by Yazan el-Haj | Jan 22, 2021 | Culture - EN, Uncategorized
«صح النوم! خِلْصت الفضيحة.»
كان هذا الردَّ الساخرَ لصاحب المكتبة عام 2001 حين سألتُه عن نسخة من وليمة لأعشاب البحر. أذكر أنّي رددتُ بجملة صارخة اجتمعتْ فيها هرمونات سنّ السادسة عشرة مع بداية الطّبع الحاد الذي سيلازمني إلى اليوم: «على فكرة، عرفت حيدر حيدر قبل الضجّة!». لم يكن صاحب المكتبة ليفهم افتخاري الذي آنَسَني طوال العامين اللذين فصلا بين ضجّة إعادة نشر الرواية في مصر عام 1999 وبين أوّل صِدام شخصيّ حادّ حيال حيدر في مدينة دير الزور التي رسّختْ تلك الحادثةُ فيها إحساسي حينها بأنّها أضيق من عالمي. ربّما كان افتخارًا ساذجًا، ولكنْ ما أزعجني آنذاك التّعاملُ مع حيدر وكأنّه ولد فجأةً من الفضيحة، وكأنّه ما كان ليوجَد لولا تحريض من شخص أخرق لا يعرف القراءة. في واقع الحال، عرفتُ حيدر حيدر منذ عام 1997، حين قرأتُ جزءًا من سيرته في باب «مرفأ الذاكرة» في مجلّة العربي الكويتيّة، وأذكر أنّي سُحرتُ بكمّ ارتحالاته التي وسمَتْ حياته من حصين البحر إلى حلب إلى دمشق إلى بيروت إلى قبرص إلى الجزائر. ستسحرني تجربة مماثلة أخرى لاحقًا هي تجربة عبد الرحمن منيف، وحينها بدأتُ تلمُّس الفوارق بين التّجارب، وتلمُّس آلام الغُربة ومعنى العلاقة الشائكة التي تربط كلًّا منا بوطنه. ما الوطن في نهاية المطاف؟ أليس هو التّفاصيل الصغيرة التي تربط أيًا منّا بأرض ما، بمدينة ما، بنهر ما، بشارع ما، بشخص ما؟ لم أكن أعرف وليمة لأعشاب البحر حتّى في ذلك العام الذي شهد صِدامي الأول (الذي ستليه صِدامات كثيرة) حول جوهر الأدب وصلته الغامضة بالفضيحة. ولكنْ كنتُ قد قرأتُ حكايا النّورس المهاجر وربّما الومض. حكايا النّورس المهاجر حتمًا، إذْ أذكر الصّدمة التي صعقتني عند قراءة الفهد التي كانت إحدى قصص المجموعة وصارت تُطبَع لاحقًا منفردةً بوصفها نوڨيلا خارج نطاق المجموعة الأصليّة التي أدخلتْ اسم حيدر حيدر إلى مشهد الأدب السوريّ أواخر الستينيّات.
ما كنتُ أعرف من الأدب السوريّ آنذاك إلا تجارب مخيّبة مع أعمال متفرّقة لعبد السلام العجيلي وكوليت خوري وغادة السمّان، ولذا بدتْ الفهد ناتئة عن كلّ ما قرأت. هنا كاتبٌ يعجن اللغة على هواه ويعيد إنتاجها صافيةً جارحةً في آن. هنا كاتبٌ يدرك جوهر الكتابة المرتبطة ارتباطًا لا انفصام فيه مع الطبيعة والمرأة والبلاد والمنفى … واللغة. اللغة مرةً أخرى، لأنّها توجز كلّ ما سبق. هنا كاتبٌ محكومٌ بالمفارقات التي سيّجتْ حياته وأدبه، إذ لا يُقرأ لذاته بل لكونه أُدخِل قسرًا في هذا الجدال أو ذاك، كما حدث في الضجة المصريّة الشهيرة. لم تُقرأ الفهد، مثلًا، إلا بوصفها خلفيّةً غامضةً للفيلم الذي أخرجه نبيل المالح مع أنّه يكاد لا يشبه الرواية؛ كان هذا الفيلم أحد أبرز الأفلام التي أقلقتْ مراهقتنا حين تداولنا مشاهدته سرًا بحثًا عن عري جسد الممثّلة إغراء، فيما كانت الرواية في عالمٍ آخر يولد من جسدٍ آخر هو جسد الأرض والإنسان، جسد التمرّد الذي حُكم عليه هو أيضًا بقراءات لاحقة غبيّة انطلقت من خلفيّات طائفيّة في سنوات الخواء السوريّ. أما وليمة لأعشاب البحر فقُرئت (إنْ كانت قد قُرئت حقًا) بوصفها فضيحة وإسفافًا لا من جانب الجهلاء الذين ثاروا بلا وعي كالعادة، بل أيضًا من جانب مثقّفين مثل محمد حسنين هيكل ورجاء النقّاش ومحمد الرميحي، فيما هي في واقع الحال إحدى أجمل الروايات العربيّة. ملحمةُ ارتحالات وغربة لا تنتهي، آسَفُ لأنّي أجّلتُ قراءتها بالرّغم من (على الأرجح بسبب) الضّجيج الذي رافق إعادة نشرها. ظننتُ حينها أنّها شبه سيرة ذاتيّة لكاتبها الذي عرفتُ لمحات من حياته، ولكنّ تلاحُقَ القراءات غيَّر تفكيري. ليس مهمًا إنْ كانت سيرة ذاتيّة أم لا، بل المهم أنّها سيرة؛ سيرة بشر حاولوا أن يبقوا بشرًا في عالم يسحق كلّ شيء. أظنّ أنّ أعظم ما علّمتني إيّاه تلك الوليمة هي أنّ حياة أيّ شخص تستحق أن تُكتَب وأن تُخلَّد، وأنّ التفاصيل التي تجعل البشر بشرًا هي جوهر الفنّ. ما أزال أذكر المشهد الأخير حيث يركض مهدي جواد في شوارع عنّابة قبل أن يغطس في البحر، أو بالأحرى قبل أن «يقذف جسده إلى البحر» بحسب جملة حيدر الدّقيقة الموجعة؛ مشهد سكنَ ذاكرتي وسيبقى إذ سرقتُه في قصة قصيرة مزّقتُها لاحقًا كي أنسف ذلك التأثير، كما تسلّلت لغة حيدر حيدر إلى لغتي وستبقى، وكما لَطَمَني التّاريخان اللذان يُنهيان الرواية: 1974-1983، مع ثلاث مدن هي الجزائر وبيروت وقبرص. ثمّة مَنْ يقضي تسع سنوات في كتابة عمل واحد، وينقّله معه أينما حلَّ وكيفما ارتحل، كما لو كان حقيبة منفاه أو حقيبة ما تبقّى من بلاده التي ضاقت حتّى عن أن تظفر إحدى مدنها بأن تكون مسرحًا لكتابة تلك الملحمة المؤرِّقة. لولا حماقةُ صاحب المكتبة ذاك، كانت قراءتي للوليمة ستتأخّر على الأغلب، إذ اندفعتُ في اليوم التالي إلى المركز الثقافيّ واستعرتُ نسخةً منها ودخلتُ إلى فردوس الرواية الذي يلتحم بالجحيم في متاهةٍ مرعبة. يخطر لي الآن أنّ المفارقات التي حكمتْ على حيدر حيدر انتقلتْ إليّ أنا أيضًا كلعنةٍ لا براء منها، إذ تذكّرتُ أنّي لم أحتفظ بأيّة نسخة من أعماله عندي؛ كانت إما نسخًا ورقيّة مستعارة أو نسخًا إلكترونيّة. ويحيّرني دومًا أنّه يغيب حين أقلّب في ذاكرتي الأعمال الأهم في الأدب السوريّ، وكأنّي لا أعدّه سوريًا أو كأنّ غيابه الورقيّ حَكَمَ عليه دومًا بأن يبقى عندي مثل طيفٍ لا سبيل إلى إحكام قبضة الحواس عليه. طيف سكنني ولن يتركني حتّى لو نسيتُه؛ طيف التصق بالذّاكرة إلى حدّ الغفلة إذ باتَ جزءًا منّي بلا وعي منّي؛ بات جزءًا من قاعدتي التي لا أرتضي استثناءً لها: الكاتب هو اللغة، الكاتب هو الأسلوب. ولذا غرقتُ في لغة حيدر حدَّ النّسيان.
