هرم الشركة وتتوسع بنفس الطريقة، وكلما كان عدد المندرجين ضمن فريقك أو تحت اسمك كبيراً كلما ازدادت نسبة الأرباح.

يشرح لنا رائد (حلاق، 33 عاماً، وهو أحد المنتسبين لإحدى الشركات) كيفية قبول الشخص وطريقة العمل، فيقول: “إن مبدأ الشركة بسيط وواضح، أولاً لا بد للزبون الجديد من معرفة آلية العمل في الشركة والمنتجات التي تبيعها، حيث تُقام بشكل مستمر اجتماعات وندوات لتوضيح ماهية العمل، وبعد أن يقتنع بالفكرة يقوم بتحديد ما يريد شراءه من منتجات وبفتح حساب لدى الشركة ومن ثم وجب عليه أن يسوق المنتجات ويوسع دائرة العمل ويشكل فريقه الخاص حتى يحصل على نسبة من الأرباح. ويعتمد العمل بالدرجة الأولى على التسويق الالكتروني عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع الشركة، وأيضاً عبر التسويق المباشر في دائرة معارف الشخص وأصدقائه أو زملاء عمله. وهذا النوع من الأعمال لا يتطلب جهداً ولا وقتاً ولا مواصفات خاصة، ويحقق أرباحاً جيدة بأقل قدر ممكن من التكاليف والتعب حتى أنه لا يعيق عن ممارسة أي وظيفة أو عمل آخر، فكل شرائح المجتمع يمكنها العمل معنا.” ويتابع قوله: “شركتنا لها فروع في الكثير من البلدان العربية والأجنبية ففكرة العمل تتعدى الحدود والدول ويمكن أن يتم تسويق المنتجات بأي بلد كان، عدا عن أن للشركة سجلات نظامية وتراخيص قانونية (لم يتسن لنا التحقق منها) وتعتمد على المصداقية في العمل والعدل في توزيع الأرباح، فكلما كان الجهد أكبر كانت النتائج أفضل”.

بالرغم من وجود مثل هذه الشركات في أغلب مدن سوريا إلا أنها تواجه حملة من الانتقادات تتهمها بأنها شركات للنصب والاحتيال تستغل جهل الناس وفقرهم لتوقع بهم وتطالب بإغلاقها ومحاسبة المسؤولين عنها.

بداية لا تعتبر الشركات الموجودة حالياً جديدة على الساحة السورية، فقد انتشرت الفكرة منذ بداية الألفية الجديدة تحت أسماء ونماذج مختلفة وإن اختلفت في بعض التفاصيل إلا أن مبدأ التسويق هو ذاته. ويجمع أغلبية من خبرها أو تورط بها بأن كل ما يمت للتسويق الهرمي يعتبر نصباً واحتيالاً دون شك من أيام الدولار الصاروخي بـ2003 حتى شركة الفينكس اليوم.

ويخبرنا أحد ضحايا هذه الشركات عن تجربته، فيقول عمر (خياط، 56 عاماً):  “تعرفت على إحدى الشركات من خلال أحد أقاربي حيث دعاني لحضور لقاء مع أحد المسؤولين في العمل للتوسع في شرح فكرة العمل والإجابة عن بعض الأسئلة. بدا المكان مرتباً وأنيقاً وكان الأثاث الفخم والموقع المميز وسط السوق يوحي بأن الشركة كبيرة وأرباحها عالية. كنا قرابة 10 أشخاص اجتمعنا مع أحد أعضائها  الذي بدا واثقاً من نفسه كثيراً. وقد أوهمنا بأسلوب جذاب ومخادع أننا سنصبح أثرياء خلال فترة قصيرة، وقام بعرض قصص وصور لأشخاص حققوا نجاحات كبيرة. كان كلامه مقنعاً حقاً وخصوصاً بعد أن عرفنا بأن الشركة مرخصة وتعمل وفق القانون وأن لها فروعاً في أكثر من بلد. وبالفعل فقد وافقت على الانضمام والعمل معهم وكان علي أن أدفع مبلغاً ما بين 100 إلى 1000 دولار حسب ما أريد شراءه من المنتجات التي يسوقونها. وبالطبع كلما كان المبلغ أكبر كلما كانت فرصة الربح أكثر. هذا ما بدا لنا في البداية دون أن ننتبه أنه فخ وعملية احتيال، فالبضاعة التي اشتريتها كانت من النوع الرديء جدا (ثياب، ساعات يد، أدوات تجميل) وكان سعرها الحقيقي في السوق أقل بما لا يقارن مع أسعار الشركة. الأمر الذي يجعل من تسويقها أمراً مستحيلاً، لذا يلجأ المسوقون أو من تورطوا في مثل هذه الأعمال إلى اختراع أي طريقة لتعويض خسائرهم كأن يورطوا أشخاصاً جدداً بالعمل أو يضيفوا قيماً كاذبة للبضاعة مثل الساعة التي تجلب الحظ أو قرص الطاقة العجيب المصنوع من مواد ثمينة وغيرها من الخرافات التي لا ينتبه لها عادة من يتورط بالدخول معهم، لأن هوس الربح والغنى السريع يكون قد أعمى بصره بالكامل.”

