by طارق علي | Mar 2, 2021 | Cost of War - EN, Roundtables - EN, Uncategorized
* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا“
الطب العربي، طب الأعشاب، الطب البديل، كلها أسماء “لمصلحةٍ” واحدة، وكلها معاً، صارت هدفاً للسوريين. لا يوجد رقم دقيقعن مدى استخدام هذا النوع من الطب الشعبي، ولكن الفقر والجوع دفع بالكثيرين للجوء لهذا الطب فحسب تقديرات الأمم المتحدة أكثر من 90 بالمئة من السوريين يعيش تحت خط الفقر المباشر، أي أنّ نتاج الفرد منهم لا يتخطى دولارين في اليوم الواحد. وعلى أرض الواقع فحتى مبلغ دولارين في اليوم هو حلم بعيد المنال لمعظم المواطنين، فمتوسط راتب الموظف السوري شهرياً هو خمسون ألف ليرة سورية أي ما يعادل 15 دولاراً أمريكياً على حسابات السوق السوداء، وهي حسابات يُحظر التعامل بها في سوريا، سراً أو علانية، إلا أنها تحكم الشارع والتجارة والأسواق والحياة اليومية، فالجميع في الداخل السوري يعمل في المضاربة.
في ضوء هذا الحال، لجأ الكثير من السوريين إلى الطب البديل، لأسباب واضحة، على الصعيد العام ترتبط بالشح الدوائي الخطير في سوريا من جهة، وانهيار المنظومة الطبية من جهة ثانية، فضلاً عن ارتفاع أجور المعاينات الطبية بما لا يتناسب بأي شكل مع الدخل السوري (وصلت معاينة شريحة كبيرة من الأطباء إلى عشرة آلاف ليرة سورية)، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الأدوية الكيميائية الموصوفة من قبل الأطباء (إن وجدت) فإنها إلى جانب المعاينة قد تكلف صاحبها راتبه كاملاً، وفي أحسن الأحول ثلثه أو نصفه.
ولتوضيح تجارب السوريين في هذا الإطار يقول سامي المعراوي الذي وجد ضالته في الطب البديل: “أقل كلفةً وعناءً ومالاً وجهداً وهو علاج طبيعي مئة بالمئة”. ويضيف عن تجربته مع المرض والأطباء والمشافي التي استنزفت مدخراته المالية: “لديّ مشكلة في الكلى، وعانيت منها طويلاً، وكلفتني الكثير من الأموال دون أن يتفق الأطباء على علاج واحد، حتى لجأت إلى أحد العطارين (العطار اسم شعبي لمن يعمل في الأعشاب) بعد أن سمعت عنه الكثير، وصف ليّ أعشاباً ومغلي الماء بالأعشاب، واظبت على الدواء، بت أشعر أنني الآن أفضل”.
وتعتبر مهنة العطارين نداً للطب التقليدي الذي يشن عليها على الدوام حرباً كبرى، إذ يرى المجمع الطبي أن الطب التقليدي والأدوية المصنعة وجدت لعلاج كل الأمراض نسبياً، في حين أنّ الطب الشعبي يعتريه ما يعتريه من النصب والسرقة والاحتيال. ويتفق الأطباء أن خلطات الأعشاب تفيد طبيعياً بحالات معينة ومؤقتة للغاية (غير مزمنة). فأعشاب كإكليل الجبل واليانسون والزعتر البري والزوفا والمليسة والميرمية والبابونج والشيح والزعفران والزنجبيل والقرفة والكمون وسواهم، تفيد في حالات معينة، كالمغص والصداع والإسهال والتشنج العضلي والمعوي والمفاصل والجيوب والقولون وآلام الظهر العضلية المؤقتة وغيرها؛ ولكنها حكماً لن تغني مريض السرطان عن الجرعات، ولن تعالج تلف الكبد، وبالضرورة فإن الديسكات التي تحتاج جراحة عصبية لن تشفى بالكمون والليمون مثلاً، ولن تكون بديلاً عن الدواء أولاً والمنفسة ثانياً في حال التدهور الصحي لمرضى الكورونا المعروف بـ كوفيد-١٩.
يعتقد المعالج النفسي بشار الماجد أنّ الأمر كلّه مرتبٌط بالحالة النفسية لمتلقي العلاج: “كثيرٌ من الناس يؤمنون بفعالية هذه العلاجات، وهي عادات متوارثة غالباً، نجدها في المجتمعات المغلقة التي تحكمها العادات والتقاليد والقصص المتوارثة، إذن، القصة كلها مرتبطة بالعامل النفسي، وحقيقةً فإن لهذا العامل دوراً كبيراً للغاية في تحسن مفترض لأي مريض، ولكنه تحسن نفسي غير عضوي وهنا المشكلة، فارتياح الشخص لا يعني أن حالته المرضية لا تتطور، وبالمقابل فمن الممكن أن يحدث العكس تماماً، كل شيء وارد”.
ويرفض العطار أبو هاشم أيّ اتهام بالنصب أو الاحتيال مشدداً “هذا ما وجدنا آباءنا عليه”، ويعتقد من وجهة نظره أنّ العلاج كله يكمن في الطبيعة، ليتساءل حول كيف كان يتعالج الأجداد والقدماء قبل وجود المستخلصات الكيميائية: “نحن طب قائم بقوة العرف، وعشرات الحالات تشفى على أيدينا وهناك الكثير من الأمثلة، نحن نبيع منتجاً طبيعياً والعلاج على ربّ العالمين”.
لبنان والدواء إلى سوريا
لعب إغلاق الحدود بين البلدين دوراً في الانتعاش المرحلي لسوق الأدوية الطبيعية، فالبلد الذي كان متنفساً دوائياً-اقتصاديا لسوريا ما عاد كذلك. فبعد حادثة المرفأ المحزنة بات لبنان نفسه يعاني أزمة دوائية خانقة.
وكان نقيب الصيادلة اللبنانيين غسان الأمين قد ذكر أواخر العام الماضي أن “هناك أدوية مفقودة من الصيدليات وذلك بسبب تهافت الناس على شرائها وتخزينها”، مشيراً الى أنه تم “وضع خطة لترشيد دعم الدواء، وتناقلتها وسائل الإعلام بكل أشكالها، الا أنه لليوم لا قرار للحكومة بتبني الخطة، ولا تبني لهذه الخطة من مصرف لبنان لذلك تتهافت الناس على شراء الأدوية وتخزينها في المنازل”.
وفي حديث للأمين لصحيفة “الشرق الأوسط” في أيلول/سبتمبر الفائت كان قد قال علانيةً أنّ “مخزون الدواء في المستودعات الذي كان يكفي لستة أشهر عادة، بات لا يكفي لأكثر من شهر ونصف الشهر”، مؤكداً حينها أنّ مشكلة فقدان الدواء مستمرة.
وفضلاً عن كل ذلك لعبت عقوبات قيصر/سيزر دورها في الملف، فلبنان الآن مهدد بعقوبات اقتصادية شاملة وقاسية في حال أجرى أي تعاملٍ اقتصاديٍ مع سوريا بحسب ما نصت بنود القانون الأمريكي، ما خلق مشكلةً مضاعفة للبلدين، فسوريا التي كانت مصدراً دوائياً للبنان في سنوات حربها الأولى باتت الآن بأمس الحاجة لأي دواء من لبنان، سيما مع توقف حركة النقل بين البلدين بشكلها الرسمي وما كان يصحبها من “تجارة الشنطة”، وهي نوع من أنواع التهريب البسيط من خلال السائقين بين البلدين، ليبقى ملف التهريب بشكله العام على المعابر غير الشرعية قائماً، ولكنه دون فائدة يمكن التعويل عليها، فلا لبنان لديه فائض دوائي، ولا سوريا لديها ما تقدمه للبنان، على الرغم من أنّ سوريا أقرت غير مرة إعفاءات ضريبية على إدخال المواد الأولية من لبنان، إلا أنّ عقوبات سيزر أثارت فوضى في الحسابات المحلية والإقليمية وحتى الدولية.
كورونا وصراع المصالح
كانت قد سجلت أول حالة بفيروس كورونا كوفيد-١٩ في سوريا قبل تطبيق القانون الأمريكي بثلاثة أشهر تقريباً، تحديداً في الثاني والعشرين من آذار/مارس الماضي، مما خلق ضغطاً إضافياً على القطاع الطبي-الدوائي في سوريا، فالبلد المحاصر ليس بمقدوره الاستيراد بأي شكل، وبالتالي برزت المشاكل الصحية التي تتعلق بالاستيعاب المرضي من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى تأمين منافس وأدوية مؤقتة تغطي مرحلتي الانفجار المرضي اللتين مرت سوريا بهما، ليطفو إلى السطح سؤال يتداوله الشارع السوري: أين الحلفاء؟، وهم الأفضل في المجال الطبي والتقني والنفطي. بيد أنّ مؤشر الأيام يقول أنّ هؤلاء الحلفاء لا ينظرون إلى الشعب السوري بعين المنطق التشاركي، إنما ينظرون إلى سوريا من منطلق الكعكة الواجب تقاسمها بحدّة وتعزيز المكاسب على الأرض، فالعسكر هم العسكر، وليتولى السوريون أمرهم، هذا ما يقوله الواقع، فلا المنظومة الطبية بخير، ولا القطاعات الخدمية بحال جيد، فسوريا اليوم صارت “جمهورية الطوابير”، الطوابير بمعناها الخدمي، والطوابير بمعناها العسكري.
by Ibrahim Hamidi | Mar 1, 2021 | Cost of War - EN, News - EN, Uncategorized
كانت سوريا وإسرائيل، بفضل وساطة أميركية، على حافة توقيع اتفاق سلام في نهاية فبراير (شباط) 2011، قبل اندلاع الاحتجاجات ضمن «الربيع العربي». صاغ الوسيط الأميركي مسودة اتفاق «ذهبت أبعد بكثير من أي ورقة سابقة»، وتضمنت قطع دمشق لـ«العلاقات العسكرية» مع طهران و«حزب الله» اللبناني، و«تحييد» أي تهديد لإسرائيل، مقابل استعادتها مرتفعات الجولان السورية المحتلة من إسرائيل، إلى خط 4 يونيو (حزيران) 1967.