أظنّ أنّ حيدر حيدر كان السّبب الأكبر في دفعي إلى قراءة أدب السبعينيّات السوريّ. صحيحٌ أنّه طرقَ أبواب النّشر أواخر الستينيّات إلا أنّه أقرب إلى جيل السبعينيّات الذين غيّروا خارطة الأدب السوريّ سردًا وشعرًا ومسرحًا. لم يجتمع الكمّ والكيف بهذه الدّرجة من الألق إلا في السبعينيّات: نزيه أبو عفش وبندر عبد الحميد ورياض الصالح الحسين شعرًا، سعد الله ونّوس مسرحًا، هاني الراهب وحيدر حيدر سردًا، ممدوح عدوان كعادته مثل نحلة لا تكاد تستقر على زهرة حتّى تغادرها إلى أخرى، وإنْ كانت زهرته الكبرى هي المقالات. هل كانت تلك السّنوات شديدة الخصوبة بحيث أنبتت كلّ هذه الأشجار، أم إنّ تلك الأسماء هي التي كانت غمامًا لمطرٍ أحيا أرضًا شبه قاحلة بعد أن صمت الروّاد أو غادروا إلى المنافي؟ لا نعلم بالتّحديد، غير أنّنا نعرف حتمًا أنّها أغنى سنوات في تاريخ سوريا المعاصر في الثقافة والفن (كيف لنا أن ننسى لؤي كيّالي ونذير نبعة ويوسف عبدلكي ومصطفى الحلّاج وعمر أميرلاي؟) لأنّها استوعبت الجميع على اختلاف اتّجاهاتهم. فلنبق في القصة التي كانت نقطة انطلاق حيدر حيدر. كانت الواقعيّة في القصّة قد حزمتْ آخر أمتعتها مع أعمال سعيد حورانيّة، لتمهّد لظهور عاصفة نصوص زكريا تامر التي جرفت كلّ ما كان قبلها بلا رحمة؛ نصوص لا تشبه القصة ولا تشبه القصيدة، ولكنّها تشبه تلك البلاد في فوضاها. غير أنّ حيدر لم يركن لوصفة تامر الأثيرة بالرغم من التّشابه الظاهريّ في دفقة الشّعر في أعمالهما، بل شقَّ طريقًا منعزلةً تأثّرت بالآداب الغربيّة وصانت بريق لغة التّراث ولكن بأدوات جديدة؛ طريقًا تحفر في الشّعر بإزميل الحكاية، أو تغرس قصائد في تربة سردٍ مغوٍ كمصيدة. كانت قصصه متفرّدةً لأنّها تبدو وكأنّها تضيق بحدودها، إذ بدت أقرب إلى سكتشات لمشاريع أكبر بدأها بـ الفهد، ومسّها مسًا طفيفًا في الومض والفيضان، ثمّ بدا وكأنّه وجد ضالّته أخيرًا في الوعول والتموّجات: قصص طويلة أقرب إلى النوڨيلا واصلَ كتابتها حتّى بعد نشر روايته الأولى الزّمن الموحش التي شرّح فيها دمشق بقسوةٍ جارحة، ليكتشف أنّ مبضع اللغة لن يهدأ إلا بتشريح باقي البلاد، كلّ البلاد، فكانت وليمة لأعشاب البحر، الوليمة الكبرى التي شغلته قرابة عقد في كتابتها واستنزفته قرابة عقد كامل من الصمت بعدها، قبل أن يعود بمفاجأة جميلة حملت عنوانًا غامضًا هو مرايا النّار، وعنوانًا فرعيًا أكثر غموضًا: «فصل الختام». ختام ماذا؟ لعلّها ختام فصول «نشيد الموت» الأربعة التي بدأ غنائها في الوليمة وبقيت أصداؤها عصيّة على التّلاشي. ولكنّها كانت في الوقت ذاته ختامًا حزينًا لأعمال حيدر في ذاتها. حين ثارت ضجّة وليمة لأعشاب البحر كانت تجربة حيدر حيدر قد أمست وراء ظهره حقيقةً ومجازًا. كانت أهم أعماله قد كُتبت ونُشرت منذ سنوات. كانت مرايا النّار أشبه بذروة أعمال حيدر، لا بمعنى أنّها الأفضل بل بمعنى أنّها ختام طريق الصعود، إذ بدأ ألق أعماله يخفت شيئًا فشيئًا حين التهمتُ أعماله كلّها عامي 2001 و2002. لعلّ بوسعنا استثناء مجموعة غسق الآلهة، وربّما كتاب مراثي الأيام، ولكنّهما – على جمالهما – عجزا عن منافسة أعماله الأقدم.
أنتبه الآن إلى عنوان هذا الكتاب: مراثي الأيام الذي صدر عام 2001، وكذا أنتبه إلى عنوانَيْ مجموعتين لنزيه أبو عفش صدرا في تلك السنوات: الله يبكي، وأهل التابوت. وأبدأ استعادة ذكريات تلك السنوات التي كنت فيها ثملًا باكتشافاتي المتلاحقة في قراءة تجارب جيل السبعينيّات، وغافلًا عن التقاط الإشارات الخفيّة التي التقطها أدباء السبعينيّات أنفسهم، ومتناسيًا التحوّلات الكبرى في سوريا آنذاك، مع انتهاء عهد طويل وبداية عهد آخر كان يومئ بسراب التّفاؤل. بدت سنوات العقد الأول من الألفيّة مرشَّحةً بقوّة للمقارنة مع سوريا السبعينيّات التي كنّا نظنّ أنّها كانت فردوسًا كي تضمّ كلّ تلك الغابات الوارفة، مثلما كنّا نظنّ أنّ ألق الأدب السوريّ سيعود في ظلّ الانفتاح الموعود. غير أنّنا كنّا سذّجًا وبقينا سذّجًا لسنوات. كانت الإشارات الخافتة آنذاك تومئ إلى أنّنا سنشهد أيامًا مختلفة، وهذا ما بدا للمراقبين الخارجيّين أيضًا: لا موت ولا معتقلات ولا منافي؛ سوريا «الانفتاح» حيث الصحافة الجديدة وشركات الموبايل والسيّارات التي ستصبح في متناول الجميع؛ سوريا إغلاق سجن المزّة وعودة المنفيّين وتكريم الأدباء الشيوخ بأوسمة الاستحقاق؛ سوريا الجوائز التي تَعِدُ الأدباء الشّباب بدُنيا لا تحزّبات فيها ولا رقابة ولا تحجّر العهد البائد. على أنّ هذه الصورة تُخفي صورةً أخرى أبلغ وراءها. كانت تلك السنوات نفسها هي التي شهدت الموت السريريّ لجيل السبعينيّات: أُقيل أنطون مقدسي من منصبه في وزارة الثقافة وهو كان عرّاب سنوات السبعينيّات؛ مات سعد الله ونّوس وهاني الراهب وسيلحق بهما ممدوح عدوان بعد بضع سنوات؛ تفرّقَ في المنافي من لم يمت بعد من الرسّامين؛ عاد زكريا تامر إلى منفاه بعد أن خُدع في «الوطن» وخلد إلى الصمت الذي كان سعيد حورانيّة قد خلد إليه منذ الستينيّات حتّى رحيله؛ هجرَ بندر عبد الحميد الشّعر، ولجأ حيدر حيدر إلى قريته كملاذ أخير في الشيخوخة. ولم يكن حظّ الأدباء الذين جاؤوا في الثمانينيّات والتّسعينيّات أفضل من سابقيهم: عام 1998، أُهدِر دم ممدوح عزّام إثر نشر روايته قصر المطر وعايش مأساةً مماثلةً لمأساة حيدر؛ تواصلَ تهميش الأدباء «المغضوب عليهم»: ركنَ إبراهيم صموئيل إلى الصمت بعد عام 2002، وزِيْد في تجاهل فوّاز حدّاد. كانت تلك سنوات اليد الحديديّة المغلّفة بقفّاز مخمل «الإصلاح والتّطوير والتّحديث». وأنتبه الآن إلى أنّ توازي هاتين المرحلتين وتماثلهما ينسحب أيضًا على عناوين أعمال السبعينيّات: الزمن الموحش لحيدر حيدر، دمشق الحرائق لزكريا تامر، الفرح ليس مهنتي لمحمّد الماغوط، حبر الإعدام لسنيّة صالح، أيّها الزمان الضيّق أيّتها الأرض الواسعة لنزيه أبو عفش، خراب الدورة الدمويّة لرياض الصالح الحسين، الدّماء تدقّ النوافذ وأمّي تطارد قاتلها لممدوح عدوان.
