جريمة على مسرح القباني: حوار مع باسم سليمان

جريمة على مسرح القباني: حوار مع باسم سليمان

جريمة على مسرح القباني هو عنوان رواية للكاتب السوري باسم سليمان. وقد صدرت عن دار ميم ويتناول فيها الحرب السورية التي استمرت لسنوات طويلة من خلال جريمة حدثت على مسرح القباني الشهير في دمشق. حول هذه الرواية، وعلاقتها بالموروث الثقافي، والحدث الراهن، كان لنا الحوار التالي مع الروائي:

وداد سلوم: تذهب بقوة وشجاعة في روايتك إلى تجريبٍ مختلف وحتى أقصى ما تحتمله الرواية فضمّنتها نصاً مسرحياً، مسرحية (الجثة) التي كتبها عبد الله القتيل -والحكاية أقصوصة الموت- والقصة القصيرة؛ قصة المقص على سبيل المثال، وإلى طرق أبواب قليل من تجرأ وطرقها، في الإشارة لضرورة إعادة قراءة النص القرآني والتراث وتفسيره على ضوء القراءة الجديدة، فهل غامرتَ بجمهور القراءة الذي كثيراً ما يرغب بالسهل ومتعة الحكي؟

باسم سليمان: هناك علاقة جدلية بين المضمون والشكل. ومن هذا المنحى كان لا بدّ من ورود المسرح والقصة والشعر ضمن سردية الرواية الكلية؛ وهذا ليس تجريباً محضاً. إنّ تقديم مقولة  “السلام هبة العنف” التي ذكرها رينيه جيرار في بداية كتابه العنف والمقدس، والتي أوردتها في أول الرواية كبوصلة توجّه سمت القراءة، لن يكون لها من معنى، من دون وضعها موضع التطبيق العملي في الرواية. لقد اعتمد القدماء المسرح كما يشرح رينيه جيرار، كي يستحضروا العنف على خشبته محاولة منهم لإجهاض العنف، عبر تمثيله من خلال مسرحية ما، كي يحدث التطهير الأرسطي، ومن هنا كانت مسرحية الجثة في اعترافها المونولوجي أمام منكر ونكير، والذي تم التمثيل لهما بقناعي المسرح الضاحك والباكي كتطبيق لذلك. ولم يكن ورود القصص في الرواية إلا لأنّ القصص كانت الحامل الأول لنقل المعرفة والخبرة من جيل إلى جيل. وعبد الله في أوراقه كان يحكي لدميته قصص ما قبل حصول طوفان الدمار في سورية.  وهو بذلك يقوم بإعطائها اللقاح كي لا تقع هي وجنسها من الدمى في العنف الذي وقع فيه البشر. وقد أتى الشعر من ذات الزاوية، فالشعر لم يكن في بدايته إلا تعازيم سحرية من أجل فرض إرادة الإنسان على واقعه العنيف والمجهول. وهكذا يصبح وجود المسرح والقصة والشعر في الرواية آلية رمزية لسحب دوافع العنف من التولد من جديد. إنّ وقوع جريمة قتل عبد الله في أول يوم من أيام عيد الأضحى على مسرح القباني، ما هي إلا باب سيتم الدخول منه إلى الأضحية الإبراهيمية وكشف الدوافع الخفية التي دفعت بالنبي إبراهيم لتقديم ابنه أضحية ومن ثم الفداء. فالأضحية الإبراهيمية تكشف لنا العنف المؤسس للوجود البشري، سواء كان ذلك بالخطيئة الأصلية المرمز لها بأكل التفاحة أو بإقدام قابيل على قتل هابيل. وأمام هذا الأصول العنفية للوجود البشري، لم يكن من مهرب إلا بإعادة سبرها مهما كانت المهمة صعبة على الكاتب والقارئ. لا أعتقد أن هناك كاتباً إلا ويقع تحت سطوة القلق من كيف تلقي نتاجه الأدبي، لكن هناك دوماً عزاء بوجود قرّاء يعوّل عليهم الروائي، سيقبلون مغامرته الخطرة، ويتقحمون معه المجهول. هذه هي أخلاقية الرواية، كما يقول ميلان كونديرا، وذلك بأن تذهب إلى حيث لم يتجرأ أحد على الذهاب. وهذه أخلاقية القراء الذين أعول عليهم أيضًا.

و.س: على خلفية هذا (حديثك عن أخلاقية الرواية وأخلاقية القارئ) وخلفية إهدائك الرواية إلى جميع السوريين. هل تعتقد أنّ الرواية يمكن أن تكون رافعة للوعي؟

ب. س: لا ريب أنّني لم أهادن القارئ في روايتي! وعندما تكلمت فيها عن الرسام الذي استغل الموت كتاجر حرب، كي ينجز لوحاته وشهرته الملوثة بالدماء، كأي قاتل آخر، أردت أن أوقظ القارئ من مثالية مخادعة. وهنا إذا أجبت متبجحاً، بأنّ فنّ الرواية يمكن عدّه من المحفّزات الجيدة للوعي؛ علينا أن نتذكر بأنّ أي أدب أو نتاج فنّي محكوم بأدلجة ما، كما يقول تيري إيغلتون في كتابه؛ نظرية الأدب. وبناء على ذلك كيف سيعرف القارئ أنّني لا أخدعه وأدس السم له في الدسم؟ إذن تكون الرواية رافعة للوعي، عندما يقف القارئ موقفاً نقدياً من الرواية، وإلا سيصبح الوعي المتأتي عن الرواية كضربة الحظ، قد يحدث أو لا يحدث! وإن كان من مثال على الوعي المزيّف الذي يحصله القارئ من رواية ما لا بدّ من ذكر تحليل رينيه جيرار في كتابه؛ الكذبة الرومانسية والحقيقة الروائية عن رواية مدام بوفاري؛ حيث أنّ الوعي الذي تحصّلت عليه من الروايات التي قرأتها أدّى بها إلى الاصطدام مع الواقع الحقيقي ومن ثم انتحارها.

و .س:  لغة البطل كثيفة وعالية، ولولا الرمزي واتساعه، لاستغربنا السوية الثقافية والمعرفية واللغوية العالية المتجلية في أوراقه! فهل أراد الكاتب أن يعوضه بذلك عن التشوه الجسدي؟ إذ يعدّه ليكون أضحية، فتبدو أكثر كمالاً وبالتالي موصّلاً جيداً لمفهوم الفداء، فيحمل موته بالنتيجة مفهوم العنف المقدس الذي يمنع الثأر المتوالد والموروث وينهيه؟

ب .س: لقد كان الحكيم إيسوب عبداً وبشعاً. وأحدب نوتردام مشوهاً. والأول ما زالت مقولاته على ألسنة الناس إلى الآن، والثاني على الرغم من تشوهه استطاع أن يتخذ موقفا صحيحاً ومستبصراً بأنّ الثورة قادمة.  وعليه ما الذي يختلف به عبد الله عن إيسوب وأحدب نوتردام، مع أنّ إشارات عديدة وردت في الرواية تشير إلى اهتمام عبد الله الجدّي بالمعرفة. بالتأكيد ستضلّل نشأته في ميتم وتشوّهه، وعمله في جمع القمامة، من حكمنا العقلي. وهذا كان مقصوداً، لأنّنا أميل لأن نأخذ بظاهر الأشياء. كان من الممكن أن يكون عبد الله غير مشوه، لكن تعارضه مع الأضحية النمطية، بأن تكون سليمة من العيوب، هو الذي فرض عليَّ تشويهه لأبرز التناقض بين أضحية عيد الأضحى التي شوّه معناها الأصلي لصالح قراءة سلطوية دينية، وتضحية عبد الله، فجاء التعارض الأول على صعيد المظهر الخارجي. أمّا التعارض على صعيد المضمون، فيكمن بأنّ التضحية المسكّنة للعنف يجب أن لا يكون من طالب ثأر خلفها. وبالمجتمع السوري الذي أدمي جراء الحرب، كيف يمكن إحلال السلام فيه من دون أن نوقف دورة العنف /الثأر. ولا يمكن حدوث ذلك إلا بأن يكون القاتل هو القتيل، والقتيل هو القاتل، فعبد الله هو القاتل والقتيل. هو الأضحية التي لا شائبة فيها، أي لا وجود لمن يطلب الثأر من أجلها.