هذا ما أكده لـ«الشرق الأوسط» مسؤولون كانوا منخرطين في المفاوضات التي قادها المبعوث الأميركي فريد هوف بين الرئيس بشار الأسد ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وتضمنت عقد جلستين على الأقل مع وزير الخارجية الراحل وليد المعلم، والمستشار القانوني رياض داودي، بحضور السفير الأميركي السابق روبرت فورد. وكان الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، ونائبه وقتذاك جو بايدن (الرئيس الحالي)، على علم بهذه المفاوضات السرية، مع انخراط كبير من وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون. ولم يتوفر تعليق رسمي على مضمون هذه المفاوضات من دمشق التي تعلن دائماً التمسك بـ«استعادة كامل الجولان» و«العلاقة الاستراتيجية مع إيران».
– عرض مثير
كان وزير الخارجية الأميركي الأسبق جون كيري قال في كتابه «كل يوم هو يوم إضافي» إن الأسد بعث إلى الرئيس أوباما مقترحاً لإقامة سلام مع إسرائيل، وإن نتنياهو عندما اطلع على الاقتراح وجده «مثيراً للدهشة». وقال كيري إنه في عام 2009، بينما كان يتولى رئاسة لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، زار دمشق وتناول في اجتماع مع الأسد أموراً عدة، بينها اتفاق السلام مع إسرائيل، في ضوء أن المحاولات السابقة في ظل حكومات إسحق رابين وشيمون بيريز وإيهود باراك وأولمرت ونتنياهو (خلال فترته الأولى بين 1996 و1999) انتهت بالفشل.
وقال كيري: «سألني الأسد ما الذي يحتاج إليه الأمر للدخول في مفاوضات سلام حقيقية، على أمل ضمان عودة الجولان التي فقدتها سوريا لحساب إسرائيل عام 1967، أجبته بأنه إذا كان جاداً، فعليه تقديم مقترح غير معلن. وسألني عن الصورة التي ينبغي أن يكون عليها الاقتراح، فشاركت معه أفكاري. وبالفعل، أصدر توجيهات إلى أحد كبار مساعديه بصياغة خطاب من الأسد إلى أوباما». وكتب كيري أنه في هذا الخطاب، طلب من أوباما دعم محادثات سلام جديدة مع إسرائيل، وأعلن «استعداد سوريا لاتخاذ عدد من الخطوات، مقابل عودة الجولان من إسرائيل».
وبعد اجتماعه مع الأسد، توجه في اليوم التالي جواً إلى إسرائيل، وجلس مع نتنياهو الذي كان قد عاد إلى السلطة بعد 10 و«أطلعته على خطاب الأسد، فشعر نتنياهو بالدهشة من أن الأسد على استعداد لقطع كل هذا الشوط الطويل، والوصول إلى نقطة أبعد بكثير عما كان على استعداد لتقديمه من قبل».
وذكر كيري أنه بعدما عرضه على نتنياهو، حمل «عرض الأسد» إلى واشنطن، وحاولت إدارة أوباما اختبار مدى جدية الرئيس السوري، من خلال طلب اتخاذ «إجراءات لبناء الثقة» تجاه كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، بينها وقف بعض شحنات الأسلحة لـ«حزب الله»، الأمر الذي لم يحصل. وكتب كيري: «أتذكر أنني سمعت أن الأسد استمر في نمط السلوك ذاته تماماً تجاه (حزب الله) الذي أخبرناه أن يتوقف عنه؛ كان ذلك خيبة أمل، لكنه لم يكن أمراً مفاجئاً».
– ضربات إيرانية
بعد انطلاق مفاوضات السلام عقب مؤتمر مدريد للسلام في 1991، جرت محاولات بين سوريا وإسرائيل بلغت ذروتها مع رابين عبر مفاوضات ما يعرف بـ«أرجل الطاولة الأربع»: الانسحاب، وعلاقات السلم، وترتيبات الأمن، والجدول الزمني، وتضمنت اجتماعات بين رئيسي أركان سوريا وإسرائيل، ومفاوضات سرية وعلنية تضمنت الالتزام بـ«الانسحاب الكامل» من الجولان، وبحث إقامة «علاقات سلم طبيعية» وترتيبات أمنية، والبحث في فتح سفارات وبوابات حدودية على الخط المفترض لـ4 يونيو (حزيران) 1967.
وبعد اغتيال رابين في نوفمبر (تشرين الثاني) 1995، حاول بيريز «التحليق في السماء باتفاق سلام مع سوريا»، واستعجل المفاوضات وصولاً إلى معاهدة. وفي بداية 1996، بدأت مفاوضات ثنائية، لكنها انهارت بعد عمليات انتحارية في تل أبيب وعسقلان والقدس. وقتذاك، أبلغ الوفد الإسرائيلي نظيره السوري، في جلسة تفاوض بأميركا، أن «إيران تقف وراء الهجمات لإفشال المفاوضات»، وأنه «يجب أن تدين سوريا العمليات الإرهابية»، حسب قول مصدر مطلع. انهارت المفاوضات، وذهب بيريز إلى عملية «عناقيد الغضب» في لبنان التي أخرجته (بيريز) من الحكومة.
وبعدما تسلم نتنياهو الحكومة 1996، «فاوضه» الرئيس الراحل حافظ الأسد، عبر رجل الأعمال الأميركي رونالد لاودر على اتفاق تفصيلي «متقدم جداً» عام 1998. كما أن خليفة نتنياهو، إيهود باراك، عرض لدى استئناف المفاوضات، وانعقاد لقاء بينه وبين وزير الخارجية السوري الأسبق فاروق الشرع، برعاية الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، الانسحاب من الجولان حتى خط 4 يونيو (حزيران)، مقابل السلام وترتيبات الأمن. وعقدت جلسات عمل تفصيلية في شيبردزتاون، قرب واشنطن، مع تركيز على ملف المياه الشائك، حيث قال الإسرائيليون إن «المياه خط أحمر»، وقدم الأميركيون وقتذاك «ورقة عمل» كانت بمثابة مسودة اتفاق سلام.
باراك أبلغ الأميركيين في ختام جولة المفاوضات في بداية 2000 بأنه لا يستطيع عقد اتفاق سلام بسبب «الوضع الداخلي المعقد» الذي يستدعي ذهابه إلى إسرائيل، ثم العودة إلى بلدة شيبردزتاون لاستئناف المفاوضات، لكنه لم يعد.
وفي مارس (آذار) 2000، كانت آخر محاولة في عهد الأسد (الأب) الذي كان يعاني من مشكلات صحية، عبر لقائه كلينتون في جنيف. أيضاً انهارت القمة السورية – الأميركية بعد 20 دقيقة، جراء الخلاف حول الوصول السوري إلى شاطئ بحيرة طبريا، وعرض كلينتون خريطة لخط 4 يونيو (حزيران) وشاطئ طبريا أمام الأسد كان قد رفضها سابقاً.
وتسلم بشار الأسد الرئاسة في منتصف 2000. وبعد دخول سوريا في عزلة، إثر اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في 2005، قدمت دمشق مرونة بالتعبير عن رغبتها في مفاوضات مع تل أبيب لـ«فك عزلة واشنطن عبر عملية تفاوضية مع تل أبيب». وقتها، رعت تركيا في 2008 محادثات وصلت إلى حد التفكير بترتيب مفاوضات مباشرة، بوساطة هاتفية من رجب طيب إردوغان والأسد وأولمرت نهاية 2008، قبل أن تنهار بقصف إسرائيلي لقطاع غزة نهاية ذاك العام.
انتهت العزلة الأوروبية، ثم الأميركية، وجاء روبرت فورد سفيراً أميركياً إلى دمشق. وفي 2010، بنت واشنطن على جهود سابقة، بينها جهود أنقرة، ورغبة إدارة أوباما بتفعيل مسار السلام، وتعيين مبعوثها جورج ميتشل لاختبار مسار التفاوض السوري – الإسرائيلي. واتسمت المحاولة الأخيرة بالسرية. وكان عدد العارفين بمسار التفاوض محدوداً في كل دولة. ومن الجانب الأميركي، كان على علم كل من أوباما وبايدن وكلينتون، ومستشار الأمن القومي توم دونيلون، والسفير الأميركي في تل أبيب دان شابيرو، والسفير الأميركي في دمشق روبرت فورد. ومن الجانب السوري، علم بالمفاوضات بدرجات متفاوتة كل من الأسد والمعلم وداودي، حيث عقدت جلسات بين المعلم وداودي وهوف وفورد. وفي إسرائيل، حصرت لقاءات هوف بنتنياهو في مقر الإقامة الرسمي لرئيس الوزراء، بحضور باراك وزير الدفاع.
– الأسد-هوف
آخر لقاء ضمن هذه الوساطة، كان بين الأسد وهوف في 28 فبراير (شباط) 2011، أي في خضم «الربيع العربي» الذي غير نظامين في ليبيا ومصر، وبدأت مظاهراته في دمشق. وروى هوف الذي عمل على صوغ مسودة الاتفاق أن الأفكار تضمنت تخلي دمشق عن «العلاقات العسكرية» مع طهران و«حزب الله»، مقابل الانسحاب الإسرائيلي من الجولان إلى خط 4 يونيو (حزيران).
وكان هوف، القائد السابق في الجيش الأميركي الخبير في مجال ترسيم الحدود بالمناطق المتنازع عليها، أول شخص رسم على الأرض خط 4 يونيو (حزيران) في بدايات تسعينيات القرن الماضي. ويروي فورد لـ«الشرق الأوسط» أن هوف لدى وصوله إلى دمشق، طلب عدم حضور لقائه (هوف) مع الأسد، وأنه وافق على ذلك شرط أن ينام هوف في منزله، مقر السفير الأميركي في دمشق. وقال: «اتصلت به هاتفياً على خط مفتوح كي تسمع المخابرات السورية حديثنا، وقلت: أنا موافق شرط أن تنام في مقر الإقامة الخاص بالسفير، أنت ومساعدك، كي يعرف السوريون أننا فريق واحد. وهذا ما حصل. كما أن هوف أخبرني بمضمون اللقاء، وأترك له ذكر تفاصيل ما حصل في اللقاء مع الأسد، والمفاوضات عموماً».
وقد تضمنت وثائق هوف، حسب تقارير إسرائيلية نشرت في 2012، أن المفاوضات اعتمدت على استعداد نتنياهو للعودة إلى حدود 4 يونيو (حزيران) 1967، ما يعطي دمشق السيطرة الكاملة على الجولان، مقابل اتفاق سلام شامل، يتضمن «توقعاً» إسرائيلياً بقطع العلاقات بين سوريا وإيران.