لم تكن فردوس السبعينيّات فردوسًا إذن. ولم تكن سنوات العقد الأول من الألفيّة الثالثة فردوسًا أيضًا. كانت السنوات الأولى سنوات السّراب البعيد الذي يحسبه الظمآن ماءً، وكانت السّنوات الثانية سنوات الغفلة التي تناسى فيها الظمآن السّراب والماء وعضَّ على عطشه بانتظار ماءٍ قد يأتي وقد لا يأتي. لعلّه الجحيم، أو المطهر ربّما؛ لا فرق! كان جيل السبعينيّات يحذّرون من الفجائع التي كانوا يستشعرون حدوثها الآن وهنا، وبعد عقود. لم أنتبه إلى دفق الفجيعة الذي ينزّ من كلّ حرفٍ من حروف مرايا النّار التي عرفتُ منذ البداية أنّها ستكون روايتي المفضّلة من روايات حيدر. ربّما سحرتني الملانخوليا التي تؤطّر الرواية كلّها، كما تفعل عادةً في المراهقة وبداية الصّبا. ثمّة عالمٌ قاسٍ مؤلم في ثنايا الملحمة الصغرى التي لا تُسلِّم مفاتيحها كاملةً إلا حين تُقرأ بالتوازي مع الملحمة الكبرى، ولكنّ إغواء اللغة ورهافة الإحساس حجبا قسوة العالم للوهلة الأولى، ليستشعر القارئ، من ثمّ، جراحه الخفيّة بعد أن يظنّ أنّه انتهى من القراءة. كانت الزّمن الموحش المبضعَ الذي شقَّ به حيدر أجسادنا كلّنا، وكانت وليمة لأعشاب البحر الإصبع الذي نكأ تلك الجراح، ثمّ أتت مرايا النّار لتصبح الملحَ على تلك الجراح المفتوحة. عشرون عامًا تقريبًا تفصل بين الزمن الموحش وبين مرايا النّار، وعشرون عامًا تقريبًا تفصل بين قراءتي الأولى لـ مرايا النّار وقراءتي الرابعة أو الخامسة لها قبل أيام. الطيف هو الطيف، والسراب هو السراب، والظمآن هو الظمآن، ولذا واصلَ حيدر تحذيراته المتلاحقة من الفجائع التي ستأتي لا محالة، من اللوياثان – لو استخدمنا المصطلح التوراتيّ الأثير لدى حيدر – الذي سيلتهم كلّ شيء، سيلتهم الطّيف والسراب والماء والظمآن. لعلّ جمال أعمال حيدر يكمن في أنّه يحنو على جميع شخصيّاته بالرغم من أنّه لا يخفي انحيازاته. الفجيعة طوفان يجرف الجميع، ولذا لا فرق بينك وبين غيرك، فالكلّ ضحايا، وإنْ لم يدركوا ذلك للوهلة الأولى. «الذاكرة وحدها المنجى من هلاك محقّق»، كما يقول في الزمن الموحش، ولكن هل هي حقًا؟ أليست الذاكرة هلاكًا هي الأخرى؟ أليس هذا ما يدركه مهدي ومهيار وآسيا وفلّة في وليمة لأعشاب البحر؟ أليس هذا ما ندركه كلّنا حين نتذكّر ما لا نودّ تذكّره؟ أليس هذا بالذات ما يتوق ناجي في مرايا النّار كي يهرب منه؟ أليس هذا ما أسعى إليه الآن كي أُعيد جمال لحظات سنة المراهقة تلك بعيدًا من تداعيات السنوات العشرين التي أثقلت الذاكرة وأَدْمَتْها؟ ولكنْ لعلّ الذاكرة منجى حقًا حين ننتقي ما نودّ تذكّره: خطّ الثلث في عنوان وليمة لأعشاب البحر بغلافها الأبيض في طبعة دار «ورد»؛ غلاف مرايا النّار الأزرق، وغلاف غسق الآلهة الأخضر في طبعة دار «بترا»؛ غبار صفحات الزمن الموحش التي لم يَسْتَعِرها أحد منذ شهور؛ جلد المفكّرة الحمراء التي كنتُ أدوّن فيها ما أحبّ من اقتباسات. لا بدّ أنّي دوّنتُ الاقتباس الذي على غلاف الوليمة: «وكانت بلادًا جميلة». لا أعرف الآن ذلك الزمن الذي كانت فيه البلاد جميلة، ولستُ متأكّدًا من وجوده أصلًا؛ غير أنّي كنتُ متأكّدًا من وجوده قبل عشرين عامًا، كنتُ متأكّدًا من أنّ هذه البلاد القاحلة كانت جميلةً يومًا، إذ لا بدّ من وجود ذلك الزمن وإلا لن تكون البلاد جديرةً إلا بالحرائق.
كنتَ تريد الكتابة عن مرايا النّار. ما الذي فعلته يا أحمق!
*تنشر هذه المادة بالتعاون مع جدلية.
by Ibrahim Hamidi | Dec 26, 2020 | News - EN, Uncategorized
رسالة «القائمة القاسية» في العقوبات الأميركية الأخيرة والجولة التي قام بها المبعوث الأميركي جويل روبرن إلى عدد من دول منطقة الشرق الأوسط، هي أن «تغيير الإدارة الأميركية لا يعني تغيير السياسة، ولا خروج دمشق من صندوق العزلة»، وأنه حتى «لو حصلت تغييرات تكتيكية، فلن تحصل تغييرات استراتيجية في الاتجاهات والشروط المتوقعة في سوريا».
ألحقت بـ«رسالة تحذيرية»، مفادها «عدم اتخاذ خطوات تضعف قدرة واشنطن على الاستمرار في حملة الضغط» على دمشق، في وقت اختار فريق «الملف السوري» في إدارة الرئيس دونالد ترمب الحزمة الأخيرة في العقوبات لـ«يغلق أبواب مفاوضات المسار الثاني بين جهات أميركية وسوريا»، ويعرقل احتمالات «فتح أقنية الحوار» ويزيد من الضغوط الاقتصادية، بعد معاقبة «المصرف المركزي السوري»، حيث بدأت تأثيرات ذلك تحصل مباشرة ببدء مصارف خاصة خارجية بالانسحاب من دمشق.
