على طرقي البحرية

على طرقي البحرية

فوق المحيط

١

سأرشّ حول جسدكِ طحيناً

كما فعلَ أنكيدو حول جسد جلجامش

كي أتوهّج في شمس أحلامكِ

كي تشعري بطعمي
في لقمة الخبز في فمك.
فأنا أعيشُ في النار
التي تُنضجُ الرغيفَ الذي تأكلين منه.

 

٢

ليس الحبّ قصةً أرويها

فأنا لا أعودُ إلى الذكريات

ولا أفتحُ صناديق في زوايا غرفتي

كي أبحث عن رسائل قديمة

بل أترك باب حياتي مفتوحاً

كي تدخلي إلى الغابة

التي أعيش فيها وتبحثي عني

وهنا، إذا ما عثرتِ عليّ

سنزرع شجرة أخرى باسم الحب.

 

٣

بحثنا عن أيام أكثر راحة

عمّ يختصر المسافات بيني وبينك.

سافرنا في أذهاننا قليلاً

إلى أمكنة عشنا فيها

حين كنتِ تصعدين الدرج

وكنت أراقب خطواتك

وأخالهما في أوقات كثيرة

جناحين يرفعانك

وكنت أنظر إليهما يحلقان بك

ويتغلغل فيهما الضوء في الأعالي.

 

٤

كان الحب أحياناً

يصنع الفضاء ويوسّعه

يفتح أبوابه كلها ويزيح الستائر.

وفي أحيان أخرى

كان يوزع غيومه

يرعد ويبرق وتسقط أمطاره

وحينها نكون متعانقين

في صاعقة جسدية

تسقط فوق شجرة الرغبة.

 

٥

حين جاء الموت

لم يكن هناك حياة إلا في وجهكِ.

وحين جاء الظلام

لم يكن هناك وهج إلا في عينيك.

لم نلمح طريقاً آنذاك

كان المحاربون يعبرون على الدراجات النارية

وكنا نلمح التوابيت فوق كتفيْ

المدينة وهي تحني رأسها

في طريقها إلى المقبرة.

 

٦

في فجر أحد الأيام أيقظتْنا انفجاراتٌ

صنعتْ سماء من الدخان

وأصواتٌ خدشتْ لحم السماء بأظافرها الفولاذية.

غادرنا حينها البيت

أغلقنا الباب وراءنا

محونا أشياءنا وراءنا

لم يكن يتوهج في أعيننا

إلا ضوء الرحيل.

 

٧

وفي طائرة في الفضاء

شعرنا أننا ضائعان

أننا لن نصل إلى أي مكان.

كان كل شيء خلفنا يختفي في الدخان

وأيامنا القادمة

ضائعة في صوت المحركات العملاقة

فوق المحيط.

  

المدينة التي عشتُ فيها

 السماءُ فيها سقفٌ لصالات العزاء

والضوء غبارٌ يتساقط، تنثرهُ الريح

على ملامح وجهها الممحوة.

نهرُها الذي يجفّ في جسدٍ متصحّر

حنجرةٌ من الرمل ترتّل الأناشيد لمطرٍ لا يهطلُ.
أما ليلها الذي يعشقهُ الشعراء فمبقّع
بأضواء تنطفىء الواحد بعد الآخر
ليس لأن الفجر قادم بل لأنها
لم تعد قادرة على التوهج.
الأشجار التي بقيت فيها
ضيّع الربيع طريقه إليها.
تعرفُ هذا كلماتٌ تخرج مذعورةً
من الأفواه في المقاهي.
يعرفُ هذا من يرى كلمات كاذبة
تخنقُ عناوين الصحف.
تعرف هذا أحلامٌ لا تتحقّق
وأعينٌ ترى من ثقوب في الحصار.
فوق حاراتها الملوّثة
حيث يتدفّقُ نَهْر الأسلاك
تبدو الشمسُ باهتةً ككرة قدم مغبرّة
شاطها أحدهم وبقيت عالقةً في الأعلى.
المدينةُ التي أمضيتُ فيها نصف حياتي
كانت دوما تفتحُ لي الباب
لا لكي أدخل إليها بل كي أغادرها.

 

ريح الخوف

١

شيءٌ ما يرجّ الكوكبَ

يرميه

في ريح الخوف.

 

٢

كان الكوكبُ دوماً

على حافّة الهاوية.

الغريب أنه لم يسقط.

 

٣

شوارعُ المدن خالية.

الموتُ ينتظرُ في الشوارع

في السيارات المركونة

على شواطئ البحار

على خشبة المسرح

في الأوراق الأولى للصحف

في البارات

والمدارس

في القبل والمصافحات

في عواء الكلاب الضجرة

وتصريحات السياسيين.

 

٤

سجادة الصلاة

تحلّ خيوطها

كي تصنع كمّامة.

الدعاء

لا يعثر على خشب

كي يصنع سلماً للصعود.

 

٥

أنشغلُ الآن

بترتيب المائدة

كي أجلس إليها

أنا والوحدة.

 

٦

الكأس الممتلئ أمامي

يشعر أنه فارغ.

يدي تشعر أنها

ليست يدي.

صرنا جسوراً

يعبر عليها الموت

وها أجسادنا تتدلى منتظرة

على أغصانها الذابلة.

 

٧

كما يعيشُ الموتُ في قبرٍ

يعيش في اللامبالاة.

في أيد لا تعرفُ معنى عناق

لا حاجة إليه.

 

٨

بما أنني خلف الجدران الآن

أحبّ أن أسأل نفسي:

ألم أكن خلفها من قبل؟

 

٩

العالم موحشٌ الآن

شوارعه مهجورة

والبشر يهربون من بعضهم.

واقعٌ أراد

أن يكون أكثر وضوحاً.

 

١٠

لو وُضع للجسد البشري تاريخ،

ماذا هناك غير الموت؟

 

١١

حتى في أوج شعوركَ بأنك نَفَسٌ عابر

حفيفٌ في أوراق أشجار اللحظات،

حتى لو كنت تعرف

أنك لا تستطيع التمسك

بأي شيء

ابْنِ، ابْن حديقة للفرح

وازرعْها بالورود.

 

١٢

لا أحب الدعاء

وإذا ما استمرت الحياة

حتى العكاز يمكن أن يكون

حفيداً، كما قال الهنود الحمر.

 

١٣

يسير البشر واضعين كمامات على وجوههم

نظراتهم قلقة

ثمة شيء ما يتربّص بهم في الخارج.

لكن في الأعين نفسها وهج

لا يمكن أن يطفئه أي شيء.

 

١٤

كان الشاطئ مهجوراً

خُيّل لي أن الأمواج والغيوم خائفة

وهي على حق إن كانت هكذا

تعرف أنه لا معنى لها

دون أعين تنظر إليها.

 

١٥

كان الشاطئ مهجوراً

والطيور قلقة.

كان صوت الريح مختنقاً

وهي تهب فوق دروب خالية.

 

هذا هو الجسد

 ١

رغم أنه يتمنى ذلك أحياناً،

لا يستطيع الجسدُ

أن يصبح حجراً.

 

٢

الجسد موجةٌ

وفي غالب الأحيان

يكون البحر في داخله.

 

٣

تتجمّع الغيوم في السماء

وتلعب الريح بأشكالها وتبدّدها.

هذا هو الجسد.

 

٤

حين ييدأ الطريق ولا ينتهي

حين تبحر السفينة وتضيع البوصلة

هذا هو الجسد.

 

٥

في منقار النورس المحلق فوق الماء

كائنٌ بحري يتدلى.

هذا هو الجسد.

 

٦

اليوم، في مزيجٍٍ

من الأصداف والرمال

رأيتُ آثار أجساد قديمة.

 

٧

في الأعشاب التي تطلع

من شقوقٍ في القبور وحولها

يشير الجسد إلى طرقه.

 

٨

يولد الجسد أكثر من مرة في الحب

وبعد ذلك إذا اختار مسكناً

يكون عادةً الريح.

  

حين عشقتُ أول مرة

١

حين عشقتُ أول مرة

كانت قدماي تتسلقان الجبال وتهبطان السفوح

كالهواء الذي تميل فيه الأعشاب.

 

٢

حين عشقتُ أول مرة

كنتُ أرى نفسي بعينيها

وكنتُ معجباً بنفسي.

 

٣

حين عشقتُ أول مرة

شعرتُ أن الانتظار

ثمرةٌ يتقطّر عصيرها بين شفتيَّ الظامئتين.

 

٤

حين عشقتُ أول مرة

لم أعرف قلبي ولم يعرفْني

كما لو أنه خفقَ في صدرٍ آخر.

 

٥

حين عانقتُ أول مرة

لم أر ما كنت أعانقه ولم أر نفسي

كنا جسدين ضائعين في بعضهما.

 

٦

حين قبّلتُ أول مرة

شعرتُ أنني ضائع ولا يمكن أن يخرجني

من المتاهة إلا قبلةٌ أخرى.

 

٧

حين قبّلْتُ أول مرة

عرفت أن للشفاه وروداً تتفتّح

وأن لها عطراً ينتشر.

 

٨

حين عانقتُ أول مرة

عثرتُ على نفسي بين ذراعيكِ

وحين خرجتُ من بينهما ضعتُ من جديد.

 

٩

حين يعشق المرء

يعشق دوماً لأول مرة

كما لو أن الحب ينجبه كل مرة.

 

الطائر الطنان 

١

حين يُحلّقُ الطائر الطنان

تُصْبح أجنحتهُ لامرئية.

هل يريد أن يتحوّل إلى هواء

أم لأنَّ الرحيق يُسْكره؟

 

٢

كما يعيشُ الطائر الطنان على رحيق الأزهار

أعيش على رحيق الكلمات

التي تهمسُ لي شيئاً.

 

٣

كان اللون الأخضر كثيفاً في ذلك اليوم

كانت الأشجار تنوء به

كأنها تتمنى عودة الضباب

كي يخفف من وطأته.

 

٤

العلاقةُ بين نسبة الرطوبة في الهواء

وسقوط الضوء على الطائر الطنان

هي ولادة قوس قزحٍ في ريشه .

 

٥

حين يسقط الضوء

على ريش الطائر الطنان

يهاجر من ذاته ويصبح آخر.

 

٦

ما الذي يجري لي؟

كلما رأيتُ جناحيْ الطائر الطنان

تمنيتُ لو أنهما على جسدي.

 

٧

يا مدينة ولادتي النائمة

فوق الشاطئ الصخري

لستُ طائراً طناناً

كي أحلّق نحو الأعلى والأسفل

كي أطيرَ جانبياً أو بالمقلوب

أو كي أحلّق مثله باتجاه الوراء

حين أحنّ إليكِ.

لا حاجة كي أفعل ذلك يا مدينتي

فأنت تعيشين في داخلي

والعلاقة بيني وبينك

تاريخٌ من الأجنحة

التي بلا فضاء.