وحسب اعتقاد مسؤولين مطلعين على مضمون المحادثات، كان هوف «مقتنعاً بأن اتفاق السلام ممكن، بحيث ينهي الأسد علاقته مع إيران و(حزب الله)، ويتحول في تحالفاته إلى أميركا والدول العربية المعتدلة». وقال أحد المسؤولين لـ«الشرق الأوسط»: «لم أشاهد مسودة اتفاق سلام؛ كانت بداية للتفاوض، وليس النهاية». وذكر مسؤول آخر: «لم يكن واضحاً أن الطرفين اتفقا على جدول زمني محدد، أو توصلا إلى حل مسألة المياه في الجولان. سوريا كانت تقول إنه لا حق لإسرائيل بالمياه وراء خط 4 يونيو (حزيران)، فيما كانت إسرائيل تقول إنه حتى لو يكن لديها جيش وراء خط 4 يونيو (حزيران)، فإنها تريد حضوراً لوجيستياً يسمح بالوصول إلى المياه». وكان الخلاف حول المياه وشاطئ طبريا أحد الأسباب التي أدت إلى انهيار قمة الأسد – كلينتون في مارس (آذار) 2000، حيث أصر الرئيس السوري الراحل على «وضع قدميه» في مياه البحيرة، الأمر الذي رفضه باراك وقتذاك، بل أقام الإسرائيليون طريقاً محيطاً بالشاطئ يجعل الوصول السوري إليها متعذراً دون اتفاق لا يشوبه أي غموض.
هناك من يقول إن وساطة هوف كانت «شرطية – افتراضية»، كما حصل في منتصف التسعينيات، عندما قاد وزير الخارجية الأميركي الأسبق وارن كريستور مفاوضات تحت عنوان «ماذا لو؟»، تضمنت اقتراحاً للأسد: «ماذا لو تعهد رابين بالانسحاب الكامل من الجولان؟ هل أنت مستعد لعلاقات سلام (تطبيع)؟». وقتذاك، وضع رابين في جيب كريستور «وديعة رابين» التي تضمنت الاستعداد للانسحاب الكامل من الجولان، إذا وافق الأسد على مطالب تتضمن علاقات السلم وترتيبات أمنية. ويقول أحد المسؤولين إنه في وساطة هوف، أبدى نتنياهو «الاستعداد للانسحاب الكامل من الجولان، إذا وافق السوريون على اتفاق سلام يتضمن تغيير التوجهات الإقليمية، وقطع العلاقات مع إيران».
وقال مسؤول أميركي سابق على اطلاع على الملف لـ«الشرق الأوسط»: «فيما يتعلق بجدية الطرفين، لا شك في ذلك أبداً. المفاوضات كانت شرطية: الإسرائيليون كانوا يريدون تغييراً استراتيجياً في التوجه السوري، وسوريا كانت تريد إعادة كل الأراضي حتى خط 4 يونيو (حزيران)، وقد حصل كثير من التقدم من الطرفين». وزاد: «أميركا لم يكن لديها أي شك بجدية المفاوضات. الأسد ونتنياهو كانا جديين لمعرفة إلى أي حد سيذهب الطرف الآخر. أيضاً كان هناك تقدم كبير من نتنياهو في موضوع الأراضي أكثر من أي وقت سابق. لقاء هوف مع الأسد في 28 فبراير (شباط) أعطى إشارة واضحة لما يمكن للأسد أن يقوم به».
ويحرص الأميركيون على القول إن المسودة الخطية للاتفاق كانت أميركية، وهو «أمر مهم، ذلك أن المبعوث الأميركي ميتشل لم يقم بصوغ أي ورقة بين نتنياهو والرئيس محمود عباس (أبو مازن)». أيضاً، هناك تأكيد أميركي على عدم حصول لقاء مباشر سوري – إسرائيلي، بل كان التفاوض عبر هوف.
– بناء ثقة
تكتسب المحاولة الأخيرة من المفاوضات أهمية عشية الذكرى العاشرة لاندلاع الاحتجاجات السورية، خصوصاً أن موسكو (اللاعب الرئيسي في سوريا) تقود وساطة لـ«بناء الثقة» بين دمشق وتل أبيب، تضمن عناصر بينها صفقة تبادل الأسرى، وإعادة رفاة جنود إسرائيليين، ورعاية عودة العمل بـ«اتفاق فك الاشتباك» في الجولان 2018، وإبعاد إيران وميليشياتها عن جنوب سوريا.
وهناك أهمية أخرى بعد تردد أنباء عن اهتمام دول عربية بفتح أقنية بين دمشق وتل أبيب، أو عقد اجتماعات سرية لاختبار إمكانات عقد اتفاق سلام، و«الابتعاد» عن إيران، مقابل تقديم «حوافز» مالية تخص إعمار سوريا وحل مشكلاتها الاقتصادية.
لم تبد تل أبيب اهتماماً علنياً بالمفاوضات السياسية، خصوصاً بعد إعلان الرئيس دونالد ترمب تأييد «السيادة الإسرائيلية» على الجولان في 2019، واستمرارها في شن غارات على «مواقع إيرانية» في سوريا. كما أن دمشق لم تبد اهتماماً علنياً باتفاق سلام لا يتضمن «الانسحاب الكامل» من الجولان، و«تغامر فيه بعلاقتها الاستراتيجية مع إيران».
ومن جهته، قال فورد لـ«الشرق الأوسط»: «سيكون صعباً على الأسد حالياً توقيع اتفاق سلام مع إسرائيل، إلا إذا حصل في المقابل على الكثير، لأنه يحتاج حالياً إلى الدعم من إيران وميليشياتها و(حزب الله)؛ إذا خرجوا من سوريا، فمن سيساعد النظام على السيطرة على البادية السورية وحمص والسويداء وجزء من درعا؟». وأضاف: «هل ستحصل دمشق على مساعدات مالية غربية حتى لو وقع الأسد اتفاق سلام وفتح سفارة إسرائيلية في دمشق؟ من الصعب تدفق الأموال وإزالة العقوبات بعد كل الجرائم التي حصلت في سوريا. من الممكن إزالة بعض العقوبات الأميركية الخاصة بإدراج منظمات إرهابية أو التدخل في لبنان أو بعض الاستثناءات، ووصول مساعدات عربية أو أوروبية، لكن قانون قيصر (الذي بدأ تنفيذه منتصف العام الماضي) لن يلغى ببساطة»، متابعاً: «لن يكون هناك تعاطف في أميركا مع الأسد، حتى لو تم توقيع اتفاق سلام. هناك حدود لما يمكن أن يقدم في مقابل أي اتفاق سلام».
في المقابل، قال مسؤول عربي مطلع على موقف دمشق: «صعب أن يقبل النظام توقيع اتفاق سلام دون ضمان واضح باستعادة كامل الجولان. صعب أيضاً أن يبتعد النظام كلياً عن إيران».
وبين الموقفين، يقول مسؤول كبير مطلع على الوضع في سوريا وإسرائيل والمنطقة وأميركا: «ربما كان ذلك الفصل الأخير في جهود البحث عن اتفاق سلام بين سوريا وإسرائيل، كما عرفناه في العقود الماضية. قد يحصل، في أحسن الأحوال، تفاهم أو اتفاق جديد، لكنه مختلف عما قرأناه وفاوضنا لأجله لعقود».
by Ghassan Nasser | Feb 26, 2021 | Culture - EN, Uncategorized
أصدرت منصّة “شركاء” الإلكترونية، مؤخراً كتاباً احتفاءً وتكريماً بشخص ومنجز الباحث الأكاديمي والمثقف الموسوعي السوري الدكتور حسّان عباس، الرئيس المؤسّس لـ (الرابطة السورية للمواطنة)، ومؤسّس دار نشر “بيت المواطن” ومديرها، الحائز على وسام “السعفة الأكاديميّة برتبة فارس” من فرنسا عام 2001.
الكتاب الموسوم بـ «حسّان عباس بعيون معاصرة» جاء في (165 صفحة من القطع المتوسط)، وأشرف على تحريره وقدّم له المعارض السوري البارز فايز سارة. وهو يحتوي بين دفتيه على مقالات وشهادات لعدد من أبرز كتّاب وشعراء سوريا ممن عرفوا الدكتور عباس أو تعرفوا على منجزه الإبداعي عبر منصّات النشر والإعلام الإلكتروني والصحافة. كما احتوى الكتاب على مجموعة من المقالات المختارة لصاحب «الموسيقى التقليدية في سوريا» (منظمة “يونسكو”، باريس 2018)، تناولت الأحوال السورية في السنوات العشر العجاف، مع ملحق عن نشاطات المحتفى به ومسارات حياته الذاخرة بالعطاء.
الدكتور حسّان عباس يُجيب سائله: “كيف تفضّل التعريف بنفسك؟”، بالقول: “أنا إنسان قضيت عمري بالتعلّم ولا أزال طالب علم، عدا ذلك، أعمل موزّعاً طاقتي بين ميادين ثلاثة: البحث والتعليم والعمل المدني. غايتي من البحث هي المساهمة في معرفة من نحن كبشر من هذه المنطقة، ولماذا صار حالنا إلى ما هو عليه من تأخر وفوات. غايتي من التعليم هي أن أنقل ما أتحصّل عليه من علم إلى أوسع شريحة من شباب بلدي. أمّا غايتي من العمل المدني فهي نشر ثقافة المواطنة بما تتطلبه من ديمقراطية وعلمانية وفكر نقدي”.
تمّ إهداء الكتاب، من قِبل محرّره، “إلى سوريات وسوريين قدموا الكثير من أجل مواطنيهم وبلدهم؛ إلى حسّان عباس واحداً من هؤلاء، ما قمنا به اعتراف وتقدير لبعض ما قمت به”.