– تنسيق مع لندن
كانت الحكومة الأميركية أدرجت كلاً من أسماء الأخرس زوجة الرئيس بشار الأسد، ووالدها وشقيقيها الذين يملكون الجنسية البريطانية وشركات تابعة لهم، إضافة إلى شخصيات أمنية واقتصادية وتنفيذية سورية، بينهم لينا كناية، التي تعمل في القصر الرئاسي، وزوجها محمد همام مسوتي عضو مجلس الشعب (البرلمان) السوري، و«المصرف المركزي السوري». بذلك، ارتفع إلى 114 عدد الأفراد والكيانات المدرجة على قائمة العقوبات منذ بدء تنفيذ «قانون قيصر» في منتصف يونيو (حزيران) الماضي. وهناك معلومات عن قوائم جديدة ستصدر قبل خروج الرئيس ترمب من البيت الأبيض في 20 الشهر المقبل.
وقال روبرن إن الحزمة الأخيرة صدرت مع الذكرى السنوية لتوقيع ترمب على «قانون قيصر». وزاد: «الولايات المتحدة لا تزال ملتزمة بتنفيذ حملة متواصلة من الضغط الاقتصادي والسياسي لمنع النظام وأكبر مؤيدين له من حشد الموارد لشحذ حربهم ضد الشعب السوري. وتحقيقاً لهذه الغاية، فرضنا عقوبات على 18 فرداً وكياناً إضافياً، بما في ذلك (مصرف سوريا المركزي). إن هؤلاء الأفراد والشركات يعرقلون جهود التوصل إلى حل سياسي وسلمي للنزاع في سوريا، بحسب قرار مجلس الأمن (2254)».
بالنسبة إلى واشنطن، هناك ثلاثة مضامين جديدة في القائمة الأخيرة، وهي «الأقسى»: الأولى «استمرار جهودنا لعرقلة جهود عائلة الأخرس وأسماء وفريقها بالتحول إلى لاعب أساسي في دمشق واستخدام شبكات النظام والقيام بأعمال خارج سوريا». الثانية «منع سوريين أو غير سوريين لديهم جنسيات أخرى من التعامل مع النظام. العائلة مقيمة في بريطانيا ولدينا جنسية بريطانية، لكن لم يعد ممكناً تجاهل دورها في النظام أكثر من كونهم بريطانيين».
هذه النقطة تطلبت مشاورات أميركية – بريطانية. وقال روبرن: «لا شك في أننا قمنا بتنسيق هذا الإجراء مع نظرائنا في المملكة المتحدة الذين هم شركاء مقربون جداً لنا في الملف السوري. لقد قمنا بجميع هذه الأمور معهم، ولا يمكن أن نفاجئهم بشأن موضوع مماثل، لأننا في شراكة استراتيجية وثيقة جداً مع المملكة المتحدة بشأن سوريا». وليس معلوماً ما إذا كانت الحكومة البريطانية أو الاتحاد الأوروبي سيقومان بالخطوات نفسها وإدراجهم في عقوبات.
«المضمون الثالث» في القائمة، حسب تفكير «الفريق السوري» في واشنطن، بموجب «قانون قيصر» لا يهم مكان وجود الشخص ولا جنسيته «حيث إن العقوبات ستطاله. بل إن أي شخص يقوم بالتعامل مع الأشخاص المعاقبين، سيكون عرضة لعقوبات جديدة»، إضافة إلى أنه مجرد إدراجهم على اللائحة، فإن «جميع حساباتهم المصرفية بالدولار ستُجمد حيثما كانت. كما أن المصارف الأجنبية لن تتعامل معهم بأي شكل وبأي عملة».
– إغلاق «الباب الثاني»
سياسياً، بعض الشخصيات المدرجين في القائمة الأخيرة كانت تلعب دوراً في مفاوضات «المسار الثاني» أو «الباب الثاني» مع شخصيات وجهات أميركية، وعقدت لقاءات غير معلنة في لندن تناول ملف العقوبات الغربية على دمشق وأموراً أخرى، لكن وضعهم على القائمة «يجعل هذا غير ممكن قانونياً في المستقبل» ذلك أن رسالة فريق «الملف السوري» هنا «لا يمكن أن تكون وسيطاً في لندن وعاصمة أوروبية أخرى وشريكاً في دمشق. قانون قيصر يمنع قانونياً التعامل مع النظام».
يكتسب هذا العنصر بُعداً إضافياً، ذلك أن بعض الشخصيات الأميركية التي لعبت دوراً في مفاوضات «المسار الثاني» مع دمشق وعقدت لقاءات في لندن، مرشحة للعب دور في الملف السوري في إدارة الرئيس جو بايدن، ما يعني أن قائمة العقوبات الأخيرة «أغلقت هذا الباب إلى حد كبير».
وكان روبرن قام بعد تسلمه منصب المبعوث الأميركي للملف السوري خلفاً للسفير جيمس جيفري قبل أيام، بجولة في المنطقة شملت تركيا ومصر وإسرائيل والعراق وشمال شرقي سوريا ودولاً أخرى. الهدف من تلك الجولة كان «تذكير – تحذير» الدول المعنية بالأهداف الأميركية في سوريا، وهي: «ضمان الهزيمة المستمرة لـ«داعش»، الضغط على إيران للانسحاب من سوريا، الضغط على النظام لتنفيذ القرار (2254)»، وأن هذه الأهداف ليست أهداف وزير الخارجية مايك بومبيو أو جيفري أو روبرن «بل هي أهداف أميركا. لذلك فإن تغيير الأشخاص لن يغير الأهداف. وتغيير الإدارة لن يغير السياسة، ما يعني توقع استمرار أكثر من التغيير في السياسة الأميركية نحو سوريا».
عليه، بعد تسلم إدارة بايدن وتعيين الفريق الخاص بسوريا «قد تحصل تغييرات عملياتية لكن يجب عدم توقع تغييرات استراتيجية»، عما كان عليه الوضع زمن إدارة ترمب، وأنه «على دول المنطقة ألا تقوم بتغييرات استراتيجية تضعف قدرة واشنطن على تحقيق أهدافها الثلاثة: (داعش)، و(إيران)، و(التسوية)، أو أن تخفف أدوات الضغط» ما يعني «إبقاء دمشق في صندوق العزلة السياسية والدبلوماسية وزيادة الضغوط الاقتصادية».
بين «الرسائل الأميركية»، ما كان واضحاً تماماً، إلى حد «التحذير»، مثل: «لا تحاولوا إضعاف قدرة واشنطن للضغط على النظام»، قابلتها أجوبة كانت «مرضية للمبعوثين»، مفادها: «نحن نعرف أن تغير الإدارة لا يعني تغيير عمق السياسة»… بانتظار التعرف إلى السياسة الحقيقية لإدارة بايدن و«فريقها السوري»!
by هيفاء بيطار | Oct 28, 2020 | Cost of War - EN, Reports - EN, Uncategorized
بسبب إرتفاع نسبة انتحار الشباب في اللاذقية قامت إحدى أهم الجمعيات الخيرية في اللاذقية وهي أسرة الإخاء بإقامة دورات للاهتمام بجيل الشباب من خلال مشروع الدعم النفسي للشباب كي لا ينتحروا. أتكلم عن اللاذقية لأنني للأسف لا أعرف الأوضاع الدقيقة في مدن سورية أخرى وإن كان ثمة جمعيات أو مؤسسات في مدن سورية تقيم دورات وتنشئ عيادات نفسية من أجل جيل الشباب في سوريا لتقيهم من الانتحار، لكن ظاهرة انتحار الشباب في سوريا كلها أصبحت ظاهرة خطيرة، فقد سمعت مؤخراً عن انتحار طالب في كلية طب الأسنان في اللاذقية. قد يستغرب البعض ما الذي يدفع طالباً جامعياً يُفترض أنه يضمن مستقبله إلى الانتحار! أي يأس يعيشه شباب سوريا وللأسف الإعلام السوري لا يُشير إلى تلك الظاهرة!
