لبيروت.. من قلب كل سوري سلام

لبيروت.. من قلب كل سوري سلام

لم يكن لكارثة بيروت وقع عادي على السوريين، أهل سوريا الخارجون تتالياً من حرب المدن الرئيسة، الداخلون في حرب الاقتصاد المباشرة، وبالضرورة انغلاق معيشتهم على أنفسهم في ظل ترد واضح في سبل تأمين الحياة، أي حياة، وإن كانت في أدنى سلم الكرامة، المهم هو العيش، بأي طريقة. الناس جائعون، يريدون طعاماً، وعدلاً، وإنصافاً، يريدون بلادهم كما كانت قبل عشرة أعوام، يريدون البلاد، أي بلاد، على ألا يكون فيها سيف وحرب لا تنتهي.

انطلاقاً من الأثر النفسي لكل ما عاشه السوريون خلال أعوام الحرب الطويلة، فمن السهل تفسير مدى التعاطف غير المسبوق مع بيروت مقارنة بشبه انعدامه حيال أي مصيبة ألمت في شعب أو جماعة حول العالم. ولهذا تفسيرات كثيرة، فليست كل مدينة بيروت، فمن ذاق طعم الحرب، وشهد سقوط ضحاياها، وعاين سياراتها المفخخة، وانفجاراتها المتتالية، لا شك صار خبيراً بالألم، الألم الذي يخلفه فقدان الأحبة، هذا من جهة، ومن ثانية فإن لكل سوري في لبنان حبيباً. وقد يكون هذا الحبيب شعباً بأكمله، بنصفه، بفرد فيه، بتراب، بماض، بحاضر، بإيمان سوري مطلق أن بيروت أخت الشام، وكلاهما لبعضهما خل يرافق الآخر في حزنه ومصابه، لا بفرحه، فقدر هذه الأوطان ألا تذوق الفرح.

بمواليهم ومعارضيهم تضامن السوريون مع بيروت أيما تضامن، جمعت كارثة المرفأ القاسية بين الاثنين حزناً على بلد يرى فيه السوريون انعكاساً حضارياً لخاصرة كانت حتى القرن الماضي جزءاً وركيزة في تحقيق فوائد الامتداد الجغرافي لجغرافيتين متلاصقتين عرضاً، ومتتاليتين طولاً من لواء اسكندرونة وحتى آخر فلسطين على المتوسط، مروراً بقلب هذا الامتداد، لبنان الحالي.

لا يرتبط الأمر مباشرة بكليشيه “شعب واحد في وطنين”، ولا بقضية حاضر ومستقبل واحدٍ، فاللبنانيون أنفسهم منقلبون على بعضهم، ومنقلبون تبعاً لحزبيتهم حول السوريين أنفسهم في لبنان، إلا أن الأمر بجله مرتبط بطيبة السوريين، قد يكون الخروج السوري من لبنان أسهم في تعزيز المناطقية والحزبية داخل لبنان، في معسكرين متناطحين، إلا أن السوري اليوم لا يجد نفسه معنياً بتبعات هذا الخروج، كل ما يعنيه أن مدينةً أحب فيها زنبقها الأبيض، ذاته الذي صار أحمر بعيد الكارثة بلحظات، في الحالتين رائحة الألم وصلت حتى باب توما وجالت في شوارع الشام العتيقة لتجتاح البلاد دفعةً واحدة.

لا شيء يحدث في دمشق إلا وتراه في مرآة بيروت، بيروت الجريحة، التي فقدت من جملة ضحاياها، 43 سورياً قضوا في الانفجار، وكأن الموت يأبى إلا أن يرافق هذا الشعب في حله وترحاله. وبمطلق الحال وقبل أن يتضح أن سوريين قضوا في التفجير، كان هاشتاغ “من قلبي سلام لبيروت”، يجتاح مواقع التواصل الاجتماعي في سوريا، لا أحد يجبر الناس على الكذب في المحبة، كان الصدق يقطر من منشورات هؤلاء الناس الذين راح قسم منهم يغير صورة حسابه على موقع فيسبوك إلى اللون الأسود، وقد اتهمهم البعض بالمغالاة، وإن كانوا هؤلاء القلة التي رفعت الصوت لعدم التضامن مع بيروت، تحت ذريعة أن لبنان وأهله لم يتضامنوا يوماً مع ضحايا بلادهم، لتشهد الساحة جدلاً وصراعاً لا زال مستمراً وإن كان بوتيرة منخفضة عن الأيام الأولى لما بعد الانفجار. هذا الخلاف مفهوم، وقد يكون ضرورياً، فمن المستحيل أن تتحقق نسبة مئوية تامةً يتحد فيها الجميع دون استثناء حيال قضية ما، لا بد دائماً من صوت مخالف، هذا الصوت خفت تحت وطأة صدق المتضامنين، مع العاصمة الأخيرة، كما سماها البعض في تدويناته.

“ما شفناهم ولا مرة تضامنوا معنا وسمعونا صوتهم بمصايبنا ونحن صرلنا 10 سنين عم نموت”، يقول مراد مكملاً: “القضية ما دخلها بالحس الإنساني من عدمه، القضية هي تسجيل موقف لشعب ما رضي يسجل موقف معنا”. يجيبه شادي: “بيروت مو يعني سمير جعجع ولا نبيه بري ولا فلان أو علان، بيروت يعني وجع ناس لسا أولادها تحت الركام”، وكذا تتالت السجالات قبل أن تحسم لصالح الأكثرية الحزينة، والأكثرية العاطفية في بلادنا هي انتصار الإنسان على السياسة، في بلد دائماً ما تكون أكثريته الحزبية-السياسية-الاقتصادية مجتمعة على تدمير المجتمع بصورة عامة، والفرد بصورة خاصة، على قاعدة أن التدمير من النواة أكثر نجاعة، وأشد تأثيراً، تمهيداً لمجتمع جائع لا تقوم فيه قائمة لمفكر أو منظر.

التعاطي السوري كان قائماً على النوع الاجتماعي-الانساني على قاعدة “شفنا الموت، وما بدنا حدا يشوفوا”، وبالقياس فإن كل مأساة محلية صارت مفرغةً من الاهتمام على اعتبار أن التكرار يؤدلج المشهد ويجعله على سوية واحدة من الأهمية، وتالياً، فإن ازدياد الضحايا المطرد في أمر مستمر يجعل من البقية تعداداً، حسب المقولة الشائعة: “موت فرد هو مأساة، أما موت الملايين فهو مجرد إحصائية”.

لذا، وجد الشاميون أنفسهم هذه المرة أمام اختبار حقيقي لإنسانيتهم وقدرتهم على الحزن مجدداً بل وإبداء التعاطف، والأمر مرده في علم النفس يقوم على حزن أشخاص لمشاهدة مجزرة مكررة ألمت بهم، فيتمنون ألا يلحق ببلد يحبونه ذات السيناريو من المجازر.

لبيروت: السوريون معك، وإن كانوا حملوا منك يوماً نكراناً أو أذية، ولكن في ملمات الأحبة: الناس لبعضها.