ومما جاء في مقدّمة الكتاب التي كتبها الأستاذ فايز سارة، “إنّ روح هذا الكتاب، بطابعه التكريمي وبالمشاركين فيه الذين كتبوا مقالات، خصّصت له، وتنشر فيه حصراً، يستحقّ أن تكتب له مقدّمة مختلفة، مقدّمة تتحدّث عن الفكرة أولاً، فكرة هذا النوع من الكتب، قبل أن تتناول المثال أو تجسيدها العملي في الكتاب الذي صار بين أيدينا.” وتابع: “تعود فكرة الكتابة عن شخصيات في النخبة السورية عندي، ولاسيّما الثقافية منها إلى ما أحاط بالنخبة من تدمير وانتهاك وتهميش متعمّد من جانب نظام البعث منذ استيلائه على السلطة عام 1963، وهو أمر تمّت متابعته وتكريسه في عهد الأسدين الأب والابن اللذين أمعنا في عملية تهميش النخبة السورية وانتهاكها إلى حدِّ التدمير، فيما ركزا من جانب آخر كل الأضواء على شخصيتيهما، وأحاطا نفسيهما بشخصيات، لا تملك من مواصفات النخبة وقدراتها إلّا القليل، لكنّها مشبعة بروح التزلف والتصفيق للدكتاتور وكيل المديح لجنون العظمة فيه، وكان وضع النخبة في المجال الثقافي والإعلامي بين أسوأ الأمثلة في تعبيرات ما أصاب النخبة، وكان الأشدّ وضوحاً في النماذج، التي تولت إدارة المؤسّسات الثقافية والإعلامية وخاصّة في اتّحاد الكتّاب العرب واتّحاد الصحافيّين والجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات، وقد تحوّلت جميعها إلى مؤسّسات وهيئات لا هدف لها سوى خدمة النظام، وتمجيد الدكتاتور فيه، والإشادة بما قام، ويقوم به حتى لو كان مصنفاً في عداد الارتكابات والجرائم المعلنة”.
عقود من العمل في خدمة سورية والسوريين..
سارة، الذي شارك في الكتاب بتحرير مقالة أيضاً، بعنوان «عن زمن استبداد ودم ورجل يسعى إلى ربيع»، بيّن في المقدّمة أنّ د. حسّان عباس ينتمي إلى نخبة السوريين، “التي رفضت الاستكانة لسياسات النظام وممارساته، وعملت قدر ما استطاعت، أن تقوم بما رأت أنّ عليها القيام به، فجهدت وحاولت بكل الطرق والأساليب مستغلة كل ما أمكن من ظروف وطاقات لخلق وقائع جديدة، تتراكم باتجاه التغيير بجوانبه المختلفة.”وأضاف: “جَهِدنا في محتويات هذا الكتاب، أن نقدّم صورة عنه في مساره الحياتي من تكوينه المعرفي إلى العملي، مروراً بنشاطاته المتعدّدة، وصولاً إلى ما يمثّله من خلاصات في الجهد الذي قدّمه خدمة لسورية وللسوريين على مدار ثلاثة عقود ونيّف، بدأت في المكان الرئيس لدراسته في باريس، وتصاعدت في دمشق المدينة التي اختار العودة إليها والعمل فيها، وتواصلت في بيروت، التي لجأ إليها بعد أن أصبح من المحال البقاء في دمشق، وصار من رابع المستحيلات، أن يتابع عمله فيها. واستكمالًا لتكريم د. عباس، رأيت أنّ إعادة نشر بعض كتاباته في هذا الكتاب احتفال به، وتكريم له. إذ أننا نحتفي بأفكاره وآرائه في إطار إجمالي سيرته، وهكذا فإنّ تزيين الكتاب ببعض ما كتبه من مقالات، يقع في دائرة جُهدنا، آملاً أنّي اخترت نصوصاً، قاربت أو طرحت الأهم في آرائه ومواقفه.”
المساهمون في الفصل الأول من الكتاب إلى جانب محرّره، مجموعة من النخبة السورية من الشعراء والكتّاب والكاتبات هم (حسبما وردت أسماؤهم في الكتاب): فرج البيرقدار، وائل السواح، سمة عبد ربه، علي الكردي، ميشيل كيلو، عمر الجباعي، مزن مرشد، إبراهيم اليوسف، وبدر الدين عرودكي.
فيما خُصّص الفصل الثاني لكتابات د. حسّان عباس في الحال السوري، ومن عناوين المقالات المنشورة: («جدران الوهم»، «حرّاس الذاكرة»، «تحوّلات في ثقافة الخوف»، «المجتمع المدني المقبل»، «صناعة التفاؤل»، «المواطنة أمام امتحان الوباء»، و«سوريا لا أمّ لها»).
ونجد في نهاية الكتاب فصلٌ بعنوان «مسارات حسّان عباس في دروب الحياة»، وآخر عنوانه «روابط من نشاطات حسّان عباس ومقابلات معه وكتاباته». إضافة إلى الهوامش والتعليقات.
من مآثر رجل بحجم وطن..
في حوار لي معه تمّت الإشارة إليه في الكتاب (نُشر في مركز حرمون للدراسات المعاصرة، في 3 أيلول/ سبتمبر 2020)، يرى صاحب «سورية، رؤية من السماء»؛ أنّ “الثورة السورية مثّلت برأيي أنبل حراك وأهم علامة مضيئة في تاريخ سوريا الحديث، فهي الثورة المواطنية الوحيدة التي جمعت غالبية السوريين من شتّى الأصول والانتماءات تحت راية الكرامة والعيش المشترك. غير أنّ مسارها انحرف، بسبب عنف النظام وسياساته التفريقيّة وما أنْبتَه من عنف مقابل ومن تصدعات مجتمعيّة لا يبدو أنّ ثمّة براء منها في المستقبل القريب. وقد أسفرت الأوضاع التي أفرزتها سنوات القتال الطويلة عن مآسٍ لم يسبق لها مثيل في العالم الحديث”. مؤكّداً أنّه “سيكون من الخطأ الجسيم تحميل الثورة وزر هذه المآسي، صحيح أنّ لقوى المعارضة دوراً ليس ضئيلاً فيما وصل البلد إليه لكن المسؤولية الجذرية لكل هذا السقوط الاقتصادي والاجتماعي والمالي والثقافي إنّما تقع على النظام. فسياساته الحمقاء هي التي دفعت الثورة نحو العسكرة والتأسلم، وهي التي فتحت البلاد للميليشيات والقوى الخارجية، وهي التي طيّفت المجتمع، وهي التي هجّرت نصف السكان من منازلهم ورمتهم بين نازح ولاجئ، وهي التي أفقرت الناس، إلى ما هنالك من نتائج تراجيدية على هذه القائمة السوداء”.
ونقرأ من مقالة الشاعر السوري فرج البيرقدار، المقيم في السويد، والمعنونة بـ«بشارة الحرّيّة»؛ “حسّان عباس أحد الرموز الذين عبروا كل ما أحاط بالسوريين من حواجز ومراصد وأجهزة رقابة وقمع ومصادرة، إلى أن احتلّ مكانه وصار واقعاً يصعب إلغاؤه كما يصعب تجاهله، وأيضاً يصعب وضعه عند حدوده، التي تحاول السلطات فرضها كلما وأينما استطاعت. كان حسّان، وما زال يشتغل على التأسيس وعلى الأسس بالمعنى المعرفي الثقافي والحقوقي والنقدي والمسرحي والغنائي والتراثي. لم يغرق في التفاصيل، ولم يستطع أحد إغراءه بها أو إغراقه فيها. ثقافته الموسوعية مأثرة تليق بحاملها، ولكن المأثرة الأهم هي المصداقية في جمعه بين القول والفعل على نحو بالغ الاتساق والخصوبة، ولذلك لم يتردد في انحيازه الواضح لمطالب السوريين منذ بداية الثورة، كما في نقده للازدلافات والمنزلقات والكوارث التي استطاع النظام بقمعه الوحشي أساسًا، وتكالب المصالح والأجندات الإقليمية والعالمية تالياً، جرّ الثورة إليها من عسكرة وتطييف وشرذمة وتبعية”.
ومن الشهادات اللافتة عن رجل نبيل بحجم وطن، ما كتبه المعارض البارز الكاتب ميشيل كيلو، المقيم في فرنسا، والتي جاءت بعنوان «مأثرة حسّان عباس»، والتي أشار فيها كاتبها إلى أنّه “بانطلاق الدكتور عباس من الحرّيّة كخصيصة يتعرف الإنسان بها، فإنّه كان من المحتم أن يؤسّس دولة المجتمع المدني على المواطنة، ليتساوى أمامها السوريون في كل ما يتّصل بحقوقهم وواجباتهم، وبتعين الشأن العامّ والحقل السياسي بهم، وتعينهم به كضامن لحرّيّاتهم، فقد جانبه القهري أو أقلع عن استخدامه ضدّهم، لأنّه لم يعد يرى فيهم رعايا/أعداء. قال حسّان عباس بالمواطنة كحلقة رئيسة، كرّس جهوده لتحقيقها، فكان من المحتم أيضًا أن ينصب اهتمامه على بناء ونشر الوعي بها لدى عامّة السوريين. لهذه الغاية، أسّس (رابطة المواطنة)، وجعل شعارها “المساواة والمسؤولية والمشاركة”، بما هي تجليات حتمية للحرّيّة: أساس الدولة المدنية الديمقراطية المنشودة لسورية”. يضيف كيلو: “قدّم عباس للرابطة تعريفاً يقول: “إنّها تجمع مدني طوعي لكل من يرغب في العمل على ترسيخ المواطنة وقيمها على صعيد العلاقة بين المواطنين، والعلاقات بينهم وبين الدولة، والعلاقات بينهم وبين المحيط الذي يعيشون فيه. ومع أنّها ليست تنظيماً سياسياً، فإنّها تعمل في الشأن العامّ وتسعى إلى أن تكون ذات تأثير في المجتمع المدني”. أما هدفها فهو: “المشاركة الفاعلة والواعية لأيّ شخص دون استثناء أو وصاية في بناء الإطار الاجتماعي والسياسي والثقافي للدولة””.
عباس مفكّراً ومنظّراً في زمن الاستبداد..
من مواسم رحلة عطاء د. حسّان عباس إسهامه في تأسيس وإدارة عدد من الجمعيات المدنية العاملة في مجالات الثقافة والمواطنة وحقوق الإنسان، إضافة إلى مؤلّفاته وتنظيراته الفكرية ومنها ما أشار إليه الشاعر والروائي السوري الكردي إبراهيم يوسف، المقيم في ألمانيا، الذي كتب تحت عنوان «د. حسّان عباس ونظرية الرأرأة.. أثر آلة الاستبداد بين العاهة والتشخيص»، والذي رأى فيه أنّ الثورة السورية “استطاعت أن تحوّل معارفنا النظرية التي طالما تعاملنا معها على أسس معرفية، إلى واقع معيش، فيما يخصّ الاستبداد، والدكتاتورية، والظلم، والعنف، بمعنى أنّها أزالت المسافة الكامنة بين النظرية والتطبيق، إذ إنّ ما ظللنا نتناوله عبر ما يصلنا من أوعية معرفية أو ثقافية، في العقود الأكثر ظلامية، التي مرّت ولما تزل تخيم في أبشع صورها، بعد وصول حزب البعث إلى السلطة، وإنتاجه أعلى نمطاً للاستبداد والطغيان، إذ سعت آلة النظام إلى كمِّ الأفواه، ومواجهة أيّ رأي مختلف، أو أيّ موقف لا يندرج في خدمة النظام على أنّه معاد، وتمّت تربية -جيش- من العيون والمخبرين الذين انحصرت مهمتهم في مراقبة سلوك الناس، وحركاتهم، وسكناتهم، وأقوالهم، بل محاسبة كثيرين على مبدأ المظنّة، ما رسّخ بنيان هذه الآلة الرّهيبة التي راحت تحاسب بعضهم حتى على رؤية في منام”.