و .س: تقول (أضحية عيد الأضحى التي شُوّه معناها الأصلي لصالح قراءة سلطوية دينية( ، ويقول المتهم في الرواية )حارس المسرح ):عيد الأضحى مسرحية تطهيرية عن خطيئتنا الأولى التي نمثلها ونكررها كل عام لكننا أضعنا جوهرها لذلك يكثر القتل فينا وعلينا” وهذا مؤشر آخر لدعوتك بإعادة قراءة النص القرآني والتراث للخروج من دوامة القتل منذ قتل قابيل لهابيل إلى دائرة الفداء. هذه الدعوة مهمة وجريئة وتصبح أكثر ضرورة كل يوم وهي تحدث بالرواية فتتقدم على الواقع الذي يطلبها ولا يتوصل إليها!

ب .س:  آلية الفداء هي آلية مجتمعية لإدارة العنف كما القانون حالياً… وبالتالي الدعوة لإعادة قراءة النص الديني تندرج ضمن فهم الميكانيزميات الحاكمة بالمجتمع.

و. س: عبد الله ينسى كل يوم ما سبقه تقول : (ذاكرته تستيقظ كل يوم نظيفة من حيض التذكر) ويعود كما لو ولد تواً من التفجير، لكنه وجد طريقة للخلاص بالتدوين وكأن طريق الخروج من الأزمة يحتم التعلم والثقافة لبداية تأريخ جديد خارجاً من دوامة الحرب والعنف اليومية التي تأكل البلاد.

 ب.س:  إنّ النسيان أسلوب دفاعي تلجأ إليه النفس عندما لا تستطيع أن تتحمّل هول الفاجعة. لقد وعى عبد الله ذلك بشكل لا شعوري. وما القول بأنّه يستيقظ نظيفاً من حيض التذكر، إلا دلالة على رفضه للعقم، فهو يريد التذكر. ومن دون الذاكرة لا يمكن للأضحية أن تنجز مهمتها في التطهير، لذلك لجأ إلى التدوين، كما يفعل السجناء في حك حيطان السجن من أجل تدوين مرور الأيام، كي لا يفقدوا الإحساس بالتاريخ. إنّ التدوين وكتابة ما يحصل له في محيط الدمار كانا وسيلته الأولى لمقاومة الدمار، فالدمار أول ما يفعله هو أن يمحو الرموز والعلامات التي يستطيع بها العقل حيازة الواقع معرفياً. ومن هنا، كان التدوين والبحث بين الحطام على علامات متبقية، أسلوبه في إعادة رتق ذاكرته وجعلها خصبة من جديد. وعندما تم له ذلك خلق دميته/حواءه وشرع في تهيئة المسرح ورفع خشبته كي يعيد تمثيل مسرحية الجثة، كي تتم المصالحة بين القاتل والقتيل.

و.س: خشبة المسرح، هي سفينة نوح كما في حدث الطوفان!

ب.س: نعم التناص كان واضحاً.

و.س: تقول المصالحة بين القاتل والقتيل، وذلك يعيدنا إلى السؤال التالي:

  ثلاثة تجمعهم صداقة الكتب، وتاريخ الميلاد، وجريمة يتقاسمونها بشكل ما؛ القاتل /المتهم ــ والقتيل/ الأضحية، ومن ثم المحقّق الذي يرث ساعة الأرمني مسيو كارنيك (والذي يعني اسمه الخروف ــ الأضحية أيضاً ) ، هل أردت مقاربة ثالوث جديد يكون فيه الموت على خشبة المسرح بانتظار قيامة الحياة /الخلق من قلب  تل الخردة حيث تتشابك الأشلاء مع بقايا الدمار؟

 ب.س: إنّ الجذر الثلاثي لفعل (قتل) هو الذي يمدّنا عبر الاشتقاق بكل من كلمتي: القاتل والقتيل. ما الذي يعنيه ذلك؟ يعني تعالقاً لا يمكن الفكاك منه، ما دمنا نأخذ معنى واحداً من معاني الجذر(قتل). ميزة مفهوم الفارماكوس اليوناني أنّه يشتمل بشكل واضح على معنيين متضادين، لكن متكاملين، فالسم يصنع منه الترياق، والترياق هو دواء السم. لهذا كانت الأضحية الفارماكوسية كعبد الله قادرة على إيقاف العنف لأنّها تكشف معاني الجذر (قتل)، فلا تصيبنا أحادية الرؤية بالعماء. ومن دون مسرحة العنف والأضحية، لايمكن أن نأخذ مسافة للحياد، ومن ثم المصالحة. والمسرح يقدم هذه المسافة عبر عبد الله نفسه، الذي قدّم نفسه أضحية على مسرح القباني جاذباً إلى دائرة الجريمة، ممثّل الثقافة؛ أي بائع الكتب. وممثّل السلطة؛ أي الرائد هشام، حتى يحدث الجدل الغائب بسبب العنف، ويتكشّف المعنى الجوهري للجذر (قتل) ألا وهو معرفة كنه الشيء! وعندها تتضح لنا أصول العنف، فمن الممكن تحقيق السلام والحياة بناء على ذلك.

البطل عبد الله كان يبحث عن هويته؛ يقول تدفعني الخيبة لا الأمل، لأبحث في الماضي عن تأصيل لهوية مضطربة. فخيبة الإنسان بالانتماء (عدم تحقّقه) تجعله يبحث في الهوامش عن بديل. وغالباً ما يعيد إحياء الانتماءات الضيقة كتعويض. وهي في الحقيقة محرك آلية العنف! أمّا عبد الله؛ فبحثه أخذه إلى المسرح والدمية ذات الصوت المكبوت أو العميق. أو كما أسميتها حواءه ومعها أكمل البحث وصولاً إلى إعادة الأب والأم إلى المسرح في إشارة لإعادة الحياة، تأصيل وتأسيس البحث عن هوية جديدة،  هو القضية التي تؤسس الحياة الجديدة إذن!