حوامل سوريات في زمن الكورونا: مزيج من الفزع والفرح

حوامل سوريات في زمن الكورونا: مزيج من الفزع والفرح

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “الحرب على كورونا: معركة جديدة مصيرية للسوريين\ات

تعيش سلمى وهي أم لطفلين هاجسين، الأول ظهور علامات الولادة المبكرة بعد أن أخبرها الطبيب باحتمال وضع مولودتها في الشهر المقبل وذلك قبل شهرين من الموعد المحدد، أما الثاني فهو الخوف من التقاط فيروس كورونا، لا سيما في ظل انتشار معدلات الإصابات ويأتي ذلك في ظل الحصار الاقتصادي الذي تعيشه البلاد، إذ تشكل النساء الحوامل الحلقة الأضعف في مواجهة الفيروس بعد كبار السن. وعن مخاوفها تقول سلمى: “أخشى أن ألد قبل الآوان، سأدخل في الشهر السابع بعد عدة أيام، أعاني من تشنجات تسببت لي بفتح عنق الرحم، ما قد يعجل من ولادتي ويقلب كل توقعاتي، كما أنني اتفقت مع طبيبي الخاص على أن يتولى أمور التعقيم الذي تكفل به على مسؤوليته الشخصية، محاولاً طمأنتني وعدم إثارة الخوف في داخلي، فيكفيني آلام المخاض”.

وعن الاحتياطات التي ستتخذها للوقاية من فيروس كورونا، تقول السيدة ممازحة: “يبدو أن طفلتي رح تجي معقمة خالصة وريحتها كلها كلور من كتر ما عم عقم وغسل، سآخذ معي معدات التعقيم من قطعة صابون ومعقماً لليدين ومنشفتي الخاصة، بالإضافة إلى منع الزيارات بتاتاً، وسأضطر إلى تقديم بعض الرشى للممرضات للقيام بواجبهن كما جرت العادة في ولاداتي السابقة كي يهتمين بي على نحو أكبر”.

أما لونا فاختارت دون عناء تفكير الولادة في جناح تابع لمستشفى خاص لانعدام ثقتها بالمستشفيات العامة من جانب النظافة والتعقيم والرعاية خاصة في ظل شكاوى الناس المتكررة من غياب مظاهر التعقيم، عدا عن الازدحام والأعداد الكبيرة فيها، ما يعرضها لالتقاط الفيروس بنسب أكبر. وتؤكد لونا: “حتماً سألد في مشفى خاص، على الأقل أملك ترف خيار البقاء في غرفة لوحدي دون أن تشاطرني بها مريضة أخرى، ناهيك أنني سمعت أنهم يعتنون جيداً باقسام الولادة، ومع ذلك كله، سأحضر معي كمامتي وفوطتي الخاصة”.  وقد حاولت لونا مراراً عدم السماح للخوف من التسلل لداخلها حيث عقبت بالقول: “منعت نفسي من الشعور بالخوف لأن ذلك يؤثر سلباً على صحتي الجسدية ويثبط من مناعتي، ضاعفت اهتمامي بنوعية الطعام وتناول المأكولات التي ترفع المناعة نظراً لوجود الفيروس الذي يهدد الحوامل بشكل خاص، كما أنني ابتعدت عن الأخبار السلبية والمحبطة وأخبار الفيسبوك المكتظ بأوراق النعوات، بالإضافة إلى التعقيم المستمر داخل المنزل وأخذ الحيطة والحذر في الخارج، أعمل على قدر طاقتي، والباقي على الله”.

الولادة المنزلية للنجاة من العدوى

في ظل انتشار فيروس كورونا والتحذيرات المتكررة بعدم الذهاب إلى المستشفيات إلا للضرورة القصوى كونها بؤرة خصبة تشجع على التقاط العدوى، وبما أن النساء الحوامل معرضات بشكل متزايد لخطر الإصابة بمرض خطير من فيروسات كورونا، لجأت العديد منهن لخوض تجربة الولادة المنزلية والعودة إلى عادات الجدات القديمة بالرغم من كونها غير رائجة خوفاَ على حياتهن وحياة أطفالهن. ومن هذه التجارب، عايدة التي قررت وضع مولودها الأول في المنزل  في قرار جاء متأخراً وذلك قبل يوم واحد فقط من موعد ولادتها في مستشفى خاص، وتوضح: “اتصلت مع طبيبي الذي أشرف على مراقبة وضعي الصحي طوال فترة حملي و ألغيت عمليتي  قبل يوم واحد من موعد ولادتي لأخبره بأنني سأتجه إلى الولادة المنزلية خوفاً من التقاط أي عدوى، بعد ذلك حصلت على رقم إحدى القابلات اللواتي يُشهد لها بالإنسانية والمهنية واتفقت معها على أمور التعقيم “، مضيفة: “على الأقل تأكدت من تعقيم كل الأدوات لأن القابلة عمدت إلى تطهيرها أمام عيني مع ارتداء القفازات والكمامة، وأضمن هنا أنني لن التقط الفيروس، كانت تجربة جديدة ومثيرة حقاً بالنسبة لي”.

اعتادت نبيلة اصطحاب حقيبتها الممتلئة بالمعدات الطبية الخاصة بالولادة الطبيعية، فهي عملت قابلة قانونية لأكثر من 33 عاماً في أحد الأحياء الشعبية في دمشق، وقد نالت شهرة عالية في أوساط الحي وعرف عنها بتقاضيها أجور رمزية مقابل عملها الذي تصفه بـ”الإنساني” لافتة إلى أن عملها ازدادت وتيرته بالتزامن مع ظهور جائحة كورونا حيث تقول: “الولادة في المنزل كانت موجودة من قبل، لكنها اتسعت وازداد الإقبال عليها منذ ظهور جائحة كورونا، إذ قصدتني العديد من النساء الحوامل خشية تعرضهن للفيروس والتقاطه من المستشفيات وانتقاله للمولود”. وعن إجراءات التعقيم التي تتخذها السيدة تقول: “أضع جميع أدواتي من مقص جنين ومقبض رحم وملقط وغيرها في جهاز تعقيم خاص لمدة نصف ساعة، مع الحرص على ارتداء الكمامات والقفازات”.

إلا أن إلفت تتمنى لو بإمكانها الولادة في منزلها، لكنها لا تستطيع ذلك كونها خضعت لعملية قيصرية سابقة تحول دون ولادتها طبيعياً وتوضح قائلة: “ليتني أستطيع أن ألد في منزلي، لكن الأمر مستحيل كوني أجريت عملية شق في البطن في ولادتي الأولى، فوجودي في المستشفى الآن ضروري جداً  نظراً لكونها عملية جراحية، لكن لو كانت حالتي الجسدية تسمح لي بإجراء ولادة طبيعية، لما ترددت لحظة واحدة في إحضار قابلة إلى بيتي خوفاً من التقاط أي عدوى في المستشفيات أو الاختلاط مع أحد”.