  

على طرقي البحرية

الفجرُ ضبابيٌّ

على طرقي البحرية،

وصدْر المياه ليس رحْباً

كل شيء هاجعٌ

 وراء باب عزلته.

الريح تسرعُ كأنها تنوي

العودة من حيث جاءت

والضوء يبهت

 كأنه يفكر بالاحتجاب في مصدره.

شعرتُ بثقل وحْدتي

وبثقل الفراغ على جسدي.

ربما لن يغيبَ الضوء طويلاً

لكن هل سيكشفُ حين يأتي

غير ما حجبه الضباب؟

كانت المدينة تتقلب على سرير الأرق

تنتظر خبراً

يدلي حبله في الهاوية.

الملك هو الملك: قناع السُّلطة وجوهرها

الملك هو الملك: قناع السُّلطة وجوهرها

بعد عام 1978 دخل سعد الله ونّوس في صمته الطوعيّ الذي استمر عشر سنوات. عزلة الصمت والصيام هذه كانت صيامًا عن الكتابة المسرحيّة فقط، إذ شهدت فترة العزلة تلك أغزر فترات حياته نشاطًا في المسرح، حيث ساهم في إنشاء مجلة الحياة المسرحيّة، وتأسيس المعهد العالي للفنون المسرحيّة والتدريس فيه، إضافة إلى تأسيس المسرح التجريبيّ الذي غيّر المسرح السوريّ تغييرًا كليًا، وكتب في المسرح وعنه، وفي الثقافة وعنها، كما لم يكتب من قبل. ولكنْ برغم هذا النشاط الهائل، واصلَ ونّوس (وكلّ مَنْ كتب عنه) الإشارة إلى السنوات 1978-1989 بكونها «فترة الصمت»، وكأنّ ونّوس يعني أنّ الكلام لديه مرتبط بالكتابة المسرحيّة الإبداعيّة حصرًا، وبأنّ كلّ ما عداها – على أهميته – ليس إلا إسهامات جانبيّة ترفد كتابته ولا تحل محلّها. اللافت أنّ ثمة فترة صمت أخرى أقصر تلت عودته الموجزة إلى الكتابة عام 1989 حين كتب مسرحيّة الاغتصاب، إذ استمرّت أربع سنوات تقريبًا حتى عام 1993 حين صدرت مسرحيّته يوم من زماننا، والمشاهد الأولى من منمنمات تاريخيّة. لم تحظ فترة الصمت الثانية باهتمام كسابقتها لأسباب عديدة، إذ شهدت هذه الفترة نشاطًا أوضح وحضورًا أكبر، حيث نال جائزة كبرى، وساهم في مشروع قضايا وشهادات مع عبد الرحمن منيف وفيصل درّاج (لعلّه أعظم مشروع ثقافيّ في سوريا التسعينيّات)، عدا عن إصابته الأولى بالسرطان التي برّرت – ولو جزئيًا – سبب صمته الموجز. ولكنّ تلك الأسباب ليست الأهم. لدينا سبب آخر يبرّر فترتَيْ الصمت كلتيهما: الخيبة.

كانت أواخر السبعينيّات وأوائل الثمانينيّات أشرس فترة في تاريخ سوريا الراهن (قبل انتفاضة 2011) حيث تضاعف القمع إلى درجات مرعبة، وترافقَ مع ظروف إقليميّة وعربيّة شتّت أنظار الناس عمّا يحدث: اتفاقيّة كامب ديڨد والحرب العراقيّة-الإيرانيّة، ومن ثمّ اجتياح بيروت. كانت تلك الظروف صاعقةً بدرجة كبيرة أعمتْ دارسي ونّوس عن الأسباب الشخصيّة للخيبة. هل كانت الظروف السياسيّة وحدها ما دفع ونّوس إلى محاولة انتحار عام 1979، تلتها فترة الصمت الطويلة؟ نعم ولا، فالسببان متضافران. لا يمكن لنا فهم أسباب فترة صمته الأولى الطويلة إلا حين نحاول فهم أسباب فترة صمته الثانية القصيرة: خيبة ونّوس من تلقّي أعماله. لو تأمّلنا فترة صمته الثانية سنجد أنّها بدأت بعد عرض مسرحيّته الاغتصاب، وبعد خيبته التي عبّر عنها مرارًا بسبب إساءة الفهم الفادحة التي دمّرت النص. كان ونّوس قد طوّر معظم أدواته الكتابيّة في فترة صمته الطويلة، وغيّر زاوية نظره للكتابة وللمسرح، حيث خفّف من الأيديولوجيا الصارخة التي كانت تغرق فيها أعماله الأولى، وحاول تبيان أفكاره الجديدة من خلال مسرحيّة الاغتصاب، ولكنّ الفهم الأيديولوجيّ المختزل للمسرح ولقضيّة فلسطين كان ما يزال راسخًا لدى الجميع ما أدّى إلى تسطيح المسرحيّة وقولبتها ضمن الأفكار الأيديولوجيّة الجامدة للجمهور، فصمت ونّوس من جديد قبل أن يبدأ مرحلته الختاميّة المذهلة كمًا وكيفًا في الكتابة، مرحلة شهدت تغييرًا جذريًا في كتابته وأفكاره ليقدّم سبع مسرحيّات عظيمة خلال خمس سنوات (1993-1997)، تكاد لا تشبه مسرحيّاته السابقة على الإطلاق: دفقات جماليّة بديعة، تشريح سيكولوجيّ قاسٍ ورهيفٍ في آن، تخفّف هائل من الحمولة الأيديولوجيّة. المفارقة هنا هي أنّ التلقّي الأيديولوجيّ الجامد الذي خيّب أمل ونّوس بعد الاغتصاب كان هو ذاته الذي كانت تنضح به أعماله الأولى. خيبة أمله من تلقيّ الاغتصاب مماثلة ومعاكسة في آن لخيبة أمله من تلقّي مسرحيّتَيْ الملك هو الملك (1977) ورحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة (1978). الهدوء الخانع في تلقّي مسرحيّتَيْ السبعينيّات يماثل التأدلج العاصف في تلقّي الاغتصاب. ونّوس السبعينيّات مرآة معاكسة لونّوس التسعينيّات: ونّوس الذي كان سيرقص فرحًا لو نجح التلقّي الصارخ لـ الملك هو الملك (في خروج مظاهرة مثلًا، كما كان يحلم دومًا) كاد يُجنّ بسبب تحقُّق هذا الصراخ في تلقّي الاغتصاب. الهدوء الذي خيّب أمله في نهاية السبعينيّات، كان هو ذاته الهدوء الذي كان يتمنّاه بعد عقدين. لا بدّ من التركيز على دراسة مسرحيّة الملك هو الملك على الأخص لنفهم عالم ونّوس كلّه: الملك هو الملك (ورحلة حنظلة التي يمكن لنا أن نراها جزءها الثاني أو المُكمِّل) هي النقطة الفاصلة في مسيرة ونّوس المسرحيّة. كانت نهاية مرحلة وبداية مرحلة مختلفة بل ومضادّة فعليًا.

الملك هو الملك ليست مسرحيّة مجهولة، بل لعلّها أشهر مسرحيّات ونّوس. حبكتها ليست مجهولة أيضًا، بل لعلّ رواج المسرحيّة أحد الأسباب الأهم في رواج حدوّتتها مع أنّها مأخوذة من قصة قديمة. ربما يعرف قراء كثيرون أنّ حبكتها مأخوذة من حكاية «النائم واليقظان» في ألف ليلة وليلة، ولكنّ عددًا أقل قرأ تلك الحكاية الأصليّة، وقلّة قليلة قرأت الحكاية نفسها في مدخل مسرحيّة شيكسپير ترويض السّليطة. القصة نفسها ولكنّ السياقات مختلفة. وكما هي الحال في الفن عمومًا، لا تهمّنا القصة بقدر ما تهمّنا معالجتها. ليس «ماذا» بل «كيف». ولذا سأتناول تلك السياقات الثلاثة المختلفة، وسأبيّن كيف نجح ونّوس بدرجة كبيرة في قلب التأويل السطحيّ للقصة، ليقدّم عملًا لا يشبه مصدره إلا بخطوطه العريضة.

اقتبس ونّوس حدّوتة مسرحيّته من ألف ليلة وليلة. أشهر طبعتين كاملتين لدينا من ألف ليلة وليلة هما طبعة بولاق وطبعة برسلاو، ولكنّهما ليستا متطابقتين إذ تختلفان باختلاف المخطوطات التي اعتمد عليها محقّقو الطبعتين. لم يعتمد ونّوس على أيٍّ من هاتين الطبعتين بل قرأ نسخة المطبعة الكاثوليكيّة التي حذفت المقاطع الجريئة وجمعت الحكايات من مصادر مختلفة. نجد حكاية «النائم واليقظان» في المجلّد الثاني من تلك الطبعة ولكن بعد «تهذيبها» من كلّ ما لا يتناغم مع المزاج المحافظ للكنيسة. لا نجد الحكاية في طبعة بولاق، ولكنّنا نجدها في طبعة برسلاو كاملة وبلغتها الأصليّة التي تمزج الفصيح بالمحكيّ. تبدأ الحكاية من نهاية الليلة الثانية والسبعين بعد المئتين وتنتهي بنهاية الليلة الثالثة والثمانين بعد المئتين، ولكن تحت عنوان مختلف: حكاية هارون الرشيد مع أبي الحسن الخليع. ولا نعرف من أين استمد شيكسپير تلك الحكاية، ولكن على الأرجح أنّه لم يقرأها بل سمعها كما تناقلتها الألسن لأنّ الحكاية دخلت ضمن التراث الفولكلوريّ لشعوب كثيرة: يشعر أحد النّبلاء أو الملوك بسأم فيقرّر اللعب حين يخدع شخصًا مغفّلًا سكرانًا بحيث يقتنع المغفّل أنّه بات الملك، وتنتهي اللعبة بعد يوم واحد حين يعود منطق السُّلطة المعتاد فيعود الملك ملكًا والمغفّل مغفًلًا. اختلاف حكاية ألف ليلة وليلة في أنّها سمحت للخليفة بخداع أبي الحسن مرّتين، وبذا زاد حبور الخليفة وتعالت قهقهاته وقهقهات القرّاء. الحكاية مضحكة حقًا، وتستحق قراءات عديدة، على الأخص بسبب لغتها المميّزة التي تمزج الفصيح بالمحكيّ والتي انتقلت إلى لغة السير الشعبيّة ولم تنتقل إلى «الأدب الجاد» فخسر الأدب العربيّ فرصة ثمينة لتطوير اللغة الأدبيّة. ولكن هذا خارج نطاق المقالة على أيّة حال.