لا أحد يستطيع الهرب من هويته، فهي معطى وجودي في حال ضياعه، فهذا يعني العدم. لكنّ البحث عن الهوية المحدّدة سلفاً يصبح حالة عنفية، عندما تبدأ بإلغاء الآخر، وأي هوية فيها من الإلغاء الكثير؛ لذلك قال سارتر: “الآخرون هم الجحيم”. أمام هذا الواقع المخيّب للآمال، كان لا بدّ لعبد الله ان يبتكر حلاً كي تنفتح الهوية على إنسانيتها، بحيث يصبح الآخر امتداداً حيوياً لها. إنّ  تأصيل الوجود في مخيال عبد الله عبر الدمى التي صنعها لم يكن ليتم إلا عبر قصّ الخيوط التي تربط الدمى بيد محرك العرائس لتصبح حرّة. إنّها دعوة لخلق هوية تولد من محايثة الحياة تنمو كل يوم وتتجدّد، رافضة لأي شكل مسبق يحدّد وجودها، هكذا يصبح وجودها خياراً، لا قدراً محتوماً محدداً بشكل مسبق.

و. س: مقولة قتل الأب: ارتفعت الأصوات الداعية لها. وهناك الصوت التحذيري لديك قد جاء على شكل نبوءة؛ ستقتلون الأب ولن تجيدوا دفنه، ستقتلكم رائحة جثته، تقول: “سنوات، ونحن نحمل جثة الأب. ونحن نعلك لحمه كالصوف. والبلد تغرق بالقتل، نقتل الآباء ويتكاثر الأبناء كالجراد. وهكذا نعلن القطيعة، لنؤسس لأبوتنا وكراسينا المصنوعة من عظام الأباء”. فإذن قتل الأب كان تأسيساً لآباء لا يختلفون عنه، بل يتجاوزونه في القسوة! في عملية إعادة تدوير للعنف. لكنّك تعيد الأب وتجلبه للمسرح لنلمس تمييزك للأب الذي تريد إعادته المعبّر عنه بالعقل؟ ( هذا من فضل العقل) المقولة التي تحطمت في الهياج؟

ب.س:  إنّ قضية قتل الأب قد تكرّرت كثيراً في الميثولوجيا الإنسانية. إذن هي رمزية أكثر منها فعلاً واقعياً، فقتل الأب، هو قطيعة مع منظومة سابقة ثبت فشلها، بأن تكون محايثة للحاضر.  وبما أنّ مصير الأبناء أن يصبحوا آباء؛ إذن، هم ضحايا جدد. لهذا يقال، بأنّ الثورة تأكل أبناءها؛ وذلك عبر تحويلهم إلى آباء، من الضرورة أن نثور على الآباء الجدد. إنّ إعادة الأب عبر دمية في أوراق عبد الله مع ربطه بمقولة (هذا من فضل العقل) فقد جاء ذلك من أجل إيقاف دورة العنف، وإنشاء الحوار بين الأصول والفروع الذين سيغدون بدورهم أصولاً تنبت فروعاً وهكذا دواليك.

المانوليا الدمشقية (إلفة الإدلبي ١٩١٢-٢٠٠٧)

المانوليا الدمشقية (إلفة الإدلبي ١٩١٢-٢٠٠٧)

المانوليا؛ ليس عنوان مؤلف للأديبة السورية ألفة الإدلبي وحسب، بل هو نوع من التناص الوجودي الأدبي بين بطلة قصتها “الليدي جين” وبين شخصية المؤلفة ذاتها، فتلك الإنكليزية المتمردة على عادات قومها بالزواج ثلاث مرات من رجال هم بارون ولورد وكونت، هجرت القصور والقلاع والأمراء لتأتي دمشق وتتزوج للمرة الرابعة من الشيخ مجول المسرب الذي ينتمي للعشيرة العنزية ولتعيش معه في البادية حيناً؛ وفي بيته العربي في دمشق حيناً آخر. في فناء تلك الدار زرعت الليدي جين شجرة المانوليا الإنكليزية فأزهرت وانتشرت في دمشق، تماما كما أزهر وانتشر نتاج إلفة الإدلبي في دمشق، فقد كانت إلفة كما الليدي جين متمردة على التقاليد والعادات، تستند إلى الطاقات الناضجة فيها، حتى أتقنت فن التكيف الاجتماعي إلى حد الروعة، أو على حد تعبير الأديبة أميرة الدرة: أتقنت فن الحياة ومجابهة الحياة بطريقة ديبلوماسية واستخدمت كل أساليب التفاهم والتعاون لتصل إلى حقها، ولكنها أبداً لم تعرف التهاون فيه. لقد أشربت نفسها حب المرح وبرعت في فن إلقاء النكتة وتفردت فيها. و آمنت بجدوى الضحك وفوائده، فالضحك يتبعه التسامح. وقد بلغت فعلياً مرحلة التسامح وعرفت كيف تلائم بينها وبين الظروف المحيطة بها، وعرفت كيف تحقق أسباب الحياة السعيدة الناجحة.

ظهرت على مسرح الحياة محتفظة بشخصية آسرة جذابة وأناقة متميزة مبنية على ذوق رفيع. فقد كانت تفرض احترامها في كل مجتمع تؤمه، فهي محدِّثة بارعة، دمثة الخلق، كريمة الطبع، بعيدة عن كل تزمت، وتتمتع بجاذبية خاصة وتأثير غريب على محدثيها. كانت تبذل العطاء بسخاء وتتصرف ببساطة وعدم تكلف، وتتميز بتواضعها على سُنّة “من دام تواضعه كثُرَ أصدقاؤه”. طبيعتها الشخصية انطوت أيضاً على ما كانته الليدي جين، فكما عبرت جين الحدود، فعلت إلفة الإدلبي. وعبر شخصية مجيد في الرسائل الواردة في كتابها «المانوليا في دمشق وأحاديث أخرى» ناقشت إلفة الكثير من الأفكار الفلسفية والتاريخية. فمجيد كان شاباً جامعياً من دمشق ويدرس الفلسفة في القاهرة، إلا أنه أيضاً كان صديقاً لابنها زياد في المرحلة الثانوية، ولذلك كان يراسلها من القاهرة.

عبر وصفها نجد أن مجيداً ليس إلا واحداً من ملايين الشباب الضائعين الحائرين القلقين الذين يتلمسون طريقهم إلى شاطئ الأمان وسط عتمة الآراء والمذاهب والنظريات، وفي بحور متلاطمة من التمرد والفوضى والبلبلة وعدم الاستقرار. لقد كانت البدع الداخلية المستوردة تغزو أفكارهم، وتشل أدمغتهم عن التفكير السليم. فمجيد كان في دمشق نباتي المذهب كأبي العلاء المعرّي إلا أنه أصبح في القاهرة سارترياً وجودياً، لكنه انصرف عن السارترية إلى الإنسانية، فنراه كيف يكره الحرب وينادي بإزالة الحدود والسدود بين الدول، حيث بات العالم كله في نظره أسرة واحدة، فلا قومية تفصل، ولا جنس أو مذهب أو لون.

في ظلال المانوليا غيرت إلفة الإدلبي أسلوبها التعبيري من الأسلوب القصصي والروائي إلى نمط المحاضرة، وفي المحاضرة انتقلت من تبنيها لقضية المرأة بالمعنى الوجودي إلى كل المعاني السياسية والاجتماعية الممكنة، حيث عمدت إلى الكتابة عن المرأة الأنثى، الأم، العاشقة، الخاطئة، المتمردة، المرأة المكبلة بالعادات والتقاليد، العانس، المتألمة.. وانتقلت من تلك الأوصاف لموقع المناضلة المدافعة عن حقوق المرأة وعن حضورها التاريخي وعن مشاركتها الفاعلة في الحياة.  

