سبّب الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا وكردستان في السادس من شباط 2023 خسائر بشرية كبيرة ودماراً مادياً غير مسبوق وفشلت الحكومة التركية فشلاً ذريعاً في احتواء الكارثة متخلية عن عشرات الآلاف من الناس كي يموتوا تحت الأنقاض وعن ملايين الناجين الذين تعرضوا للصدمة وتساءلوا يائسين: “أين الحكومة؟“. حتى بعد مرور اثنتين وستين ساعة فشلت هيئة إدارة الكوارث في تركيا (أفاد) في القيام بعمليات إنقاذ للعالقين تحت الأنقاض في محافظة هاتاي التي تعرضت للضربة الأقوى. وكان الموقف مشابهاً في تسع مدن أخرى وأكثر سوءاً في الأرياف. وأدى سوء إدارة الطوارئ الحكومية وصرخات الاستغاثة من المناطق التي استهدفها الزلزال في الإعلام الاجتماعي إلى تعبئة تلقائية وسريعة في أنحاء البلاد لمد يد العون للمنكوبين. ونظمتْ شبكات التضامن، ومنظمات المساعدة المتبادلة، والبلديات التي ترأسها المعارضة، التي فتح عليها الأردوغانيون طويلاً نار النقد ونعتوها بصفة ”إرهابية“، حملة كبيرة لإنقاذ الناس العالقين تحت الأنقاض ولتعبئة المساعدة التي يحتاج إليها ضحايا الزلزال. واستجابت الأسرة الدولية بسرعة لنداءات الاستغاثة وانبرت للمساعدة أيضاً كلٌّ من اليونان وأرمينيا وكردستان العراق (الدول التي تُشيطَن عادة كأعداء للدولة التركية) ومعها كثير من الدول الغربية التي اتهمتها الحكومة على نحو متكرر بالتآمر ضد وحدة تركيا وسلامة أراضيها. يمكن أن يذهب الظن بالمرء إلى أن الحكومة التركية رحّبت بجهود الإغاثة المجتمعية أثناء هذه الأزمة، وتحركت بسرعة كي تدمج هذه الجهود في إطار جهود استجابة الدولة المنظمة للكارثة إلا أن الحقيقة هي أن حكومة حزب العدالة والتنمية اعتبرت حملة التضامن التي قادتها المعارضة تهديداً وشنت حملة عدوانية لقمع الأفعال الجماعية التي هدفت إلى تقديم المساعدة لضحايا الزلزال. كيف نشرح العداء الشديد الذي تكنه حكومة حزب العدالة والتنمية لمنظمات المجتمع المدني التي تنظمت من أجل المساعدة المتبادلة بعد الزلزال؟ ما الذي يفسر رفض الحكومة التركية للعمل مع المجتمع المدني لتنظيم إغاثة المنكوبين في الكارثة ولجوءها إلى الذعر الأخلاقي العنصري ضد ”من يقومون بعمليات النهب“ والمهاجرين السوريين؟
طرأ على الدولة التركية تحوّل نحو الاستبداد في العقد الأخير، ذلك أن الحكومة ركزت بصورة رئيسة على دعم مؤسسات الدولة القسرية (الشرطة، الجيش، والاستخبارات) على حساب مؤسسات تقوم بوظائف غير قسرية (إدارة الكوارث، الصحة، والتربية)، وقد تكشفت هذه السيرورة من خلال سلسلة من الأحداث الجماعية المثيرة للجدل، شملت انتفاضتين في (2013-2014)، وحرب المدن (2015-2016) ومحاولة انقلاب (2016) في الوطن، بالإضافة إلى ثلاث عمليات عسكرية عابرة للحدود في سوريا (2016- 2019). وفي أثناء ذلك الوقت، أبدت الحكومة بشكل متزايد براعة في التعامل مع الطوارئ السياسية عن طريق إدارة حملات تهدئة. تغلّب أردوغان في هذه الأحداث المثيرة للجدل على التحديات التي واجهت حكمه عن طريق تعبئة القومية العرقية التركية لحشد الدعم الشعبي وتوحيد الجسم السياسي وتقويض المعارضة زاعماً أنه يقاتل ضد أعداء داخليين وخارجيين في آن واحد (١). من ناحية أخرى، حين نشأت الحاجة لمواجهة الطوارىء العامة كالوباء وحرائق الغابات، ومؤخراً الزلزال، لم تتمكن وكالات الدولة المعنية من مواجهة هذا التحدي بفعالية، ما أدى إلى غضب شعبي واسع النطاق وتجريم الأصوات المعارضة و\أو الأقليات. بصرف النظر عن السبب الكامن وراء طارئ، وظّفتْ الحكومة التركية حالات الطوارئ في إطار التنافس السياسي من أجل الشرعية. وتساوقَ رد فعل الحكومة على الزلزال الذي حدث مؤخراً مع تصورها المسيس بشكل مفرط لحالات الطوارئ. وبعد أن واجهتها أزمة شرعية نتيجة لفشلها في حماية حياة مواطنيها، لجأت الحكومة التركية إلى حملة تهدئة، مستغلة مشاعر العداء للسوريين التي انتشرت على نطاق واسع في محاولة لإضعاف حملة التضامن. وعوضاً عن مجرد استعادة الشرعية، هدفت جهود التهدئة الحكومية أيضاً إلى إنشاء أوضاع من أجل التمهيد لمشروع ضخم لإعادة بناء المناطق التي ضربها الزلزال في غضون سنة.
سوابق خطيرة وسياسة إدارة الكارثة
لا شك أن قوة الزلزال زادت من الدمار الذي نجم عن الكارثة. وقد كانت الديناميات البنيوية التي أسهمت مباشرة في التكاليف البشرية والمادية العالية، من ناحية أخرى، قيد التشكل منذ أن تولى حزب العدالة والتنمية السلطة في 2002. ذلك أن استراتيجية تراكم رأس المال لدى حزب العدالة والتنمية تعتمد بشكل كبير على النمو السريع في قطاع البناء والتسامح البيروقراطي مع الانتهاكات المنهجية للقواعد والقوانين على كل من المستويين الوطني والمحلي، وخاصة حين يمتلك المتعاقدون صلات مع الشبكات السياسية الصحيحة. وفي سياق كهذا، إن أي لجوء إلى مصطلح ”فساد“ تبسيطي ومضلل، ذلك أن تفشي هذه الانتهاكات المنهجية يبيّن أن المشكلة كامنة في نموذج النمو الخاص بحزب العدالة والتنمية وناجمة عنه. فبحسب تقرير أعده اتحاد غرف المهندسين، إن نصف الأبنية تقريباً التي انهارت أو تأذت بسبب الزلزال بُني بعد عام 2000. ثمة عامل آخر مهم أسهم في ارتفاع حصيلة القتلى هو فشل الحكومة في بناء وكالة لمواجهة الكوارث تعمل بفعالية بعد تفكيك البنية التحتية السابقة التي كان يقودها الجيش في 2009. فقد استند توجّه حزب العدالة والتنمية لمنع الجيش من استغلال حالات الطوارئ إلى مخاوف شرعية. منذ الستينيات حتى أوائل القرن الحادي والعشرين، كان الجيش التركي الوطني العلماني قادراً على إدارة البلاد بشكل مباشر أو غير مباشر عن طريق استغلال حالات طوارئ حقيقية أو مفبركة، وقد استتبع هذا إدراجاً دائماً لمبادئ مكافحة التمرد في هياكل الحكم. وأنتج مشروع حزب العدالة والتنمية لتمدين إدارة الكوارث وكالة أقل فعالية في التعامل مع الكوارث في الأعوام التالية. واندمجت جميع منظمات الإغاثة في حالات الكوارث التي كانت موجودة في 2009 تحت مظلة هيئة إدارة الكوارث التركية (أفاد). وبعد مدة وجيزة، تم تطويق إدارة الكوارث والطوارئ من قبل بيروقراطية تنسيقية متعددة الطبقات أخضعت الإغاثة في حالات الكوارث لسيطرة سياسية أكبر، وقُوضت بالتدريج سلطتها المستقلة في صناعة القرار كي تعمل بسرعة في حال حدوث كارثة. علاوة على ذلك، قامت هيئة ”أفاد“ الحكومية بإعادة هيكلة منظمات الإغاثة في أوقات الكوارث كالهلال الأحمر كي تولّد قوة ناعمة عن طريق إرسال مساعدة إنسانية إلى الخارج على حساب كوارث محلية. كان من أسباب عجز حكومة حزب العدالة والتنمية عن بناء بنية تحتية لمواجهة الكوارث أيضاً هو توجّه تركيا الاستبدادي واستثمارها الكبير في مؤسسات القسر الحكومية. فعلى مدى العقد الأخير، خصّصت الحكومة التركية على نحو متزايد قسماً كبيراً من مواردها لبناء دولة بوليسية لقمع الانشقاقات الداخلية وبناء جهاز صناعة حرب كي تعزز أجندتها الإمبريالية في كردستان وسوريا والعراق، والشرق الأوسط الأوسع. ومنذ 2009، ركزت ”أفاد“ في معظم الأحيان على إدارة معسكرات اللاجئين في تركيا والمناطق التي تحتلها تركيا في سوريا فجرّدها هذا من القدرة على مواجهة كارثة ”طبيعية“. وفي ظل غياب مؤسسات غير قسرية فعالة في الوطن، فاقم طموح النخب السياسية التركية لبناء قوة إقليمية في الشرق الأوسط التأثيرات المدمرة للزلازل. وعلى نحو مشابه، لا تزال استجابة الحكومة للكوارث المسيسة بشدة تتشكل من خلال الإيمان بهيمنة الدولة على المجتمع، علاوة على الدروس السياسية المستمدة من التاريخ الحديث للكوارث الكبرى.