لا يتعامل شيكسپير مع الحكاية بوصفها جزءًا جوهريًا من مسرحيّته، إذ يمكن لنا حذف المدخل من دون أن تتأثّر المسرحيّة. ولذا كان هذا المدخل مثار سجالات نقديّة طويلة تناولت سبب وجوده في هذه المسرحيّة دون غيرها، إذ يمكن إدخالها إلى مسرحيّات عديدة. يلتقي اللورد بكرستوفر سلاي وقد نام من فرط السَّكَر فتخطر له لعبة مسليّة: احملوا هذا السكّير إلى بيتي ليقتنع أنّه بات لوردًا. الاختلاف عند شيكسپير هو تصادف اللعبة مع دخول فرقة مسرحيّة تريد الترويح عن اللورد فيأمرها اللورد بعرض مسرحيّتهم أمام اللورد الجديد المغفّل. هذه المسرحيّة هي مسرحيّة ترويض السليطة نفسها. أي يبدأ شيكسپير هنا لعبته الأثيرة في إدخال المسرحيّة ضمن المسرحيّة، ولكن ما إنْ يبدأ تمثيل المسرحيّة حتّى ينتهي دور سلاي تمامًا، ويختفي من الأحداث. اختفاء سلاي من مسرحيّة شيكسپير يقوّي ثنائيّة الوهم/الحقيقة التي تقوم عليها مسرحيّة ترويض السليطة. يعيش أبو الحسن تجربة سلاي مضاعفةً: ينام ويستيقظ فيجد نفسه خليفة، ثم ينام ويستيقظ ليجد نفسه وقد عاد أبا الحسن، يُجنّ ويُضرَب لأنّه ظنّ أنّه الخليفة حقًا، ثم يعقل، فيستثمر الخليفة فرصة ذلك التعقّل الهش ليُدخله في التجربة مرةً ثانية. ينام أبو الحسن ويستيقظ فيجد نفسه خليفة مرة أخرى إلى أن يأتي الخليفة ويُبدّد الوهم وتسود «الحقيقة» من جديد.

لم يكتف ونّوس بهذه الحكاية بل جعل أبا عزّة يدخل في وهم أنّه الملك قبل أن تبدأ تجربته تلك. ربما كانت تلك إضافة ونّوسية أصيلة أو ربما قرأها في حكاية مختلفة من ألف ليلة وليلة، نجدها في طبعة برسلاو من نهاية الليلة الثالثة والأربعين بعد الخمسمئة إلى نهاية الليلة الرابعة والخمسين بعد الخمسمئة تُصوّر شخصًا يزعم أنّه الخليفة. محمد علي بن محمد الجوهريّ في حكاية «الخليفة الكاذب» لا يطمح لأن يصير الخليفة بل خلق عالمًا موازيًا يكون فيه هو الخليفة حقًا بقصوره وخدمه وجواريه. أما أبو عزة فيعيش في وهم ضمن الواقع: يتمثّل دور الملك في واقعٍ فيه ملكه الفعليّ. إضافات ونّوس إلى مسرحيّته ضاعفت الألعاب وجعلتنا نعيش في متاهة معقّدة يلعب فيها الجميع: لعبة الملك، لعبة عرقوب، لعبة الوزير، لعبة زاهد وعبيد. حوّل ونّوس حكاية بسيطة تقوم على لعبة مضحكة إلى عالمٍ مرعب شرّح فيه آليّات السُّلطة وأقنعتها وجوهرها. إنْ كانت حكاية سلاي قد بُترت قبل تطوّرها فهذا لا يعني بحال من الأحوال استحالة توقع مسارها، بل إنّ اختفاءه في ذاته هو النتيجة المتوقّعة: سيستمر وهم سلاي باستمرار غرقه في عالمه الكحوليّ بعيدًا من واقع الملوك والعامة على السواء. ما من فارق كبير إنْ صار سلاي لوردًا أم عاد إلى مهنته سمكريًا، وحتّى مهنته تلك عابرة لأنّه تقلّب في مهن عديدة وكأنّه يعيش في وهمٍ دائم لا واقع فيه. تغيّر ظاهريّ فيما الجوهر ذاته: كائن هش يعيش في دنيا هشّة مختلَقة رجراجة لا تعرف الثّبات ولا تكترث له. حين يصبح لوردًا فستكون محض حلقة من حلقات تقلّباته الوهميّة/الواقعيّة الكثيرة التي لن تنتهي إلا بموته. صحيح أنّه يتماشى مع اللعبة الجديدة حين ينتقل إلى التحدّث شعرًا كالنبلاء لا نثرًا كالعوام، ولكنّ تماشيه متّسم بتردّد خفيّ وكأنّ لاوعيه يرفض هذا التغيّر الجديد الذي لا يلائمه. حتّى في غمرة اقتناعه الظاهريّ بأنّه صار لوردًا لا يتخلّى سلاي عن البيرة ولا ينتقل إلى النبيذ، بل لا يجرؤ على طلب كوب كبير بل يطلب أصغر كوب ممكن لأنّه ما زال (وسيبقى) في تذبذب تام بين الوهم والواقع. سلاي هو سلاي ولن يصبح لوردًا. هذا ما يعرفه هو قبل غيره.

أبو الحسن حالة مختلفة لأنّ درجة تصديقه كانت أكبر ولكنّها لم تصل إلى مرحلة التماهي المطلق برغم هذا. لا ينبغي نسيان أن أبا الحسن كان يعيش أحلامه/أوهامه الموقّتة قبل أن يلقى الخليفة وتبدأ اللعبة. كان همّه وقتيًا زائلًا يبدأ ببداية الليل وينتهي بنهايته، يبدأ بسهرة وطرب مع أيّ شخص عابر وينتهي قبيل الفجر حيث يودّع ضيفه العابر محافظًا على قاعدة ألا يسهر مع الشخص نفسه مرتين. الثبات محض وهم بالنسبة إلى أبي الحسن، فأيّ ثبات مهما طال لن يدوم أكثر من ليلة واحدة يتبدّد بعدها الثّبات كما تتبدّد المنامات مع شمس النهار. ولذا وجدنا حيرته أقل حين تحوّل إلى خليفة: السهر والطرب بقيا على حالهما وما من اختلاف إلا في المكان والظروف. ولكنْ لا بدّ للعبة من تماهٍ ولو موجز، ولذا بات أبو الحسن يتمنّى أن تطول الليلة كي يؤخّر تبدُّد المنام الواقعيّ، إلى أن كاد يصدّق اللعبة حقًا فنام واستيقظ ظانًا أنّه الخليفة. ولكنّ شمس النّهار ستبدّد وهمه تبديدًا أقسى الآن لأنّه كاد يتماهى مع دوره في اللعبة. لا نرى نهار أبي الحسن إلا بعد تلك الليلة الوهميّة، إذ كانت سيرته ليليّة فقط. كان ليله هو الواقع فيما النّهار، النّهارات كلّها، مرحلة عابرة. أما الآن مزّق النّهار الأقنعة وكاد أبو الحسن يُجنّ لأنّ خيوط السُّلطة الجديدة أفلتت من يديه، ولم يعد – في الوقت ذاته – قادرًا على الإمساك بخيوط سلطة الليلة الواحدة التي كان ينتهجها دومًا. ولكن حين تكرّرت اللعبة وصار خليفةً مرة ثانية، لم يعد يكترث للمكان أو السياق، أو الوهم أو الواقع بل غرق في رقص جنونيّ ليعيش بهجة لحظته إلى أقصاها من دون أدنى تفكير أو تحليل ما إذا كان هذه المرة يعيش وهمًا أم واقعًا، ولم تتغيّر ردة فعله حين علم أنّه أسير لعبة مكرّرة. لا فارق إنْ كان خليفة أم لا، إذ عاود الإمساك بخيوط سلطته القديمة التي تبدأ وتنتهي في ليلة واحدة.

أبو الحسن وسلاي لم يكسرا شروط اللعبة الصارمة التي تقوم على الأقنعة من دون أدنى خلخلة لجوهر السُّلطة. عاش كلاهما حياته «الطبيعيّة» حتى حين كادا يتماهيان مع العرش. واصل سلاي شربه، وواصل أبو الحسن بهجته، ولم يستغلّا سلطتهما الجديدة إلا في موقف طفيف: أراد سلاي أن يضاجع «زوجته» الجديدة، فيما قرّر أبو الحسن تنفيذ انتقامه الشخصيّ من جيرانه الشّيوخ الذين كانوا ينكّدون عليه سهراته اليوميّة. تلخّصت السُّلطة والعرش في استغلالين باهتين بقيا ضمن شروط اللعبة. ولكنّ ونّوس لا يكتفي بشروط الأقنعة أو حتّى بتمزيقها، بل جعل أبا عزّة يخلخل شروط اللعبة كلّها، ويعبث بجوهر السُّلطة نفسه. وصل التّماهي إلى درجته القصوى في الملك هو الملك، ولم نعد أمام لعبة عابرة كما هي حال ألف ليلة وليلة وترويض السليطة. كلُّ من اشترك في اللعبتين كان يدرك أنّه يمثّل دورًا في لعبة تُخفّف سأم الملك، ولم يحدث أدنى تمرّد، لأنّ الأقنعة ستُرمى في نهاية المطاف ويعود كلُّ جوهرٍ إلى جوهره. ولكنّ ونّوس أوصل عبثيّة اللعبة إلى حدود مرعبة. حوَّل ونّوس الحكاية المضحكة إلى قصة رعب حين شرّح مفهوم السُّلطة في ذاته. ليس الملك شخصًا بل هو منظومة كاملة لا يؤثّر فيها استبدال ملك بملك. شعار «مات الملك، عاش الملك!» لا يعني نهايةً أو بدايةً، بل هو استمرار لعمل السُّلطة بلا أدنى تغيير. حاشية الملك لم تُنكر أبا عزّة حين صار ملكًا، ولم تتعرّف إلى ملكها القديم حين بدأ لعبته. أمّا أركان السُّلطة فلم يكترثوا ما إذا كان هذا الملك هو ملكهم القديم أم لا طالما أنّ مسار الحُكم لم ينقطع، وأنّ أدوارهم لم تتخلخل. الملك هو العرش والرداء والتاج، والملك يبقى ملكًا طالما أنّه لا يتخلّى عن رموز سُلطته. حتّى حين يصبح الملك عاريًا ستستمر عجلة السُّلطة بالدوران برغم صوت هنا وتعجّب هناك. ربما كان عاريًا حقًا وضحكنا مع عبارة الطفل الذكيّ، ولكنّ الملك عاد ملكًا في اليوم التالي ولم يتغيّر أدنى تفصيل. أما هنا فلم يخلع الملك ثيابه بل خلع سُلطته كلّها من أجل لعبة لأنّه ظنَّ واهمًا أنّ السُّلطة هي الملك، بينما هي فعليًا نظام كامل لا بدّ للملك من أن يلعب دوره فيه بدقّة وإلا استُبدل ببساطة.