محاضرتها عن «المرأة العربية والعقيدة» مثلاً أشارت إلى أن المرأة أكثر ثباتاً على العقيدة من الرجل، فهي قلما تتلون أو تنقلب أو ترتد، ولو أوردها ذلك الهلاك. كما انها اقتحمت التاريخ العربي تبحث عن نساء ملهمات، كأم علقمة الخارجية التي وقفت في وجه الحجاج غير هيابة قسوته وجبروته، وغزالة الحرورية التي اضطرت الحجاج أيضاً إلى أن يختبئ في مسجد الكوفة خوفاً من سطوتها، وكذلك عمرة بنت النعمان، وسودة بنت عمارة، وهند بنت عتبة، والخنساء الشاعرة، وأسماء بنت أبي بكر وغيرهن.

ولم تفارق المانوليا الا بعد أن وجهت كل طاقاتها للمطالبة بحقوق المرأة العربية من النواحي التشريعية والتنفيذية والقضائية، والمطالبة بفكرة التساوي مع الرجل، فتعطى حقوقها كاملة لتكون قاضية أو رئيسة وزارة أو سفيرة في وزارة الخارجية.

وُلِدَت إلفة الإدلبي في مدينة دمشق في حي الصالحية المنحدر من جبل قاسيون في عام 1912 من أبوين دمشقيين هما «أبو الخير عمر باشا» و«نجيبة الداغستاني» وكانت البنت الوحيدة بين خمسة أخوة ذكور. يعود نسبها من أبيها إلى أسرة دمشقية الأصل، ومن أمها، إلى أسرة داغستانية، نفى السلطان العثماني محمود الثاني جدها الشيخ محمد حلبي، وقسره على مغادرة وطنه داغستان مع أسرته، بسبب نضاله لتحريره من الاحتلال الروسي، ليقيم نهائياً بدمشق. تلقت علومها في مدرسة تجهيز البنات، وفي عام 1920 أصبح التدريس في مدرستها باللغة العربية، وحين عاد الملك فيصل الأول من باريس خرجت لاستقباله بزي مدرسي أُعِدَّ خصيصاً لهذه المناسبة التاريخية.

في عام 1921 أُصِيبَت بالحمى التيفية، ونجت منها بأعجوبة، مما أخَّرَها عن الالتحاق بالمدرسة سنة كاملة، ولما أُسست مدرسة «العفيف» القريبة من منزلها انتمت إليها، وكانت من المتفوقات في دروسها. وفي عام 1927 نالت الشهادة الابتدائية وانتقلت إلى دار المعلمات. وكان من أساتذتها فيها أبو السعود مراد، وصادق النقشبندي، ومحيي الدين السفرجلاني. وكان صفها قليل العدد لا يتجاوز ستة عشر تلميذاً، أما التلميذات فلا يكاد عددهن يُذْكَر.

ومن الجدير بالذكر أن إلفة الإدلبي منذ بداية تفتحها على الحياة، أظهرت ميلاً واضحاً نحو الأدب. فكانت تُقبِل على القراءة، وحفظ الشعر، وتمضي الساعات الطوال مع أمهات الكتب، التي تذخَر بها مكتبة والدها الذي لاحظ ميول ابنته، فأخذ يوجهها واضعاًً بين يديها أثمن ما احتوته مكتبته، فقرأت «العقد الفريد» وقرأت «الأغاني»، وكتاب «الأمالي» واستحسنت الشعر القديم وتذوقته، وحفظت أروع القصائد وأجملها.

ومما يذكر عنها وبلسانها في هذه المرحلة قضية نضالها في سبيل التحرر الوطني إذ تذكر قائلةً: “أثناء الثورة السورية كنا في دار المعلمات. وكنت أنا وأخي وأربعة من أولاد عمومتي قد التحقنا بالثورة السورية، وسَرَت العدوى إلى صديقاتي وإخوتهم فالتحقوا بالثورة، وكنا يومها نشتعل حماسة واندفاعاً. أنشئ أول معمل للألبسة الوطنية (التريكو) في دمشق فخطر لنا نحن الفتيات المتحمسات أن نذهب إلى المعمل بالسر وبدون إعلام أهلنا من أجل أن يصنع لنا سترات بيضاء يحيط بها العلم السوري بألوانه الأبيض والأخضر والأسود والأحمر في إطار الكنزة وفي إطار الأكمام. ورحنا نلبس الملاءة السوداء ونضع السترة فوق التنورة السوداء فيظهر العلم السوري ما بين الملاءة والتنورة.

وعندما كنا نسير في الطرقات كان كثير من الشبان يحيوننا ويحيون العلم السوري. ولما وصلنا إلى المدرسة تكتلت رفيقاتنا حولنا ورحن يسألن: أين صنعتن هذه السترات، نريد مثلها، نريد مثلها. وكانت الناظرة عين المديرة الأجنبية تتجسس علينا، وتحمل لها أخبارنا، فأسرعت إليها بالخبر.

دعتنا المديرة الأجنبية إلى غرفتها وهددتنا بالطرد إن لم نخلع العلم السوري. لأن ذلك يثير الشغب في الطرقات وفي المدرسة. وكبر الأمر علينا فبقينا ثلاثة أيام في البيت ندَّعي المرض أمام أهلنا. وجاء أحد الآباء إلى أبي قائلاً: أفلا يكفي ما نلاقيه في أبنائنا الشباب حتى تفعل ذلك بناتنا؟. فطلب مني أبي ألا أرتدي ذلك اللباس وأن أذهب فوراً إلى المدرسة”.

في عام 1929 تزوجت إلفة من الطبيب حمدي الإدلبي، وأنجبت له ثلاثة أولاد هم: ليلى وياسر وزياد. وكانت قد انقطعت عن متابعة تعليمها بسبب هذا الزواج المبكر.

أنجبت إلفة الإدلبي في عام 1932 ابنها ياسر وأصيبت بمرض أقعدها في الفراش سنة كاملة انقطعت خلالها إلى القراءة انقطاعاً كاملا، حيث كانت تقرأ عشر ساعات متواصلة يومياً، تنتقل فيها بين الأدب القديم والحديث والمترجم، إلا أن قراءة القصة كانت هوايتها الأثيرة، الأمر الذي جعلها تستنفد جميع مؤلفات محمود تيمور، وتوفيق الحكيم، وإبراهيم عبد القادر المازني، وطه حسين، وميخائيل نعيمه، وجبران خليل جبران، ومارون عبود، ومعروف الأرناؤوط. ومن الأدب العالمي قرأت: تولستوي ودوستويفسكي وبلزاك. وقد حصلت على هذه الكتب كلها من مكتبة خالها كاظم الداغستاني (1901-1985) وكان مفكراً وأديباً وناقداً وحاصلاً على دكتوراه في الفلسفة وعلم الاجتماع. 

وفي عام 1940 انتمت إلى جمعية الندوة، وقامت من خلالها بنشاط أدبي واسع، ولعل أول من تنبه ورعى موهبة إلفة الإدلبي من خارج الأسرة كان أستاذ اللغة العربية أديب التقي البغدادي عندما كانت طالبة في دار المعلمات، فعرض عليها وعلى مثيلاتها من الطالبات الموهوبات تشكيل جمعية أدبية، وكانت فكرته هذه هي النواة الأولى لتشكيل جمعية أدبية ثقافية أخذت صبغتها الرسمية في عام 1942 هي «الندوة الثقافية النسائية» وملتقاهن في الندوة الثقافية النسائية هذه كان صباح كل ثلاثاء.