ورغم احترامي وتقديري للجهود الكبيرة التي تقوم بها جمعية أسرة الإخاء وغيرها من الجمعيات الخيرية في اللاذقية فإنني أتساءل حقاً إن كانت هناك فائدة فعلية في هذه الدورات لأن أساس العلاج النفسي لأيه مشكلة هو علاج أسبابها أي الظروف التي دفعت إليها فالموظف في سوريا الذي يتقاضى راتباً بالكاد يكفي ثمن خبز لأطفاله ويُعاني من القهر والهدر الوجودي إذ يضطر للانتظار ساعات طويلة وأحيانأ عدة أيام كي يحصل على بعض الأرز والسكر والخبز والبنزين. والأهم أن معظم السوريين لم يعودوا يحلمون ببارقة أمل في حياتهم، وبأن الإنفراج لظروفهم المأساوية ليس قريباً أو غير موجود، هذا الموظف إذا هوى إلى قاع اليأس بسبب راتب الاحتقار والفقر والذل وأصابه اكتئاب قد ينتحر، وأظن الدعم الفعلي له هو بإعطائه راتباً يحفظ كرامته وكرامة أطفال فيؤمن لهم الأكل دون أن يضطر للوقوف في طوابير الانتظار، ويؤمن لهم التعليم والطبابة وحرية التعبير، وهذا لا تستطيع مجرد برامج حوارية تأمينه، سيكون دعماً نفسياً كأنه مبني على أرض من الرمال سرعان ما سيهوى المكتئب ومن خلقت له ظروف سوريا المُروعة من شخصية اكتئابية أو إنتحارية ، ولا بد من الإشارة إلى أن معظم الأدوية النفسية ومضادات القلق مقطوعة وغير متوفرة في سوريا وإذا توفرت فهي سيئة باعتراف الأطباء النفسانيين أنفسهم. أشهد على معيشة كثير من شبان وشابات في اللاذقية، ومدى معاناتهم ويأسهم ، ومعظمهم يسعى للهجرة إن أمكنه.
أحد الطلاب الجامعيين وكان ذكياً جداً وجامعياً أصابه إكتئاب حاد فلم يعد يطيق دراسته وأدمن على المخدرات مع شلة من رفاقه الجامعيين أيضاً ولم تكن أحوالهم المادية سيئة إطلاقاً لكنهم كانوا يائسين ومُحبطين. وقال لي أحدهم وعمره 22 عاماً بأن خمسة من رفاقه ماتوا وكانوا مجندين في الجيش السوري، وبأنه يشعر بأن الموت هو ما ينتظره في سوريا ولم يعد بمقدوره تحمل آلام روحه وانعدام أمله بمستقبل وعمل يؤمن له حياة كريمة. هذا حال معظم الشباب السوريين، يجدون أنفسهم في مأزق وجودي يُفضي بهم رغماً عنهم إلى اليأس فيسقطون في هوة الإدمان هرباً من واقعهم، وللأسف انتهى هؤلاء الشبان إلى السجن إذ انكشف أمرهم كمدمنين على المخدرات ولم تهتم أية جهة رسمية بحالتهم النفسية التي قادتهم إلى الإدمان ولا توجد أساساً مستشفيات لعلاج الإدمان في سوريا، وبدل أن يُعالجوا نفسياً ويتم علاجهم من الإدمان في مستشفيات تخصصية يُلقى بهم في السجن ويتعرضون لتعذيب جسدي كبير واحتقار وتنمر من قبل السجان ومن قبل المجتمع أيضاً إذ أن معظم الناس ينظرون باحتقار ودونية للمدمن وللمنتحر.
وثمة شبان سوريون كثر عاطلون عن العمل أو ينتظرون فرصة عمل ولا يجدون وشهاداتهم الجامعية مُعلقة على الحائط. إحدى الشابات الجامعيات ظلت سنوات تُقدم على مسابقات للتوظيف، وتقوم الدولة السورية بتلك المسابقات وقدمت العديد من المسابقات ونجحت بها لكن الجهات الرسمية كانت تقول لها: حالياً لا توجد وظائف، وفي إحدى المرات قالوا لها أفضلية التوظيف للذكور لأنهم مسؤولون عن إعالة أسرة، على افتراض أن الراتب في سوريا يُعيل أسرة! وأصبحت المفارقات الاجتماعية الكبيرة في المجتمع السوري من مصاصي الدماء (أثرياء الحرب) الذين يتباهون بثروتهم وثرائهم ورغد عيشهم، وبين عامة الشعب المسحوق من الفقر والذل، تدفع الكثير من الشباب لليأس، وأحياناً للانتحار، فأن يقوم أحد الفاسدين واللصوص في اللاذقية بإقامة عيد ميلاد لزوجته في أحد المطاعم يُكلف خمسة ملايين ليرة سورية، ثم بعد بضعة أيام يحتفل بعيد ميلاد ابنته المراهقة ويدفع أيضاً خمسة ملايين على مرأى من شعب يقف في طوابير الذل ساعات وأياماً ويوماً بعد يوم وسنة بعد سنة. هذه المفارقات الاجتماعية الوقحة والتي تزيد من شعور المواطن السوري بالقهر واليأس والإحباط خاصة أن الكل يعلم أن هؤلاء الأثرياء فاسدون وأنهم ناهبو المال العام وخارجون عن المساءلة والمحاسبة.
المروع في وضع اللاذقية وارتفاع نسبة الشباب المنتحرين فيها هو مدى التشوه المكاني والنفسي الذي تعرضت له المدينة، فجريمة تبليط البحر وتحويل أجمل المقاهي البحرية التي كانت رئة أهالي اللاذقية وكل سكان سوريا إلى بحر من الإسمنت تركت ندوباً في الروح لا تندمل. أحد الأصدقاء ويسكن في دمشق قال لي حين كنا طلاباً في المدرسة كان والده يعدهم أن يقضوا إجازة الصيف في اللاذقية وان يستمتعوا بمقاهيها البحرية وبحرها. وتحتفظ ذاكرة سكان اللاذقية بذكريات مريرة لشبيحتها ويحفظون كل الإنتهاكات والجرائم التي مارسها شبان ورجال مدعومون وخارجون عن أيه محاسبة قانونية. هؤلاء الفاسدون اللصوص كانوا يستعرضون نفوذهم أمام شعب اللاذقية فأحدهم كان سادياً يأمر الرجال في مقاهي الرصيف (ومعظمهم من الكهول) أن ينبطحوا أرضاً فيذعنوا وينفجر ضاحكاً ويطلق عدة رصاصات من مسدسه في الفراغ، وقد تسبب بهروب عدة عائلات من اللاذقية لأنه كان يريد بنات تلك العائلات عشيقات له، وكان يقتحم بيوت تلك العائلات ليلاً ويطلب لقاء الشابة التي يريدها عشيقة. نجحت تلك العائلات في الهرب خارج سوريا لأنهم يعلمون كما يعلم كل الشعب السوري أن هؤلاء الفاسدين المدعومين لن يُحاسبوا، وأنهم يرتكبون جرائم قتل ويتمكنون أن يهربوا من القضاء ويجدون من يحمل الجريمة التي ارتكبوها ويدخل السجن بدلاً عنهم.
وقد استوقفني كثيراً خلال السنوات التسع من الجحيم السوري هو نزوح الكثير من الحلبيين إلى اللاذقية هروباً من جحيم حلب، وكنت ألتقي أصدقائي الرائعين من مدينة حلب الشهباء في اللاذقية وكانوا جميعاً مصدومين من طريقة العيش بشكل عام في اللاذقية ومعاينتهم لممارسات شبيحتها وسماعهم من سكان اللاذقية قصصاً تذهلهم عن ممارسات الشبيحة وكان أصدقائي من حلب الشهباء يقولون لي: حلب لم تكن هكذا، لم تشهد انتعاش فئة من الفاسدين والمهربين والمجرمين (الشبيحة) والذين يبقون دون محاسبة يظل لحلب كرامتها وألقها وعزة نفسها رغم أن الفساد كان متغلغلاً في سوريا كلها. لكن مسرحيات إذلال الناس التي كانت تُمارس في اللاذقية لم تعرفها مدينة حلب، هذا الانطباع ظل في ذاكرتي، وجعلني أتذكر ما إعتقدت أنني نسيته.