إرجاء الحمل حتى إشعار آخر

اتفقت سحر مع زوجها على تأجيل فكرة الحمل في ظل الظروف الراهنة للعام المقبل على أمل توفر لقاح لفيروس كورونا وتقول: “كنا زوجي وأنا نخطط للإنجاب للمرة الثانية بعد طفلي الأول إلا أننا عدلنا عن الفكرة ريثما يتم تأمين لقاح، لاسيما أن انتشار الفيروس بدأ بالتصاعد، فنحن بغنى عن الوقوع في المحظور، خاصة أنني لدي طفل”. أما خلود فلا تستطيع تأجيل تحقيق حلم الأمومة وقررت الحمل في هذه الظروف غير المناسبة، كونها تزوجت متأخرة وفرص الإنجاب قليلة بالنسبة لها، وتقول: “بدي لحق جيب ولد، فعمري شارف على الأربعين، لا أستطيع الانتظار أكثر، كل شيء من الله خير”.  وتنصح رامية السيدات اللواتي لديهن أطفال من قبل تأجيل فكرة الحمل، سيما وسط ارتفاع الأسعار وانتشار الأمراض.

واقع الزواج بين الشباب السوري: أفراح برسم التأجيل

واقع الزواج بين الشباب السوري: أفراح برسم التأجيل

لطالما صادرت الحرب أحلام آلاف الشبان والفتيات في سوريا بدءاً من أحلامهم الصغيرة المقتصرة على استكمال مراحل دراستهم الجامعية وتأدية الخدمة الإلزامية بالنسبة للشبان وتأمين عمل محترم يضمن لهم حياة كريمة وصولاً إلى بناء العائلة والخوض في مرحلة الاستقرار الأسري الذي انتقل من كونه مرحلة أساسية من حياة المواطن السوري ليصبح حلماً صعب المنال أو طموحاً بعيد المدى ضمن طموحات الشباب بالدراسة والعمل و تحقيق الذات خاصة في ظل الأوضاع الاقتصادية والمعيشية السائدة اليوم في البلاد. ونظراً لارتفاع تكاليف الزواج ذهب البعض إلى التأجيل والبعض الآخر بحث عن بدائل للمستلزمات الخاصة بتقاليد حفلة الزفاف ومهر العروس والتجهيزات الخاصة بها، فوسط جنون أسعار الذهب الذي بلغ حد ١١٠٠٠٠ للغرام الواحد عيار ٢١ استعان كثيرون بالذهب البرازيلي والفضة كمنقذ من أزمة لا يبدو حلها قريباً مع وجود عدة أشكال وألوان من الذهب البرازيلي بأسعار مناسبة نوعاً ما، وهناك ممن قدمن تنازلات واتبعن سياسة ترتيب الأولويات، كسارة التي وجدت نفسها أمام عتبة الاختيار بين حفلة الزفاف وشراء الذهب، لتنهي معركة الحسم لصالح الأولى، إذ  تمهلت الشابة بشراء الذهب في فترة الخطوبة على أمل انخفاض سعره عند اقتراب الزفاف إلا أن توقعاتها باءت بالفشل فجاء الواقع عكس الآمال المعقودة عليه، فأصابها الندم لعدم شرائه قبل انتقاله من مرحلة الغلاء إلى الغلاء الفاحش ففضلت إقامة حفل زفاف صغير بتكاليف متوسطة مستبدلة المصوغات الذهبية بالبرازيلية منها التي تبدو على حد قولها مشابهة للذهب الحقيقي.

 أما علي فليس بأفضل حال، فقد  أجل تجهيز منزله عدة مرات متتالية آملاً أن تتحسن الأسعار، وها هو الآن يؤجل ذلك إلى أجل أجل غير مسمى ومعه يؤجل موعد ارتباطه الرسمي مقترناً بخطيبته التي انتظرته طويلاً مع عقد ذهبي ناعم قد ابتاعه لها بشق الأنفس منذ شهر شباط حين كانت الأمور على تدهورها أفضل حالاً بكثير مما هو الأمر عليه اليوم. أما موعد زفاف علي فأصبح في طي المجهول فإن كان قد عقد نيته على الزواج في أواخر العام الحالي فها هو الآن يصرح لنا بأن كل آماله وأحلامه قد طارت من أول نافذة كاد أن يركبها في منزله الذي ابتاعه على الهيكل حيث يقول: “في أيام الرخص.. فالمنزل سيبقى على الهيكل حالياً لأن كلفة الإكساء ارتفعت بشكل كبير”.

خطوة استباقية وسياسة التقنين

عمدت لمى إلى اقتناء ما تراه مناسباً كحاجات للعروس من متجر لألبسة البالة نظراً لانخفاض سعرها مقارنة بتلك الجديدة فهي تدرك تماماً أن شراءها من الأسواق الجاهزة قد يكلفها أضعافاً مضاعفة بالرغم من أنها ليست مخطوبة ولكن أغلب من حولها من الفتيات المقبلات على الزواج  قد اقتصرن على شراء قطعة أو اثنتين بسبب ارتفاع الأسعار.

فيما استغنت علا عن كل ما يتعلق بالملابس الخاصة بالعروس فقد كان لديها مخزون كاف منها كانت قد ابتاعتها منذ سنوات كلما سمحت لها الفرصة بأسعار “لقطة” على حد تعبيرها، وبذلك عندما تمت خطوبتها اقتصرت تجهيزاتها الخاصة على بدل واحد من الملابس. أما بالنسبة للذهب فقد روت لنا: “قمنا بشراء الذهب والخواتم حين كان سعر الغرام ٣٢٠٠٠ وأحمد الله على ذلك لأننا لو قمنا بتأجيله لما استطعنا شراءه بعد الارتفاع الكبير الذي شهده.” و استأجرت علا وزوجها منزلاً في عشوائيات مدينة دمشق بعد أن ألغت حفلة الزفاف كي تتمكن من تأمين العفش والأدوات الكهربائية الضرورية للمنزل.

وبالرغم من أن الوضع المادي لخطيب آلاء يُعد ميسوراً لاسيما أنه يعمل مهندساً في السعودية إلا أنها اشترت بعض حاجياتها من ألبسة البالة بغرض التقنين، حيث تقول: “يرسل لي شهرياً ما يقارب 500 ألف ليرة سورية لتجهيز حاجياتي الخاصة ريثما يحين موعد الزفاف، غير أنني وجدت الأسعار مرتفعة جداً فلجأت إلى البالة فهي جديدة وجودة عالية والذي أقوم بتوفيره أصرفه على شراء مستحضرات التجميل.”