ثم انتسبت لـ «حلقة الزهراء الأدبية» في عام 1945. وقد كان من أبرز أعمال هذه الجمعية إصدار كتاب «مختارات من الشعر والنثر» للأديبة والصحفية السورية الأولى ماري عجمي.

وفي عام 1947، كتبت أول قصة لها بعنوان «القرار الأخير» وأرسلتها للاشتراك في مسابقة إذاعة لندن ففازت بالجائزة الثالثة، وقد شجعها هذا الفوز على الاستمرار في كتابة القصة التي أصبحت إحدى رائداتها. وهي منشورة في كتابها «قصص شامية». ثم كتبت إلفة الإدلبي قصتها الثانية «الدرس القاسي» فأرسلت إلى مجلة «الرسالة» المصرية القصتين معاً، فنشرتا.

في يوم الخميس 22/3/2007 رحلت الأديبة إلفة الإدلبي عن عمرٍ يناهز السادسة والتسعين عاماً، وتم تشييعها من جامع البدر في حي المالكي الدمشقي بحضور أهلها وأصدقائها والعديد من الشخصيات الأدبية والثقافية في سورية. 

أما على الصعيد العملي:

عملت إلفة الإدلبي في لجنة النثر في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب وذلك مدة تقرب من عشر سنوات، كما عملت في لجنة الرقابة الأخلاقية في مؤسسة السينما العربية في سوريا لمدة وجيزة.

ألقت عشرات المحاضرات في الأندية الأدبية والمراكز الثقافية، وعشرات الأحاديث الإذاعية، وأجريت معها مقابلات صحفية وتلفزيونية عديدة.

كما أجرى معها برنامج «كاتب وموقف» الذي يعدُّه عبد الرحمن الحلبي حواراً حول روايتها «دمشق يا بسمة الحزن»، وشاركت في عدة مؤتمرات عن المرأة منها: المؤتمر الخامس للاتحاد النسائي العربي الذي أقيم في بيروت عام 1962، وشاركت في بغداد عام 1969، وفي مؤتمر المغرب عام 1981.

كما حضرت العديد من الندوات الأدبية المحلية والعربية والعالمية، فمثلت اتحاد الكتاب العرب في تشيكوسلوفاكيا، وزارت الصين في مجال التبادل الثقافي بينها وبين سورية، كما شاركت في ندوة «مكاسب الالتزام في الأدب العربي الحديث» مع كل من الدكتور عبد الله عبد الدايم، و مطاع الصفدي، ويوسف الخطيب، في مركز الجمعية السورية للفنون بدعوة من جمعية الأدباء في 1/4/1959. كما شاركت في الندوة التي أقامتها «جمعية الوعي العربي» عن القصة السورية مع كل من شاكر مصطفى ود.عبد السلام العجيلي في 14/1/1961.

بلغ عدد الندوات التلفزيونية التي أجريت معها في كل من: سورية، ولبنان، والكويت، خلال الأعوام 1961-1986 سبع عشرة ندوة، أما الندوات الإذاعية فأكثر من أن تحصى. 

أخيراً لابد من ذكر أهم أعمالها:

١– قصص شامية، مجموعة قصصية تضم سبع عشرة قصة قصيرة، 1954.

2- وداعاً يا دمشق، مجموعة قصصية فيها سبع عشرة قصة من القصص القصيرة، 1963.

3- المانوليا في دمشق وأحاديث أخرى، طائفة من المحاضرات والأحاديث التي ألقتها في كل من دمشق وحلب، 1964.

4-  ويضحك الشيطان وقصص أخرى، مجموعة قصصية، 1970.

5- نظرة في أدبنا الشعبي: ألف ليلة وليلة وسيرة الملك سيف بن ذي يزن، دراسة، 1974.

6- عصي الدمع، مجموعة قصصية، 1976.

7- دمشق يا بسمة الحزن، رواية، 1980.

8- إسرائيليات، محاضرة، 1983.

9-حكاية جدي، رواية، 1991.

10- وداع الأحبة، 1992.

11- عادات وتقاليد الحارات الدمشقية القديمة، محاضرات ومقالات، 1996.

أعمالها المترجمة إلى اللغات الأخرى:

 الانكليزية:

– «حمام النسوان»، ترجمة ميشيل أزرق، من مجموعة «ويضحك الشيطان» ،«بعد سبعين عاماً»، ترجمة سيمون فتال، من مجموعة «ويضحك الشيطان».

– «الحقد الكبير»، ترجمة منير فرح، من مجموعة «وداعاً يا دمشق»، «دمشق يا بسمة الحزن»، ترجمة بيتر كلارك، رواية.

الروسية:

«العودة أو الموت»، ترجمة د.أولغا فالورفا،

 من مجموعة «وداعاً يا دمشق»، «وداعاً يا دمشق» و«حكاية جدي»، رواية.

 الصينية:

«الحقد الكبير»، من مجموعة قصص «وداعاً يا دمشق».

«قصص شامية»، المجموعة الكاملة.

 الإيطالية:

«ويضحك الشيطان» ترجمة محمود لولا، من مجموعة قصص «ويضحك الشيطان».

 التركية:

«الستائر الزرق»، ترجمة منور موره لي، من مجموعة «قصص شامية».

 الألمانية:

«الستائر الزرق»، من مجموعة «قصص شامية».

 الإسبانية:

«دمعة وابتسامة»، من كتاب «المانوليا في دمشق».

 الأوزباكستانية:

«انتقام»، من مجموعة «قصص شامية».

 لغات أخرى:

توجد ترجمات أخرى منها إلى اللغة العبرية، والفرنسية، وبعض لغات الاتحاد السوفياتي السابق كالأوزباكستانية، و اللغة الهنغارية، والهولندية، والسويدية، والبرتغالية، و الفارسية.

ألفة الإدلبي، هي كاتبة ومثقفة ومناضلة دمشقية لابد من العودة له، واستحضارها من تاريخنا، لاسيما عندما تفكر الأجيال الشابة بصناعة مستقبل للفكر النسوي السوري. 

تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”

صُعلوكٌ عربيٌّ جاهليٌّ بزيٍّ مُعاصِرٍ أنيقٍ وبعِطرٍ فرنسيٍّ جذّاب

صُعلوكٌ عربيٌّ جاهليٌّ بزيٍّ مُعاصِرٍ أنيقٍ وبعِطرٍ فرنسيٍّ جذّاب

(شهادةُ الشَّاعر اللُّبنانيّ طلال حيدر عن الشّاعر السُّوريّ علي الجندي)

في إطار عمَلي على إنجاز كتاب موسوعيّ عن سيرةِ الشَّاعر السُّوريّ الكبير علي الجندي (1928 _ 2009) الحياتيَّة والشِّعريَّة، وهوَ المشروع الذي بدأتُ بهِ برفقةِ علي الجندي شخصيَّاً منذُ العام 2001 في مدينة اللَّاذقيَّة، حيثُ قضَى آخِرَ سنواتِهِ فيها، حاوَلَ الصَّديق العزيز الكاتب والصحفيّ (المُنذر الدِّمنيّ) _الذي كانَ يُساعدني في جمع بعض موادّ الكتاب وبعض شهاداتِهِ بصفة (باحث مُساعِد) بحُكم وُجودِهِ في بيروت_ أنْ يحصَلَ على شهادة خطِّيَّة لكتابي وباسمِي من الشَّاعر اللُّبنانيّ الكبير (طلال حيدر)، ولظُروفٍ مُختلِفة، منها صحِّيَّة، اعتذرَ شاعرُنا وأرجَأَ الشَّهادةَ مرَّاتٍ عدَّة.