الحكومة التي في جميع الأمكنة وليست في أي مكان
عجّلتْ أزمتان متعاقبتان صعود حزب العدالة والتنمية الإسلامي إلى السلطة في 2002. كانت الأولى هي فشل حكومة الائتلاف في حماية حياة المواطنين وتقديم المساعدة الفعالة في أعقاب زلزال إزمير في 1999. وكان هذا ملفتاً للنظر على نحو خاص لأن الجيش التركي تصرف بسرعة في الساعات الاثنتين وسبعين الأولى كي ينظم الاستجابة للكارثة. وبسبب الإمكانية المحدودة للدولة، لم تكن جهود الإغاثة فعالة إلا جزئياً، بينما كان التأثير الاقتصادي للزلزال شديداً بعد أن ضُرب القلب الصناعي لتركيا. وأشارت أزمة 2001 الاقتصادية إلى نهاية ”تركيا القديمة“، التي كان يحكمها الجيش العلماني بشكل غير مباشر . ورغم أن الجيش هدف إلى شرعنة هيمنته القسرية أثناء التسعينيات عن طريق تصوير الحركتين الكردية والإسلامية بوصفهما تشكلان تهديداً للدولة والأمة، فإن هاتين الأزمتين مهّدتا الطريق لحزب العدالة والتنمية كي يفوز بانتخابات 2002. أوضح هذا التحول أيضاً كيف أن الكوارث التي تُدار على نحو سيء تدمر ثقة المجتمع بحكومة البلاد، ومؤسسات الدولة، والقيادة. وعلى نحو مشابه، كشف زلزال 2023 مسبقاً عجز الحكومة عن حماية مواطنيها بينما قدم أيضاً للمعارضة فرصة بنيوية كي تزيد من تقويضها لحكم أردوغان الاستبدادي. في ضوء ما قلناه، يتطلب فهم كيف أن الزلازل يمكن أن تعيد تشكيل المشهد السياسي في تركيا فحصاً أكثر شمولاً لمقاربة الحكومة لسياسة الطوارىء. كانت وكالات الدولة التركية غير موجودة تقريباً في المناطق الأكثر تضرراً في الأيام التي أعقبت الزلزال الأول في 2023 لكن هذا لا يعني أن الآلة الاستبدادية الأردوغانية كانت معطلة. فمنذ السادس من شباط 2023، ركزت الحكومة على إدارة التداعيات السياسية للأزمة وليس على الكارثة نفسها. وفي غياب مؤسسات فاعلة تستجيب بفعالية لكوارث كهذه، اتسمت قواعد اللعبة الأردوغانية الاستبدادية للتعامل مع الكوارث ”الطبيعية“ الخطيرة باللجوء إلى استراتيجية التهدئة، إلى سيرورة امتصاص الغضب الجماعي من الحكومة المنتشر على نطاق واسع عن طريق مزيج من التكتيكات القمعية العنفية واللاعنفية.
إن الهدف الجوهري لقواعد اللعبة الأردوغانية هو تخفيف التكاليف السياسية للاستجابة غير الملائمة للكوارث إلى الحد الأدنى. ويمكن أن تُدعى مقاربة أردوغان بأنها ”إدارة الكوارث كتهدئة“. ويمكن أن تكون استراتيجية كهذه فعالة إلى درجة أن الحكومة تصبح قادرة على أن تحمّل قوى خارجية المسؤولية عن تكاليف فشلها في حماية مواطنيها إلى درجة أنها يمكن أن تقمع شبكات التضامن والمجتمع المدني المعبأة من أجل الاستجابة المجتمعية للطوارئ. إن التهدئة في هذه النقطة شرط أساسي لأردوغان كي يتمكن من إطلاق مشروعه الضخم في المناطق المتضررة من الزلزال، والذي سيبدو مرة أخرى بأنه يمنح أولوية للسرعة على حساب الأمان. في هذا السياق، تهدف الحكومة إلى إبعاد شبكات التضامن من المدن المدمرة، وإسكات الأصوات المعارضة على المستوى الوطني، وأيضاً منع ازدياد محتمل في التعبئة السياسية في المستقبل القريب. إن محاولة ربح القلوب والعقول عن طريق مزيج من التكتيكات العنفية واللاعنفية ليست ظاهرة جديدة في تركيا. ذلك أن مؤسسات الدولة القسرية في تركيا هي امتداد لحملة التهدئة في شمال كردستان القائمة منذ 1984. بالتالي، تعتمد مؤسسات الدولة بشكل كبير على تكتيكات مكافحة التمرد كي تتغلب على أية تحديات رئيسة لشرعية الدولة، ليس فقط في إقليم كردستان بل في أنحاء تركيا. ولعبت ممارسات مكافحة التمرد دوراً مهماً في انتقال تركيا إلى الاستبداد بعد انتفاضة جيزي في 2013، خاصة بعد أن دخل حزب العدالة والتنمية في تحالف مع نخب مكافحة التمرد في التسعينيات فيما كان يوجه الضربة القاضية إلى عملية السلام الكردية (2009-2015). وعلى مدى العقد الأخير، أدى استخدام النخبة الحاكمة المستمر لتقنيات مكافحة التمرد إلى نعت نصف السكان تقريباً ب“الإرهابيين“. حين يحصل طارئ حقيقي في الدولة، يصبح مزج القسر بأنشطة بناء الشرعية محورياً لذخيرة التهدئة كما فعلت الحكومة منذ 2015. ويمكن أن تتنوع العمليات السيكولوجية للحكومة بحسب نوع الطارئ، لكن هدفها المحوري هو أن تسترضي الأغلبية التركية المهيمنة عن طريق تجريم مجموعات ثانوية تنتمي إلى الأقليات. وفي سياق الكوارث، صارت عملية التحويل الاستراتيجية التي تقوم بها الدولة لجماعات الأقليات إلى أكباش فداء استجابة إلهائية منهجية حين يُسلط الضوء على عدم كفاءة الحكومة. على سبيل المثال، بسبب الافتقار إلى طائرات مكافحة الحرائق، صارعت حكومة حزب العدالة والتنمية لأسابيع لإطفاء سلسلة من حرائق الغابات بدأت في آب (أغسطس) 2022 نتيجة لأزمة المناخ. وبدأ الإعلام الذي تسيطر عليه الحكومة على الفور بنشر نظريات المؤامرة والمعلومات المضللة لائماً الحركة الكردية ومتهماً لها بالوقوف وراء حرائق الغابات من دون أي تبرير. أدى هذا السعار العنصري الكبير إلى سحل وقتل أكراد ولاجئين سوريين في المناطق المتضررة، بينما خفض أيضاً إلى درجة كبيرة التكلفة السياسية لفشل الحكومة في احتواء الكارثة. ولجأت الحكومة التركية إلى أفعال قمعية مشابهة في الأسبوع الأول بعد كارثة الزلزال، وتمت جهود التهدئة على حساب استجابة للكارثة أكثر فعالية كان يمكن أن تنقذ حياة آلاف الأشخاص الآخرين.