يحلّل اليوسف في سياق مقالته استنباط الدكتور عباس لمصطلح «الرأرأة» الذي جاء على ذكره في مقالة له عنوانها «الرأرأة السورية» (نشرت في صحيفة “المدن” الإلكترونية اللبنانية، في 17/10/2013)، فيقول: “ينطلق د. حسّان عباس في استنباطه لمصطلح «الرأرأة» من أحد أمراض البصر، إذ يرى أنّ للرأرأة نفسها أربعين حالة، بحسب التشخيص الطبي، إلّا أنّه لا يستغرق طويلاً في حدود هذا المرض العيني، العياني، بل يتّخذه معبراً إلى مرض آخر، فإذا كانت الرأرأة (في لغة الطب) عبارة عن “عَرَضٍ سريري يشير إلى خلل في الأجهزة التي تتحكم بحركة العين ويعود إلى إصابات مرضية مختلفة. ويتصف هذا العرض بحركة اهتزاز لا إرادية للعين تجعلها تبتعد ببطء عن موضعها المركزي لتعود بسرعة إليه، وهكذا دواليك. وتسبب الرأرأة درجة من الخلل في الرؤية” إلّا أنّه يمضي إلى رأرأة أخرى، أشدّ فتكاً، لا تكتفي بهذه الحالة السريرية العابرة التي يمكن علاجها لدى طبيب العيون، لأنّ هناك رأرأة أخرى يقشعرُّ لها بدن المرء وهي “كانت تلاحَظ لدى السوريين في سنوات حكم عائلة الأسد، خصوصاً زمن حكم الأب، حركة لا إرادية يقومون بها بعيونهم، وغالباً ما كانوا يتابعونها بكامل وجههم، حتى أصبحت كالعادة المكتسبة التي تميّزهم عن سائر البشر. وتتميّز هذه الحركة بانحراف كرة العين عن محورها لتتجّه نحو النوافذ أو الأبواب، في الحيّز الذي يجمعهم، فور نطقهم، أو نُطق أحد مُجالِسيهم بكلمة أو إشارة تنال من القائد أو الحزب أو أجهزة الأمن ومن ينتمي إليها”. إنّنا هنا، أمام حالة رعب يكاد يكون فريداً من نوعه. رعب يتحكم بلغة الناس، وحديثهم، إذ ثمّة ما هو ممنوع عليهم التكلم به، أو تناوله، أو الحديث عنه، إلّا في إطار المديح الملفق، بدءاً من اسم الدكتاتور الأول، وانتهاء باسم أصغر شرطي، ضمن دائرة متكاملة، يشكّل جميعها آلة الاستبداد”. يتابع اليوسف: “إذا كان د. حسّان عباس، قد رأى، أنّ للرأرأة أربعين حالة، قد يعاني المصاب بإحداها، أو أكثر من حالة رؤية وهمية أو نحوها، فإنّه ليشخص الحالة الحادية والأربعين التي لم يذكرها أحد قبله، ولم يتناولها حتى علم -طب العيون- وتكاد لا تشبه حالة أحد من المصابين بمرض الرأرأة سوى حالة من هو في ظل وطأة حكم ربيب آلة القهر -السفاح السوري، طبيب العيون- (في إشارة إلى بشار الأسد)، الذي لا تتجاوز تجربته الثقافية حتى مع اختصاصه الألفباء التي وضعها -الكحّالة- البدائي، قبل قرون، في التراث، ولعله لا يفقه “ما الرأرأة” أصلاً! هذه الحالة الإحدى والأربعون ولدت في ظل حكم باطش أسّسه الحزب الحاكم، وكان ذروة نتاجه -حالة النظام الحاكم- الذي أسّس لحالة طغيان دفع ثمنها السوريون جميعهم -موالاةً اضطرارية بسبب مصالحها أو انتهازيّتها أو جبنها- من جهة-، ومعارضة مشرذمة منقسمة على ذاتها بسبب اقتصاديات الحرب، وتمويلات سفك الدم، من جهة أخرى. هذه النظرية، وإن بدت جدُّ بسيطة في طرحها، إلّا أنّها تُقدّم صورة -طبق الأصل- عن حالة السوري المقموع، رصدها الكاتب بلغة أدبية، تتمايز عن لغة الكاتب الصحفي، كما أنّها تقدم ما هو فكري بلغة لا تصعب على مستسيغ لغة الصحافة، وفي هذا ما يميّز لغة كاتبنا التي يمكن تناولها في مبحث خاصّ”.
by Yazan el-Haj | Feb 25, 2021 | Culture - EN, Uncategorized
يتحدّث فرويد عن دافع الحياة (سمّاه «إيروس» تيمّنًا باسم إله الجنس الإغريقيّ)، وعن دافع الموت (سمّاه مريدو فرويد «ثناتوس» تيمّنًا باسم إله الموت الإغريقيّ). ولكنّ إيروس ليس دافعًا للحياة تمامًا، بل هو أقرب إلى دافعٍ للحب الذي يؤسِّس بدوره للتّناسل الذي يضاعف الحياة؛ وليس ثناتوس دافعًا للموت في ذاته، بقدر ما هو دافعٌ مُبهَمٌ إلى العنف والتّدمير اللذين يؤسّسان بدورهما للزّوال أو الإبادة التي تُرسِّخ الموت. كانت المفارقة الفرويديّة الصاعقة هي أنّ هذين الدافعين متلازمان بالرغم من تناقضهما، وبأنّ تلازمهما وتضادّهما هما اللذان يجعلان البشريّ بشريًا، أو ربّما كانت جدليّة التّلازم والتّضاد هي ما تجعل البشريّ بشريًا محكومًا بدافعٍ مزدوج للحياة وللموت، للحب وللموت، للحب في الموت، وللموت في الحب. لعلّ كلام فرويد ردٌّ أو تطوير متأخّر على طرح الفيلسوف الإغريقيّ قبل-السقراطيّ إنباذوكليس الذي يُضيف إلى العناصر الأربعة الأساسيّة (التراب، الماء، الهواء، النار) المُكوِّنة للكون قوَّتَيْن أساسيّتين هما: الحب (أو الوئام) والصّراع (أو النّفور). يكون الكون حين تتآلف هذه العناصر (كلّها أو بعضها) بنسبٍ دقيقة، ويكون الفساد حين تتنافر تلك العناصر، وتكون تغيّرات الكون (والبشر) تبعًا لاختلاف نسب تآلفات هذه العناصر أو تنافراتها. تمثَّل تطوير فرويد في دمج قوَّتَيْ التآلف والتّنافر دمجًا لا انفصام فيه، بحيث بات الموت وجهًا آخر للحب أو الحياة، لا نهايةً لهما. بل ربّما كان الموت – بمعنى من المعاني – شرطًا أساسيًا لاكتمال الحب. هذا ما يقوله فرويد، أو بالأحرى هذا ما فهمتُه من كلامه المعقَّد. لم يفهم أحدٌ فرويد، ولعلّ الوحيدين الذين فهموه هم الذين لم يقرؤوه. ما من مكان لليقين حين نحاول تأويل كلامه، بالرغم من أنّه يكتب بيقين إلهيّ. ليس لنا إلا «ربما»، و«لعلّ»، و«أحسَبُ»، و«أظن»، ومثيلاتها حين نحاول استثمار نظريّاته تطبيقًا. وكذا الأمر بالنّسبة إلى صديقنا إنباذوكليس الذي كان وما زال موضعًا لجدالات لا تنتهي بين الشرّاح والمفسّرين. لعلّ مكمن عدم فهم كلام فرويد يعود إلى أنّه يناقش متاهةً معقدةً لا سبيل إلى فهمها، وهي النّفس البشريّة. أو ربّما كان سببُ انتفاء اليقين أنّ فرويد (والفلاسفة قبل-السقراطيّين عمومًا) يكتب أدبًا لا علمًا، مع أنّه يقدّم طروحاته بوصفها علمًا. يصطفل فرويد! هو يكتب أدبًا حتّى لو أنكر، وحتّى لو (بالأحرى، بالرغم من أنّنا) لم نفهم كلامه. الأدب لا يُفهَم بل يُحَس، يُتذوَّق. ولذا كان الانتشار الأكبر لطروحات فرويد والإغريق في الأدب، حيث حلبة صراعات النّفس البشريّة، وحيث يتجاور الوئام والتّنافر، وحيث يتّحد الحب والموت.