منذ ربع قرن كانت ابنتي طفلة صغيرة واصطحبتها إلى مقهى العصافيري في اللاذقية (الذي كان أجمل مقهى بحري قبل جريمة تبليط البحر) لحضور حفل مع بابا نويل، كان الأطفال كلهم ينتظرون بابا نويل ليوزع لهم الهدايا من كيسه الكبير، وفعلاً وصل بابا نويل في نهاية الحفل بزيه الأحمر وبدأ بتوزيع الهدايا على الأطفال الذين كانوا يزقزقون فرحاً، وبعد أن انتهى من توزيع الهدايا نزع قناع بابا نويل وأظهر وجهه الحقيقي للناس، وكان أحد الشبان المدعومين الذين يمارسون الانتهاكات بحق سكان المدينة علناً، وصدم الأطفال وذبل الفرح في وجوههم إذ لم يسبق لهم أن تخيلوا بابا نويل يكشف عن وجهه لتطير فرحة الحلم والفرح، هذا يحدث في اللاذقية تحديداً.
ولم تعد اللاذقية للأسف عروس الساحل الجميلة فقد انتهك جمالها بالمباني العملاقة في شوارع ضيقة وغمرت القمامة أزقة وشوارع كثيرة فيها وصار منظر طوابير الناس بانتظار رغيف الخبز في كل مكان. ويشعر من يمشي في اللاذقية كم صار البحر بعيداً وكيف أنها تتصحر بسبب التشويه العمراني. ولم يعد الحنين إلى اللاذقية كما يقول جميع من تركها سوى حنين ذاكرة إلى أماكن لم تعد موجودة إلا في الذاكرة، ولم يهتم أحد للحفاظ على اللاذقية القديمة وقد هدمت الكثير من بيوتها الأثرية وشيدوا بدلاً منها أبنية عملاقة. الانتهاك الذي تعرضت له اللاذقية روع ساكنيها وخاصة شبابها الذين مرمرهم القهر والفقر والمفارقات الأجتماعية وقادتهم كل تلك الظروف إلى اليأس والإحباط والانتحار. أمام هذه المعطيات أتمنى أن تنجح الجمعيات الخيرية في اللاذقية في مهمتها وبرامجها للاهتمام بالشباب في اللاذقية ودعمهم نفسياً كي لا ينتحروا.
by Salon Syria Reports | Oct 18, 2020 | News - EN, Reports - EN, Uncategorized
يطغى لون الرماد على كامل الجرود الجبلية المحيطة بالقرداحة جنوب اللاذقية بعد أسبوع من سيطرة فرق الإطفاء على أسوأ موجة حرائق تطال الساحل السوري منذ عقود. يقف عدد من القرويين أمام منازلهم المتواضعة على جرف صغير في بلدة بسوت التابعة لمدينة القرداحة. ينظرون بحسرة إلى رماد بساتين الزيتون ومئات الدونمات من أشجار الصنوبر والسرو وقد أتت النيران عليها. يُملي الموجودون، في وجود مختار القرية، على موظفين حكوميين خسائرهم بالتفاصيل: هنا بستان زيتون مساحته 6 دونمات وإلى جواره بستان أصغر. لا يدقق الموظفون كثيراً في تلك التفاصيل لتعذر معرفة ما كان فيها أصلاً وقد تحولت رماداً. يكتبون ما يسمعونه. وحدهم المزارعون يأملون بأن تجلب هذه المعلومات أي دعم مالي أو إغاثي، بعدما تحولت «نكبة الحرائق» إلى أول اهتمامات السوريين.
لا يُخفي القرويون فجيعتهم من خسارة مصدر رزقهم الوحيد. يقول غدير، وقد عاد من دمشق إلى قريته للمشاركة في إطفاء النيران إنها «فاجعة حقيقية. أنا موظف استدنت ثمن نقلي إلى ضيعتي للمشاركة في إطفاء النيران. خسرنا بستاناً كاملاً للزيتون. كل الناس في هذه الضيعة نُكبوا بالحريق».
وقدرت حصيلة شبه نهائية لمديرية زراعة اللاذقية حجم الأضرار بنحو 7190 هكتاراً ضمّت 1.3 مليون شجرة مثمرة احترقت بالكامل ومنها 1.1 مليون شجرة زيتون و200 ألف شجرة حمضيات و3 آلاف شجرة تفاح و44 ألف شجرة متنوعة…
وبدأت المعونات الأهلية بالوصول إلى قرى القرداحة. جمعيات أهلية نظمت بالتعاون مع وزارة الشؤون الاجتماعية شاحنات لنقل مواد غذائية مثل السكر والأرز، وتخصيص مبالغ مالية لأهالي المناطق المتضررة مباشرة من النيران، فيما تعهدت الحكومة بتقديم 1.53 مليار ليرة لنحو 150 قرية وبلدة متضررة من الحرائق في اللاذقية، أي ما يعادل 10 ملايين ليرة (4 آلاف دولار أميركي) لكل قرية. عليه، بدت تلك المعونات معنوية أكثر منها تعويضاً عن الخسائر. في قريتي بلوران وأم الطيور، شمال اللاذقية، أتت النيران على مساحات واسعة من الأراضي. يعيش كثير من الفلاحين صدمة خسارة كل شيء يمتلكونه. ولا شك أن وجهة مصايف السوريين التقليدية في تلك المناطق تحولت سواداً جراء النيران. يقول محمود، العامل في أحد المطاعم الشعبية: «كل الناس خسرت في هذه المنطقة. عشرات آلاف الأشجار احترقت خلال يومين فقط. بذلنا جهداً كبيراً بما نملك من إمكانيات من جرارات ومعاول وفؤوس دون جدوى». ويضيف: «قضت النيران على أشجار عمرها 20 و30 سنة خصوصاً من الزيتون والحمضيات». ولا يعوّل الشاب، ككثيرين غيره، على الوعود بالتعويض. يقول: «هذه مبالغ لا تعمل شيئاً. خسارة موسم واحد تتجاوز ما ستحصل عليه كل عائلة من الدعم المنتظر. المهم أن تعود هذه الحقول إلى الاخضرار وأشك أن يتم ذلك قبل سنوات». وشاركت أكثر من مائة سيارة إطفاء وآلية ثقيلة ومروحيات للجيش السوري في محاولة السيطرة على الحرائق التي اندلعت يوم الجمعة 9 أكتوبر (تشرين الأول) الجاري في 65 موقعاً تضاف إلى 30 موقعاً آخر، ما شتَّت جهود فرق الإطفاء وأخّر من السيطرة على النيران.
يضاف إلى الأجواء المتشائمة في شوارع القرى المقفرة، راكبو الدراجات النارية في ظل أزمة خانقة بالمشتقات النفطية. طوابير تكاد لا تنتهي تنتظر دورها للحصول على 40 لتر بنزين. هذا قد يفسر غياب حركة السيارات على تلك الطرق.
مئات الأعمدة وكيلومترات من أسلاك الكهرباء احترقت وقطعت معها التيار الكهربائي قليل الحضور أساساً خلال سنوات الحرب، وكذلك مياه الشرب. معظم القرويين يشكون العطش في منطقة يصل معدل هطول الأمطار سنوياً فيها إلى 1.2 ألف ملم. نقص المياه صعّب عمليات الإطفاء. يقول محمود: «كنا نقوم بالإطفاء عبر أغصان الشجر لأنه ببساطة لا توجد مياه لدينا للاستخدام الشخصي فكيف لإطفاء النيران!».