تهدئة شبكات التضامن
سعى أردوغان بعد الكارثة مباشرة إلى استرضاء قاعدته الدينية زاعماً أن الزلزال صنيعة القدر. وأدركت الحكومة بسرعة حدود هذا التوصيف، وركزت على الحجة القائلة بأن الزلزال كانا شديداً على نحو استثنائي وأن أية جهود للتخفيف من الكارثة عاجزة عن منع الدمار الذي لا مفر منه. إلا أن الحكومة التركية ارتبكت من السرعة التي قامت بها شبكات التضامن ومنظمات الإغاثة والبلديات التي تقودها المعارضة بحملة التعبئة الفعالة فشنت حملة تهدئة. وكان هذا جلياً في السابع من شباط (فبراير) 2023 حين أعلنت الحكومة ”حالة الطوارىء“ لثلاثة أشهر في المدن العشر التي تضررت من الزلزال كي تمنح المزيد من سلطة حرية التصرف للشرطة والجيش. (قامت الحكومة سابقاً بتحديد المناطق التي ضربها الزلزال بوصفها ”مناطق كوارث“ من أجل تقديم تمويل إغاثة خاص وكبير لمواجهة الكارثة). حاولت الحكومة التركية في الثامن من شباط (فبراير) أن تحجب تويتر وتيك توك اللذين كانا جوهريين لجهود الإغاثة المجتمعية. وفي اللحظة التي غصّ فيها تويتر التركي بالدعوات إلى الإنقاذ الفوري في مناطق معينة، لم تعكس عملية الحجب الوحشية هذه غياب الكفاءة لدى الحكومة فحسب بل عرّضتْ أيضاً جهود الإنقاذ لخطر شديد. ومن اللافت أن الحكومة أُجبرت على التراجع بعد تسع ساعات بسبب الغضب الشعبي الذي انتشر على نطاق واسع، ما أشار إلى عمق الأزمة التي بزغت في قلب استجابة حزب العدالة والتنمية للكارثة. وفي الأيام التالية، بدأت الشرطة التركية باعتقال المقاولين المشتبه في ارتكابهم انتهاكات للقواعد والقوانين في محاولة لتحميل آخرين مسؤولية الفشل في احتواء الكارثة والحد من تكاليفها. ورغم ذلك، وبالمقارنة مع حجم وإلحاحية الأزمة الإنسانية المتواصلة، لم يكن لأي من هذه الإجراءات الحكومية تأثير كبير على الغضب العام المستمر. فقد تفاقمت الأمور بسرعة وتم الإبلاغ عن عدد قليل نسبياً من عمليات النهب. لكن بينما برر الرئيس أردوغان الحاجة لسلطات طوارئ، بذر بذور الذعر الأخلاقي متعهداً بشن حملة على اللصوص والمجرمين في الأماكن المتضررة من الزلزال. وشُنت حملة تضليل قوية في الإعلام الاجتماعي لتضخيم ”تهديد النهب“ بالتعاون مع أحزاب ”المعارضة“ التي تتبنى أجندة عنصرية معادية للمهاجرين. وظهرت صُور ”اللصوص السوريين“ المزعومين الذين عذبتهم الشرطة التركية بشكل غامض وبدأت تنتشر بكثافة في الإعلام الاجتماعي. بعد أن واجهت الحكومة أزمة شرعية تعمّقت نتيجة استجابة للكارثة عُبئت بصورة مستقلة عن الدولة، اضطرت إلى اختراع ”الخطر“، (اللصوص) بينما زعمت أيضاً أنها ”الدرع“ (عنف الدولة) ضد التهديد كمحاولة لبناء الشرعية عن طريق سياسة القانون والنظام. ولم تشمل الهستريا العنصرية التي رعتها الدولة حول عمليات النهب تعذيب لصوص مزعومين فحسب بل أدت أيضاً إلى سحل ثلاثة أشخاص حتى الموت وإلى قتل شخص آخر على يد الجندرما (قوة الشرطة الريفية). وعَسْكرَ الإرهاب الذي رعته الدولة مسبقاً المناطق المتضررة من الزلزال، بهدف طرد شبكات التضامن في المستقبل القريب. كانت مصادرة المساعدات التي نظمتها حركة التضامن هدفاً محورياً لاستراتيجية التهدئة أيضاً. فقد ألحت الحكومة على أن كل مساعدات الإغاثة في حالات الكوارث يجب أن تُرسل للناجين من الزلزال عن طريق مراكز التنسيق التابعة لهيئة ”أفاد“. ولجأت الحكومة إلى قوات الشرطة لمصادرة المساعدات التي أمنتها منظمات المجتمع المدني الكردي وحزب الشعب الديمقراطي وعينت حاكم مقاطعة بوصفه ”وصياً“ على مركز منظمة إغاثة في منطقة بازارجيك، في كهرمان مرعش. وأفيد عن حوادث مشابهة في عرقلة وصول المساعدات في محافظة شرناق ومنطقة غوجلوكوناك وملاطية. وفي عملية تخدم الهدف نفسه، اعتقلت الشرطة عشرة عمال مساعدات من الحزب الشيوعي التركي، وكان هذا كما تبيّن جزءاً من محاولة لتخويف الناشطين في المناطق التي ضربها الزلزال. علاوة على ذلك، هدّد مسؤولو حزب العمل الوطني المتحالف مع الحكومة مراراً وتكراراً بالاستيلاء على التبرعات المقدمة لمجموعة ”أحباب“ وهي إحدى أبرز منظمات الإغاثة في أوقات الكوارث في تركيا. علاوة على ذلك، بعد أن رأت حكومة حزب العدالة والتنمية كيف نجح طلاب الجامعات في تنظيم مساعدات شاملة للأمة في الأسبوع الأخير، قامت باللجوء استباقياً إلى استراتيجية لمنع طلاب الجامعات من التنظيم والتعبئة في الحرم الجامعي معلنة أنه يجب إخلاء جميع الغرف الجامعية التي تديرها الدولة لإيواء ضحايا الزلزال، ما جعل التعليم من خلال الحضور الشخصي في الجامعة مستحيلاً في نهاية العام الجامعي. بدأت الاحتجاجات المتنامية في أنحاء البلاد ضد الحكومة تكشف لماذا لجأ أردوغان إلى الإجراءات الاستباقية. فقد طالب عشرات الآلاف من جماهير أكبر أندية كرة القدم في تركيا باستقالة الحكومة في 26 شباط في رد على الاستجابة للزلزال. وهوجم أكثر من مائة ناشط من حزب العمال التركي بشكل وحشي واحتُجزوا في اسطنبول بعد القيام بمسيرة للاحتجاج على عجز الحكومة عن تقديم الخيام لضحايا الزلزال. وبحسب الأدبيات المتنامية حول التهدئة، يشير المصطلح إلى ما هو أكثر من سحق المعارضة، فالتهدئة هي أيضاً نتاج القوة وتمكّن من إنشاء أجهزة شرطة جديدة، ومشاريع اقتصادية وأنظمة اجتماعية. وقد وعد أردوغان في الأسبوع الثاني من حملة التهدئة التي قادتها حكومته بأن يبني جميع المدن المدمرة خلال عام واحد. وبصرف النظر عن مسائل محتملة أخرى، يجب أن يتغلب أردوغان أولاً على تحدي جديد هائل يتمثل في صعود القوى الاجتماعية الجديدة من أسفل عن طريق جهود التضامن التي تدفع أحزاب المعارضة إلى توحّد أوثق ضد الائتلاف الحاكم.
هوامش
١- من أجل دراسة جديدة حول الطريقة التي لجأ إليها أردوغان لتعبئة القومية العرقية التركية لمواجهة الهزيمة الانتخابية لحزب العدالة والتنمية في ٢٠١٥ وصعود الحركة الكردية في روجافا، انظر: أنور غوناي وإردم يوروك: اضطرابات عرقية: الإسلام السي اسي والصراع الكردي في تركيا، منظورات جديدة حول تركيا ٦١ (تشرين الأول ٢٠١٩)، ص ٩-٤٣.
*هارون إركان عالم اجتماع سياسي متخصص في علم اجتماع الدولة، الحرب والصراع والاستبداد والحركات الاجتماعية والعرق، جامعة ولاية نيويورك.
جاء فجرُ السّادس من شباط الحاليّ غاضباً، منفجراً، لا يفرّق بين ظالمٍ ومظلومٍ، ولم يستثنِ أي طرفٍ من الانقسامات الاجتماعيّة والسياسيّة في سورية. لم يكن مجرّد فجرٍ عابرٍ لهزّة أرضيّة، إنّما زلزالاً تجاوز السّبع درجاتٍ على مقياس “ريختر”، ضرب جنوبيّ تركيا بقوة مدمرة وأجزاء واسعة من سورية في كل من حلب وإدلب وحماة واللاذقية وطرطوس، وصولاً إلى دمشق التي شعر سكانها بالهزة الأرضية. وقد شعرنا بارتداده أيضاً في قبرص، ليسجل فصلاً جديداً من حكاية الوجع السوريّ، وهذه المرة بتوقيع الطبيعة.
حيث أعيش في مدينة لارنكا القبرصيّة، استيقظتُ في لحظة وقوع الزلزال ذاك، كانت صرخات الجيران وهلع الأطفال يذكّرني بما عشته من فرص جديدة للحياة في سورية بعد قصف أو انفجار مفخخة أو نزول قذيفة هاون على الأحياء السكنية الخالية من العسكر.