اتّحاد الحب والموت في الأدب؟ روميو وجوليت حتمًا. قصّتهما أشهر قصة حب في تاريخ الأدب، ويعرفها حتّى مَنْ لم يقرأ مسرحيّة شيكسپير. سنخسر كثيرًا لو لم نقرأ المسرحيّة، ولكنْ لن أعاود اليوم تشديدي على الهوس الحميد بشيكسپير، ولنمرّ مرورًا سريعًا على القصة. لعلّ سر شعبيّتها الجارفة هي موت عاشقين قبل أن يبلغا النّهاية السعيدة، ولعلّ شعبيّتها هي أنّهما لم يبلغا تلك النّهاية. لا شعبيّة ولا لذّة ربّما للقصص السعيدة. إنّنا مخلوقون للّوعة ولملاحقة الفجائع، وكأنّه ضربٌ من ضروب التّطهّر الذي لا بدّ منه كي نتحرّر من فائض الأسى. ولكن لعلّ سر الشعبيّة يكمن أكثر في كون العاشقين فتيّين، طفلين لو طبّقنا معايير زمننا اليوم، ولذا كان الموت أقسى لأنّ الموت ليس للأطفال، وليس للأطفال العشّاق بطبيعة الحال. ولكنّه لهم كما «يبشّرنا» شيكسپير، وقافلةٌ طويلةٌ من الكتّاب. على أنّ التطهّر لن يكون إلا تنفيسًا عابرًا حين نقرأ القصة بوصفها قصة حب فقط. لا يكون الموت إلا حين تنتهي الحلول كلّها، ولعلّ أسانا يتضاعف على العاشقين الصغيرين لأنّهما عبثا بالموت كما لا ينبغي لهما أن يفعلا، فاختطفهما الموت بعد نهاية اللعبة، وبقي كلُّ ما عداه. بقيت الحياة كلّها، حياةٌ ضيّقة في بلادٍ ضيّقة في عالمٍ ضيّق في كونٍ ضيّق. بمعنى ما، بقيت الحياة التي تشبه الموت، والتي تُمهِّد للموت، والتي تُغلِق المنافذ الأخرى كلّها باستثناء تلك المفضية إلى الموت. ليست قصة موت حبّ وحسب، بل قصة موت بلاد، إذ ما معنى البلاد التي تقتل أطفالها لأنّهم أرادوا الحب؟ سيكبر الأطفال ويُقتَلون لأسباب كثيرة في البلاد ذاتها، ولكنْ ستبقى اللوعة أكبر حين يكون القتل بسبب الحب، لأنّه أكبر الخطايا السماويّة والأرضيّة على السواء. قد يبدو الكلام غريبًا، ولكنْ فلنتأمّل مصائر الحب عبر العصور مع تقلُّب الديانات والحضارات والهمجيّات. هو الثابت الوحيد في المعادلة المتغيّرة. هل نبدأ بآدم وحوّاء؟ لعلّها ليست قصة حب بدقّة، ولكنّها قصة إيروس نموذجيّة: الجنس الذي يُفضي إلى العقوبة. الشعراء؟ كلّهم رجيمون في مجتمعات العادة السريّة، ولا يُحتَفى بهم إلا بعد موتهم، كي يصبحوا دليلًا آخر على «الزمان الجميل» الذي مضى. حتّى الشعراء «العفيفون» لم ينجوا من الملاحقة والإقصاء، ولن ينجوا حتّى لو عاشوا اليوم إذ ستُرفَع عليهم دعاوى «قذف أعراض»، وسيُحجَر عليهم. ليس إيروس إلهًا للجنس فقط كما ظنَّ الإغريق، بل هو إله للحب كلّه، جنسيًا كان أم عفيفًا؛ إنْ افترضنا وجود حب عفيف. لعلّ قائلًا يقول إنّ الدنيا قد تغيّرت، وذاك زمان ضيق الأديان لا اتّساع الحضارة وجموحها، قبل عودة التعصّب اليوم، ثمّ يمصمص شفتيه تحسّرًا على العقود الماضية التي كانت أكثر تحرّرًا. أين زمن السينما الحرّة، والشوارع الحرّة، والأدب الحرّ، وسبعينيّات وثمانينيّات وتسعينيّات التحرّر؟ أو، ربما، يا لجمال البلاد الحرة التي يُحتفى فيها بالحب بلا قيود وبلا تحفّظات. نعم، الحب الحر جميل ويستحق الاحتفاء، ولكن بشرط أن يكون بعيدًا، أن يكون خارج نطاق المنظومة التي تحكم حياتي التي أتفنّن في فرض حدودها وقيودها. نضع لايكًا باطمئنان على أيّة قصة حب بعيدة، ولكنْ ماذا لو كانت داخل حدودي؟ ماذا لو كان المحبوب من طائفة أخرى، أو دين آخر، أو عِرْق آخر أو لون آخر؟ ماذا عن المثليّة؟ ماذا عن المساكنة بلا زواج؟ سنبدأ حينها في ابتكار تعريفات جديدة للحب تُفضي كلّها إلى نتيجةٍ بسيطة واحدة: الحب هو ما أُعرِّفه أنا، أنا وحدي، حبًا؛ وكلُّ ما عداه هرطقات أُهلِّل لها حين تبقى بعيدة، أو حين تُدفَن. ولعلّ أعظم فنوننا البشريّة هي المراثي، واللطم، والتحسّر على ما فات. فلنبدأ من السبعينيّات إذن، ولنر كيف كان الحب ملاحقًا وملعونًا حتّى في سنوات ذلك العقد المتحرّر، ولنر أيضًا أنّ درس شيكسپير وفرويد درسٌ أزليّ لم ندرك مغزاه بعد: لا منجى للحب إلا بالموت، أو فيه.
بعد ذهاب سَكْرة الانتصار في حرب أكتوبر 1973، جاءت فَكْرة الحياة بعد الانتصار في مصر السادات. كان لا بدّ للسادات من تحطيم كلّ إرث جمال عبد الناصر، ولذا بدأ عمليّة «الانفتاح». لا، لم يكن انفتاحًا سياسيًا أو اجتماعيًا، بل انفتاحًا اقتصاديًا سيُمهِّد لظهور الطبقة التي ستبلغ مجدها في تسعينيّات حسني مبارك، وإنْ كانت قد بدأت إرهاصاتها الأولى في زمن السادات؛ طبقة مُحدَثي النّعمة (أو «القطط السِّمان» كما راجت التسمية في الصحافة المصرية) الذين أثْرَوا بعد انفتاح مصر أمام المشاريع الخليجيّة ورفع القيود الاقتصاديّة التي كانت تمثّل صمّام الأمان في وجود طبقة وسطى ستبدأ بالتّلاشي سنة إثر أخرى. شرعتْ الهوّة الطبقيّة بالاتّساع وبدأ طوفان ردود الفعل الاقتصاديّة من نظريّات تُهلِّل وأخرى تُعارِض. ولكنْ بعيدًا من ضجيج السياسة والاقتصاد، كانت هناك عينٌ حاذقة تراقب بصمت، من طاولة مقهى شهدت مراقبات وتأمّلات لا حصر لها طوال قرابة نصف قرن. كان نجيب محفوظ، ابن السابعة والستّين آنذاك، صامتًا مراقبًا كعادته عام 1978، حين بدأت أطياف قصة جديدة تراوده. كانت قصة مباغتة حتّى لمتابعي مسيرة محفوظ القصصيّة الدؤوبين، وهم قلّة قليلة بالمقارنة مع متابعي الروايات الذين كانوا ما يزالون، وقتذاك، يواصلون إعادة قراءة الحرافيش التي أصدرها الأستاذ قبل عام. لم يكن محفوظ ابنًا للقصة القصيرة، ولم يكتبها كتابةً جديّةً إلا في الستينيّات، ولكنّه عوَّض تأخّره ذاك بسلسلة عظيمة من المجموعات التي بدأت بـ دنيا الله (1965)، وبدتْ وكأنّها انتهت بـ الجريمة (1973)، حين عاودَ محفوظ غوصه في روايات متلاحقة كالرصاص في السبعينيّات. ولكنّ الأستاذ كان يتأمّل ويهيّئ رصاصته الجديدة في القصة هذه المرة: قصة «الحب فوق هضبة الهرم» التي نشرها في مجموعة بالعنوان ذاته عام 1979، التي واصلَ فيها حفره في جنس القصة الطويلة التي نوّع فيها لاحقًا ليكتب نوڨيلات لا تقل أهميّة وجمالًا عن رواياته الأطول. لم تكن قصة شيخوخة، إذ سيترك تلك التأملات الرهيفة لعقدَيْ الثّمانينيّات والتّسعينيّات. كانت قصة عن شاب يصغر محفوظ آنذاك بأربعين عامًا. لعل هذا لا يشكّل مفاجأة كبيرة إذ يمكن أن نتوقّع أيّ موضوع من محفوظ غزير الإنتاج، متنوِّعه، حتى لو كانت قصة تٌشرِّح بدقّة متناهية عالم الشّباب الذي غادره محفوظ قبل عقود. هي قصة عن شاب يعاني أزمة جنسيّة. مرةً أخرى، ليس هذا بمستغرب عن محفوظ الذي سبق أن كتب رواية السراب التي كان فرويد سيرقص لها طربًا لو عاش وقرأها.
اللافت في حكاية علي عبد الستّار بطل قصة «الحب فوق هضبة الهرم» أنّها تبدأ بافتتاحيّة صاعقة: «أريد امرأة، أيّ امرأة. … الجنس أصبح محور حياتي وهدفها. انقلب وحشًا ذا مخالب وأنياب. قوّة مطارِدة مهدِّدة»، لا تشبه أيّة افتتاحيّة من افتتاحيّات محفوظ التي تميل في الغالب إلى البدء بتوصيف عموميّ للسماء أو الشمس أو المكان، من دون استثناء الافتتاحيّة الأشهر في رواية ميرامار: «الإسكندريّة أخيرًا. الإسكندريّة قطر الندى، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع». يفتتح محفوظ القصة برمينا مباشرةً في الحدث، ويواصل نبشه لعالم الشخصيّة الداخليّ في مقطع كامل، قبل أن يعود بنا إلى عالمه المألوف في المقطع الثاني حين يقدّم الشخصيّة مرةً أخرى تقديمًا محفوظيًا تقليديًا. يبحث علي عبد الستار عن امرأة ليُطفئ رغبته الجنسيّة المستعرة التي لم يروِها يومًا، وقد بلغ السادسة والعشرين. شابٌّ مصريّ عاديٌّ، شاء له عبث الأقدار أن يولد مع ثورة 52، ويعي الحياة مع هزيمة 67، ويشبَّ في زمن انفتاح السادات. على أنّ ذلك الانفتاح لن يشمله لأنّه مجرد موظف صغير زائد عن الحاجة، فرد من جيل سيتضاعف في العقود التالية ليشكّلوا جيش البطالة المُقنَّعة التي اجتاحت نظام البيروقراطيّة العتيد. يجد عليّ سلوانه في التّجوال في الشوارع. هنا بالذات نلتقط براعة محفوظ، وهو المشّاء العظيم، في التقاط نبض الشارع المصريّ في السبعينيّات، بعينِ الشّباب وحكمة الشيوخ وحنكة الحكّائين الكبار. عليّ مرآة لذلك الشارع، أو ربّما كان الشارع مرآة لعليّ. شيخوخة قبل الأوان، وتوتّر نَزِق ينفجر مع أبسط استفزاز، لأنّ ذلك الشارع وسكّانه محكومون بالكبت على اختلاف وجوهه: كبت سياسيّ واجتماعيّ واقتصاديّ، من دون استثناء الكبت الجنسيّ الذي سيتضاعف مع تلاحُق مشاهد العري في الأفلام التجاريّة التي بدأت تكتسح السينما، ومع تعاظم مظاهر الثراء الفاحش الذي بدأ يترسّخ. شارعٌ كهذا لا يليق إلا ببلاد تقوم مقام صالة ترانزيت يولد فيها المرء ويعيش لهدف أوحد: السفر إلى الخارج للعمل في أيّة مهنة، باختصاصه أو بغير اختصاصه. السفر الذي يعني الهرب من الجحيم، الهرب من مستنقع الرتابة الخانقة المترافقة مع الفقر والبؤس والحرمان، ومع أقنعة الطبقة الوسطى، الأقنعة التي بدأت تبلى وتتفتّت شيئًا فشيئًا، قبل الانزلاق إلى هاوية الطبقة المسحوقة التي ستشمل الجميع. دوّامة ستلتهم البلاد كلّها، ولن ينجو منها إلا الأثرياء الذين يمتلكون مفاتيح تنفيس الكبت. أما جيل علي عبد الستّار فسيعيشون على العادة السرية، لا في الجنس وحسب (إذ يحتاج هو أيضًا إلى أموال، أكان جنسًا شرعيًا أم غير شرعيّ)، بل في كلّ تفاصيل الحياة. كان يمكن لجيل أسبق أن يُفرِغ كبته في السياسة، حيث الزعيق والشجارات والدّسائس، ولكنْ ما الحل لدى جيل يُدرك أنّ السياسة باتت تعني طريقًا أوحد: الاعتقال؟ ليس له إلا الشارع كي يُنفِّس كبته فيه، من دون إدراك أنّ هذا التّنفيس سيُفضي إلى تضاعف الكبت قبل الانفجار.