ولأنَّ من طبيعتي الإصرار و(يباسة الرأس)، ولخبرتي الطَّويلة بمِزاجيَّة المُبدعين، ولا سيما مع تقدُّمِهِم في السِّنّ (على ألّا يعتقدَ أحدٌ منَّا أو يُخدَعَ بفكرةِ أنَّ أمثال علي الجندي أو طلال حيدر يتقدَّمونَ في السِّنّ…)، قرَّرتُ أنْ أُجريَ مُحاوَلةً (نجحتُ بتطبيقِها معَ شخصيَّاتٍ عدَّة من قبْل)، فملأتُ جوَّالي برصيدٍ كبير، وأجريْتُ اتِّصالاً على جوَّال طلال حيدر مُباشَرَةً في يوم الجمعة 18/ 11/ 2022، وعرَّفتُهُ بنفسي بعدَ أنْ ردَّ عليَّ، وبأنَّني أُحدِّثُهُ من دمشق، وذكَّرتُهُ بطلبِ الصَّديق المُنذر، وبشهادتِهِ المَوعودة عن علي الجندي، ففاجأني بحجم الدِّفء والعاطفة والاستقبال الحميميّ، مُردِّداً منذُ البداية: “أهلاً وسهلاً بمازن وبجميع أهل سوريَّة الحبيبة”.

حاولتُ أنْ أُورِّطَهُ بالموضوع تحتَ دعوى: “هل لديكَ دقيقتان فقط لا أكثَر للحديث عن أبي لهب؟”، فأجابَ بسَعادةٍ غامِرة: “خُذِ الوقتَ الذي تُريدُهُ”.

كنتُ قد جهَّزْتُ أمامي بضعَ وريقاتٍ وقلَمٍ، ورحتُ أطرَحُ أسئلتِي، وأُدوِّنُ خلفَهُ كُلّ كلمةٍ يتفوَّهُ بها. 

وفي الحقيقة، شعرْتُ أثناءَ المُحادَثة، وبعدَ أنْ أنهيْتُ المُكالَمَةَ أيضاً، حيثُ رحتُ أقرأُ ما دوَّنتُهُ خلفَهُ، أنَّها لم تكُنْ مجرَّدَ شهادةٍ تقليديَّةٍ، بقدرِ ما كانتْ شِعراً مُدهِشاً وسلِسَاً ألقاهُ طلال حيدر بصوتِهِ وبهُوِيَّتِهِ الجَماليَّة المَعروفة، فكأنَّهُ كانَ يُلقِي قصيدةً عذبةً وشفَّافةً وهوَ يحكي عن صديقِهِ أبي لهب.

أضَعُ، هُنا، نصَّ الشَّهادة، آمِلاً أنْ يصُبَّ هذا الجهدُ المُتعلِّقُ بكتاب علي الجندي، في إطار الوفاء لهُ ولرحلتِهِ الحياتيَّة والإبداعيَّة، وللشِّعر السُّوريّ، والثَّقافة العربيَّة والإنسانيَّة.

قالَ طلال حيدر:

“علي الجندي لم يكُنْ غريباً إلّا عن نفسِهِ.. 

هوَ الجَمالُ المجنونُ الذي تفجَّرَ بحثاً عن روحٍ مفقودةٍ لا يُمكِنُ أنْ تُوجدَ أبداً، فتمزَّقتْ ذاتُهُ أوَّلاً وأخيراً..

حينَما جاءَ إلى بيروت في الخمسينيَّات من القرن المُنصرِم لم يكُنْ هارِباً أو مُغترِباً، بقدرِ ما كانَ مُنقِّباً بنهَمٍ استثنائيٍّ عن هُوِيَّتِهِ المُختلِفةِ في الحياةِ والإبداع.

كانَ سبَّاقاً في حركةِ الحداثةِ الشِّعريَّة، ولا يُمكِنُ تجاوُزُهُ أو تجاوُزُ تجربتِهِ المُتفرِّدة عندَ أيَّةِ قراءةٍ موضوعيَّةٍ صادقةٍ للشِّعر العربيّ الحديث.

علي لم (يتباسَط) أو يتبهلَل في مَوقفِهِ الشِّعريّ، وفي الوقتِ نفسِهِ، لم يتفلسَف ويتفذلك كالكثيرين غيره..

كانَ صاحبَ رُؤيا مُستقبَليَّةٍ في شِعرِهِ، وكانتْ لهُ قصائدُ شاهِقةٌ، وصوَرٌ وتراكيبُ جديدةٌ ومغايِرَة. واستطاعَ أنْ يُمسِكَ بأهمّ ثلاثة عناصر في الإبداع الشِّعريّ: ألّا تُرينِي ما يُرَى _ ألّا تُعطينِي فكرةً أعرِفُها _ أنْ تكونَ ذاكرةَ المُستقبَل.

هذهِ العناصِرُ ظلَّتْ ضارِبَةَ الجُذورِ في تجرِبةِ علي، ولهذا فهوَ ينتمي في شِعرِهِ إلى ما فوقَ الزَّمنيِّ والتَّاريخيِّ، فكَم من شاعرٍ عربيٍّ قديمٍ كانَ حداثيَّاً وأصيلاً في تُراثِنا الشِّعريّ، وكم من شاعرٍ عربيٍّ عاشَ في عصرِنا الحديثِ، وكانَ بائِسَاً ومُفلِساً في فنِّهِ..

في حُضورِهِ الحياتيِّ كانَ شاعراً عظيماً أيضاً.. لا بل كانَ مُبدِعَ أكثَر من حياةٍ في حياةٍ واحدة، وكانَ مُبتكِرَ حياتِهِ الفريدة من دونِ ادِّعاءٍ، وخلَّاقَ حُرِّيَّةٍ لا تُشبِهُ ولا تُحاكي إلّا الحُرِّيَّة التي في ذهنِهِ الحزين، وفي تصوُّرِهِ المُستحيل.

هوَ البوهيميُّ المُتسكِّعُ في ليالي دمشق وبيروت والقاهرة وبغداد وباريس، يشحذُ سَهَراً وجُنوناً وأهواءً، ويُلاحِقُ حياةً يُريدُها ألّا تنفدَ، فيقتُلُها وتقتُلُهُ رُويداً رُويداً..

لم يكفَّ لحظةً واحدةً عن هَوَسِ العيْشِ، ولم يكُنْ قنوعاً يعرِفُ الشَّبَعَ، ولهذا كانَ يلهَثُ باستمرارٍ مثلَ مُتشرِّدٍ باختيارِهِ، مُهروِلاً بلا مَأوىً وبلا انتماءٍ طلَباً للجَمال والمُتَعة والانعتاق.