ربّما بَقِيَتْ ارتدادات الزلزال في الروح لشهور أخرى، فامتلأت صفحات منصات التواصل الافتراضية بالنداءات وأرقام هواتف المساعدات المحليّة ومئات المبادرات المُرتجلة منها والمنظّمة، لتتحول النّفس السوريّة في لحظتها إلى ترك كلّ ما حدث من تهجير وصراعات عسكريّة وسياسيّة، جانباً، ولتذهب نحو البحث عن ناجين تحت الأنقاض، وتحاول أن تساعد في تأمين جزء من آلاف الأسر التي خرجت إلى الشارع وقد تصدعت بيوتهم الهشّة وغير المعتادة على مثل هذه الكوارث. كانوا جميعاً بشراً دون رتب حياتيّة، تخلّصوا من سطوة التبعيّة وصارت بوصلتهم تتحرك على إيقاع تعاطفهم الإنسانيّ دون أن يحمّلوا المسؤولية لأحد، كانوا يحبون الحياة رغم كلّ شيء.
تلك الصور القادمة من المأساة التركيّة والسوريّة، قتلت أكثر من خمسة عشر ألف شخصاً وهجّرت الآلاف، وما لفت نظري حقاً هو النزاع العلنيّ بين حكومة دمشق التي رأت في المسألة فرصة سياسية لمطالبات دولية من أجل إعادة الاعتبار لكيانها بغض النظر عن الضحايا الذين سيموتون جوعاً وعطشاً تحت الأنقاض بانتظار التحرك الإغاثي المجدي، وبين المنظمات النشطة في مناطق سيطرة المعارضة التي كانت تجمع التبرعات من حول العالم وتسعى للعمل في بعض المناطق بينما تخاف من العقاب إن دخلت إلى مناطق سيطرة القوات الحكومية التي تنظر إليهم كـ “حاضنة للإرهاب”!
إذاً، وُضِعَ السوريّ مجدداً على خارطة الحاجة والبحث عن فرص ممكنة للحياة، لكن الجهات التي تتحكم في مصير حدوده، لا تقيم أيّ اعتبار للإنسانيّة في وقت الكوارث والفيروسات وحتى المعارك الحربيّة للسيطرة على المناطق، إنّما ساد الهدوء في محطات “الإعلام الرسميّ” في السّاعات الأولى فيما تجاوزت صفحات الناشطين حدود العالم خلال وقت قصير.
حاولت تلك الصفحات أن تعبّر عن الصعوبات وتنظم تجميع المساعدات من جهة وتوثق الأحداث على الأرض، من جهة أخرى، في ظل انشغال حكومة الأسد بتلقّي التعازي وحملات الإغاثة وتوزيعها بهدوء لا يتماشى مع التوقيت الذي فرضه الزلزال على ساعات أرواح الضحايا، فكانت أقسى عبارة وثّقها أحدهم في فيديو قرب الأبنية المدمّرة “لقد اختفى الأنين!” وبالتالي من المؤكد أن أصحاب الأنين قد ماتوا انتظاراً، وقفت في وجوه فرصهم الأخيرة حملات تصفية الحسابات السياسيّة!
من جهة أخرى، كانت حجة سلطات دمشق أن العقوبات تمنع وصول المساعدات، وفي غضون أيام اتخذ مكتب مراقبة الأملاك الأجنبية الأمريكي، قراراً بتجميد جزء من العقوبات الأمريكيّة على النظام السوريّ لمدة 180 يوماً، ابتداءً من 10/2/2023 للسماح بتقديم المعونات لسورية للتعامل مع آثار الزلزال وبالتالي سوف تتحرك السفارات والقنصليات والهيئات الدولية الإغاثية لجمع التبرعات وإرسالها إلى سورية.
ولكن قبل العقوبات؛ بإمكاننا أن نرى حركة الناشطين على الأرض والمتبرعين الذين قيل إنهم قدّموا مبالغ كبيرةً. يكفي أن تتحرك منظمات المجتمع المدني الإغاثية شبه حكوميّة كانت أم غير حكوميّة، لتعمل على إنقاذ السوريين، ولكن، مهلاً؛ إنّ الإغاثة والعمل الإنسانيّ الذي يوحد البشر على الدفاع عن حقهم الطبيعي في الحياة، هو أمر تعتبره السّلطات استحقاقاً لا يمنح إلا من خلالها (…) وهذا ما زاد في اختبارات الإنسانية أسئلة جديدة في الكارثة السوريّة.
قتل متكرر!
تبقى في ذاكرة المرء وأثناء تلقي أنباء الكوارث، صورُ الحدث بأشكاله المختلفة، صور الضحايا، صور الناجين؛ نبحث عنها بدافع الفضول أو التعاطف أو الكتابة أو مشاركة الوجع لنخفف عن بعضنا، ومهما كانت الأسباب، فإن تلك المشاهد لن تغادر روحنا بسهولة وسوف تمارس كوابيسها المخيفة على حياتنا القصيرة، ولعلّ أكثر ما جعل الحالات تزداد هو توثيق الهلع، إذ كان أحد السوريين المقيمين في تركيا بمنطقة هاتاي يحاول المغادرة في اللحظات التي ضرب الزلزال فيها، كان يسجل مقطع فيديو وهو يتمنى أن ينجو (…) لست أدري ماذا يخطر في العقل البشري من حاجات لتوثيق الرعب ونشره على مراحل متقدمة ليؤذي الملايين حول العالم من ذلك؟ وعلى عكس هذا كان توثيق خروج الناجين من تحت الأنقاض يفرح القلب، لكن الألم المؤجل هو عرض وجوههم المضطربة في وسائل الإعلام دون حتى استشارتهم، لجذب التعاطف أو أي شيء، وذلك السلوك المؤذي كان يمر إلى ذاكرتنا ويترك أثره القاسي أيضاً.
التغطية وفقر الأدوات
“هناك أبنية متصدّعة من مخلفات الحرب، وأصبحت بعد الزلزال بوضع خطر على حياة السكان” يقول أسامة كرحوت وهو صحفي شاب، وكان قد ذهب في حملة تطوعية إلى حلب بسبب الزلزال. ويشير إلى أن أعداد السكان الذين تركوا تلك الأبنية، كبير، وقد فضّلوا البقاء في المدارس أو في بيوتهم المتصدّعة، بدل أماكن الإيواء الباردة والمتجمّدة. لقد تمّ التبرع بمبالغ كبيرة، وكان من المجدي بناء بيوت سكن مؤقتة لهؤلاء الناس، على أن تكون مجهّزة لمثل هذه الكوارث، بحسب كرحوت.
ونُقل عن روايات الأهالي بأن الطعام كان متوفراً بشكل معقول، في أحياء حلبية مثل (السكري والمشارقة) ولكن المعيب “أن أشخاصاً غير محتاجين كانوا يأتون إلى توزيع المساعدات ويأخذون حصص أشخاص لا يملكون أي مأوى أو كسرة خبز!” يؤكد كرحوت، ويلفت إلى أن المفارقة كانت بوجود أناس؛ حالهم يرثى له، رفضوا الظهور أمام عدسات الإعلام أو أمام فرق المساعدة، ربما بسبب “عزّة نفسهم” حسب وصفه!
هناك فقر إعلاميّ في متابعة الصورة على الأرض، وحين تكلّمت مع أسامة أكّد لي أنّه بث فيديوهات مباشرة رصد فيها الوضع الميداني من خلال صورة واقعية تخفف قليلاً من هول الكارثة بطمأنة السوريين في كلّ مكان عن وضع بعض المناطق التي لم يصل إليها الإعلام بأيّ شكل كان.
إضافة إلى ذلك، كان الأهالي يستخدمون أدوات بدائية لإزالة أنقاض عشرات البيوت، بعد مرور الوقت المحتمل لإيجاد ناجين، ربما قد أصبحوا الآن ضحايا تحت الركام.
يتجول أسامة كرحوت مع عدد من رفاقه الذين خرجوا من دمشق نحو حلب أطلقوا على نفسهم اسم “الفزعة” وهم مجموعة من الشباب والشابات يدرسون في كلية الإعلام بدمشق، جمعوا ما لديهم من مساعدات كمبادرة تطوعية، يتجولون لتوثيق الحقيقة ومساعدة الناس بالتكاتف مع عدد من أهل مدينة حلب الذين يرشدونهم ويساعدونهم في هذه المبادرة الإنسانيّة.
معضلة الحال
يسوء حال المراقب لكمية التعب والخسائر التي يعيشها أهل سورية بسبب هذا الزلزال، سيما وأنه بلد يعيش حرباً وصراعات سياسيّة وعسكريّة لا حدود لها. لقد وصلت الحالة الاجتماعيّة بين الناس إلى درجات من التّهتك الإنسانيّ وعدم الثّقة والفقر، مع صعود لغة العنف والقتل كأبرز الأدوات لتخليص الحقوق!