لم يعمد أبو عزّة إلى استغلال طفيفٍ لسُلطته العابرة كما فعل أبو الحسن وسلاي، بل أصبح هو الملك حقًا. بدأت حياة الملك الجديد بلحظة تتويجه، وأما كل ما سبقها فحياة شخص آخر تصادفَ أنّ اسمه هو اسم الملك. ارتدى أبو الحسن اسمه ووضعه الجديد حين ارتدى تاج الملك وأمسك بصولجانه. يشير ونّوس ببراعة إلى هذا التحوّل حين غيّر أسماء المتحدّثين مع تغيُّر هويّاتهم: تحوّل اسم «أبو عزة» إلى «الملك» بعد أن أمسك صولجانه، فيما بقي اسم «عرقوب» على حاله لأنّ تماهيه مع الوزير لم يكن تماهيًا تامًا؛ وكذلك حين تنكّر الملك والوزير باسمّيْ «مصطفى» و«محمود» بقي الاسمان على حالهما إلى أن تمكّن محمود من استعادة منصبه وزيرًا، فيما بقي مصطفى الذي كان ملكًا محتفظًا باسمه وهويّته الجديدة. أعظم مشهدين في المسرحيّة هما حوار الملك أبي عزّة مع «وزيره» عرقوب، وحواره مع أم عزة وعزّة. لا يثق الملك الجديد بعرقوب حتّى حين ظنَّ عرقوب أنّ التحوّل يشملهما معًا. عرقوب ابن ذلك الواقع الذي ولّى ويظنّ أنّ ما يعيشه الآن محض وهم عابر، على عكس الملك الذي نسف الماضي كلّه بواقعه وأوهامه وولد من جديد في واقع أوحد يكون فيه هو الملك، أما عرقوب فليس أكثر من آثار جانبيّة لزمن الماضي الذي لا بدّ من انتهائه. يحاول عرقوب تذكير الملك الجديد بمزاعمه القديمة التي كان يصرّح فيها بوجوب الانتقام من شهبندر التجّار والشيخ، ولكنّ خصوم الأمس ذهبوا مع أمس، كما سيذهب عرقوب لأنّه لا يصلح لدوره الجديد. وحين تدخل أم عزة وعزة على الملك الجديد، تشكّ عزة في أنّ هذا الملك يشبه أباها، ولكنّ الملك يُنهي ماضيه تمامًا في لحظتين: يأمر لهما براتب سنويّ، ويأمر مباشرةً بمعاقبة زوجها الذي اختفى وبتجريسه بحيث يُقفل الملك الجديد بذلك باب الماضي كلّه بلا تردّد.

لم تُلاقِ مسرحيّة الملك هو الملك تجاوبًا يرضي ونّوس، إذ ظنَّ الجمهور أنّ المقصود بالمسرحيّة هو ذاته الذي كان مقصودًا في الحكاية القديمة ذاتها: أقنعة تُخلَع وتُرتدى. ولذا بادر ونّوس إلى إضافة تعقيبٍ نظريّ يشرح المسرحيّة كلّها. التعقيب مهم جدًا لا لفهم المسرحيّة فقط، بل لفهم عالم ونّوس كلّه ولفهم فهمه الخاص للسُّلطة. تبقى لهذا التعقيب أهميته البالغة اليوم أكثر حتّى من المسرحيّة التي لا يمكن أن نراها من أفضل أعماله لو طبّقنا قراءة نقديّة صارمة. تعج المسرحيّة في نصفها الثاني بتخبّطات كثيرة تُربك القارئ والمتفرّج، عدا عن غرقها في أمثولة مباشرة بدت فيها أقرب إلى البيان المسرحيّ لا إلى مسرحيّة بكامل فنيّاتها الجماليّة. خفَّ بريق المسرحيّة الآن ولكنّ التعقيب النظريّ بقي على أهميّته بلا تغيير، لأنّ فهمنا لمسألة السُّلطة ما يزال قاصرًا كما كان عليه الفهم السائد في السبعينيّات. يشير ونّوس إلى أنّ «تغيُّر الملك مع استمرار النّظام هو حدث عابر أو «انقلاب عسكريّ» ثانويّ الأهميّة. … إنّ حتميّة واحدة هي التي تتكلم وهي التي تتصرف. وهذه الحتميّة هي الهويّة الملموسة. أما الملك والملك، الأول والثاني، والثاني والأول، فيمكن باستمرار، ومكررين اللعبة مرة ومرة، أن نغيّر أحدهما بالآخر وتبقى الحتميّة واحدة لا تتغيّر. هنا ليس الجذريّ إبدال هويّة بهويّة، وما من إبدال حقيقيّ، بل إبراز تلك الاستمراريّة الطاحنة التي هي وحدها حقيقيّة وملموسة». لهذا التعقيب أهميته اليوم بعد «الربيع» كما كانت عليه أهميته قبله؛ بل لنا أن نستغرب موافقة الرقابة على عرض تلك المسرحيّة التي لا أظنّ أنّها ستلقى فرصة مماثلة اليوم. لعلّ جماليّات المسرحيّة لا تشفع لها كثيرًا ولكنّ لعلّ المسرحيّة لا تكتمل إلا في عرضها. فالقراءة ليست السبيل الأوحد لتبيان أهمية الدراما. وأخيرًا، تلفتنا نقطة مهمّة في الحكايات الثلاث وهي أنّ أبطالها «المغفّلين» لهم أسماؤهم الواضحة: أبو الحسن، كرستوفر سلاي، أبو عزة؛ أما أهل السُّلطة فأسماؤهم هي عروشهم: الخليفة (تشير ألف ليلة وليلة إلى هارون الرشيد في أغلب حكاياتها، ولكن لا يعني هذا بحال من الأحوال أنّ الرشيد يختلف عن غيره من الخلفاء من هذه الناحية)، واللورد، والملك. ليس للملوك أسماء، إذ يعلّمنا سعد الله ونّوس أنّ الملك هو الملك، أيًا يكن اسمه.

*تنشر هذه المادة بالتعاون مع جدلية.

ما بين قناع أسماء النيوليبرالي وقناع رامي الديني

ما بين قناع أسماء النيوليبرالي وقناع رامي الديني

انتقلتْ أسماء الأسد من موظفة في مصرف جي بي مورغان في لندن إلى سيدة القصر الجمهوري في دمشق، وكان الجسر الذي عبرتْ عليه هو زواجها من رجلٍ ورثَ سلطة على بلاد بأكملها جاءتْهُ على طبق من ذهب، فقد كان طالبَ طبٍ، لم يمتلك ميولاً سياسية أو عسكرية. وربما لم يفكر بالرئاسة، لكن خللاً أحدثه القدر في ترتيبات أبيه الرئيس حافظ الأسد، غيّر مسار حياته من طبيب عيون إلى طبيب سياسي فشل في مداواة الجسد السوري وزاد من أمراضه. وكان هذا خطأ ارتكبه هو بقبولهِ للمنصب، بقدر ما ارتكبه من ورّثوه رئاسة سوريا، وكل من لعب دوراً في حدوث ذلك، ذلك أن سوريا ما تزال تدفع ثمن هذا القرار الذي اتخذتْه حلقةٌ ضيقة من الرجال من خلال تمثيلية في برلمان لا وجود له بالمعنى الديمقراطي الحقيقي، ويتسم بعض أعضائه بالجعجعة والتظاهر بمحاربة الفساد وبادعاء العلمانية عبر تصنيع عداوة مسرحية مع وزارة الأوقاف. وظنّ الذين مهّدوا للتوريث أنهم فعلوا الصواب أملاً في إبقاء الوضع في البلاد كما كان في عهد الأب، دون أن يفتحوا أعينهم جيداً ويفكروا باحتمالات أخرى قد يقود إليها الأمر. ولم يعرفوا أن يستثمروا بذكاء قوتهم الضاربة وتحالفاتهم الدولية والإقليمية وعلاقاتهم، ويلعبوا لعبة من ألاعيب عصر الديمقراطية، بل قرروا وضع صمْغ على مؤخراتهم والجلوس على الكرسي والالتصاق بها إلى الأبد، دون اكتراث بانحسار الثروة النفطية، وزحف التصحر والجفاف وشح المياه والأخطار الأخرى الناجمة عن التغير المناخي، ودون معالجة لتصاعد البطالة وللشرخ الطبقي الذي ازداد اتساعاً وللفساد الإداري الذي استشرى، وهيمنة الفاسدين على سلك القضاء، وكل الأزمات الأخرى المتراكمة التي أدت إلى الانتفاضة، وإلى الصراع الذي لم يُحْسم بعد. ولم يكن وضع الصمغ على المؤخرات الأبدية إلا ترجمة لشعارات كان السوريون صغاراً وكباراً يرددونها بقرف حين يُساقون إلى مسيرات التأييد المصطنعة، من الجامعات والمدارس ومن دوائر القطاع العام والخاص، شعارات مسختْ حزب البعث العربي الاشتراكي إلى ببغاء في قفص السلطة. وكانت النتيجة انتفاضة مدنية ملحمية في بداياتها تطورت إلى حرب طاحنة ما تزال احتمالات استمرارها قائمة.