هوَ، باختصار: صُعلوكٌ عربيّ جاهليّ بزيٍّ مُعاصِرٍ أنيقٍ، وبعِطرٍ فرنسيٍّ جذّاب.

أينَما كنتَ تلتقي بعلي كنتَ تعرِفُ من فوركَ أنَّكَ قدِ التقيْتَ للتَّوِّ بهديَّةٍ تحمِلُ ما تحمِلُ منَ الدَّهشةِ؛ فكُلُّ شيءٍ كانَ يغدو أبهَى بحُضورِهِ، وبرفقتِهِ كانتْ تتضاعَفُ متَعُ الوُجودِ على نحْوٍ لا يُوصَفُ سهَراً وخَمراً وشِعراً وامرأةً..

كانَ كُلَّما بعثَرَ الحُدودَ من حولِنا، منَحَ الحياةَ ومنَحَنا قداسةً أجمَل..

ذاتَ يومٍ في تكريمٍ أُقيمَ لهُ في معهد العالَم العربيّ في باريس بمُناسبةِ بلوغِهِ سنّ السِّتِّين، سافرْتُ من بيروت إلى فرنسا خصِّيصاً لأحضُرَ تكريمَهُ هذا، وحينَما دُعيتُ إلى المِنصَّة لم أكُنْ قد حضَّرتُ كلمةً، فصعدتُ، وقلتُ عبارةً واحدةً فقط ألهبَتِ الحفلَ تصفيقاً وضَحِكاً وتأثُّراً: “لقد جئتُ من بيروت إلى باريس فقط كي أُقبِّلَ (هالأخو الشَّرموطة)”، ثُمَّ نزلتُ عنِ المِنبر، وذهبْتُ كي أُعانِقَ علي الجندي بحرارة *“. 

هامش:

*هذهِ الحادثة كانَ يرويها علي الجندي بفرَحٍ وسعادةٍ بالِغة، مَقرونةً، كعادتِهِ طبعاً، بسلسلة شَتائِمَ بذيئةٍ وضاحكةٍ لصديقِهِ طلال حيدر، وكانَ يُردِّدُ باستمرارٍ أمامي: “طلال كيفما رمَى وبعثَرَ كلماتِهِ، تَخرُجُ شِعراً مُدهِشاً”. 

تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”

أبو خليل القباني.. المبدعُ الخالدُ بفنه الأصيل 

أبو خليل القباني.. المبدعُ الخالدُ بفنه الأصيل 

“يا طيرة طيري يا حمامة.. وانزلي بدُمَّر والهامة” تلك الأغنية الشهيرة، المحفورة في آذاننا وقلوبنا، والتي غنيناها في الأفراح والسهرات والرحلات وجميع المناسبات، وسمعناها من عشرات المطربين، قد لا يعلم البعض منا أن تاريخها يعود لنهايات القرن التاسع عشر، وأن مؤلفها الحقيقي هو أحمد أبو خليل آغا آقبيق، المعروف بأبي خليل القباني، والذي ولد في دمشق/ باب السريجة عام 1842، وكان يتمتع بذكاءٍ إبداعيٍ قل نظيره، ويمتلك مواهب وقدراتٍ فنية استثنائية ومتكاملة، جمعت فنون المسرح والشعر والموسيقى والغناء والثقافة الواسعة، وجعلته من أبرز عظماء الفن السوري، فهو من مُنح لقب “رائد المسرح العربي”،  وحمل اسمه أحد أهم وأعرق مسارح دمشق.   

مسيرته الفنية    

تعلم القباني القراءة والكتابة في الكتاتيب وأتقن أصول النحو والصرف والبيان والبديع. وكان منذ صغره، يتردد بشكلٍ دائمٍ على حلقات الذِكر والإنشاد والموالد والزوايا الصوفية، وقد ظهرت عليه موهبة الموسيقى والغناء والتمثيل وهو في الثانية عشرة من عمره. بدأ القباني مسيرته الفنية بتقديم بعض الاسكتشات المسرحية في مقاهي وأحياء دمشق وبيوتها العريقة، حيث قام بتحويل شخصيات خيال الظل (الفن المسرحي الوحيد الذي كان سائداً في سوريا آنذاك) التي كان يُحرِّكها الحكواتي ويتحدث بلسانها بأصواتٍ مختلفة، إلى شخصياتٍ مجسَّدة يؤديها الممثلون بحضورهم الفعلي على المسرح، ويُعتبر حينها أول من صنع مسرحاً في سوريا والوطن العربي (ولو في شكله البسيط)، وكانت معظم عروضه تستقي موضوعاتها من حكايات التاريخ العربي والتراث وتلعب دوراً توعوياً وتنويرياً، ولكي تصل إلى ذائقة الناس، كان يمزجها مع الألحان والأغاني والموشحات والرقصات المتنوعة (كرقص السماح) التي كان يؤلفها لخدمة العرض المسرحي لتكون جزءاً محورياً منه، وهو ما شكل الولادة الأولى للمسرح الغنائي العربي، الذي انتشر، فيما بعد، بشكلٍ كبيرٍ على يد الرحابنة وفيروز. 

 قدم القباني أول عرضٍ مسرحي من تأليفه عام 1871 وهو بعنوان “الشيخ وضاح ومصباح وقوت الأرواح “، ولم يكن حينها مجرد مؤلفٍ  مسرحيٍ  وموسيقيٍ فقط، بل كان مُخرجاً ومصمم ديكورٍ وأزياء.  ويُعتبر ذلك العرض الانطلاقة الحقيقية لأول مسرحيةٍ سورية متكاملة، وقد حضرها والي دمشق آنذاك صبحي باشا فشجعه على تقديم العروض خارج نطاق البيوت وعلى تشكيل فرقةٍ مسرحية، شكَّلها القباني مع عددٍ من أصدقائه المنشدين، وكان بعضهم يؤدي دور الشخصيات النسائية التي تحتاجها المسرحيات، ولتقديمها بأفضل شكلٍ ممكن لجأ القباني لاستخام تقنية الماكياج، وقد وضع حينها الأسس والقواعد الأولى  لفن المسرح، ثم أنشأ بين عامي 1874 و 1875 أول مسرحٍ مُجهزٍ للعرض في دمشق (يُعتقد أنه في منطقة القنوات)، قدم فيه عشرات العروض. وبعد الإقبال الجماهيري الكبير على مسرحه وانتشار الحديث عنه بين الناس، واجه صعوباتٍ وتحدياتٍ كبيرة، أجبرته على إيقاف نشاطه المسرحي، بعد تعرضه لعداء ومضايقات بعض رجالات الدين، الذين ثاروا عليه بحجة تقديمه لمسرحياتٍ زعموا أنها مخلَّة بالآداب كونها تتحدث عن الحب خارج نطاق الزواج وتجعل الرجال يتمثلون بالنساء وتُقلل من شأن بعض الشخصيات التاريخية، كالمسرحية التي تحدثت عن هارون الرشيد. 