وما أن حسمت الطبيعة ثقلها الفيزيائي لتحرير تلك الطاقة الهائلة في جوفها الأرضي، حتى أزال عدد كبير من السوريين غشاوة الصراع عن عيونهم وطوائفهم وانقساماتهم السياسية؛ لقد انتبهوا لحالهم بشكل آخر؛ إنّهم يحاولون التغلّب على أرباب الحرب وتجارها الذين خطفوا حلمهم بالتغيير. إنّهم يشهرون قلوبهم وأرواحهم لمساعدة بعضهم، لكن المعضلة تكشف عن عبثيّة الحال؛ فمن صنع الحرب هم الطّغاة ويستحيل يوماً أن يصنعوا سلاماً لأرض قُصفت بالطيران والمدافع، ولم يكن السّبب أكثر من رفض الناس لذلك الظلم المسمّى طغياناً، أمّا الآن فقد دُمّرت معظم البيوت وربما النفوس بسبب الزلزال وصرنا بحاجة حقاً لمعجزة إنسانيّة تنقذنا ولو قليلاً من حصار الكارثة.
من يتطوعون لإنقاذ الآخرين، ويهرعون إلى نجدة الضحايا والمحتاجين، هؤلاء هم أبطال الحياة الحقيقيون. الضوء الذي يتوهّج من أيديهم يعري رجال السياسة ورجال الدين والكذب الذي صار الروح المحركة لوجودنا.
يندفع الأبطال وسط الأنقاض غير آبهين بالخطر كي ينقذوا حياة الآخرين لأنهم يعرفون قيمة الحياة الإنسانية، ولهذا يحق لهم أن يقودوا المجتمع لأنهم بتطوعهم يعلموننا درساً عظيماً في السياسة ألا وهو أن المهمة الإنسانية الأنبل هي إنقاذ الإنسان من كل ما يستهدف وجوده وإنسانيته، في وقت تعمل فيه كل السياسات العربية على تحويله إلى رقم خاضع ومدجن.
-٢-
حين تنشبُ الحرائق ولا نقدر على إطفائها، حين تضربُ الزلازل ولا نقوى عن رفع أنقاضها، حين تتمدد الحروب ولا نستطيع احتواء نتائجها، حين يُخْترق الفضاء وتُقْضم قطع من الأرض ويُعاد رسم الخريطة ولا نجرؤ على رفع رؤوسنا، ألا نستطيع التساؤل: لماذا عجزنا على امتداد أكثر من نصف قرن عن بناء مؤسسات تكون جاهزة للعمل في اللحظة التي يتعرض فيها الشعب لخطر وجودي؟
-٣-
أحزاننا تفيض كالينابيع وقلوبنا مقهورة. أعيننا تفتش الأنقاض بحثاً عن أية علامة، وآذاننا تصغي. لقد دُفنت البيوت تحت الركام، البيوت المنكوبة، البيوت المهزوزة والمردومة والتي تبدو كفلول جيش من الإسمنت محطم ومهزوم.
-٤-
تغزونا صور الأنقاض: أنقاض مدن دمرتها الانفجارات ثم جاء زلزال كي يضع ختمه على الفاجعة، لكن النبل الإنساني يتجلى في أوقات الكوارث لدى من يعرف أن الضحايا أينما سقطوا على الخريطة، وكيفما كان شكل قتلهم، هم أعضاء بُترت من جسده، وصورهم تسكن في قلبه وتظل حية فيه.
-٥-
لي أصدقاء في أنطاكيا، وفي كل المدن المنكوبة، منهم من عاش ومنهم من لا أخبار عنه.
قال لي صديق من أنطاكيا على الهاتف: لقد متُّ وانبعثتُ إلى الحياة. وبوسعك أن تقسم حياتي الآن إلى حياة قبل الزلزال وحياة بعده.
-٦-
مات صديق لي في جبلة تحت الركام هو وزوجته، حين رُفعت أنقاض البناء الذي كان بيتهما فيه وجدهما رجال الإنقاذ متعانقين. هذا العناق، هذا الحب وسط الكارثة، زرع روحاً جديدة في حياتنا تهزم الموت، وهذا ما نحتاج إليه كي ننقذ أنفسنا.
-٧-
العنصريون ينمون كالفطر في العالم، وثمة كثيرون يمارسون العنصرية حتى دون أن يعوا ذلك في طريقة استخدامهم للغة. هناك عرب يعيشون في أمريكا أعرفهم شخصياً يطلقون على السود اسم العبيد دون خجل. وثمة في تركيا من يحتقر الناطقين بالعربية، ووصل الأمر إلى جرائم قتل ضد السوريين، وتجاهلهم تحت الأنقاض.
في أوقات الكوارث لا تخبو نار العنصرية، ويصبح إنقاذ الآخرين من الموت معتمداً على مرتبتهم القومية. إن هذا النوع من العنصرية الذي ينتشر بيننا وبين شعوب كثيرة مجاورة دليل على أن الحجر قد يكون أفضل من الإنسان أحياناً، كما قال أبو العلاء المعري:
أفضل من أفضلهم صخرة
لا تظلم الناس ولا تكذبُ.
-٨-
إلى طفلة عُثر عليها حية تحت الأنقاض:
كان وجهكِ عينين فقط، رأيتُ بهما كيف اتخذ الموت شكل الأنقاض.
كان الموت أيضاً أجسادنا التي تقف بعيداً وتتفرج
غير قادرة على فعل أي شيء.
-٩-
بعد الموت عصّة قبر، قال كثير من السوريين.
بعد الموت يعضّك القبر،
يسحق صدرك، يفتتك، يخلطك بالتراب.
إلى حياة محاصرة،
إلى حياة من الفقر والضيق والنزيف
في خريطة أدمتها الحرب والتهمت قطعاً منها
سكانها على حافة الهلاك
أتى الزلزال ليوقّع لوحة تحمل اسم:
الموت لا يأتي بالتقسيط.
-١٠-
الذين نسُيوا تحت الأنقاض،
جرح لن يندمل في الذاكرة،
سينزف كلما تذكرنا ما حدث.
-١١-
رائحة الموت تفوح بين الأنقاض.
جندريس،
على أطلالك لا تعرف العين أين هي
أو إن كانت عمياء أم مبصرة،
والشاشة التي تعبر فوقك ليست صهوة.
جندريس،
فوقك كان الفراغ يجهش بصوت الريح
والسماء تبكي وتذرف قطرات المطر.
-١٢-
حلب،
عمارات كثيرة مضعضعة.
الشقوق في الجسد الإسمنتي
جراح في الأجساد
طعن في الأرواح.
المدينة مثخنة بجراح وكدمات غيرت ملامح وجهها.
لكن لها جذوراً في القلوب لا تتوقف عن النمو.
حلب،
زائر آخر في مطلع الفجر
يُركع المدينة
ويكسر عظماً آخر في ظهرها.
-١٣-
جبلة\اللاذقية
كان المطر غزيراً،
الظلمةُ تسيل داخلة من النوافذ المحطمة،
والبَشَرة تتجلد.
كان البحر خريطة مطفأة
والجبال تندب أشجارها.
فوق أنقاض بيوت هدمها الزلزال،
كانت الريح تخمد الأصوات
وهي تحملها بعيداً.
-١٤-
إن قدرة الدول سواء الكبرى أو الصغرى على تدمير الحياة أعلى بكثير من قدرتها على الحفاظ عليها وحمايتها.
تمارس الدول الكبرى فحولتها باستعراض عضلاتها العسكرية من خلال صواريخها الفرط صوتية وطياراتها الشبح أو المسيرة ورجالها الآليين وقنابلها وقاذفاتها الاستراتيجية. بضغطة واحدة على الزر تتغير مصائر وتولد مراحل جديدة، وفي هذا السياق تتحول الثقافة المكتوبة والمنطوقة إلى تعليق على السياسات القاتلة التي هي توأم للزلازل.
الطبيعة تقتل من دون عقل، فيما العقلُ البشري يوظّف نفسه في خدمة القتلة. إن نظرة فتاة مأسورة بين الأنقاض تخترقنا وتصل إلى تلك النقطة من تحللنا الإنساني ككائنات للتنوير، زعمت مرة أنهم امتداد لله.
إننا الآن صفر ممتلئ بنفسه حتى التخمة وملغم في كل أطرافه وعلى وشك الانفجار وتفجير الكوكب.