أزمة تأخر الزواج

في تصريح  حديث للقاضي الشرعي الأول في دمشق محمود معراوي يذكر فيه أن نسبة تأخر سن الزواج في سورية خلال عامي 2019 و2020 وصلت إلى حوالي 70  % عازباً، ويعود السبب إلى قلة أعداد الذكور إثر وفاة عدد كبير منهم في الحرب وهجرة قسم آخر ما أدى الي ارتفاع أعداد الإناث مقارنة بأعداد الذكور. تبدو هذه الإحصائية منطقية، لاسيما في ظل  الصعوبات الكبيرة التي تواجه الشباب السوريين في تأمين مستقبلهم وارتفاع تكاليف الزواج، كما ساهمت ظروف الحرب السورية خلال الأعوام الفائتة في تأخر زواج الشباب من كلا الجنسين إذ إن التحاق الشباب بالخدمة العسكرية الإلزامية والاحتياطية قد أسهم في عزوف الشباب عن فكرة الزواج حالياً، بالإضافة إلى النزوح الداخلي والخارجي لعدد كبير منهم مما أدى إلى قلة “العرسان”. بالإضافة للمعدلات العالية من البطالة والأزمات النفسية المتعددة وعدم الاستقرار الاقتصادي والنفسي والاجتماعي و الصحي مؤخراً مع استمرار انتشار و تفشي وباء كورونا بين السوريين، كل هذه الأسباب مجتمعة تشكل عوائق صعبة الاجتياز في وجه كل من يحلم ببيت الزوجية المنتظر، فاليوم أصبح تعدد الزوجات أمراً مرحباً به عند فئة كبيرة من العائلات السورية وسط قلة المتقدمين لطلب أيدي الفتيات اللواتي كنّ قابعات في المنازل على أمل عريس “لقطة”،  أما الآن هناك من ينظر لأي شاب يمتلك منزلاً وعملاً بغض النظر عما إذا كان متزوجاً أو عازباً على أنه هو ذلك العريس” اللقطة”.

الحرب والاقتصاد يشعلان فتيل الجريمة

الحرب والاقتصاد يشعلان فتيل الجريمة

“ياسر الصعب”، ليس اسماً عادياً لينساه السوريون بسهولة، فالاسم وحده قصة لمجزرة راح خلالها أولاد ياسر الثلاثة، وزوجته، حدث هز الساحة السورية على الصعيدين الواقعي والافتراضي، ففي الأول من شهر تموز/يوليو الفائت استفاقت العاصمة السورية على خبر مقتل ثلاثة أطفال واغتصاب أمهم وقتلها أمام أبيهم المطعون بسكين المهاجمين، في قرية بيت سحم. تعافى ياسر وخرج من المشفى، وألقي القبض على المجرمين الاثنين، وأحيلت أوراقهم للمحكمة، ولكنّ جرحاً لدى ياسر أعمق من مكان الطعنة في رقبته، لن يندمل وحتى بمرور السنين، فقد رأى الأب مشاهداً كأنها هاربة من فيلم سينمائي، وكل ذلك حصل بهدف السرقة، سرقةِ 260 ألف ليرة سورية (130$).

لم يكن تموز/يوليو شهراً عادياً على السوريين، الخارجين، كل يوم، من معركة حياتية قاسية، لتسجل البلاد أعلى مستوى من الجرائم المحلية في شهر واحد، ما ينبئ بأن البلاد تمر بمرحلة دقيقة على صعيد القيم المجتمعية والفكرية والتربوية.

يمكن أن نرد انتشار الجريمة لثلاثة أسباب: اجتماعية – اقتصادية – نفسية.

من الناحية الاجتماعية يُقرَأ الملف على أنه مرتبط بغياب الثقافة الاجتماعية، حيث يقول الدكتور موسى حبشي: “المشكلة كلها تتلخص في الحرب وتبعاتها من غياب لمنظومة الأخلاق الجمعية، فالجيل الناشئ في أتون الحرب لم تتح له ظروف المجتمع أن يرى الأمور من زواياها المتعددة، وبالضرورة أن يبني مفاهيم واضحةً حول التمييز بين الصح و الخطأ”، لا يحمل حبشي المسؤولية المباشرة لأحد، ولكنه يعتقد أن اجتماع الظروف الزمكانية في السنوات الماضية، أنجب أشخاصاً يصطلح حبشي على تسميتهم “دخلاء على القيم السورية”.

أما على الصعيد الاقتصادي فإن راتب الموظف السوري يبلغ في المتوسط الشهري (23$)، ليست المشكلة في هذه الرقم المتدني للغاية قياساً بكل الدول المحيطة، المشكلة أن الشريحة الأوسع في سوريا عاطلة عن العمل الفعلي المستمر، ليعمل جزء لا بأس به كمياومين، هؤلاء عرفوا الجوع الحقيقي-القسري إبان الحجر في أشهر الربيع الماضي بفعل بدء انتشار فايروس كورونا في البلاد، بالطبع لا يمكن تحميل الحجر وحده مسؤولية انهيار القيمة الاقتصادية للمواطن أولاً، ولعملته ثانياً، فقبل كورونا كما بعدها، الناس ما يزالون جائعين، يفترشون الطرقات والحدائق، يبحثون بكل كد وجد عن عمل يكفيهم قوت يومهم، لذا فإن الفقر محرك منطقي للجريمة، فمعظم الحوادث فيما عدا الاغتصاب، تقوم على السرقة. القتل أيضأ لأجل السرقة، وربما الاغتصاب والقتل معاً، ثم السرقة، في إشارة واضحةٍ لمجتمع زادت في كبته تفاصيل الحياة والحرب.

ولكن من الناحية النفسية البحثية تتسع الدائرة، فالحرب خلفت داخل أنفس السوريين آثاراً شظت قلوبهم، كما شظت الحرب أبدانهم، فخلفت مما خلفته أمراضاً وآلاماً نفسية جمة، يخبرنا بها معدل ارتفاع زيارات السوريين للأطباء النفسين، ولكن حتى هذه الزيارات تعتبر ترفاً، فأجور الأطباء مرتفعة حتى على قياس الطبقة الوسطى، فكيف بالفقراء إذاً. يقول الدكتور هاني منصور وهو أخصائي نفسي أن السوريين اليوم ودون مبالغة محتاجون للعلاج: “الاكتئاب يسيطر على المجتمع، وكذلك حالات طبية أخرى، قسم منها يقود للجرائم بشكل مباشر محمولاً على دوافع بيئية – نفسية تجعله يعتقد أن ما يفعله هو الصواب وسينجو بفعلته”. ويشير منصور أنه من المستحيل أن تشهد دولة اختبارات نفسية موسعة للجمهور، ولكن لا شك، أن استعادة ضبط الشارع بعد تنفيسه والسيطرة عليه أخلاقياً سيكون حلاً مقبولاً، “مع ضرورة توعيتهم لمخاطر الجريمة وعقوبتها، وبأن لكل فعل سيكون هناك رد فعل قضائي”.

العنف الأسري

بتتبع الوضع الاجتماعي السوري فقد أثبتت فترة الحجر الصحي المنتهية مع مطلع حزيران/يونيو الماضي أن نسبة العنف الأسري قد ارتفعت نسبياً، إذ سجلت حتى الآن حوالي 318 حالة عنف بحسب مصادر غير رسمية، بينهم 166 اعتداء زوجي، 45 ضرب شقيق لشقيقته، و20 حالة اعتداء أبناء على أهلهم، و87 حالة عنف باتجاه الأطفال دون السن القانوني. وقد كانت آخر إحصائية مسجلة ورسمية عام 2019، وتحدث حينها رئيس هيئة الطب الشرعي في سوريا أن نسبة العنف الأسري ارتفعت بنسبة 25% قياساً بالسنوات السابقة، وبمعدل 504 حالات، بينها 31 طفلا و53 إناث تحت السن القانوني، و420 حالة لنساء بالغات، دون تسجيل أي حالة وفاة بسبب العنف الأسري.