وفي محاولة لفهم الأبعاد القانونية والنفسية لمثل هذا النوع من الأعمال، وضح لنا نادر (37 عاماً، محامي) بعض النقاط حول ذلك قائلاً: “التسويق الهرمي ممنوع في أغلب الدول المتحضرة، فالربح مبني أساساً على خسارة الآخرين الذين غالباً ما يشكلون القاعدة العريضة لهذه الشركات، وبالتالي تنحصر الاستفادة برأس الهرم فقط، ولأنها ممنوعة ومحاربة قانونياً تلجأ هذه الشركات إلى التحايل على القانون لتغطية نشاطاتها وحقيقتها وتتوسع وتنتشر في الدول الفقيرة مستغلة الأزمات الاقتصادية وانتشار البطالة والفقر وحاجة الناس الملحة للعمل لتتصيد زبائنها. وهذا الوضع بالضبط ما جعلها تنتشر في سوريا تحت مسميات وأشكال مختلفة وخصوصاً في السنوات الأخيرة بالتزامن مع انهيار الاقتصاد وازدياد الفقر بين السوريين.” ويتابع نادر موضحاً أن: “الجهل وشدة الحاجة من أهم الأسباب التي تجعل الشخص يتورط في مثل هذه الأعمال، بالإضافة أن هذه الشركات تستخدم أساليب مدروسة في التسويق والإقناع تشتت ذهن الزبون وتحصر تفكيره بكيف سيصبح غنياً بين ليلة وضحاها، فالشخص المتورط في العمل سيسوّق للفكرة سواء من باب الاقتناع بها والسعي للربح أو لمحاولة إنقاذ نفسه بتوريط غيره ليخفف من عبء الصدمة والخسارة وإعطائها بعض المبررات بتحويلها إلى حالة مشتركة مع مجموعة بحيث يبرر الشخص لنفسه بأنه ليس وحده من تعرض للنصب إنما كثيرون غيره قد وقعوا بنفس الفخ، وهي آلية دفاعية نفسية يلجا إليها الشخص عندما يتعرض لمثل تلك الهزات العنيفة في تقييمه لنفسه بإعطائها بُعداً اجتماعياً وليس شخصياً، وهو تماماً ما تدركه هذه الشركات وتستغله لصالحها لزيادة دائرة المتورطين معها.” ويضيف نادر: “لا توجد في القانون السوري مادة واضحة تمنع أو تُجرم مثل هذه الشركات، وخصوصاً أنها تعتمد على حجج قانونية لعملها و تمارس تسويق البضائع علناً، وبموافقة وإقرار الزبون حيث العقد هو شريعة المتعاقدين كما يبرر أصحابها أو المدافعون عنها وأن لا أحد قد يجبر شخصاً على شراء شيء لا يريده.”

إذاً فهذه الشركات لا تهتم بتسويق المنتج بل بتسويق الفكرة وزيادة انتشارها وتبيع الناس أحلاماً وأوهاماً كاذبة، ومن بين الأساليب التي تستخدمها أيضاً هو ايهام الزبائن بخرافات العلوم الزائفة كالبرمجة اللغوية العصبية وقانون الجذب وغيرها وبأنها طرق ناجحة لإقناع الأشخاص بالانضمام للعمل. وحسب ادعاءاتهم فإن هذه العلوم الزائفة تجلب الحظ الجيد وتجعل نجاحك مضموناً إذا اتبعتها. ونتيجة لذلك تقوم هذه الشركات بإقامة دورات لتعليم هذه الخرافات وإعطائها هالة كبيرة باستقدام مدربين من دول أجنبية أو عربية وبذلك يتم استكمال فصول النصب والاحتيال على الزبائن وسلبهم أموالهم.

للأسف رغم افتضاح أمر التسويق الهرمي بشكل واسع وعلى مدى سنوات طويلة أيضاً، إلا أن السوريين ما يزالون يقعون في فخها إلى اليوم، ربما هو بحث دون وعي عن أي حل أو أي أمل يخرجهم من قسوة واقعهم حتى لو كانت وعوداً مستحيلة وأوهاماً كاذبة.