-١٥-
ليست الزلازل من يدمّر ويقتل فحسب. إن من يمهد الطريق لفتكها الأشدّ مهندسون يمررون كرة الخديعة كي يسجلوا هدفاً في مرمى الفقراء، ومتعهدون لاعبون في فريق الخداع نفسه، وقضاة تصطبغ ثيابهم بالدم، ومحامون ينحازون إلى صف المجرمين.
-١٦-
مدننا مصابةٌ بأمراض مزمنة، أحدها التورم الخرساني السرطاني القائم على أسس واهية، ولهذا نشعر أننا نعيش معلقين في الفراغ، ودوماً على وشك السقوط.
-١٧-
لا توجد إنسانية صرفة تجمعنا على ما يبدو، حتى المساعدات للمنكوبين تحت راية ما يُسمى بالتدخل الإنساني يُشاع أنها تتم داخل معادلة: معي أو ضدي.
-١٨-
ينهار البناء كأن تدميره مدروس. يتقوض بعينه ضمن دائرته الهندسية كأنه اختير كي يُدمّر، ويتداعى ساقطاً لوحده على من فيه، كما لو أن الزلازل تقصف بصواريخ موجهة. هل هذه مصادفة؟ أم أن الموت ينتقي؟ أم أن العشوائية العمياء والمدمرة تأخذ أحياناً شكلاً منطقياً؟
-١٩-
نخسر أصدقاء مقربين وأشخاصاً لا نعرفهم، ونعلن تضامننا مع الذين علقوا تحت الأنقاض. إنهم ينتظرون تحت إسمنت وجودنا المفتت، تحت أنقاض حياتنا اليومية، عالقين هناك والأمل بأن تُفْتح فجوة ويبزغ ضوء وتعاود الحياة وصل شرايينها المقطوعة يحوم فوق المشهد كطائر مذعور.
-٢٠-
سكنتُ في غرف وشقق في دمشق كانت كلها على القائمة السوداء للزلازل. هزة خفيفة في قشرة الأرض كانت كافية لتحويلها إلى أنقاض، فتخيلوا الأمر إذا حدثت هزة قوية. لا شك أنها ستتحول إلى ذرات لامرئية في ريح الدمار. نعيش حياتنا دوما على شفا جرف هار، ونتوهم أننا سعداء.
-٢١-
لا حاجة للتنبؤ بالزلازل وبوقت حدوثها وبالجدل الذي لا طائل منه. ما نحتاج إليه هو مهندسون يبتكرون حلولاً معمارية لمواجهتها وسياسيون يؤمنون بأن هدف السياسة هو خدمة الإنسان، وبأن توزيع الثروة والحياة الكريمة والمنزل الآمن والحرية والدخل الكافي وجواز السفر المحترم هي البنود الأساسية على أجندتهم الانتخابية.
لا يدري المرء ماذا يكتب عما حلّ بسوريا فجر السادس من شباط الجاري وتالياً، بدا الأمر كمزحة سمجة في ثوانيه الأربعين الأولى، فجأة اهتزت مدن بأكملها، أبنية، منازل، حجارة، أشجار، والكثير من الأرواح.
أرواحٌ كانت حتى الأمس القريب تتحمل شظف العيش وتكابده قهراً لتذلّه قبل أن يذلّها بلقمة عيش صار الحصول عليها صعباً، مريراً، أليماً، كليماً. فصار السائر من منزله إلى الخارج بغية الحصول على مالٍ يعينه ليسد رمق أسرته كمن يسير في حقل من الأشواك البرية، حتى حقّ في السوريين جمعاً هذه المرة، ما قاله الشاعر السوداني إدريس الجماع يوماً: “إن حظي كدقيق فوق شوك نثروه، ثم قالوا لحفاةٍ يومَ ريح اجمعوه.”
وما أكثر أيام الريح على الخارطة السورية، ما أكثرها وما أعنفها وما أعتاها، ولكن من كان يتوقع أن تتآمر الطبيعة عليهم أخيراً، بعد اثني عشر عاماً من القصف والدماء والدمار، من كان يتوقع أنّ الأسوأ لم يأت بعد؟.
جاء الأسوأ حقاً حين توقفت عقارب ساعة حياة آلاف الضحايا عند الرابعة وسبع عشرة دقيقة فجر السادس من شباط، من إدلب المكلومة، إلى حلب الحزينة، فاللاذقية الجريحة، وابنتها جبلة الثكلى، إلى طرطوس وحماه.
لأول مرّة في الحرب السورية يجد السوريّ حدثاً أكبر من تحزباته السياسية جعل الجميع في الموت سواسية، وأي ميتة؟، تلك الميتة التي يسمع قبلها استغاثات ضحاياها من تحت الركام.
جاءت المأساة لتقول إنّ الإنسانية حين تنبري لتدافع عن جراحها تكون أقوى من ألف منطق أوجدته الحرب وعززته وكرسته، أصوات تعالت من إدلب تسأل عن حال ضحايا الداخل السوري، وأصوات أخرى من الداخل السوري كسرت حاجز الفراق وسألت عن إخوانهم في إدلب.
بيد أنّ التضامن كان ناقصاً، فأرقام الوزارات المعنية في سوريا أشارت لعدد ضحايا الداخل فقط، وأرقام المعنيين في إدلب أشارت لضحايا الشمال السوري فقط، فبئس أيام صارت فيها سوريا داخلاً وخارجاً، قاتلاً ومقتولاً، كارهاً ومكروهاً.
الناس لبعضها
ليس من السهل الحديث عما جرى، هي أيام عصيبة على السوريين، أيام قاهرة مسكونة بآلام كبيرة، 300 ألف شخص خرجوا من منازلهم في حلب واللاذقية وجبلة وحماه، 300 ألف شخص فتحت لهم الشوارع صدرها رحباً تحت سماء معاندة شاءت أن ترسل غيومها أمطاراً وثلوجاً لتزيد معاناتهم.
ولكن السوريين رفضوا مبيت إخوانهم في العراء، فهبّوا على قلب رجل واحد يتداعون لإنقاذ العالقين تحت الأنقاض، لإطعام المنكوبين، لتدفئتهم، لإيوائهم، من درعا إلى الحسكة، مروراً بكل محافظات البلاد.
ليس على سبيل المبالغة القول إنّ عشرات الحملات الأهلية تم تنظيمها بجهود ومبادرات فردية وجماعية من المجتمع المدني الذي أثبت نفسه كفاعل حقيقي قادر على القيام بمهامه وإن كانت تطوعية.
حملات من كل المدن جمعت ما تيسر من أدوية وطعام وأغطية وخيم وخلافه وتوجهت بها إلى المناطق المنكوبة، وفرق أخرى قوامها ممرضون وأطباء وصحيون، وفرق ساهمت ولا زالت برفع الأنقاض، كل ذلك إلى جانب عمل الهلال الأحمر السوري وبقية المنظمات والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية والتي يدعمها جميعها استنفار واسع للقوات العسكرية.
إلى جانب كل ذلك استمر سيل الدعم الذي وصل ويصل تباعاً من دول عربية وغير عربية للمرة الأولى منذ بدء الحرب في سوريا، في خطوات وصفها ناشطون بـ”كسر الحصار”، ليتزامن هذا الـ “كسر” مع وسم تداوله الناشطون بكثرة يدعو لرفع العقوبات الغربية عن سوريا لتسهيل وصول المواد الأولية اللازمة للإغاثة. وعلى حد وصفهم تركيا حصلت على أضعاف ما حصلت عليه سوريا من مساعدات، رغم أنّ سوريا بطبيعة الحال تعيش حالة نكبة مستمرة منذ أكثر من عقد، حالة أدت لتخلخل ودمار البنية التحتية.
وكان قد نشر هيثم مناع الناشط والحقوقي، الرئيس السابق لهيئة التنسيق المعارضة في الخارج، بياناً من جمعيات ومنظمات مدنية وحقوقية عددها 47 طالبت جميعها برفع الحصار والعقوبات عن سوريا، وجاء في البيان: “نطالب برفع العقوبات فوراً عن سوريا والسماح بإمدادها بجميع المواد وبالوصول إليها من أجل أن لا تتحول هذه العقوبات إلى جريمة ضد الإنسانية، وتسهيل عبور قوافل المساعدات الإنسانية للمناطق المتضررة عبر المعابر الحدودية مع سورية، إضافة إلى السماح بجمع التبرعات المادية والعينية وإيصالها للمناطق المتضررة.”
أين المساعدات؟
اعتباراً من اليوم الثالث لما بعد الكارثة بدأت ترتفع أصوات كثيرة تسأل عن المساعدات، وهل هي فعلاً وصلت لمستحقيها؟، وإن كانت وصلت فعلام أُسر كثيرة لا زالت في الطرقات بلا مأوى أو بدون غذاء وأغطية.