انتشار المعلومة

لا شك أن سوريا كانت تشهد بصورة مستمرة جرائم مختلفة الأشكال، ليس ابتداء   بالسرقة وليس انتهاء بالقتل مروراً بالاغتصاب كما حصل للطفلة سيدرا (١٣عام في ريف الدريكيش – طرطوس) حديثاً، إذ تم استدراجها من قبل قريبها وصديقه، وكلاهما بعمر الأحداث، ليقوم أحدهما باغتصاب الطفلة، ثم شنقها وقتلها بسلك معدني، ومن وجهة نظر القانون فإن العقوبة قد تصل بحدها الأعلى إلى 12 سنة للجناة فقط، على اعتبار أن كليهما دون السن القانوني، بحسب المادة (29) من قانون الأحداث :”تفرض على مرتكبي الجنايات من الأحداث الذين أتموا الخامسة عشر وتحت الثامنة عشرة: إذا كانت جريمته من الجنايات التي تستحق عقوبة الإعدام فيحبس مع التشغيل بين ست إلى اثنتي عشرة سنة”.

ولكن ما جعل قصص هذه الجرائم تنتشر هو مواقع التواصل الاجتماعي التي صارت مساحةً واسعةً للمعلومات في سوريا، وجاءت هذه المواقع مدعومة بصفحات وزارة الداخلية الرسمية التي باتت تطرح كل ملفات الجرائم وتفاصيلها عبر صفحتها، ليتناقلها الناس باستمرار، وسبب شيوعها أكثر هو شناعة الكثير من الجرائم، ليطالب الناس بالقصاص من هؤلاء المجرمين، وبعضهم وبقسم كبير راح يطالب بعقوبة الإعدام للجناة في الكثير من الحوادث والجرائم.

بالضوء تبدأ الحكاية: حوار مع الفنان والمصور الضوئي نديم آدو

بالضوء تبدأ الحكاية: حوار مع الفنان والمصور الضوئي نديم آدو

تعرفتُ على الفنان نديم آدو منذ أكثر من عقدين في سوريا، وكنا نلتقي في مقهى الروضة والهافانا، وفي أمكنة دمشقية أخرى تجمع الكتاب والفنانين كالرواق، وحضرتُ معارضه آنذاك، ولقد أثرتْ بي تلك المعارض وفتحت ذهني على عوالم بصرية فوتوغرافية مشحونة بالعمق الشعري المستحضر لذاكرة المكان. دمشق أكثر دفئاً وإشعاعاً وحميمية في صور نديم آدو كما لو أنه حارس لحظاتها الأكثر سحراً وحارس ضوئها الذي تتربص به ظلمات كثيرة من خلال عدسته التي تنقب عن الجمال مطاردةً الضوء والظلال في أزقة دمشق القديمة وفي شوارعها حيث لا تكف الأشياء عن الإحالة إلى ذاكرة عميقة تختلط فيها الأزمنة وتفسح نوافذها للحاضر.

في صوره يسترشد نديم آدو بلغة الأشياء، وبالحوار بين الضوء والظل ورائحة التراب وعلاقة الضوء بالكتلة أو الشكل وخفايا الحركة والسكون وأسرار الظلال وتدرجاتها نحو مكامن النور، ولهذا كانت صوره الفوتوغرافية تاريخاً وذاكرة وثقافة وارتباطاً بالجذور ولملمة لشظايا الذاكرة ونتف الحكايات الضائعة، فالضوء الذي قاد عينيه وما يزال هو ضوء مجبول بتواريخ الأمكنة وذاكرتها.

نديم آدو مصور ضوئي وفنان تشكيلي سوري مبدع، اقتنيت أعماله في عدد من دول العالم وأقام معارضه الخاصة وشارك في معارض في حلب ودمشق وبيروت والسليمانية في كردستان العراق وكندا.

للحديث عن فنه ورؤيته الفنية للصورة الفوتوغرافية أجريتُ معه الحوار التالي والذي هو الأول في سلسلة من الحوارات مع أبرز فناني الفوتوغراف السوريين من مختلف الأجيال، في محاولة لإلقاء الضوء على هذا الميدان الفني الغني والذي يغنيه يوم بعد يوم فنانون مبدعون ومتميزون على امتداد الجغرافيا السورية وفي المنفى الطوعي أو القسري.

نص الحوار:

أسامة إسبر (أ. إ.): ما الذي قادك إلى التصوير الفوتوغرافي؟

نديم آدو (ن. آ): في سن مبكرة جداً عندما كنت طفلاً مشاكساً في أزقة حلب القديمة، كان لدي شغف دائم للرسم على الجدار. كانت الحيطان الفضاء الوحيد للتعبير عما في داخلي، وكنّا نركض لاكتشاف ما وراء الضوء. هذا السبب قادني إلى التصوير الفوتوغرافي، كنت أحلم بالقبض على فقاعات الصابون التي كانت تطير وتطير. هذه خطواتي الأولى للطيران نحو الفوتوغراف.

 

أ. إ.: ما هي المحطات الأساسية في تحربتك في حقل التصوير الفوتوغرافي؟

ن. آ: كان امتلاك الكاميرا المرحلة الأولى للبدء بخوض تجربة الفوتوغراف. فالكاميرا بالنسبة لي كانت البيت الذي يجلب الراحة و السعادة. وبعد نشاطات ومعارض مختلفة، استطعتُ كسب سمعة فنية وبصمة مميزة في عالم الفوتوغراف، الذي قاد الى فتح أبواب مهمة  أمامي. انتقلتُ من مرحلة شغف امتلاك الكاميرا إلى مرحلة عروض فنية على مستوى المراكز الثقافية الأجنبية في سورية منها كالمركز الثقافي الأمريكي، والمركز الثقافي الفرنسي، ومعهد غوته الألماني، ومعهد ثربانتس الأسباني، قدمتُ خلالها رؤيا جديدة للأماكن الأثرية التي تشتهر بها سورية قديماً وحديثاً. ومازلتُ حتى الآن أبحث عن فضاءات جديدة.

 

أ. إ.: ما التأثيرات المهمة في تجربتك؟

ن. آ: كان المقهى هو الفنان الأول، حيث تجتمع هناك فئات مختلفة من المثقفين والمبدعين ضمن حلقات نقاش ونقد. كنتُ أعطي آذانا صاغية لهم وأراقب حركة الأيدي والوجوه. كانت الكلمات تحفظ في ذهني على شكل صور، فأصبح لدي مع الأيام ذاكرة فوتوغرافية غنية.

أ. إ.: ما المجال الفوتوغرافي الذي تركز عليه؟ 

ن. آ: لا يهمني  مجال معين بقدر ما تشدني الأشياء الراسخة في ذاكرتي وعلاقتها بالبيئة الملونة حولي، أحاول دوماً ربط الذاكرة  بالمحيط حيث يمتد المدى، كل شيء صورة، كل إنسان صورة، كل كلمة صورة، كل عاطفة صورة. ذاكرتي الفوتوغرافية مبنية على صلة رحم قوية بيني وبين ما تتلقفه حواسي.