وطفتْ على شاشة الحدث قصةُ صراعٍ جديد على مال شعب السوري دخلت أسماء الأسد كطرف رئيسي فيه، ولم يكن هذا الدخول مفاجئاً ذلك أن أسماء، وبحسب معطيات كثيرة، كانت قد بدأت بترتيباتها الخاصة، وحاولت قنوات إعلامية سورية ودولية تحويلها إلى أيقونة تمثل الوجه الحضاري الناعم للسلطة في سوريا، وقدمتها كمحبة للفنون وللمواهب وللخبرات، والتي تَتوَّجَ حب زوجها الرئيس لها في الآونة الأخيرة بهدية ثمينة، وهي لوحة فنية للفنان العالمي ديفد هوكني اشتُريت من مزاد بريطاني بسعر قارب ٣٠ مليون دولار على ذمة مواقع إعلامية روسية، في وقت يعاني فيه معظم أبناء الشعب السوري من فقر مدقع بعد حرب طويلة مدمرة. وربما كانت الفتاة أسماء تحلم بحياة من نوع مختلف إلا أن “القسمة والنصيب”، كما يقول السوريون، قاداها إلى زواج أخرجها من سياق حياتها العادية ووضعها في سياق آخر يختلط فيه المعشوق بالكرسي، وأحياناً ينحسر الحب ويتحول إلى حب للكرسي. وبدأت أسماء تمارس أدوارها الاجتماعية والاقتصادية والخيرية في ظهوراتها التلفزيونية الكثيرة وانبرت إلى القيام بدور راعية الشباب ومنظِّمتهم ومهندسة المواطن الفاعل، والباحثة عن الموهوبين والمتفوقين، والأهم من ذلك كله دور مصادرة الألم وامتلاكه كما لو أن ألم سوريا هو ألمها، هذا الألم السوري، نتاج الأضاحي الكثيرة لحماية الكرسي. وهذا موضوع أشارت إليه بتعمق الباحثة الأميركية ليزا ودين في كتابها الصادر مؤخراً عن مطبعة جامعة شيكاغو بعنوان”استيعابات سلطوية، الإيديولوجيا والحكم والحداد في سوريا“. وبدأت أسماء عملها كي تصبح ”أم الكل“، عقيلة ”سيد الكل“، إذا ما استعرنا عنوان فيلم دعائي ظهرت فيه أثناء الحرب، والذي أجلست فيه أمامها أمهات الشهداء كي تحدثهم عن معاني الوطنية وتغيير وجه التاريخ، أمهات الشبان الصغار الذين قضَوا على جبهات أعلن السيد الرئيس أثناء زياراته المتقطعة لها أنها جبهات لمعركة كونية، معركة السيطرة على العالم، ضد قوى الشر والاستكبار العالمي، إذا ما استعرنا من قاموس البلاغة الإيرانية. ولكن ينبغي أن نشير هنا، توخياً للدقة والموضوعية، أن تلك الجبهات لم تكن جبهات بريئة، فقد كان هناك ميلشيات ممولة ومدعومة بالمال النفطي ومال الاستخبارات الأردوغانية والسعودية والقطرية والأمريكية والأدوات الأصولية السلفية والجهادية العابرة للحدود. ولم يكن هناك ثوار حالمون، ذلك أن الجيل المدني للثورة السورية تلقى ضربات متواصلة على يد النظام والتيارات الجهادية فقد سُجن من سُجن وقُتل من قُتل وهُجِّر من هُجِّر وهاجر من هاجر وارتد من ارتد، واحتل جبهات القتال مقاتلون منضوون في تنظيمات متشددة ومريبة مرتبطة بقوى أخرى، بل صار بعضهم بنادق قابلة للتأجير خارج سوريا. وحيث يهيمن لوردات الحرب والميلشيات المسلحة والممولة يخمد الحس المدني والنَفس الثوري، ويتحول إلى أصوات مختنقة ومشتتة في الإعلام الاجتماعي، ويُصادَر الخطاب ويُشوَّه. وحين يُصاب المثقفون باليأس يفقدون البوصلة، أو يراهنون حتى على الشياطين، وهذا ما حصل لكثير من المثقفين السوريين المؤيدين للانتفاضة حين وضعوا زعيم جبهة النصرة ابن تنظيم القاعدة الشيخ أبو محمد الجولاني وتشي غيفارا في خانة واحدة، وحجَّ كثيرون منهم إلى البلاط الملكي السعودي وغيره من البلاطات الأوربية والأميركية كي يسترزقوا باسم الثورة وأجّرتْ كثير من الأقلام نفسها لإعداد جرعات السم الطائفية وتوزيعها.

وكما فعلت سوزان مبارك وغيرها من عقيلات القصور الجمهورية سابقاً، بدأت أسماء الأسد برعاية المهرجانات الثقافية والعلمية والطبية وبالتحدث عن دعم الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة دون أن يكون هناك تمويل حقيقي للعناية بهم ومتابعة فعلية لهم تتعدى الظهور الإعلامي، ودون أن يكون هناك عدل في استقبال الحالات الكثيرة منهم في المراكز النادرة في سوريا. وغالب الظن أن موضوعهم بات طي النسيان في سنوات الحرب. وقبل ذلك كانت أسماء الأسد تحاول أن تبني شبكات في أوساط الشباب الموهوبين والمجتهدين، وأن تشكل جيلاً جديداً يعكس وجهاً آخر للابن القائد، الذي لم يحصل بعد على لقب الأب القائد، كما لو أنه فشل في امتحان الحصول على لقب البطريرك حتى بين الموالين له. وكما حدث تحول من أسماء الأخرس إلى أسماء الأسد، حدث تحول آخر بدأ يشغل الإعلام العربي والعالمي، وهو التحول من القوة الناعمة إلى القوة الخشنة، ذلك أن وضعيات النعومة والظهورات التلفزيونية المدروسة والمدبرة لا تساعد كثيراً في ترتيب بيت السلطة إذا لم يُرتَّب الوضع المالي، وترتيب الوضع المالي يقتضي وضع اليد على الشركات التي كان رامي مخلوف “مؤْتَمَناً” عليها. هكذا صار لأسماء مخالب أمام باب بيت المال، وبدأت هذه المخالب تخدش وتمزّق. وأسماء ”امرأة تحب السيطرة“، كما وصفها رجل الأعمال السوري فراس طلاس في مقابلة أجرتْها معه قناة الحرة مؤخراً، مضيفاً أنها بدأت تستغل ضعف خصومها وتعيّن موظفين أوفياء لها في مناصب حساسة وتسرّح من لا يُصْغي إلى كلمتها واضعة نصب عينيها هدف السيطرة على الثروة التي يديرها رامي مخلوف لا لكي تعيدها إلى أصحابها وإنما كي تؤمن مستقبل أولادها، عبر لعبة تنقل فيها الإشراف على سيرياتيل وراماك والشركات التابعة إلى الأمانة السورية للتنمية، أو تُلْحقها بوزارة الاتصالات مما يفسح المجال لتقديم زوجها في صورة محارب الفساد، حتى ولو كان الفاسدون من عائلته. ولم يفت فراس طلاس أن يشير بذكاء يميزه عن كثيرين من المتحدثين في الشأن السوري إلى وجود طائفتين في سوريا، الأولى هي الطائفة العلوية التي حاول رامي مخلوف أن يشدها إلى صفه في كلمتيه المصورتين، وطائفة الرئيس، وهي الشبكات التي تشمل أطرافاً من الطوائف كلها في سوريا، تسيطر على المال والقرار، وهذا يحيل إلى موضوع الشبكات الاقتصادية التي شكلها النظام، والتي ضمت مسؤولين وأبناء مسؤولين ورجال أعمال سنة ومن طوائف أخرى، وقد درسها بشكل مستفيض ومتعمق الباحث الأميركي من أصل لبناني بسام حداد في كتابه الموسوم ”شبكات الأعمال في سوريا: الاقتصاد السياسي للمرونة الاستبدادية“، وهو كتاب تساعد قراءته في فهم الصراع الدائر في سوريا من منظور تاريخي يضع في حسبانه السياقات التي توجد فيها سوريا والأطراف المعادية المتربصة بها.

ولا نعرف إن كان رامي مخلوف سيتمكن من الظهور في فيديو آخر كي ينذر بعقابه الإلهي، ذلك أن طلاس توقع في الحوار نفسه أن يغادر رامي المشهد بهدوء بعد أن يعتذر ويتنازل عن الشركات التي لا تشكل إلا ١٠٪ من الثروة، وأن يتم التنازل عن الأموال التي في الخارج عبر ترتيب أو اتفاق معين. وفي أحدث تصريح له في الإعلام الاجتماعي في وقت كتابة هذه السطور قال رامي مخلوف بالحرف الواحد متبنياً لغة دينية باطنية مدروسة: ”بعدما توجهتُ إلى عبادكَ لتبليغ مرادكَ لرفع الظلم عن عبادكَ فلم يعينني أحد… فعدتُ واستجرتُ بالواحد الأحد“، وهذا يؤكد أنه لم ولن يحصل على أية مساعدة من الرئيس، وأن الأمور ستأخذ مجراها في تجريده من الأموال والأملاك. وينطوي لجوء رامي إلى لغة دينية كهذه مدروسة وحمالة أوجه على احتمالات نجهل طبيعتها وعلينا أن ننتظر تطور الأحداث. ولا نعرف إن كان ما يجري نوعاً من ترتيب شبكة جديدة تجمع بين رموز سنية وعلوية لإرضاء الأطراف المغذية للصراع وللوصول إلى حل يخرج سوريا من مأزقها الحالي، إذ لا نمتلك معلومات أو إحصاءات دقيقة حول أي شيء في سوريا، إذا لم يكن مسرباً، ولا أحد يستطيع الوصول إلى أية معلومة، داخل القبضة الأمنية الساهرة على حراسة الأخطاء المتراكمة والمكدسة والتي تحولت إلى طبقات جيولوجية فوق خط زلازل السياسة في منطقة حساسة تشهد صراعاً إقليمياً وعالمياً للسيطرة عليها. ولن يكون هناك دور لأعضاء الحكومة الآخرين أو للمستشارين أو المقربين لأن أسماء وزوجها لا يستشيران إلا نفسيهما، ولا يصغيان إلا إلى ما يقولانه (بالطبع، باستثناء القنوات الأمنية). وروى مرة أحد الأدباء العرب في جلسة شخصية أن الرئيس بشار الأسد وجه دعوة من خلال مسؤولة الثقافة في سوريا السيدة نجاح العطار لعدد كبير من المفكرين العرب لمناقشة قضايا الأمن القومي والأخطار التي تهدد المنطقة. وكان من المتوقع أن يصغي الرئيس إلى المفكرين المدعوين كي يتنوَّر بآرائهم، لكنه قرر بدلاً من ذلك أن ينظّر عليهم كعادته، وحاضر بهم فترة طويلة ثم صرفهم دون أن يصغي إلى أي منهم. ولماذا يصغي؟ ومتى أصغى الدكتاتور العربي إلى مثقف أو مفكر؟ هذا طبيعي جداً في الدكتاتوريات. وأُشيعَ أيضاً أن الرئيس وزوجته لا يجالسان إلا الشخصيات الدرامية ولا يحترمان من المثقفين إلا الممثلين والمخرجين وبعض الرسامين والنحاتين المشهورين، ربما لأنه من السهل إعادة توجيه الممثل أو المخرج ودفعه إلى الاشتغال على موضوعات تخدم توجه السياسي، وهذا يفسّر محاولة بعض الممثلين والمخرجين احتلال دور المثقف المنظّر أو النزول إلى الشوارع لتهدئة المتظاهرين سواء في بدايات الانتفاضة أو بعد تفشي وباء كوفيد ١٩، رغم أن موضوع الدراما، وخاصة الكوميديا، معقد، ويمكن أن تكون الكوميديا أداة للسلطة وتنطوي على تمرد عليها في آن واحد معاً كما تبين الباحثة الأميركية ليزا ودين في كتابها ”استيعابات سلطوية، الإيديولوجيا والحكم والحداد في سوريا“، وهو كتاب يخلو من الآراء المسبقة ومسلح بالأدوات المعرفية والمنهجية الدقيقة، وقائم على بحث ميداني إثنوغرافي دقيق. ومن خلال أدوات معرفية وعبر مناهجية يقرأ الكتاب الحدث السوري بعيداً عن الاصطفافات والولاءات من أجل الإسهام في جدل حول الإيديولوجيا واشتغالاتها على الساحة السورية، مما يلغي الفارق بين باحث من ثقافة أخرى وباحث محلي، لأن الصراع ضد السلطة والهيمنة هو صراع عالمي نظراً لتشابكات السلطة العابرة للحدود القومية وقد تنفع فيه دراسة مكتوبة بلغة أخرى أكثر من دراسة مكتوبة بلغة البلد خاصة إذا كانت تخلو من الموضوعية، مما يقود إلى ضرورة إلغاء النظرة القائمة على الشبهة إلى الباحثين الغرببين الجادين الموروثة من النظرة إلى المستشرقين الذين كانوا موظفين في المشروع الكولونيالي. وتكفي الإشارة هنا إلى أن ليزا ودين فُصلت لمدة عام من جامعة بيركلي لأنها انتقدت الممارسات القمعية والاستيطانية الصهيونية. ويفرد كتابها فصلاً كاملاً للكوميديا السورية بعنوان ”الفكاهة في الأزمنة المظلمة“. وفي الفصل الأول الذي جاء بعنوان ”أوتوقراطية نيوليبرالية وتقويضها“، توضح ودين أنه من خلال تسويق دعائي مدروس حاولت أسماء الأسد أن تجسد الفعالية النيوليبرالية، وتقدم نفسها على أنها الاستعارة السائرة والمتحدثة للنظام الأخلاقي النيوليبرالي، على أساس أن مشاريعها مختلفة عن آليات النظام الاستبدادي في السيطرة الاجتماعية سعياً إلى “المواطن الفاعل“. ذلك أن أسماء التي سماها الإعلام السوري سيدة الياسمين وسمّتْها مجلة فوغ وردة الصحراء، والتي تدير مكتبها، بحسب أحد كتاب هذه المجلة الذي تستشهد به ودين، كما لو أنه مشروع أعمال تجارية، عملت، على أن تُظهر نفسها كوجه من وجوه الثراء الليبرالي الجديد، وبُذلت جهود إعلامية في هذا الإطار لتصنيع صورة نيوليبرالية عن رفاه مزعوم لجذب السوريين إلى مزيد من القبول والإذعان للنظام القائم يختلف عما كان يحدث في العهد السابق. وفي خضم التغطية الإعلامية السائدة للخلاف المزعوم بين رامي وأسماء تُختزل القضية السورية الآن إلى صراع على النفوذ والمال بين أطراف إما تعمل على البقاء في السلطة أو تعمل على أن تجدد السلطة وتمنحها وجهاً جديداً، دون إحداث تغيير جوهري في بنيتها، لإرضاء أطراف معينة قبل أن تبدأ وليمة إعادة الإعمار.