وفي هذا السياق فقد انتشرت قصة “مختار قرية اسطامو” المنكوبة في ريف اللاذقية، والذي اتهم من قبل عشرات الأشخاص بسطوه على المعونات التي وصلت إلى القرية، مطالبين بمحاسبته على الفور بذريعة استغلال النكبة.
ورد المختار على الاتهامات بالقول: “استلمت من رئيس بلدية قمين ٥٠ حصة غذائية مؤلفة من معلبات اضافة الى ٥٠ بطانية و١٠ وسائد، و٣٠ حصة تفاح مغلفة، و٨ كراتين إندومي، و١٠ كراتين أقراص عجوة، و١٣ شرحة خيار وبندورة”.
وأضاف “بحسب التعليمات فإن المساعدات مخصصة للمتضررين الذين خرجوا من منازلهم، وذوي الضحايا، لكن ما حدث هو أن الجميع كان يريد المساعدات وهذا أمر خارج عن إرادتي ولا أملك سوى تنفيذ التعليمات”.
تدخل عمرو سالم (وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك) على خط هذه القضية سريعاً مبيناً وجود مختارين في المنطقة، وكلاهما وزع تلك المعونات لأقاربهما فعلاً (غير متضررين)، مؤكداً أنّه تم حل المشكلة وإيصال المساعدات إلى مستحقيها.
قد تبدو قضية المختار ثانوية في حدث كهذا، ولكن فعلاً بدأ القلق يساور السوريين عن مصير المساعدات، خاصة أنّ الكميات التي جمعت داخلياً وخارجياً، تكفي على حد تعبيرهم- لإيواء كل متضرر بشكل تام، وقد يبدو هذا حقيقياً من حجم القوافل الداخلية والطائرات التي وصلت من الخارج.
وفي هذا الإطار يقول الصحفي بلال سليطين: “أنا أثق بـ ٩٩ بالمئة من العاملين على الأرض من جمعيات ومتطوعين في سوريا لمواجهة أضرار الزلزال ومساعدة الناس، ومن ليس له ثقة بهؤلاء هذا حقه لكن إذا كان حقاً يريد المساعدة يمكنه أن يثق بعائلته ويقدم المساعدات عن طريق أهله لكي يسلموها مباشرة للمحتاجين”.
ويشير سليطين لوجود أخطاء إلا أنّ معظمها ناتجة عن سوء التنظيم وقلة الخبرة: “لكن حجم العمل الإنساني والتعاضد واندفاع الجمعيات والمتطوعين بكبرو القلب”.
وتصف المهندسة لمياء أحمد من اللاذقية الوضع بالمأساوي والحزين وغير المقبول، وفي ذات الوقت تتهم معظم الجهات بالتقاعس.
وتشرح: “اسمحوا لي عبركم أن أوصل هذه الرسالة، ليس فقط حول إيصال المساعدات، ولكن عن الذين يلهثون لأخذها، نعم أفهم ظروف الناس الصعبة ولكن هذا ليس وقتاً مناسباً لنقاسم المنكوبين رغيف خبزهم، أقسم أنّه ثمة العشرات يصطفون على الدور ليأخذوا معونة وهم أصلاً غير متضررين أو منكوبين”.
تتابع أحمد حول مشاهداتها مؤكدةً أنّه ثمة أسر لغاية نهاية اليوم الثالث ما بعد الكارثة تنام على الأرض دون مأوى أو اهتمام، منوهةً في الوقت ذاته لضرورة الانتباه من الأفراد أو الجمعيات التي ستستغل هذا الحدث لتسوق لنفسها.
بدوره يرفض المحامي مفيد نصرة من جبلة ما ساقته المهندسة أحمد، معتبراً أنّ مدناً بأكملها منكوبة ولا يمكن استثناء أحد من حالة الجوع القائمة، وخاصةً أنّ الزلزال عززها إذ عطل الحياة والمهن واليوميات بشكل شبه تام، يقول: “المنازل التي لم تسقط على الأقل تصدعت وحال الكثير منها خطر ولجان الهندسة في حالة شبه عدم استجابة”.
ويبين نصرة أنّ لديه أخاً يعمل مياوماً وبسبب هذا الظرف هو لا يملك مالاً لإطعام أطفاله: “هذه نكبة شاملة أصابت كل العوائل رغم نسبية الأمر أحياناً”.
وفي الأثناء تداول سوريون على نطاق واسع قائمة تضم أسماء شيوخ خمسة جوامع معنية باستضافة المنكوبين متهمين إياهم بسرقة المعونات وإساءة معاملة الناس وعدم تأمين شروط تليق باستضافتهم. لم يتسن لكاتب التقرير التحقق من هذه المعلومة، التي انتشرت متزامنة مع عشرات المعلومات والبيانات والتنويهات والمنشورات التي تتهم أشخاصاً بعينهم أو بما يمثلونه من سلطة بالتقصير وسرقة المعونات.
وبحسب المحامي أحمد معروف من حلب فإنّ سرقة المعونات تندرج تحت مسمى سرقة خلال النوائب، فهي سرقة عقوبتها مشددة، حسب المادة 627 من قانون العقوبات. وقد تصل العقوبة حتى 15 سنة حبس.
وفي هذا الإطار يتضح اتجاهان: الأول هو الدور “الجبّار” وغير المسبوق للمجتمع المدني، والثاني هو بعض ضعاف النفوس الذين استغلوا الكارثة، وعموماً هذا ليس غريباً في بلد أفرز من أمراء الحرب ما أفرزه خلال السنوات العجاف الماضية.
في الأسباب
قلّة الخبرة وضعف التنسيق أفضيا لحالة من الفوضى الشاملة في التعامل مع الحدث، وبافتراض النيّة الحسنة لجميع العاملين، إلّا أنّ هذين العاملين أديا لتشتيت الجهود باتجاهات عدة، جعلت عائلات بأسرها حتى الساعة تنتظر معونةً أو إيواءً.
وعلى الرغم من أن المئات أعلنوا فتح بيوتهم لاستقبال المنكوبين، إلّا أنّ الفوضى عينها هي ما حكمت الأمر، فقلّة أفادت قلّة، على اعتبار أنّ المعونة لم تصل بالضرورة إلى الأكثر حاجةً.
يبقى أنّ سوريا المدمّرة، المهدمة، كبُرت اليوم بأولادها، أولادها الغلابة الذين قدموا كل ما يستطيعون من تبرعات نجدةً لإخوتهم، وقد تكون الحالة الأكثر لفتاً هي تلك التي تبرعت لـ “مشروع أحمد الإنساني،” وهو مشروع طبي ناشط خلال الأزمة السورية وتطوع في عمليات الطبابة إثر الزلزال، فبحسب منشور لهم على صفحتهم الرسمية في فيس بوك، جاء إليهم رجل وتبرع بـ “جاكيت” وحيد يملكه وكان يرتديه.
أحد عشر عاماً من الحرب، إنها حقبة زمنية، كفيلة بأن تفرض سلوكاً وأخلاقاً وثقافة جديدة على الكائنات التي تعيش على تماس مباشر مع الحرب وما يتمخض عنها، أي الإنسان داخل سورية بشكل خاص. مع التأكيد على أن جيلاً من شباب اليوم قد شبَّ مع الحرب، هؤلاء يطلقون عليهم شعبياً صفة: “أولاد الحرب” لهؤلاء سلوك خاص ونمط حياة يختلف عن المألوف.
بعد كلِّ هذه السنوات من الدمار المادي والنفسي، والهجرة الخارجية والداخلية، تشكلت في المدن الكبرى تجمعات من المهاجرين الذين جعلتهم القرابة واللهجة والزي والثقافة البيئية يكونون شكلاً من أشكال )الغيتو (المغلق أو المندمج نسبياً في أحياء فقيرة في المدن و حول المدن.
في السنوات الأخيرة، أي منذ قرابة الثلاث سنوات تراجع الحديث عن جبهات القتال ونقاط التماس حتى صار قسم كبير من الناس يكاد لا يبالي بها، ولا بما يجري من معارك أحياناً في شمال سوريا أو مناوشات في الجنوب السوري. ربما اعتاد الناس هذا الإيقاع الإخباري الممل الذي لا يحمل أي جديد، إنها المراوحة في المكان التي لم تعد تستحق عندهم حتى أن يلتفتوا إليها، وكأن الحرب قد استقرت على ما هي عليه، وما حدث قد حدث، ومن المفارقات أن النتائج الكارثية التي ترتبت عن الحرب، تمَّ القبول بها على انها أمر اعتدنا عليه، فانقطاع الكهرباء الطويل، قال لي أحد سكان دمشق عنه: لو أنهم ينظمون الانقطاع حتى نعرف أن نتكيف مع هذا الانقطاع. حتى غلاء الأسعار والفساد الإداري يريد قسم كبير من الناس أن تتدخل المؤسسات الحكومية لوضع ضوابط له، أو بالأحرى يريدون أن يشعروا أن الدولة تحسُّ بهم حتى ولو لم تفعل لهم شيئاً نافعاً، حتى بات يُخشى أن يكون كل هذا الخراب، والسلوك الغريزي المنفلت أصبح أمرا مألوفاً يمكن المساكنة معه وقبول مساوئه!