*نشرت نسخة من هذا التقرير في الشرق الأوسط هنا.
by الحسناء عدرا | Oct 18, 2020 | Cost of War - EN, Reports - EN, Uncategorized
“بما أنو أزمة البنزين رجعت، فلازم بطريقك ترجع”، بهذا المنشور المختصر أعاد مجموعة من الشباب السوريين إحياء مبادرة “بطريقك” كحل متواضع لعله يقف في وجه أزمة البنزين العالقة في ظل انعدام أفق حلها حتى إشعار آخر، مع الإشارة إلى أن المبادرة ليست بجديدة، بل انطلقت في العام الماضي للتخفيف من تداعيات فقدان مادة البنزين التي تكررت مجدداً.
تقوم فكرة المبادرة على مبدأ المساعدة والمنفعة المشتركة، بعيداً عن الأنانية وتوظيف وسائل التواصل الاجتماعي في خدمة السوريين. يتحدث مؤسس الحملة جميل قزلو قائلاً: “يقوم كل فرد ممن يمتلكون سيارة خاصة بنشر إعلان على المجموعة التي تحمل اسم المبادرة، يذكر فيه وجهته وخط السير مع ذكر توقيت ومكان الانطلاق، بالإضافة إلى رقم الهاتف للتواصل معه وملصق مكتوب عليه بطريقك للتعريف بالخدمة”.
تهدف المبادرة المجانية إلى ردم الهوة السحيقة بين أطياف المجتمع السوري، وترميم الضرر والتشوهات التي أحدثتها الحرب السورية، وعن ذلك يقول قزلو: “ترمي الحملة إلى كسر حاجز الخوف بين السوريين الذي سببته سنوات الحرب الطويلة، وما خلفته وراءها من أزمة ثقة فيما بينهم، تهدف المبادرة بالدرجة الأولى إلى إزالة حواجز الشك والخوف من الآخر الناجم من موقفه السياسي أو مذهبه الديني، والعودة إلى المبادئ الأصيلة الني نشأ عليها السوري قبل نشوب الحرب التي نهشت كيانه”. ويضيف: “المبادرة تهدف إلى جعل هذه الخدمة عادة اجتماعية، وجزءاً من ثقافة المجتمع السوري، واستمرارية عملها إلى ما بعد انتهاء أزمة البنزين”.
وبالرغم من البعد الإنساني والحضاري الذي تنشده المبادرة، غير أنها تواجه العديد من العقبات لناحية الترخيص والحصول على التسهيلات، حيث يذكر قزلو: “واجهنا العديد من العراقيل، فمنذ العام الماضي نحاول جاهدين الحصول على موافقة شرطة السير لترخيص الخدمة وجعلها متاحة للجميع، لكن دون جدوى”. هذا بالإضافة إلى مشاكل التمويل، فالمشروع مايزال شخصياً، يتكبد الشاب تكاليفه مع شريكة له، ويوضح بالقول: “أتبنى المشروع مع صديقتي زهراء روماني على عاتقنا الشخصي، ندفع من جيبتنا ثمن المكالمات الهاتفية وتصميم البوسترات ونقوم بإجراءات التنسيق بين أصحاب السيارات والزبائن”.
ولبث شعور الطمأنينة والثقة بين المشاركين في المبادرة، يطلب قزلو من كل شخص لديه سيارة خاصة رقم هاتفه الشخصي وأوراق الميكانيك وصورة عن الهوية ونوع السيارة ورقمها، بالإضافة إلى رقم هاتف الزبون، وذلك تفادياً لحصول أي مشاكل لا تحمد عقباها.
علا ديوب، ترى أن المبادرة تنطوي على أهميتها المعنوية في إعادة غرس مشاعر التآخي بين السوريين والشعور بآلام الآخر، خوفاً من انقراض هذه المفاهيم وحلول مكانها مفاهيم مشوهة، تقول الشابة التي أعربت عن استعدادها لتوصيل 3 فتيات يومياً في الصباح الباكر: “الدافع الإنساني هو ما جعلني أشارك في هذه الحملة، لطالما فكرت بالآخرين، وبأوضاعهم السيئة، فهناك العديد من الفتيات اللواتي ينتظرن أكثر من نصف ساعة ليستقلين سيارة أو سرفيس في سبيل الوصول إلى عملهن أو جامعتهن، أضع نفسي مكانهن، فأزمة المواصلات مستمرة وتزداد سوءاً”.
تعقب الشابة أن المبادرة جاءت لإنعاش العديد من المفردات التي أهلكتها الحرب والعمل على إعادتها إلى الذاكرة السورية كالجمل التالية التي اعتاد السوريون ترديدها على ألسنتهم كـ “الناس لبعض” و”إذا خليت خربت” و”نحنا لبعض”، إذ تجد علا أن الحملة تنمي حس الإنسانية لدى جيل الحرب، وأنه بالرغم من بشاعة الأخيرة، غير أنها أفرزت شريحة شبابية قادرة على تجاوز الأزمات بأفكار خلاقة وبإمكانيات متواضعة، لكن هناك دوماً من يحاول منعهم وهدر الطاقات الإيجابية والنوايا الإصلاحية، وذلك حسب كلام الشابة.
اعتاد طارق شميط توصيل كل عابر سبيل يطلب المساعدة، لذلك لم تضف إليه المبادرة أي جديد، سوى الانضمام إلى المجموعة و \نشر المنشورات التي يعلن فيها عن وجهته القادمة، وعن ذلك يقول: “أتعاطف مع أبناء شعبي المنهك، فأجور المواصلات أصبحت مرتفعة، كما أن حالة الازدحام خانقة لاتحتمل، أحب تقديم المساعدة لغيري، فأنا معتاد على توصيل الناس، فلم يتغير شيء”.
لا يرى طارق (مخرج سينمائي) في المبادرة أنها حل جذري لنقص مادة المحروقات وأزمة المواصلات، لكنها محاولة إيجابية خجولة وسط الأجواء السلبية المشحونة في البلاد، مضيفاً: “أجد أن لها فائدة اجتماعية، حيث تعمل على تقوية أواصر العلاقات الاجتماعية وزيادة الثقة بين الشعب السوري التي خسرها خلال سنوات الحرب” .
من جهتها، تقول رشا وهي إحدى المستفيدات من خدمة “بطريقك”: “جاءت هذه المبادرة في التوقيت المناسب وسط حالة الشلل في تأمين المواصلات، وتعزيز العلاقات بين السوريين بعد أن تحولت إلى علاقة قائمة على الخوف والتوجس من الآخر بفعل سنوات الحرب الطويلة”. أما ماهر فيجد في المبادرة بالرغم من بساطتها تعبيراً صادقاً عن نوايا السوريين في إحداث التغيير والرغبة الحقيقية في الإصلاح في بنية المجتمع السوري.
هذا ولم تقتصر الخدمة فقط على التوصيل بالسيارات، بل ذهب العديد من المشاركين بوضع دراجاتهم النارية في خدمة الآخرين، كما امتدت خدمات التوصيل إلى خارج حدود العاصمة دمشق، كعلاء الذي أعلن عن رغبته بنقل 3 ركاب من محافظة طرطوس إلى الشام.
by Khaled Suleiman | Oct 15, 2020 | Cost of War - EN, Uncategorized
لم تفق حرائق الغابات في سوريا ولبنان هذا العام المعدلات الطبيعية فحسب، إنما بلغت بساتين الزيتون والفواكه ومناطق مأهولة بالسكان. وقد التهمت النيران إضافة إلى ذلك أشجاراً معمرة عمرها مئات السنين ونباتات أصلية مستوطنة في شرق البحر الأبيض المتوسط، وأعداداً هائلة من أشجار الزيتون وبساتين الفواكه. وخسرت سوريا تحدياً أعداد هائلة من الأشجار المثمرة. ففي بلدة (حب نمرة) وحدها في محافظة حمص احترقت ما يقارب 1000 ألف شجرة زيتون، إضافة الى أشجار مثمرة أخرى مثل الرمان والتين وعرائش العنب. وكذلك الحال في بلدات وقرى أخرى في نفس المحافظة كالمُزَينة وقرب علي وزوَيتينة. وأشارت مصادر في حمص تواصلت معها عبر الهاتف الى ان الحرائق التهمت 80٪ من الأشجار المثمرة، الزيتون تحديداً، بينما التهمت 20٪ من الأحراج.