وفي هذه الأثناء يحتدم الصراع على بيت مال السلطة، وتنبري له الخبيرة المصرفية السابقة، التي لم يحدث أن وقفت (لا هي ولا غيرها من المسؤولين) مرة في طابور كي تستلم جرة غاز، ولم تركض لاهثة تحت جسْر عمها الرئيس للحاق بميكرو صغير كي تذهب إلى غرفتها المستأجرة في الضواحي أو في العشوائيات، والتي لم تنتظر أمام فرن في ركن الدين أو القدم أو قدسيا أو التضامن أو دف الشوك أو ال ٨٦ وغيرها من الأحياء الأخرى كي تحظى بربطة خبز تسد بها رمق أولادها. غير أن أسماء الأسد أو رامي أو الرئيس ورجال أعمال المرحلة وأصحاب القرار الآخرين في سوريا يستخرجون ثرواتهم من هذا التهميش والتفقير لسواد الشعب السوري، الذي قرف من التكنوقراط ورجال الأعمال والمقاولين وشركاء البزنس والسياسيين الذين عمَّتْ فضائح صفقاتهم حتى فاحت روائحها الفاسدة.
يختزل الإعلام القضية السورية إلى رواية أبطالها رامي وأسماء وبشار وماهر ومهند لكن القضية أكبر من ذلك، والمشكلة أعقد. وإذا كان النزاع قائماً على ثروات وشركات ستوسّع أموالهم وتمتّن أمنهم، وتساعدهم في التضييق على منافسيهم، وتمول أدوات قمعهم فإن كارثة انهيار المجتمع والدولة، وتمزق الجسد الاجتماعي، والجراح العميقة التي لم تندمل، والتي سيمضي وقت طويل قبل أن تشفى أو تُنسى، لن يفعل لها هذا الصراع على المال شيئا سوى مفاقمتها. ولن تستطيع وردة الصحراء ولا موظفوها ولا الذي كان رامياً بسهام غيره، ولا من قرر أن يتبعه، ولا من اختار الحل الأمني الدموي ولم يُصْغ لنصائح العقلاء في نظامه، أن يفعلوا شيئاً. ربما سيسكنون في فيلات محاطة بالحراس والدشم والرشاشات الثقيلة، ويحلق فوقهم طيران الحليف الروسي، ولكن إلى متى؟
يختزل الخطاب الإعلامي المشكلة السورية إلى صراع مالي داخل المجموعة الحاكمة، ويجيّش “خبراء” النظام والطائفة العلوية وخبراء الداخل ورجال الأعمال السابقين الذين بدأ بعضهم يوزع شهادات الذكاء والغباء من مختبراتهم الإعلامية الطائفية كي يطرحوا مقارباتهم القائمة على التكهنات وتصفية الحسابات، لكن وفي سط كل هذا الضباب الإعلامي تبزغ حقيقة جلية، وهي أن من يضع يده على المال، سواء كان أسماء أم غيرها، قد لا يكون طرفاً في الحل، وإذا ما حالفه الحظ وصار طرفاً فيه فإنه سيرضخ لشروط مفروضة عليه ويلعب دوره المطلوب، ألا وهو ترتيب المصالح الأميركية في نفط شمال شرقي سورية، والمصالح الروسية في طرطوس وتدمر والبادية وكافة البقاع السورية الأخرى، وترتيب المصالح الإسرائيلية تحت مظلة روسية، ناهيك عن المصالح الإيرانية والتركية، ويبقى الخاسر الأكبر في المعادلة هو الشعب السوري.
قذفت الحرب السورية أحجارها على أحد القصور البلورية للنيوليبرالية وهشمته فخرجت منه أسماء الأسد في قناعها النيوليبرالي الجديد ورامي في قناعه الديني كما لو أنه سيعتكف في قبة في قرية بستان الباشا على الساحل السوري، أو سيتم تسفيره إلى بلد آخر كي يسلم المفاتيح، ذلك أن الظلم الذي تعرض له قد فاق طاقته كما يقول في تصريحه الفيسبوكي، وبما أنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً حيال ذلك ربما كان الانصراف إلى العبادة حلاً إلى حين. ويبدو أن أسماء الأسد ارتدت ثياب عمل جديدة، ثياب الموظفة المصرفية السابقة وخبيرة الحسابات في جي بي مورغان وشرعت في ترتيب بيت مال الدكتاتورية من جديد كي يرثه أبناؤها وكي تبني قصراً جديداً، تتمظهر فيه النيوليبرالية في أشكال مختلفة إذا ما حالفها الحظ، ويتشكّل أداؤها الآن في دور جديد من أجل فرض ”الكونترول“ على هذا المال (إذا استعرنا الكلمة التي استخدمها فراس طلاس في مقابلته مع الحرة)، وهي تلعب بالنار مع أصابع كثيرة متشابكة مع أصابعها أو منافسة لها، ولا نعرف أية أصابع منها ستحترق، كما لا نعرف في ضوء السرية والغموض اللذين يكتنفان الدكتاتوريات العسكرية ما الذي ستتمخض عنه الأمور.

مراجع معتمدة

1- Wedeen, Lisa. Authoritarian Apprehensions: Ideology, Judgement and Mourning in Syria. Chicago: Chicago University Press, 2019.

2- Haddad, Bassam. Business Networks in Syria: The Political Economy of Authoritarian

Resilience. Stanford: Stanford University Press, 2012.

 

3- https://www.youtube.com/watch?v=5asF-rCK44s

 

4-https://www.youtube.com/watch?v=rCI0hZxSkGw

 

5-https://www.salonsyria.com/راميمخلوفالقصةالكاملةغيرمكتملة/#.XrjJEy-ZPdc.

 

6-https://www.salonsyria.com/تطوراتقضيةراميمخلوف/#.XrjJLS-ZPdc

 

7-https://www.facebook.com/watch/?v=1374894359200246

 

8-https://www.jesrpress.com/2020/04/17/بشارالأسديشتريلزوجتهلوحةبقيمة٣%D9%A0-م/

 

النازحون في دمشق… من سكن مؤقت إلى شبه دائم

النازحون في دمشق… من سكن مؤقت إلى شبه دائم

تسع سنواتٍ ومازال الواقع السكني والمعيشي لمعظم نازحي الداخل على حاله. وتقدر بعض التقارير والإحصائيات الأممية أعدادهم بأكثر من 7 ملايين نازح، يقيم نحو مليونين ونصف منهم في دمشق وريفها. ومنذ بدء حركات النزوح وحتى اليوم، لجأ الكثير منهم، إلى السكن في شققٍ (على العظم) غير مجهزة لذلك ولم تُكس بعد، وذلك نتيجة تزايد الطلب على استئجار البيوت وتحليق أسعار إيجاراتها، ما جعل حارات وأحياءً بأكملها تكتظ بساكني تلك الشقق في ظاهرة تفاقم انتشارها لتتغلل في المشهد العمراني لكثير من المدن، حتى باتت مألوفة بين الناس وفي المكاتب العقارية التي تقدم عروضاً لاستئجار (شقق العظم)، التي كان على ساكنيها أن يستصلحوها بأن يرتجلوا فيها مطبخاً ومرحاضاً ويبتكروا حلولاً ليجلبوا شيئاً من الحياة إلى وحشتها. وقد ظنوا في بداية الأمر أن سكنهم فيها سيكون حلاً إسعافياً مؤقتاً، ولكن هذا المؤقت قد تحول إلى شبه دائم، بعد انعدام خيارات العودة لبيوتهم أو الانتقال إلى سكنٍ أفضل، حيث تجاوزت إقامة بعضهم في تلك الشقق نحو 8 سنواتٍ وأكثر.

أماكن لا تصلح للحياة  

حين تدخل شقة أبو عمر تستقبلك على الفور كومة كبيرة، من الحصى والرمل وبقايا قطع الطوب، تم تجميعها في الصالون، بعد أن كانت متناثرة في أنحاء الشقة، لتحتل نصف مساحته، ولتستغني العائلة عنه وتكتفي باستصلاح غرفة واحدة للجلوس والنوم. الجزء المتبقي من الصالون استغله أطفال العائلة كمكان للدراسة فوضعوا فيه طاولة صنعت من  قطع (البلوك) التي وضعت فوق بعضها وغطّاها لوح خشبي متآكل.