تنقلب حياة عليّ حين يرى رجاء، وهي زميلة جديدة ستشاركه البطالة المقنّعة والأحلام المجهضة والكبت. كانت رجاء في البداية الموضوع الذي تكثَّف فيه كبت عليّ كلّه، إذ بدت تجسيدًا لكلّ النّساء، وطيفًا واضحًا يبرز من داخل العماء الذي كان يطوِّقه في لحظات الاستثارة. ولكنّها ستصبح الحبيبة والشريكة الحقّة في دنيا الجنون تلك. يُمهِّد محفوظ لظهور رجاء بعبارة يردّدها عليّ بتكرار في المقاطع المتلاحقة: «ما هذه البهجة المنعشة؟». تبدو العبارة مثل لازمةٍ موسيقيّة تضبط إيقاع السّرد وإيقاع مشاعر عليّ وإيقاع علاقة الحب مع رجاء في آن. تغيب اللازمة حين تعرّضت تجربة الحب لانتكاسة مبكّرة، وما لبثت أن عادت حين عاد الوصال، من دون أن يتخلّى عليّ (ومحفوظ) عن هوايته الأثيرة في مراقبة الشارع واستشعار نبضه الخفيّ، حين يتلمّس عليّ تفاوت السرعة بين إيقاع الحياة البطيء في الشارع، وإيقاع الأيام التي تنهب الزمن بسرعةٍ خارقة، مضاعِفةً نسبة الضغط والكبت الذي بدأ يولِّد انفجاراته التي دوَّنها محفوظ بعينه التي لا تخيب: «في تلك الأيام تابعتُ بإعجاب مغامرات الإرهابيّين في الصحف. إنّهم ينفجرون في أركان البلد معلنين عن نبض جنين ينمو في رحم الغيب». وضع محفوظ إصبعه بذكاء على التيّار الذي سينحت الدّمغة الأكبر على أيام العقدين اللاحقين اللذين بدآ باغتيال السادات، قبل أن تلحقه عمليّات اغتيال كثيرة طوال عقدين تقريبًا. لم يكن الغيب غيبًا إذن، بل كانت النتائج شديدة الوضوح والفجاجة، بالرغم من أنّ عينَيْ زرقاء اليمامة المحفوظيَّتَيْن لم تُدركا أنّ جحافل تلك الأشجار الغامضة المرعبة ستنسف الجميع، أكانوا من أنصارها كالسادات أو من مراقبيها الصامتين مثل محفوظ نفسه، وربّما كان عليّ سيصبح من ضحاياها لاحقًا. لا يضع محفوظ نهايةً بعيدةً لقصة عليّ، بل يركّز على أواخر عقد السبعينيّات، وعلى السنة التي شهدت علاقة الحب. سنة كأيّة «سنة نجيبيّة» أخرى، لا صيف فيها، إلا حين يشهد انتكاسة الحب كما كان يشهد التوقّف الموقّت عن الكتابة بسبب الحساسيّة التي تَحكُم حياة محفوظ. تبدأ بوادر قصة الحب شتاءً، ثم تتفتّح ربيعًا، قبل أن تنقطع صيفًا، ومن ثمّ تُعاوِد مسارها الدافئ القديم في الخريف الذي سيُنهي الحكاية، أو ربما سيُنهي هذا الفصل من الحكاية التي لم تنته فصولها إلى اليوم.
ربّما كان محفوظ يريد التهرّب من الرقابة، أو تخفيف وطأة القصة، حين جعل البطلين يسعيان إلى تتويجٍ شرعيّ لقصة حبّهما عبر الزواج. غير أنّ هذا التّفصيل ليس مهمًا في ثنائيّة البلاد والحب، لأنّ النّتيجة هي ذاتها: ستبقى البلاد تلاحق الحبّ وكأنه طاعون لا بدّ من وأده. هذا ما نجده صراحةً على لسان الشرطيّ الحارس لهضبة الهرم حين يرى بوادر حبٍّ بين شاب وفتاة: «متزوّج أو غير متزوّج، لا يهمّ». يهرب العاشقان اللذان تزوّجا سرًا إلى الهرم كي يختلسا لحظاتٍ شحيحةً من الحب، بعد أن لاحقتهما سياط الأعين في الشوارع وفي الفنادق. ثمّة من يجرؤ على الحب وعلى الجنون، ولذا كان لا بدّ من إرهاقهما في ملاحقةٍ لاهثةٍ إلى أن يعودا مواطنين صالحين مكبوتين، أو يهاجرا إلى دنيا أخرى تلاحقهما بحدودٍ وقيودٍ جديدة، أو يهربا إلى الموت. يلتقط محفوظ المفارقة اللاذعة حين يومئ إلى أنّ المكان الوحيد الذي يمكن لك فيه اختلاس الحب هو منطقة الأهرامات التي ما هي إلا مقبرةً؛ نعم، مقبرة ملوك، ولكنّها مقبرة أخرى في نهاية المطاف. وكأنّ التّلاحم بين الإيروس والثّناتوس يصل إلى أقصى درجاته في تلك اللقاءات السريعة المختلسة التي لا شاهد فيها إلا الأشباح: أشباح الملوك الموتى، وأشباح العشّاق الآخرين الهاربين من جحيم البلاد. لا يفكّر عليّ أو رجاء بهذه المفارقة لأنّ كلًا منهما منشغلٌ بأفكاره الخاصة: يبتهج عليّ لأنّ الجنيه الذي تقاضاه الشرطيّ، حارس الموت وخفير الحب، «أرخص من الفندق بما لا يقاس»؛ أما رجاء فتذوب من العار الذي تدرك أنّه سيحكم حياتهما إلى حين موتهما أو هربهما من دوّامة الموت-في-الحياة تلك. تتضاعف سذاجة عليّ حين يحاول التّخفيف عن رجاء والاعتذار لها وطمأنتها بأنّ كلّ ما يحدث هنا والآن استثنائيّ وموقّت، وسيكون محض ذكرى مضحكة يومًا، غير عارفٍ بأنّ أطياف الموت لا تتقن اللعب، ولا تكترث للدعابات وللذكريات. ستتعاظم دفقة الموت في العقود اللاحقة، حين ستجري تفاصيل الحياة كلّها داخل مملكة الموت. لن تكون الأهرامات-القبور مكان الحب الوحيد، بل ستصبح المقابرُ الحقيقيّةُ مأوى (ومثوى) لآلاف الناس (سكّان المقابر) الذين لم يظفروا بتذكرة سفر إلى الخارج، أو بعقد عمل في مؤسسات الانفتاح الاقتصاديّ. ستكون المقابر مكانًا دائمًا لسكنهم في دستوبيا واقعيّة، لم يكن ليتخيّلها حتّى محفوظ.
يُنهي محفوظ قصة «الحب في هضبة الهرم» بعبارةٍ ثاقبة تلخّص مسار ديالكتيك الإيروس والثناتوس، ومصائر الحب في بلاد الضيق: «وأطلّت علينا القرون من فوق الهرم وهي تضرب كفًا بكف»، حيث ازدواج المعنى في كلمة «القرون» التي تعني تعاقب الأيام، وتعني في الوقت ذاته إيماءةً إلى الدّياثة التي تمارسها أيام التاريخ الصامتة، وهي تراقب انسحاق العشّاق والحب في رحى البلاد التي تطحن أبناءها. ليس محفوظ وحده من التقط توازي الحب والموت، وليست السبعينيّات وحدها هي الأيام التي شهدت مطاردة الحب في شوارع البلاد المكبوتة. ثمة عملان بديعان آخران تناولا الفكرة ذاتها، بمعالجتين مختلفتين، في الثمانينيّات والتسعينيّات، وهما: قصة «المقبرة» لإبراهيم صموئيل، ومسرحيّة «بلاد أضيق من الحب» لسعد الله ونّوس. ولكنّهما سيكونان محور المقالة القادمة.
ملاحظة: وردت فكرة المعنى المزدوج لكلمة «القرون» في تعليق للكاتب المصريّ ياسر عبد اللطيف في تويتر.
*تنشر هذه المادة بالتعاون مع جدلية.
by أسامة إسبر | Feb 24, 2021 | Culture - EN, Poetry - EN, Uncategorized
هديرُ محرّكٍ يغتصبُ الصمتَ عند بزوغ الفجر.
تصفّ سيارةٌ في مرآب البناية
ثم تُطفئ محركها فتنطفئُ معه بقايا الليل.
لا تستطيعُ الآذانُ مَضْغها
أسمعُ في الأنباء عن آخرين
يرتجفون من البرد في الخيام.
صاروا آخرين لأنني لستُ ذاتاً
بل مجرّد صوت هارب من صداه
يخرج ظلي أحياناً من المجهول ويواكبني
يسير معي كأنه صديقي الوحيد.
سأتشبث به وأمنعه من الرحيل
نعم، أحاول أن أُنْزلَ الدلو في البئر
لكنني سأنتظر رشفةَ الماء المنقذة
لمجيئكِ في الصباح كي تفتحي النافذة
ستُمْلي الحياة عليّ كما أمْلتْ عليكم
لكنني لن أدوّنها ولن أنصح أحداً بتطبيقها.