 

أ. إ.: ماذا تريد من الصورة الفوتوغرافية أن تقول، أو عن ماذا تريدها أن تعبّر؟

ن. آ: من الجميل أن تكون  فوتوغرافياً تقبض على الزمن بلحظة وتحتفظ بها للأبد. الصورة لحظة مكثفة من حسٍ هارب، تعبٍ مزمن، معاناة ما. كل صورة ألتقطها أراها بعيني الثالث التي هي جزء كبير من أبعاد تمنح اللقطة  شخصية وشعوراً لافتاً للنظر.


أ. إ.: ما الشروط التي يجب أن تتحقق في الصورة كي نقول إنها صورة إبداعية؟

ن. آ: الصورة عندي قصة متكاملة لها مقدمة ونهاية. الشرط الأساسي لصورة إبداعية هو الإحساس العالي بالجمال وذاكرة مفعمة بالخبرات الضوئية، من الضوء تنطلق الحكاية.

 

أ. إ.: أنت من المصورين المعروفين للأزقة والأبواب القديمة والوجوه والأيدي في الأمكنة المزدحمة المليئة بتفاصيل الحياة، لكنك الآن تعيش في كندا  وتتحرك في مجال بصري مختلف، أراضي زراعية وأجواء باردة؟ كيف تعاملت فوتوغرافياً مع هذا الانتقال بين عالمين؟

ن. آ: ما زلتُ في حنين مستمر للأبواب والشبابيك العتيقة في أزقة حلب القديمة، في البيوت المبنية بلصق بعضها، تسند بعضها بدفء يدوم  للروح التي تقاوم النسيان. هذه الأبواب وأزيزها الذي لا يتوقف في رأسي حالة عشق لا تنتهي، ما زالت رائحة تراب البيوت الدمشقية القديمة في باب توما عالقة في ذاكرتي بعد ليل طويل من المطر. أما بعد انتقالي إلى كندا حيث السهول الشاسعة على مد النظر لم أفتح حقيبة الكاميرا بعد. أحتاج إلى وقت كي أبني علاقتي مع المكان الجديد والذي تغير علي كلياً من حيث المناخ والطبيعة والتاريخ. قد ألتقط صورا جميلة في أي مكان ما من العالم ولكنها ستفتقد إلى الحس المرتبط بالذاكرة الفوتوغرافية.

 

أ. إ.: هل من الضروري برأيك أن ترتبط الصورة الفوتوغرافية ببيئة معينة، أن تكون نتاج ثقافة معينة أم أن عناصرها الجمالية هي التي تحدد هويتها؟

ن. آ: كل إنسان هو ابن البيئة التي نما فيها، وأنا ابن  بيئة تاريخها ٧٠٠٠ سنة. الصورة ابنة البئية، ولكل بيئة عناصر جمالية خاصة تحدد هويتها.

أ. إ.: ما العوالم التجريبية التي  خضت فيها كفنان فوتوغرافي؟  كيف تنقل الصورة أشياء العالم الحميمية والصغيرة وتثير ذاكرة أشياء مادية محددة؟

ن. آ: في اعتقادي أن العوالم التجريبية التي يخوضها الفنان عادةً ما تكون عصية على أي وصف أو تحديد، وذلك لأسباب كثيرة، يأتي في مقدمتها تطورات الكينونة النفسية ذاتها لدى الفنان، والتي تتغيّر باستمرار عبر التفاعل الحثيث والمتبادل، بينها وبين كافة ظواهر الوجود الخارجي. بالنسبة لي كان أهم تلك العوالم، وما يزال، هو علاقة الضوء بالكتلة أو الشكل، وكيفية توثيق خفايا الحركة والسكون، و مازلت مشغولاً بأسرار الظلال وتدرجاتها نحو مكامن النور. بالإضافة الى الانشغال الأساسي لي في تتبع عوالم الجمال الخفي الذي ترميه الأشياء هنا وهناك على هيئة تشظيات ذاكرة.

في النهاية أية صورة هي عبارة عن منجز فني يحمل في طياته فكرة، أراد فنان الفوتوغراف أن يفشي من خلالها سراً جمالياً أو أن يدل على مكمن لكنز من الجمال على الأقل.

أ. إ.: الوجه البشري دائماً هارب، وهو في الفوتوغراف يتجسد في لقطات تعبر عن أطوار أو تحولات عابرة في حركيته؟ ما الذي يستطيع الفوتوغراف أن يلتقطه في الوجه؟

ن. آ: يمكن القول إن الفوتوغراف هو الخصم اللدود لذاك الهروب المقصود في الوجوه، وهو الخصم العنيد لحركة الزمان وتجدد الوجود ككل.  وبحسب زعمي، لا يوجد في الوجوه عموما، كما في كل الأشياء، تطابق تام، إنما لكل وجه حضور فريد، يحمل بصمة من المشاعر المميزة، ولو دققنا قليلا في هذا الحضور سنجد أن هناك مئات بل الآلاف من الحالات التعبيرية المتباينة، والتي لا يستطيع الفهم الإنساني أن يعيها دون مساعدة الفن، وربما فن الفوتوغراف بالذات، لما يملكه من قدرات على تثبيت اللحظة وإمكانية توثيق انبثاقات التعابير وتخلقاتها بكل آن، وكذلك يستطيع أن يروي حكايات الملامح ويسرد بفرادة اللقطة، اللغة التي يتحدث بها كل وجه.  إن فن الفوتوغراف مثله مثل بقية الفنون، يستطيع فنان الفوتوغراف عبر اللقطة أن يلتقط التعابير الدقيقة، وأدق دقائق القسمات في الوجوه من جهة، كما يستطيع أن يجبر المتلقي على إكمال الكثير من الجمل والعبارات التي باحت بها هذه الملامح أو تلك من جهة أخرى. 

أ. إ.: ما هي أحب المدن إلى قلبك بالمعنى الفوتوغرافي؟ ما المدينة، أو المكان الذي لم يتوقف عن جذبك إليك كمصور؟

ن. آ: من خلال هذا الحوار إجابات واضحة أي المدن أحب الى قلبي كمصور، وما زلت أبحث، القليل من الضوء يكفي لأنجو بصورة  من حارات حلب و دمشق القديم.

 

أ. إ.: كيف يعرف نديم آدو نفسه كفنان فوتوغرافي، ما هي الإضافة التي حققها وكيف ينظر إلى اختلافه عن غيره منطلقين من فكرة أن كل تجربة هي فضاء مختلف عن التجارب الأخرى؟ كيف يعرّف الفنان نديم آدو عالمه الفني؟

ن. آ: نديم آدو الطفل الراكض باتجاه الشمس، مثل زهرة عباد الشمس أدير وجهي حيث الضوء. عالمي الفني مليء بصور تروي حكايات وقصصاً لا تنتهي، أجد نفسي في قلب كل شخص اقتنى لوحة من أعمالي.