الغرفة المستصلحة للسكن تمتلئ جدرانها بالحفر والثقوب التي سُدت بقطع الورق والقماش والنايلون. على بابها وضعت ستارة قماشية، وأغلقت نافذتاها بشوادر من النايلون. أما أثاثها فيقتصر على بضع كراتين وصناديق تستخدم كبديل عن الخزانة، وتلفاز صغير من النوع القديم، وضع على أحد الصناديق. وعلى أحد جدرانها ثُبتت قطعة خشبية طويلة فيها مجموعة مسامير عُلِّقت عليها بعض الثياب، فيما فرشت أرضيتها الخشنة بسجادة مهترئة، تماهى لونها مع لون الرمل، وضع فوقها بعض الفرش والبطانيات باهتة اللون. أما ما يسمى بالمطبخ فهو بدوره مكان خاوٍ يفتقر لأبسط مقومات الحياة، يحتوي على بعض أواني الطبخ والصحون وغالونات الماء والصناديق، فيما يغيب عنه أي أثاثٍ (براد، غسالة، بوتوغاز، فرن.. الخ) قد يجعل منه مطبخاً.

في شقة مشابهة تعيش أم عبد الرحمن وأبناؤها الثلاثة، تم استصلاحها بمساعدة الجيران الذين تبرعوا لها بباب خشبي قديم إلى جانب بعض الأثاث المستعمل، وساعدوا في معالجة الثقوب الكثيرة للجدران وتسوية الحفر في أرضيتها الوعرة باستخدام الجبصين والإسمنت. كما قاموا بمد خرطوم ماء وخط كهرباء من بيتهم لإضاءة الشقة البائسة بلمبة صفراء ولتشغيل سخان للطبخ وتسخين الماء. وفي محاولة لتخفيف حدة بشاعة المكان قامت العائلة بجمع الكثير من الكراتين على مدار أيام، فوضعت بعضها تحت السجادة لتخفيف تعرجات الأرضية فيما أُلصق بعضها الآخر، إلى جانب بعض الجرائد، على الجدران والسقف  لإخفاء جانب من قبحها وألوانها الكالحة.

تقول أم عبد الرحمن التي توفي زوجها قبل خمسة أعوام:” ندفع إيجار هذه الشقة 20 ألف ليرة ونقيم فيها منذ سنتين. قبل ذلك سكنّا في شقة مشابهة لثلاث سنوات. لا خيار أمامنا سوى شقق كهذه، فإيجار المنزل الجيد يحتاج نحو 50 أو 60 ألفاً وهذا مبلغٌ نعجز عن تأمينه”.

في أحياء مدينة جرمانا تستوقفك مئات البنايات التي تكشف نوافذ شققها، المغلقة بالخشب والشوادر وقطع الطوب وأشياء أخرى، معاناة من يعيش خلفها. أحد تلك البنايات لم تُجهّز للسكن بعد ولم تصلها خدمات الماء والكهرباء والصرف الصحي، ورغم ذلك تقطنها سبع عائلات  نازحة منذ نحو خمس سنوات. في مدخلها تتقافز الجرذان بين أكوام القمامة المكدسة عبر سنوات. أدراجها لم تجهز كما يجب وغير آمنة. أبواب شققها مصنعة كيفما اتفق، من بعض الخردة والتنك والخشب.

يروي أبو حسام أحد سكان تلك البناية جانباً من واقعهم السكني: “حين أتينا إلى هنا مكثنا أشهراً في ظروف أكثر سوءاً. في البداية حاولنا إصلاح الشقق فأخرجنا مخلفات البناء من داخلها، أغلقنا النوافذ ووضعنا أبواباً ورممنا بعض الجدران، ثم استطعنا، بعد توسلٍ وعناء، استجرار خطوط الكهرباء من معملٍ لمواد البناء ومن بناية مجاورة، وبعد ذلك جلبنا بعض البراميل والغالونات، لنملأها بالماء، كما جمعنا بعض الأثاث، الذي استغنى أصحابه عنه، من أماكن متفرقة “. ويضيف “تمكنا فيما بعد، كيفما اتفق، من مد خط للصرف الصحي وآخر للماء وبذلك استطعنا توفير مكان يشبه المرحاض داخل شققنا، وقد كنا قبل ذلك نقضي حوائجنا في بعض الشقق غير المسكونة وفي أماكن أخرى”.

معاناة يومية

خلال فصل الشتاء وبينما كان الناس يحتفلون بالمطر الوفير، كانت عائلة أبو محمد  تعاني مع كل هطول، فتستنفر لتضع الأواني والطناجر تحت قطرات الماء المتسربة من السقف الرطب، والتي كثيراً ما غافلتهم لتبلّل الفرش والبطانيات والسجادة الوحيدة، ولتحرمهم الراحة والنوم. ولم تتوقف معاناتهم على ذلك، فكثيراً ما تعرضوا لاستنشاق دخان المدافئ، المشتعلة في الطوابق السفلى، والذي ينبعث من ثقوب وتشققات مداخنها التي تعبر من خلال جدران شقتهم الكائنة في الطابق الأخير. وعن ذلك يقول أبو محمد: ” لم يأبه صاحب الشقة بمعاناتنا مع الدخان الذي كان ينتشر في المكان ليسبب لنا اختناقاً يومياً، فنحن بنظره بشر من الدرجة الثانية، ما اضطرني لشراء الإسمنت وخلطه ببعض الرمل، المتوفر حيث نقيم، لإصلاح تلك المداخن، التي تحتاج للصيانة كل حين”.

أبو محمد الذي يختنق من دخان مدافئ سكان البناية لا يمتلك مثلهم مدفأة مازوت : “في فصل الشتاء نبحث في جوارنا عن كل ما يمكن إشعاله كبقايا الأخشاب والكرتون وأكياس الورق والنايلون لنضعها في مدفأة حطب قديمة تبرع لنا بها أحد الجيران”.

في مكان آخر تعاني عائلة أبو مؤيد كل  يومٍ في نقل نحو عشرة غالونات ماء إلى الطابق الخامس، حيث تقيم، لتعبئة برميلٍ يؤمن حاجاتهم في الاستحمام والغسيل وجلي الأطباق. برميل الماء هذا كان  يستخدم سابقاً في أعمال البناء، لذا تشكلت في قعره طبقة سميكة وصلبة من بقايا الرمل والإسمنت. يقول أبو مؤيد: “قبل النزوح من منزلنا، كان طقس الاستحمام يستغرق وقتاً طويلاً، بصحبة الماء النقي الساخن والروائح العطرة، أما اليوم فنكتفي باستحمام سريع لا يشعرنا بأي بنظافة، نستهلك لأجله ليترات قليلة من الماء العكر والملوث، الذي سبب لنا جفافاً وخشونة في البشرة “. مضيفاً: ” نشعر أن طعم ذلك الماء عالق في الصحون والأواني فيما تفوح من ثيابنا رائحة غير محببة حتى بعد أن نغسلها”.

إلى جانب ذلك تعيش العائلة معاناة يومية مع الحشرات المختلفة، كالذباب والبعوض والصراصير وغيرها، التي تنبع من كل زاوية وكأنها معششة في ثقوب الجدران لتؤرق نومهم وحياتهم، فيما تخرج الفئران من جحورها الكثيرة لتصول وتجول في المكان الذي نُصب فيه خمس مصائد في محاولة لقتل أكبر عدد ممكن منها.

 انعدام في الأمان وخصوصية منتهكة

تتحدث أم محمود عن الواقع اليومي الذي تعيشه وعائلتها: ” نشعر وكأننا نعيش في العراء وتحت أنظار الجميع. نضطر للتحدث بصوت خافت، فلا نوافذ ولا أبواب تحجب صوتنا الذي يتسرب لجيراننا. وفي الليل قلما نغفو بعمق، حيث يحاصرنا الخوف والقلق كل لحظةٍ من اقتحام أحد للمكان غير الآمن، لذا نضطر لوضع بعض قطع (البلوك) خلف الباب المتداعي لتدعيمه”.

 ظروف مشابهة تعيشها جارتها التي توصد باب شقتها بوضع قطعة خشبية متينة بينه وبين الجدار المقابل له. وتحدثنا عن معاناة أخرى: ” حوَّل متعهد إكساء البناية إحدى غرف شقتنا إلى مستودع لمواد البناء والإكساء التي أصبحنا نعيش معها. وكل يوم وفي أي وقت يدخل العمال  ليأخذوا منها ما يحتاجونه لعملهم فيتطفلوا على أدق تفاصيل حياتنا، لنبقى في حالة دائمة من التوتر وعدم الاسترخاء”.

وفي إحدى غرف شقة أبو خالد مستودع من نوع آخر، وَضع فيه صاحبها الذي يقيم في الأسفل بعض الأثاث والخردة بالإضافة لبرميلين من المازوت.

يقول أبو خالد: “يأتي صاحب الشقة متى يشاء ليضع أو ليأخذ شيئاً من مستودعه. وخلال فصل الشتاء، كان يأتي يومياً لنملأ له غالون مازوت للتدفئة، بينما كنا نحن نعيش بصحبة البرد القارس الذي نقاومه بما توفر من حطب ومواد يمكننا إشعالها”. ويضيف: “كثيراً ما يحضر أصحاب المكاتب العقارية بصحبة زبائن راغبين بشراء منزل، فيتفحصون مكاننا وينتهكون خصوصيتنا ويرموننا بسهام الشفقة والدونية”.

سنوات من الانتظار المرهق مرت عليهم، كانت لهم بيوت تزخر بالألفة والخير والكرم، مازالوا يحلمون بالعودة إليها، بالرغم من أن بعضها قد دُمِّر بالكامل. يُمنّون أنفسهم كل يوم بالنجاة من جحيم تلك الشقق التي تجبرهم على التأقلم السلبي مع ظروف تميتهم كل يوم آلاف المرات وتحدد لهم طريقة حياتهم وسلوكهم الاجتماعي. تسلبهم حريتهم وإنسانيتهم وتزرع بداخلهم آثاراً نفسية مدمرة تقتل عندهم طاقات الحياة وتغلق  في وجوههم آلاف الآفاق والأحلام.

تُربة العالَم المجروفة

تُربة العالَم المجروفة

مُحتفظاً بحقِّي في وصفِ الإعصار

مُتنازلاً عن دنانير ما بعدَ المديح

أحلامي ابتزازُ الحياديِّ

ذلكَ المخروطيٌّ الذي أمزِّقُهُ بالمُباغَتات.