وتعد حرائق الغابات والأحراج في كل من سوريا ولبنان هذا العام أكبر سلسلة حرائق على مر السنين في المنطقة وسوف تكون آثارها كارثية على مصادر الغذاء والصحة والبيئة إن بقيت الاستجابة الحكومية والمجتمعية والإقليمية كما هي عليه الآن في التعامل مع الحرائق. وبحسب وزارة الزراعة السورية إن النيران التهمت غابات عذرية تحتوي على نباتات متنوعة ونادرة، وفي محافظة اللاذقية وحدها أحرقت ما يقارب 600 هكتاراًبعدما نشبت فيها 79 حالة حريق وهو الرقم الأكبر في تاريخ الحرائق في سوريا. وبحسب المعلومات شبت 500 حالة حريق في كل من سوريا ولبنان هذا العام، الأمر الذي سيترك آثاراً مستقبلية على جميع مناحي الحياة الصحية والاقتصادية والبيئية في عموم المنطقة.
تتضارب المعلومات الرسمية وغير الرسمية بخصوص أسباب الحرائق، ففيما يشير بعض منها إلى مساهمة التغير المناخي المتمثل بارتفاع درجات الحرارة وانخفاض مستوى الرطوبة وتيارات رياح جافة في نشوب الحرائق، يشير بعض آخر منها إلى أن قيام الفلاحين بحرق الأعشاب اليابسة وتنظيف الأراضي في هذه الفترة من السنة يزيد من احتمالية نشوبها، ناهيك باستغلال الغابات والأحراج المحروقة في الزراعة والتحطيب وتجارة الفحم؛ وهناك طرف ثالث يتحدث عن فعل فاعل ويد تخريبية مخفية وراء الحرائق.
بادئ ذي بدء، إن الجزء الأسفل من البحر الأبيض المتوسط، يشهد ارتفاعاً ملحوظاً في درجات الحرارة الناتج عن التغير المناخي، وأصبح صيفه طويلاً ينتج عنه تيبّس مساحات واسعة داخل الأشجار والأحراج. وأدى التغير ذاته إلى هبوط مستوى الرطوبة وزيادة تيارات هوائية جافة. ومن شأن هذه التغيرات المناخية زيادة قوة الحرائق، إنما لا يمكن نسيان الإدارة الفقيرة للغابات والحراج والنشاط البشري المتمثل بالزراعة، التحطيب، التفحيم، التنظيف والعمران. وتشير نقاط توزيع نشوب الحرائق، إلى أن مصادرها متنوعة ولا تتصل بالضرورة مع بعضها، أي أن العامل المناخي يساعد على سرعة تفشيها وليس شرارتها. على سبيل المثال، ليست بساتين الزيتون في محافظة حمص متصلة بالغابات الساحلية، أي أن هناك عوامل أخرى، وهي في الغالب بشرية ولها علاقة مباشرة بعمليات التنظيف وحرق الحشيش والمساحات الحرجية بطرق بدائية.
النتائج
تعمل الغابات بطريقة عملاقة في تصفية وتخزين مكونات الهواء باستمرار، وتخزن كل شجرة في دورة حياتها 22 طناً من ثاني أكسيد الكاربون في جذوعها وأغصانها وأنظمة جذورها، ناهيك بإنتاجها هيدروكربون كوقود للنمو ودورها في سقوط الأمطار. وعلى رغم أن موت الأشجار يؤدي إلى إطلاق غاز الكاربون بعد انتهاء دورة حياتها بفعل الفطريات والبكتريا، لكن معظمه يبقى محصوراً في النظام البيئي الخلاق الذي يعمل وينظم نفسه بشكل دائم. خاصة أن الغابات القديمة تأوي تنوعاً بيولوجياً هائلاً وتفوق طاقتها في احتواء الأحياء الدقيقة وتخزين الكاربون، طاقة الغابات الصغيرة بفارق كبير للغاية. تالياً، إن موت الغابات جراء الحرائق يطلق المزيد من ثاني أكسيد الكربون والحرارة ليس في سوريا ولبنان فحسب، بل في عموم المنطقة، ذاك أن الغابات والحرجيات المتوسطية لها تأثير مناخي من ناحية الرطوبة والأمطار والرياح على عموم المناطق الداخلية جنوب البحر الأبيض المتوسط. تالياً، إن الغازات الدفيئة التي كانت تمتصها الأشجار تجد طريقها إلى رئاتنا بعد الحرائق.
وبما أن الغابات تشكل الموئل الطبيعي للأحياء الدقيقة وتؤوي 80٪ من الأحياء البرّية، فسيؤدي تخريبها إلى إطلاق فيروسات وأمراض كانت تؤويها الغابات ذاتها لآلاف السنين، الأمر الذي لا يغير شكل المنطقة الطبيعي فحسب، بل يعطل النظام الأيكولوجي ويغير أنماط الحياة فيها أيضاً. ويعد انخفاض التنوع الأحيائي إثر حرائق الغابات أو استغلالها من أجل الزراعة سبباً من الأسباب المباشرة لانتشار الأمراض المعدية الناشئة. تشير التقديرات (اجتثاث الغابات مصدر لتفشي الأوبئة) إلى أن ما يصل إلى 75 في المئة من الفايروسات الجديدة، حيوانية المنشأ وتنتشر جراء قيامنا نحن البشر بإزاحة الحيوانات من موائلها الطبيعية غالباً.
الحلول
على رغم أن الأشجار الجديدة التي تنبعث على أنقاض الغابات المحروقة لن تحمل قدرة الأشجار المعمرة على تخزين ثاني أكسيد الكربون ولن تكون الغابات الجديدة قادرة على إيواء الأحياء البرّية و(ميكرو-أورغانيزم) مثلما كانت تلك القديمة المعمرة، تعد إعادة التشجير حلاً جوهرياً من بين الحلول المقترحة والقائمة على الطبيعة. ويقتضي ذلك إعطاء الأولوية في السياسات التخطيطية للمشكلات البيئية وسبل إصلاحها، بدءاًبإصلاح الوسائل القديمة في الممارسات الزراعية وصولاً إلى تحرير السياسات البيئية من مركزية الدولة الفاشلة عبر تفعيل الإدارات المحلية وإشراك المجتمعات في إدارة النظم الطبيعية. ويعد تعليم الكبار بخصوص التغير المناخي والظواهر القاسية الناتجة عنه، سبيلاً آخر من سبل مواجهة المتغيرات. فبدل التركيز على الإنذار المبكر حول حدوث الحرائق، يتوقع أن يلعب الوعي بالتغير المناخي والآثار التي يتركها على حياتنا، دوراً ملحوظاً في منع حدوثها أو وضع حد لها. وبما ان دور الغابات في حماية النظام الطبيعي كَوني ولا يخص إقليماً معيناً يتعين على الدول والبلدان والمجتمعات إنشاء فيدراليات إقليمية بخصوص المصادر الطبيعية المتجددة وسبل حمايتها، ذلك أن أمن المنطقة مرتبط بشكل مباشر بأمن تلك المصادر. ويمكن التطرق في ذات السياق الى أهمية دور تحويل الغابات العذراء والحرجيات الى محميات طبيعية بغية حمايتها من النشاط البشري الزراعي والعمراني.
*تم نشر نسخة من هذا المقال في موقع DARAJ