بين عيادة الطبيب وفرع الأمن

بين عيادة الطبيب وفرع الأمن

بداية لا بد من ذكر أنني أملك بطاقة إقامة في فرنسا وأتقن الفرنسية وبأنني طبيبة اختصاصية في طب العيون وكاتبة، وبأن كل أسرتي (أخي وأختي وأمي يقيمون في باريس)، وابنتي الوحيدة وزوجها الإيطالي يقيمان في بريطانيا. ولكن لأنني مسكونة بعشق سوريا فقد قررت ترك أسرتي وحريتي في باريس وأصدقائي والعودة إلى اللاذقية، عدت إلى اللاذقية في 8 كانون الثاني 2019 متغاضية عن البرد الشديد وانقطاع الكهرباء وغلاء الأسعار والأهم الصمت. فكل شيء مجلل بالصمت، وظيفة اللسان في سوريا تدوير الطعام إن وجد وليس تدوير كلمات الحق. طوابير الناس المنتظرة لساعات جرة الغاز (وأحياناً تنتظر أيام) مجللة بالصمت، طوابير الناس أكثر من 400 شخص ينتظرون رغيف الخبز الرديء (لأن الأفران لا تخبزه جيداً بسبب نقص مادة المازوت) مجلله بالصمت، طوابير الناس المنتظرة الرز الرديء مجلله بالصمت، وكذلك طوابير الناس المنتظرة أرخص وأردأ أنواع الدخان في العالم مجللة بالصمت، وثمة من يشتمها لأنها لا تنتبه لصحتها ولا تبالي بانتشار وباء كورونا! وراتب كل شخص من هؤلاء المنتظرين يعادل ثمن كيلو ونصف الكيلو من اللحم! وطبعاً أساس غذائهم الخبز الرديء والشاي والتسول. لكن يسمح البعض المترف لنفسه أن يشتم هؤلاء السوريين ويصفهم بالقطيع والحمير لأنهم يدخنون ويتقاربون غير مبالين بصحتهم ووباء كورونا.

في هذه الظروف عدت إلى سوريا تسندني بطارية الكهرباء الثامنة في إضاءة الصالون والتلفاز لكنها لا تفيد أبداً في التدفئة ولا في تشغيل أية أداة كهربائية أخرى. كل شيء حولنا يثير الرعب فتداول مجرد كلمة دولار يستحق العقوبة فصار اسم الدولار (الشو اسمو). بعد أيام من عودتي إلى سوريا أصرت جمعية الحوار السوري السوري (وأنا في الواقع لم أكن قد سمعت بها مسبقاً ولا أملك أية فكرة عنها أن تقيم لي تكريماً)؛ فرفضت لأنني أعرف أن سوريا لا تكرم إلا الموالين للنظام، وهم عادة رؤساء اتحاد الكتاب العرب أو شخصيات مماثلة، لكن إلحاح بعض الأصدقاء بأن جمعية الحوار السوري السوري تضم سجناء رأي كثيرين مثل السيد عادل نعيسة مثلاً –الذي سُجن 20 عاماً–وغيره أكثر من ثمانية أشخاص كانوا سجناء رأي وانضموا إلى الحوار السوري السوري كي تبدأ مرحلة الحوار البناء القائم على المحبة وحب الوطن ومحاولة التقارب في وجهات النظر من أجل بناء علاقات محبة بين السوريين ليتمكنوا من بناء وطن مُعافى. قبلت وكانت الجلسة تضم حوالي أربعين شخصية أغلبها موالون وبعض سجناء الرأي السابقين، وكانت اللغة خشبية وميته وخطابية، وكان أحد الحاضرين (لم ألتق به أبداً ولا أعرفه) يدعي أنه فنان تشكيلي وينتمي للحزب الشيوعي، لم ينطق بكلمة ولم يكف ثانية عن التدخين حتى كدنا نختنق. بعد هذا التكريم الهزلي الشكلي اللامعنى له سوى إيهام الناس أن سجناء الرأي السابقين أصبحوا أصدقاء مع الموالين للنظام، فوجئت بمنعي من السفر وباستدعائي لمراجعة فرع الأمن العسكري في اللاذقية! ولم أعرف السبب فأنا عادة لا أنشر مقالاتي على صفحتي على الفيس بوك وأعترف أنني لست كاتبة سياسية بل أتقن التعبير عن آلام الناس وأوجاعهم وصمتهم المُهين وأكتفي أن يوقفني أحدهم أو إحداهن في الطريق ويقولان لي: نحسك تحكين عن وجعنا تماماً لكننا لا نجرؤ على البوح. لم تكن المرة الأولى التي أمنع فيها من السفر بل المرة الرابعة والمرات السابقة كانت على حدود العريضة (الحدود السورية اللبنانية، فكنت أعود أدراجي مذلة مهانة إلى اللاذقية). ولم تكن المرة الأولى التي استدعيت فيها إلى فروع أمنية متعددة بل مرات عديدة حتى أنني وبسبب نفس المقال استدعيت إلى فرعين أمنين وحين سألت: “لماذا هذا الإجراء!” قالوا لي أنهم استحدثوا إجراء اسمه التطابق وطبعاً لم أفهم ما هذا التطابق. هذه المرة (بعد تكريمي الهزلي في اللاذقية) مُنعت من السفر وأستدعيت إلى الأمن العسكري بسبب تقرير كيدي كتبه بي السيد الشبيح المؤذي الفاشل ( إن الناجح لا يؤذي ولا يحقد) الذي يدعي أنه فنان تشكيلي وينتمي للحزب الشيوعي وكلف نفسه آلاف الليرات السورية كي يطبع مقالات كنت كتبتها منذ سنوات خاصة مقالي عن الخوذ البيض الذي نشرته منذ خمس سنوات وكتبت فيه بأنهم منظمة إنسانية إغاثية، من أين أتى هذا المخلوق الكرم حتى يطبع مقالاتي وكي يكتب بصراحة فاقعة على صفحته على الفيس بأنني خائنة وماسونية والتقيت طبقة الروتاري عندما قدمت محاضرات في هولندا (واضح أنه لا يعرف معنى الروتري) لم يترك بذاءة أو شتيمة إلا وشتمني بها وكان بإمكاني أن أقدم شكوى ضده لكن حالة من القرف الشديد أصابتني فحظرته وقام أصدقاء ومعارف كثيرون بحظره، لكن الأمن العسكري قبل مقالاتي التي قدمها ومنعني من السفر واستدعاني. ولا أنكر أن فرائصي تقصفت رعباً وأن دقات قلبي تسارعت فوق المئة، وبأنني سارعت لشراء دواء الليكزوتان المهدىء عيار 3 ولم يؤثر بي، وأنني كنت أنظر كل ثانية إلى ساعتي معتقدة أنها معطلة لأن الخوف يجمد الزمن، وعرفت الأرق بأحقر أشكاله وعرفت التخلي والنبذ بأقسى تجلياته لأن من تعتقدهم أصدقاءك يتخلون عنك ويهربون منك حين تقع في مشكلة أمنية، حتى أن أحد أصدقائي يستعمل تعبير بأنه يتغوط تحته إذا سمع أن أحد عناصر الأمن يسأل عنه.