أصْلُكَ أنْ تكونَ لمساتُكَ بلا سوابق:

… قلبُكَ -ـ بلا مأوىً مذ سنوات ـ

يعملُ في إحصاءِ ما لا يُعدُّ

وعيناكَ تنسُبان ما تراهُ

إلى الصَّوت.

في التَّقديم والتَّأخير أحفرُ

ولا أعثرُ على الكنز الموعود

لكنَّني مُستمرٌّ كاللَّعنةِ

حتّى لو غرسْتُ إزميلاً في صدري أوَّلاً

ثمَّةَ سرٌّ يزحفُ كالأفعى تحتَ جلدِ الاستفسار

وينابيعُ حارقةٌ تقتاتُ عليها الحركةُ في عظامي.

أنا غريبٌ مهما بدَتِ ابتسامتي أليفة

والشَّوكُ كُلّ ما يظهَرُ من وردةِ روحي.

حُزني فكاهةٌ تتولَّدُ منها فراشاتُ ضحكٍ بالتِّكرارِ المُختلِفِ الأخّاذ

وبالدّفقةِ الكاملة لا خسارةَ لمُحاوَلاتِ الدُّموع أنْ تأخذ أشكال أشجار مُثمرة.

لا نفتقدُ الدَّهشةَ في الألم

نُعطي من قعرِ الوريدِ

لنأخذَ من شاهقِ النّورِ

شغفٌ شغفٌ

يُضيءُ المرويّات بالغنائيّات.

لستُ وحيداً في هذا المُنحنى

لي شركاءُ مغمورون

كأنَّني طريقٌ أعطى ظلامَهُ طواعيةً للغابة

أتقافزُ على قرون المخلوقات المُخيفة

ولا أعترفُ بالكوخ المصنوع من القصب

الرَّسائلُ أوهامٌ مُستمرّة عمّا تقولُهُ الفكرةُ

والمطرُ طردَ الحبرَ من قصيدتي.

مَنْ يرسمني الآنَ

من هواة القاعات المُغلَقة

خُدِعَ بجذوري

ولم يعرفْ أناملي في الهواء الحُرّ المطعون.

ألتحفُ ما يُمليهِ عليَّ البَحرُ

جميعُ المسافاتِ رثاءٌ مُتعدِّدُ الأوزان

غريبٌ أنْ تتعدَّدَ الاعترافاتُ إلى هذا الحدّ

وتبقى السَّبّابةُ مُشيرةً إلى الجهات بكُلِّ ثقة:

… رُبَّما الجهاتُ

زوائدُ عبقريّة للإخفاق.

الكراهيّةُ وردةٌ بلاستيكيّة قاسية

والمحبّةُ لم تكُن يوماً

وردةً طبيعيّة

إنَّها دائِماً

تُربةُ العالَم المجروفة.

 

مخترع سوريّ يبتكر نقالة معزولة للحماية من نقل عدوى كورونا

مخترع سوريّ يبتكر نقالة معزولة للحماية من نقل عدوى كورونا

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “الحرب على كورونا: معركة جديدة مصيرية للسوريين\ات

ابتكر المخترع السوري عصام حمدي نقالة معزولة لنقل المريض المصاب بفيروس كورونا دون إيذاء المحيطين به ونقل العدوى وخاصة للكادر الطبي. وفي حوار مع المخترع حمدي يقول إن الاختراع ليس جديداً وإن الحاجة لهذا الاختراع في ظل الوباء الذي يمر العالم به أصبح حاجة ملحّة بعد ظهور الكثير من الحالات في سورية وضعف الإمكانيات الطبية في البلاد.

وأضاف لكل اختراع حكاية. وحكاية النقالة المعزولة بدأت منذ سنوات عندما كنتُ أشاهد فيلماً يتحدّث عن مدينة يضربها وباء، كانت الأطقم الطبية ترتدي الألبسة العازلة والأقنعة الواقية للحماية من الوباء، وراودني السؤال: ماذا عن الباقين من غير الأطقم الطبية؟ ولأن المشكلة المطروحة واردة الحدوث وسبق أن شهد العالم جوائح متنوّعة؛ فقلبت أفكاري لتنضج فكرة طريقة لنقل المرضى الذين يحملون أمراضاً خطيرة بطريقة تعزلهم بالكامل عن الجو المحيط. وفي الوقت نفسه تؤمن لهم العناية والرعاية ومقوّمات الحياة وأهمها الهواء والسوائل والعلاج.

فكانت الفكرة الأساسية صنع نقالة معزولة على أن يكون هيكلها الخارجي مصنوعاً من مواد شفافة لتحقيق غاية سهولة مراقبة المريض وراحة المريض النفسية، فصمّمتها بشكل متوازٍ من لدائن مستطيلة ونصف  دائرية تساعد على بقائها منتصبة في إطارات صلبة، وأن تكون خفيفة الوزن وقليلة الحجم وقابلة للطي ومصنوعة من اللدائن الشفافة ولها أقواس معدنية أو بلاستيكية تبقيها ثابتة، وأداة إغلاق محكم لها لمنع تسرب أي هواء داخلي إلى الخارج.

ويتابع: لتخديم المريض على أكمل وجه زوّدتها بقفازات مطاطية مقلوبة ولتأمين حاجة المريض من الهواء، ولتعقيم الهواء الخارج من داخلها تمّ تزويدها بمضخة هواء ويمر الهواء الداخل والخارج بجهاز تعقيم يضخ الهواء المعقم للداخل ويسحب الهواء الفاسد للخارج، لأن النقالة من وظائفها أيضاً نقل المرضى الذين يخشى عليهم من العدوى مثل المصابين بحروق أو أمراض مناعيّة. لذلك من الضروري تعقيم الهواء الداخل والخارج، كما أنها مزودة بعدة أكف معزولة لخدمة المريض، ومزودة أيضاً بفتحات معزولة من أجل مرور أنابيب السوائل والسيروم وإعطاء الأدوية. وبعد نقل المريض يمكن تعقيمها ويفضل حرقها بعد فصل الأجهزة الإلكترونية عنها نظرا لرخص ثمنها. ويتابع المخترع حمدي وصفه للنقالة مستذكراً لحظات الإنجاز وزمن الابتكار، وبعد أن يأخذ نفساً عميقاً قال: حصلت على براءة اختراع برقم 5029. وبعد عامين تم تطوير هذه النقالة تحت اسم الحاضنة المحمولة التي أصبح بالإمكان استخدامها لعزل المرضى وعلاجهم.

تطوير النقالة المعزولة  من أجل علاج المصاب بشكل معزول بالكامل

زوّدت الحاضنة بفراش خاص يضخ تحت المستخدم هواء معقماً ليحافظ على صحة الجلد وتوجد في الفراش أقنية تسحب الهواء الفاسد وأي سوائل لخارج الحاضنة مع تعقيمها قبل أن تصل للجو الخارجي. فالحاضنة المحمولة هي تطوير للنقالة المعزولة، في الحاضنة المحمولة يمكن نقل وعزل المريض المصاب بمرض معدي من أجل علاجه بشكل معزول بالكامل دون أن يحتك بأي وسط خارجي.

وصممت لتكون قابلة للطي وسهلة الاستخدام ومريحة للمستخدم، ويمكن تخزين ونقل كميات كبيرة منها بطريقة سهلة وحجم قليل للاستخدام في الجوائح في حال كان هناك حاجة لدعم للمشافي الميدانية أو دعم المشافي العادية بها.

كما أضاف: تم تطوير جهاز تعقيم ليضخ الهواء المعقم تحت المستخدم ضمن أقنية توزع الهواء المعقم تحت المريض من أجل الحفاظ على  صحة الجلد، هذا الهواء أيضا يكون بدرجة حرارة مناسبة للمريض حسب درجة حرارة الجو المحيط، فيمكن أن يكون دافئاً أو عادياً. وزودت أيضاً بأقنية موزعة في فراش الحاضنة تسحب الهواء الفاسد والسوائل من عند المريض ألى خارج الحاضنة بضغط سلبي بعد أن يمر على جهاز التعقيم بشكل تقني وسريع بصورة أكبر.

يوضح حمدي الغاية من ابتكاره: لباس العزل الذي يرتديه الطاقم الطبي يقي مرتديه فقط، لذلك تكمن أهمية النقالة المعزولة في العزل الكامل للمريض عن الوسط المحيط بما فيهم الكادر الطبي وكل من هو قريب من المريض، ويكمل: لاحظنا نسبة الإصابات الكبيرة ما بين الأطباء والممرضين المحتكين بالمصابين رغم إجراءات الوقاية وذلك في البلدان الأكثر تطوراً، فماذا عن بلد مثل سوريا، وهنا تكمن أهمية زيادة الإجراءات الاحترازية التي من شأنها مضاعفة الوقاية والحماية بطرق لا تكلف كثيراً ولكنها تقي الكثير.

ويختم أمين سر جمعية المخترعين في سورية المهندس عصام حمدي بحسرة: تقدّمت بطلب براءة اختراع وحصلت عليها برقم 2012040071، لكن لم تحظَ النقالة بالاهتمام اللازم رغم مشاركتها بأكثر من معرض، لكن تبرز أهميتها الآن لنقل مرضى كورونا بطريقة آمنة وكلفة زهيدة.

وكان “حمدي” قد وضع الأجهزة التي أنجزها من جهاز داعم لعمل المنفسة واختراع النقالة المعزولة بشكل متاح للجميع بغض النظر عن الحماية الملكية التجارية والصناعية، وذلك نظراً للخطورة التي يشكلها فيروس كورونا في حال انتشاره في سوريا، ولكن سرعان ما ختمت شرطة محافظة دمشق المحل الوحيد في سوريا  لتطوير أجهزة الكمبيوتر الخاصة بذوي الاحتياجات الخاصة وجرحى الحرب بالشمع الأحمر، كما تحدث مؤسس المركز عصام حمدي: هكذا قطع ختم الشرطة أهم التجارب التي تتم على إنهاء مسطرة الجهاز الداعم لعمل المنافسة والنموذج المصغر للنقالة المعزولة والماوس العاملة بالقدم الواحدة، غير سائلة أو مبالية بحياة الملايين الذين يمكن أن تنقذهم هذه التجهيزات التي أطورها بآخر مركز تجارب لي.

وتابع: حاولنا مقابلة الضابط المسؤول عن القسم في البحصة ولكن لم يتح لنا شرف مقابلته لنشرح له ما نعمل عليه وتم تحويلنا لعناصر. وقال حمدي مستغرباً: في العالم يستنجدون بنا وعندنا يحاصروننا. أفلا يحق للمخترعين أن يعاملوا معاملة مراكز البحوث أو على الأقل معاملة محلات الأجهزة الطبية لنستطيع أن نكمل اختراعاتنا في هذه الأزمة القاتلة.