والقصائد والروايات المكممة
أحياناً يبثّ آخرون رسائل تعبّرُ عنهم
أو أننا مررنا ولم نر شيئاً
أو أننا على الطريق نسير لوحدنا
والمدينة القادمة ستفتح لنا أبوابها
كلٌّ بقدميه أو بقدميْ غيره
كنزهة على الشاطئ لتأمّل الغروب.
أحياناً تأتي صورٌ إلى ذهني
للدروب حين تتحوّل إلى جداول
وللحقول حين تكتسي أطرافها بنباتات برية
وللنبع حين يقوى ويشتدّ ماؤه ويفيض
ما الذي أحتاج إليه كي تنبع لغتي وتتدفق،
كي تخضرّ صفحاتي كالحقول أو تتفتّح كالأزهار؟
ما الذي أحتاج إليه غير الهواء، وأن أتنفّس
وتكون الأبواب والنوافذ مفتوحة حولي؟
حين جَلستُ في مقعد الطائرة
وارتفعتْ ثلاثين ألف ميل فوق المحيط
شعرتُ بوطأة المقعد وضيقه.
لم أفكّر إن كان الأفق سينفتح أو سينغلق
أو بأنني سأخرج من باب المطار
إلى الآن أشعر أنني في المقعد فوق المحيط
من أين أتى وإلى أين سيذهب.
تتجمّد وتذوب منسجمةً مع دورة الفصول.
في مجراه والبرد ينقل الألواح على كتفيه ويبني
وفي هذه المدينة سميتُ نفسي ابن الثلوج،
طفلها الذي يكبر في حدائق البياض
ثم يذوب أحياناً من الشوق.
لا تصدّقُ أن خريفاً مرَّ من هنا
بعد أن اكتشفتُ أن لي صوتاً.
قبل ذلك كان صوتي طائراً في قفص
قبل ذلك كان صوتي ميكروفوناً محطماً
ولا تكفّ مقابرها عن الاتساع.
وكانت أصابعي مسترخية في دفء
وهو يغادرني محلّقاً نحو نفسه
غداً، حين يصل صوتي في البريد
وتحصيه الأصابع مع أصواتٍ أخرى
سينكمشُ مرتعداً من الخوف،
لكنه، على الأقل، سيكون سعيداً أنه وُلد
وأنه قادر على قلب الموازين.
تثمل الريح
-١-
تَثْمل الريح
أعرفُ ذلك من صوتها
حين يكون مبحوحاً ومتقطعاً
ومن سقوط جسدها الذي يترنّح.
تلهثُ الريح
كما لو أن دروبها وعرة.
-٢-
في الأحلام
تهب الريح فوق دروب موحشة.
في الخريف
تسرق الريح الثياب الخضراء للأشجار.
-٣-
لا نستطيعُ أن نتمسك بأحلامنا
أو بأوهامنا أو حتى بأجسادنا.
لا نستطيع أن نتمسك بأجساد غيرنا
على طرقات الريح.
-٤-
وحده الجسد
يعرف أن يقرأ الريح.
by Firas Al Ali | Feb 23, 2021 | Roundtables - EN, Uncategorized
* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا“
أدت عوامل عديدة (كغلاء أسعار الأعلاف وخسائر متكررة ونشاط تهريب الأبقار والأغنام) إلى تكبد سورية خسارة ملحوظة من حجم ثروتها الحيوانية خلال السنوات الماضية. وأدى ما سبق إلى عزوف العديد من مربي الأغنام والأبقار في سوريا إلى ترك هذه المهنة بسبب خسائرهم المتكررة ما ينذر بحصول كارثة في قطاع تربية الحيوانات في سوريا في المستقبل القريب.
وأدت الأزمة السابقة إلى ارتفاع ملحوظ في أسعار اللحوم بأنواعها خصوصاً مع ارتفاع تكاليف التربية التي يتحملها المربي، ووصل سعر كيلو لحم الخروف إلى ما يقارب 20 ألف ليرة سورية، بينما سعر كيلو لحم العجل إلى قرابة 7000 ليرة سورية، أما سعر كيلو الفروج فوصل إلى قرابة 5000 ليرة سورية.
ومن خلال التواصل مع عدد من المربين في شمال سوريا، يبدو أن الأسباب كثيرة وراء أزمة الثروة الحيوانية التي لحقت أعمالهم وأهمها غلاء أسعار العلف وقلة الأرباح الناجمة عن بيع الماشية خصوصاً مع نشاط عمليات التهريب.
التهريب بين الأسباب
في كانون الثاني (يناير) الفائت، تداول ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، مقطعاً مصوراً، يظهر فيه حرس الحدود التركي أثناء ضبط سيارة قادمة من سوريا كانت تهرب عدداً من الأغنام مخبأة داخل صندوق السيارة.
وليست هذه الحالة الأولى من نوعها، حيث تم تهريب آلاف الرؤوس من المواشي بأنواعها إلى تركيا خصوصاً أن بيعها على الأراضي التركية يدر على أصحابها أموالاً أكثر.
وعلى مدار السنوات الماضية، كشفت عدة تقارير محلية، منذ أيام، أن تهريب المواشي من سوريا يحصل باتجاه كل من العراق والأردن ولبنان لأسباب من بينها فارق السعر في تلك الدول وضعف القوة الشرائية في سوريا مع ارتفاع أسعار اللحوم بأنواعها.
ويبدو مما سبق أن تهريب المواشي من سوريا كان من بين الأسباب الرئيسية التي أدت إلى تدهور الثروة الحيوانية في البلاد، ففي أواخر كانون الثاني الماضي، قال وزير الاقتصاد في النظام السوري، حسان قطنا، إن “سوريا فقدت 50% من ثروتها الحيوانية عبر تهريبها ونفوقها بسبب الإرهاب إما بالقتل أو الذبح بسبب الجوع” وفق ما نقلته وكالة سبوتنيك.
تكاليف التربية والأسعار
من بين الأسباب أيضاً التي أدت إلى تدهور تربية المواشي في سوريا هو ارتفاع أسعار الأعلاف، ففي إدلب على سبيل المثال وصل سعر طن الشعير إلى 255 دولاراً أمريكياً.
ويقول أبو عبد الله (وهو أحد المربين الذين تواصلنا معهم شمال سوريا) أنه كان يملك أكثر من 300 رأس من المواشي ولكن اليوم أصبح عددها قرابة 130 رأساً معيداً السبب إلى اضطراره لبيع المواشي بسبب الأوضاع المعيشية السيئة التي يعاني منها.
ويضيف أن تكاليف شراء العلف من بين الأسباب وهو ما جعله يضطر الآن إلى الرعي بالمواشي في بعض المساحات التي تحتوي على بعض أغصان الأشجار كما أن ارتفاع أسعار الأدوية الخاصة بالمواشي من بين أسباب تدهور عمله.
واضطر البعض من الرعاة إلى ترك هذه المهنة خاصة بعد ارتفاع تكاليف التربية من جهة وقلة أسواق التسويق لما يملكونه من جهة أخرى.
وأثر ارتفاع التكاليف على أسعار المواشي بشكل عام، حيث وصل سعر الكيلو للخاروف غير المذبوح بين 8500 و8600 ليرة وسعر الكيلو للجدي بين 7200 و7800 ليرة وسعر الكيلو للعجل بين 6300 و6950 ليرة سورية، وفق الأسعار المعروضة في سوق الرحيبة للمواشي في القلمون الشرقي بريف دمشق.
النزوح والحرب لهما دور
اضطر العديد من رعاة الأغنام إلى النزوح بسبب القصف والمعارك التي حصلت بالقرب من مناطق استقرارهم، حيث أجبر البعض منهم على السير لمئات الكيلومترات بقصد الاستقرار في مناطق تناسب أعمالهم في تربية المواشي.
وأدى ذلك إلى نقصان أعداد رؤوس الماشية لدى غالبية المربين بسبب ظروف عدم الاستقرار التي شهدوا عليها خلال السنوات الماضية والمتمثلة بطرق تأمين الأعلاف وتباين الأسعار والأدوية الخاصة بالمواشي واختلاف الأسعار بالإضافة للظروف المعيشية المتعلقة بالمربين وعائلاتهم، فيما نفقت آلاف الرؤوس من الماشية إثر المعارك والقصف في مناطق متفرقة من سوريا.
وخلال بحثنا، رصدنا العديد من المقاطع المصورة لرعاة مواشي كانوا قد خسروا مصدر رزقهم جراء تعرض أماكن تربية المواشي لديهم للقصف الجوي.
آثار اقتصادية سلبية
خلال إعداد التقرير، تواصلنا مع الباحث الاقتصادي، نعيم اللومان، للاطلاع أكثر على أبرز الآثار الاقتصادية السلبية التي سببتها العوامل السابقة الذكر مثل ارتفاع تكاليف الأعلاف وعدم الاستقرار وتهريب المواشي وغيرها.
وقال اللومان خلال الحديث: “شهد سوق المواشي خلال السنوات الثلاث الماضية موجتين متعاكستين أثرتا سلباً الأولى انخفاض أسعار اللحوم وقلة أرباح المربين والثانية كانت نشاط معابر لتهريب المواشي حيث اندفع مربو المواشي إليها لتعويض خسائرهم وتحقيق الأرباح”.
وأضاف أن ما سبق أدى لانخفاض كمية المواشي وبالأخص الأغنام بشكل مهول حتى لم تعد تكفي لتسد الحاجة، وما زاد من الأزمة هو ارتفاع أسعار الأعلاف مثل الحنطة والشعير بشكل كبير هذه السنة بالإضافة لعزوف الكثير من السوريين عن شراء اللحوم فسعر الكيلو وسطياً وصل إلى 5,5 دولار أمريكي.
وأثر انخفاض الليرة السورية بالتزامن مع استمرار بيع المواشي بذات العملة إلى تؤثر المربين بشكل عام، فالمبلغ الذي كان يدفعه المربي ثمناً لخمسين رأس من الأغنام لا يشتري له اليوم سوى 20 رأساً، وفق اللومان.
ويبدو أن أزمة الثروة الحيوانية في طريقها إلى مزيد من الاتساع في ظل عدم الاستقرار الاقتصادي ومحدودية الحلول المتوفرة سواء بما يخص توفير الأعلاف أو تهريب المواشي في أنحاء البلاد.