كان علي أن أبحث عن واسطة كي لا أنتظر خمس ساعات أو ست ساعات في فرع الأمن في غرفة حقيرة منفردة عادة فيها أسرة معدنية صدئة قذرة وكنت أفقد صوابي من الإنتظار الطويل فأخرج إلى المنشى الضيق وأدخل غرفاً بائسة يعمل فيها موظفون وجوههم مكفهرة أبادرهم بالسلام فلا يردون ولا ينظرون باتجاهي، وأسألهم برجاء ولطف أن يقول لي أحد منهم كم علي أن أنتظر بعد، فلا يردون علي كأنني شبح. أصريت هذه المرة أن ألجأ لأحد معارفي كي يعفيني من الانتظار وبالفعل أعطاني هاتف ضابط عالي المرتبة وقال لي اتصلي به وهو سيؤمن لك مقابلة العميد (أو العقيد، لست متأكدة) في فرع الأمن العسكري، لكنني فوجئت بالواسطة العالية جداً يسألني ساخراً وشامتاً في الوقت نفسه: “ولماذا يزعجك الإنتظار لهذه الدرجة! البارحة ابنتي إنتظرت أربع ساعات لدى طبيب النسائية رغم أنها كانت على موعد!” وجدت نفسي وبحركة انعكاسية ألصق راحة يدي على فمي وأضغط بقوة كي لا تنفلت مني عبارة: “وهل هذه الحالة مثل تلك! هل الانتظار في عيادة طبيب مثل الانتظار في غرفة في مبنى أمن الدولة العسكري أو السياسي أو لا أعرف ماذا.” لكنه وفى بوعده ولم أنتظر، لكن حالة من الهياج اللاإرادي أصابتني قبل موعدي مع العقيد في الأمن العسكري؛ فأخذت أصابعي تتقلص بشكل غير إرادي وأصابني ضيق تنفس وحاصرتني أفكار الموت والانتحار كإعصار تلف جسدي الضئيل واتصلت بقريبي وهو محامي وأخذت أصرخ: “لن أذهب، لن أذهب، قد يعتقلونني، ودارت حول رأسي مئات وجوه لأغلى الأصدقاء كلهم اعتقلوا أكثر من عشر سنوات وهم في العشرينات بسبب جريمة رأي وبعضهم مات تحت التعذيب، وحاول قريبي تهدئتي وقال: “سأوصلك بنفسي لا تخافي مجرد بضعة أسئلة”، وتحولت إلى صراخ ولعنت الساعة التي عدت فيها إلى سوريا وآمنت أن الوطن يعني تماماً الذل، ولا أدرك صدقاً كيف أوصلني قريبي إلى فرع الأمن العسكري في اللاذقية وكنت أنظر بدهشة غريبة للناس التي تمشي وللدكاكين كما أنني أرى كابوساً، كما لو أن ثمة تساؤلاً طالعاً من أعماق روحي: “هل هؤلاء أحياء حقاً”.

ووصلت حواجز الأمن العسكري وكان الموظف أو المُجند الواقف في كوة صغيرة بالكاد تتسعه يلبس فانيلا فقط! “يا للاستهتار واحتقار المهنة ألا يفترض أن يلبس قميصاً”! ونظر إلى باحتقار وهو يطلب هويتي كما لو أنه يحكم علي أنني خائنة سلفاً ورافقني مجند نحيل وفقير لدرجة رغبت لو أعطيه مالاً ليشتري طعاماً وثياباً ومشينا طويلاً في الشمس الحارقة، وكان مبنى الأمن العسكري مؤلفاً من عدة مباني، وأشار لي إلى مبنى ودخلت فوراً غرفة الضابط متجهم الوجه وعلى يمينة أكثر من ثمانية أجهزة هاتف لا تتوقف عن الرنين وكان كالساحر يرد عليها كلها، وطلب مني الجلوس دون أدنى ترحيب وقال تفضلي تكلمي، فحكيت له باختصار قصة الحيوان الذي صور مقالاتي، وبأنه لم يؤذني وحدي فقط بل أذى كثيرين. سألني فجأة: “هل أنت مع الخوذ البيض؟”. فاجأني سؤاله فقلت له هذا المقال كتبته منذ خمس سنوات وأظن وضع وطننا الحبيب سوريا خطير جداً الآن و قاطعني بلهجة آمرة وقال: “هل أنت مع الخوذ البيض؟” قلت: “كل قنوات التلفاز عرضت ما يقوم به الخوذ البيض من أعمال إنقاذ وإسعاف ولو تسمح لي لا يوجد إعلام محايد”. سأل بإصرار: “ماذا تقصدين لا يوجد إعلام محايد؟”. قلت له “هل تسمح أن أكون صريحة معك؟”. قال: “بالطبع نحن نريد من كل مواطن أن يكون شريكنا في الكلام والقرار”. ولا أعرف أي شيطان دفعني لأقول: “هل تذكر حضرتك لما كانت حلب كرة من الجحيم والنار، يومها مذيع القناة الأخبارية السورية قال: ابتسم أنت في حلب”. وحل صمت من رصاص بيننا ولا أعرف لماذا طفا بذهني عنوان رواية ميلان كونديرا: خفة الكائن التي لا تحتمل. هكذا أحسست تماماً كنت خفيفة كريشة عصفور وشعرت بطوفان من السعادة يتفجر في داخلي كينبوع ماء يتفجر من قلب صخر. بدا العقيد أو العميد منزعجاً لدرجة لا توصف، وانشغل باتصالات عديدة ثم نادى المجند وقال له خذ الدكتورة إلى المبنى الآخر. ومشيت مع مجند آخر ينافس الآخر بؤساً وفقراً وقصدنا مبنى آخر ودخلنا غرفة قذرة فيها صوفا ومكتب، وكان موظف المكتب مكفهر الوجه لدرجة شعرت أنه يعاني من بحصة في الكلية أو المرارة لشدة تشنج عضلات وجهه، وتظاهر أنه يقرأ في أوراق ويتفحص بدقة المكتوب، ثم يقلب ورقة إثر ورقة، ولمحت أكثر من عشرين مقالاً من مقالاتي كان قد طبعها الشبيح المدعي أنه فنان تشكيلي. وأخيراً نطق الصنم وقال: “نحن نعرفك دكتورة نعرفك جيداً وهذه التقارير المقدمة بك تقارير كيدية”. وقفت وقلت له: “طالما أنها تقارير كيدية لماذا قبلتوها!، ومن يجب أن يُعاقب أنا أم السافل الذي قدم لكم التقارير الكيدية أم أنكم تتفقون معه”. فقال: “هذا الكلام غير مسموح لك على كل سوف نسمح لك بالسفر مرة واحدة”.

مشيت في الطريق كالمسرنمة أتساءل ما هو الوطن وما هو الحنين؟ وتذكرت أنني تركت كل ميزات العيش المريح في باريس لأنني كنت أحن إلى بالوعة ممتلئة قذارة، وكنت أعتبر أن الوطن هو الحنين، وغلبت قيمة الحنين على الحرية والكرامة. لا شيء في العالم يعلو على الحرية والكرامة. أوقفت تاكسي وانفجرت ضاحكة قال لي: “خير ضحكيني معك”. قلت له: “كنت أقارن بين الانتظار في عيادة طبيب وفي مكان آخر”. قال: “لم أفهم”. قلت له: “الأفضل ألا تفهم”. يا للعار!