لقد كشفت سنوات الحرب عيوباً كثيرة وأوهاماً كثيرة أيضاً، وتبين أن أنشودة التناغم والانسجام الوطني لم تكن حقيقية، وسرعان ما انكشف رأس جبل الثلج وانفك عقد هذا الانسجام، ليتبين أننا داخل هذا الوطن الصغير مجموعات متنافرة متهادنة؛ طائفية ومذهبية وعرقية ومناطقية وكل شيء يذهب إلى التفتيت! ولكن لحسن الحظ أن قسماً كبيراً من السوريين، مثلهم مثل كل الشعوب، لا يحبون الحروب، ولا يحبون حمل السلاح، ولا يتأثرون كثيراً بالميديا، ولا يحبون أن يهاجروا أو يغامروا قاطعينً البحار في قوارب الموت، هؤلاء كثيرون وهم الباقون الآن في الداخل السوري تحت إدارة الحكومة، يعانون من آثار الحرب التي فتكت بأولادهم ودمرت مساكنهم وممتلكاتهم، ويعانون اليوم من الحصار الدولي الجائر واللاأخلاقي والمحكم جدا والمفروض عليهم! ويعانون من مافيات الفساد المحلية الأخطبوطية التي لا تقل فتكاً وشراسة من أطراف الحرب، ويعتقد قسم كبير من الناس أن هذه المافيات ليست فقط أنانية وجشعة تبحث عن مصالحها، بل هي مجرمة وخائنة. وهذا ما يقوله الناس العاديون في المقاهي أو حتى في أماكن عملهم وفي منازلهم.
لقد فرضت الحرب حالة استقطاب حادة جداً بين السوريين؛ مؤيد ومعارض، سوريين في الداخل وسوريين في الخارج، وسوريون تحت سيطرة الحكومة الرسمية، وسوريين تحت سيطرة المعارضين، تحت رايتين وسلطتين، وكل طرف أو فصيل من المعارضين له حلفاؤه وممولوه الإقليميون والدوليون، كما للحكومة حلفاؤها الإقليميون والدوليون! وهذا )الستاتيكو (القائم منذ سنوات، قد يستمر لسنوات! لكن ما لبث الناس في الداخل والذين يعيشون آثار الحرب والمعاناة مع الفساد ومع الحصار أن انقسموا عمودياً من الناحية الاقتصادية بين من يملكون ومن لا يملكون قوت يومهم، وتشكلت شريحة من أثرياء الحرب البطرين، والذين لا يعانون من أي حصار ولا ينقصهم شيء بل يعيشون في خيلاء، ويستهلكون أحدث وسائل الترفيه التي لا تتوفر حتى لأثرياء العالم الرأسمالي!
وهناك شريحة أخرى من المواطنين الذين يتلقون التحويلات الخارجية التي تصلهم من أولادهم أو أقاربهم، هؤلاء يترفهون وينعمون بنمط من الاستهلاك والوفرة التي تزداد نهماً كنوع من غريزة الحياة في مواجهة غريزة الموت. ولكن القسم الأعظم من السوريين، لا يصلهم تحويلات من الخارج ولا من الداخل، ولا يملكون شيئاً ويعيشون في أقصى حالات البؤس والحرمان والقهر، ويبدو أن الدولة التي يلوذون بها وكانت تشكل لهم أملاً وحماية لم تعد قادرة على القيام بواجبها حيالهم وتبدو وكأنها تتخلى عنهم، وهي بالكاد توفر لبعض العاملين والمتقاعدين الحد الأدنى من المعاش الذي لا يصمد البتة أمام انهيار العملة الوطنية والفساد وغلاء الأسعار اليومي الذي يشمل كل المواد وارتفاع ضرائب الخدمات الضئيلة!
الدولار، أو “مارس” إله الحرب الجديد والمتجدد! هو أكثر ما يحسّ به السوريون اليوم، هذا الوثن الجديد الذي منعت الحكومة الحديث فيه والتداول العلني به، إلا أنه أقوى من كلِّ منع. إنه أكثر حضوراً من أي شيء، يتحدث به الناس اليوم بالجد وبالهزل، من التاجر الكبير إلى أصغر حانوتي في أبعد قرية! لقد دخلت هذه اللفظة في لغة الحرب بقوة، وأصبحت المفردة تحمل دلالات رمزية وواقعية، وتهكماً على المنع الفاشل بالتحدث ولو لفظياً بهذه المفردة، اخترع الناس أسلوبهم المتهكم الذي راح يطلق على الدولار لغة مقنعة وبارعة، كأن يقول أحدهم، وهو يغمز بعينه:”اللي ما بيتسمى” أو “اللي شو كان اسمو” أو “هداك اللي بالك منو” و”الأخضر”…
بين من يملك الدولار ومن لا يملك أي دولار توجد هوة شاسعة ولا تزال تتسع، وكأن لسان حال الفساد يقول إن الذين يستطيعون الشراء والاستهلاك هؤلاء هم المحترمون، والذين لا يستطيعون الشراء دعهم يموتون.
إن الزائر لمدينة دمشق من الخارج سيدهش وهو يرى المطاعم الفخمة تكتظ بالرواد وبالزبائن والسيدات اللواتي يدخن المعسل ويرتدين أجمل الثياب، وسيقول في نفسه مندهشا: هل حقاً هذه البلد عاشت قرابة 12 سنة حرباً؟! وهو الذي كان يعتقد أنه لن يرى سوى الخرائب والدمار. لكن حقيقة الأمر هذه صورة خادعة ومزيفة، وإن ملايين السوريين حياتهم مختلفة وعلى العكس من ذلك، فهم يعانون من الحرمان ويعانون من انعدام الموارد، ومن الأمراض وعدم المقدرة على العلاج أو شراء الدواء، يعانون من الانقطاع الجائر للكهرباء والماء ووسائل العيش والتدفئة والغاز والمواد الضرورية التي قلما تتوفر لهم، بينما لا ينقص أخوتهم من الحي الآخر الذين يعيشون في كنف الإله مارس أي شيء من مستلزمات الحياة.
في ظل هذه الظروف القاسية، تعيش المرأة العاملة أصعب ظروف العيش، تقول واحدة من المعلمات التي فرضت عليها القوانين أن تُعلّم بعيداً عن سكن أهلها إن معاشها الشهري مئة وعشرون ألف ليرة سورية، وهي تستأجر غرفة في الأحياء البائسة بمئتي ألف ليرة!
إن حياة الفقراء أشبه بالجحيم الأرضي، إنهم أكثر ضحايا الحرب والحصار والفساد تعرضا للدمار النفسي والأخلاقي. وقد لوحظ في الآونة الأخيرة ارتفاع نسبة الجريمة الأسرية وغير الأسرية، وارتفاع عدد المنتحرين بشكل غير مسبوق!
ومع ذلك، وعلى الرغم من قتامة المشهد، وتناقضات الصورة والواقع إلا أن نوعاً من التهكم الذكي والمرح لا يزال موجوداً تعبيراً عن حيوية الناس وشكلاً من أشكال المقاومة للكآبة، ولكن جنباً إلى جنب مع البذاءة اللفظية والكذب والخداع، والبذاءة التي عدّها تروتسكي يوماً بنية فوقية، مصدرها النخب الحاكمة وتنعكس على الطبقات الشعبية التي تتلقفها تنفيساً للكبت والقهر، هذه البذاءة تنتشر على كافة المستويات والشرائح الاجتماعية، وفي كل الأجناس والأعمار وبشكل علني وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، وفي الحفلات الخاصة والعامة.
إن الحرب ضربت كل أشكال التحفظ، وضربت البنى التقليدية، وحطمت كثيراً من الأوهام، وكشفت أنبل ما في الناس وأسوأ ما فيهم!
أما بالنسبة للأطفال، فتتحدث التقارير عن التسرب من المدارس وعن عمالة الأطفال والتشرد والتعرض للعنف والاعتداء… هذا عدا عن سوء التغذية التي تصيب الأسر الفقيرة. إن آثار الحرب السلبية تسري في المجتمع كالطاعون، ومن المحال ومن الكذب أن نغفل تأثيرات هذه الحقبة من الزمن التي انصبت على رأس السوريين ودمرت حياتهم وأمنهم، وجعلت حالهم المأساوي يتحدث عنه العالم كنوع من الكوارث التي يتوجب تجنبها وعدم الوقوع فيها.