 وفي عام 1878 وبعد قدوم مدحت باشا إلى دمشق ليكون والياً جديداً عليها، قدم للقباني الدعم اللازم ليحيي نشاطه المسرحي مجدداً، فقام بإنشاء مسرحه الجديد في “خان الجمرك”، وأعاد تشكيل فرقته المسرحية الخاصة عام 1879 وقدم معها نحو أربعين عرضاً، وبدعمٍ من مدحت باشا أقام القباني مسرحه الصيفي في حي باب توما ليبتعد عن مضايقات رجالات الدين، ورغم ذلك ثارت عليه فئة جديدة من الشيوخ فقاموا بإحراق مسرحه وأرسلوا وفداً منهم لمقابلة السلطان العثماني، الذي أوعز لرجالاته بإيقاف مسرح القباني، وهو ما أجبره على مغادرة دمشق نحو مصر. 

قدم القباني خلال حياته عشرات المسرحيات، وقد نُشر بعضها في مجلدات ، ومن بينها: “عنتر بن شداد”، “السلطان حسن”، “أبو جعفر المنصور”، “الأمير محمود نجل شاه العدم”، “حيل النساء”، ” عفيفة”، “لباب الغرام”، ناكر الجميل”، “هارون الرشيد مع أُنس الجليس”، و”هارون الرشيد مع الأمير غانم بن أيوب وقوت القلوب” وهي المسرحية التي اختارها المسرحي الكبير الراحل سعدلله ونوس لتكون جزءاً من عرضه المسرحي سهرة مع أبي خليل القباني .  

موشحاته وأغانيه 

القباني الذي أُنصف مسرحياً وحمل لقب “رائد المسرح العربي” لم يُنصف موسيقياً كما يليق بنتاجه الإبداعي والفريد، الذي شكل علامةً فارقة في تاريخ الموسيقى العربية، فكثير من المطربين والفرق الموسيقية الذين قدموا أعماله كانوا ينسبونها إلى الفلكلور وفي بعض الأحيان للفن الأندلسي أو يكتفون بذكر أنها لحن وشعر قديم، دون الإشارة إلى القباني. ويعود الفضل في إحياء مؤلفاته لبعض تلامذته الذين اكتسبوا مهارات فائقة في الحفظ والغناء، في عصرٍ لم تكن متاحة فيه تقنيات التسجيل أو التدوين عن طريق النوتة الموسيقية، كما كان للشيخ الحلبي علي الدرويش دور كبير في تدوين بعض أعمال القباني وتسجيلها برفقة فرقة إذاعة حلب. 

ورغم مرور قرنٍ وعقدين على وفاته مازالت موشحاته، ببديع أشعارها وعبقرية لحنها المُبتكر والمتنوع مقامياً وإيقاعياً، تغني مكتبة الموسيقى العربية، وقد أضافت قيمةً فنيةً كبيرة لمسيرة الفنانين الذين قدموها طوال العقود الماضية.

 ومن أشهر موشحات القباني: موشح  بالذي أسكر  (ويعتقد البعض أن أصله أندلسي. قدمه الرحابنة مع فيروز ضمن موشح “جادك الغيث”، في ألبوم “أندلسيات”، كما غناه الفنان صباح فخري، والكثير من المطربين والفرق الموسيقية)، موشح يا غصن نقا (غناه كبار فناني العالم العربي، من بينهم فيروز، صباح فخري، الشيخ إمام ولطفي بوشناق)، موشح ما احتيالي (غناه صباح فخري، سعاد محمد، ماري جبران، والمنشد حسن الحفار، وعمر سرميني وغيرهم)، موشح يا من لعبت به شمول (غناه صباح فخري، نور الهدى، مارسيل خليفة ورشا رزق وغيرهم )، موشح راق أنسي (قدمته العديد من الفرق الموسيقية السورية كالفرقة الوطنية للموسيقى العربية وأوركسترا قصيد)، موشح  كللي يا سحب (غناه صباح فخري وكورال الفرقة الوطنية للموسيقا العربية)، موشح محبوبي قصد نكدي  (غنته الكثير من الفرق الموسيقية السورية والعربية وكبار المطربين والمنشدين، مثل صبري مدلل وحسن الحفار)، موشح نمَّ دمعي من عيوني (غناه كبار المطربين العرب كالفنانة اللبنانية غادة شبير)، وموشح مالي عيني أبصرت، الذي تشير بعض المراجع إلى أن القباني كتبه ولحَّنه وهو يصف واقع حاله عندما كان على متن الباخرة مغادراً سوريا نحو مصر، ويقول مطلعه: “مالي عيني أبصرت أرضنا قد أقفرت.. وغدا الظبي بعيد وبكائي لا يفيد..  طاب لي فيها الهوى واستقرت بالنوى.. عاملتني بالجفا وهي لا تدري الوفى”.  

وهناك الكثير من الموشحات التي لم تنل حظها الكبير من الشهرة، لكنها كانت ومازالت تُشكل مرجعاً غنياً للباحثين في كنوز التراث الموسيقي ولمن أراد تعلم أصول وفنون الموشحات والإيقاعات المركبة، ومن بينها: موشح عيد المواسم ،  آه من جور الغوالي ، يا من رمى القلب وسار، كيف لا أصبو لمرآها الجميل ، شمس كأس الراح ، بالنهاوند الكبير ، بالله يا باهي الشيم  و برزت شمس الكمال

ويعود الفضل في نشر بعض موشحاته النادرة لتسجيلات فرقة الموسيقى العربية في مصر، بقيادة عبد الحليم نويرة، ومن بينها: موشح رُصع اللجين بياقوت ،  شَجني يفوق على الشجون ، أدر راحتي ، اشفعوا لي يا آل ودي و شادنٌ صاد قلوب الأمم.

إلى جانب الإرث الغني من الموشحات، قدم القباني الكثير من الأغاني التي تميزت بعذوبة وعُمق كلماتها، وبلحنها الرشيق الذكي، الذي يُناسب ذائقة الموسيقي المحترف والمتلقي العادي في آن معاً. ورغم تحولها إلى فلكلور مازالت معظمها تنسجم مع ذائقة العصر الحالي، وتتسم بالجدة والحداثة ويغنيها أغلب مطربي اليوم. ومن أشهر تلك الأغاني أغنية يا طيرة طيري يا حمامة ، يا مال الشام ، صيد العصاري ، يا مسعد الصبحية ، ع الهيلا الهيلا الهيلا يا ربعنا – التي تعتقد بعض المراجع أنه ألَّفها وغناها على متن الباخرة، بصحبة فرقته، خلال رحلتهم التاريخية إلى شيكاغو وأغنية يا يوم حبيبي التي سجلها في أمريكا خلال الرحلة ذاتها، حيث تُعتبر أقدم أغنية عربية مسجلة على أسطوانة، مازالت محفوظة في مكتبة جامعة هارفارد. 

رحلته إلى مصر 

سافر القباني إلى الإسكندرية عام 1884 برفقة نحو خمسين فناناً وفنانة، وقدم فيها عشرات العروض المسرحية، ثم انتقل إلى القاهرة، حيث اجتمع بالخديوي توفيق الذي وضع مسرح الأوبرا الشهير  تحت تصرفه ومنحة مكاناً في ميدان العتبة الخضراء لكي يبني فيه مسرحه الخاص. ولتشجيع ودعم نشاط القباني قام الخديوي بحضور عرضه المسرحي “الحاكم بأمر الله” برفقة بعض رجالات الدولة. وقد ساهم القباني آنذاك في إحياء النشاط المسرحي المصري، الذي ازدهر خلال وجوده فأغنى الحركة الثقافية في البلاد وباتت المسرحيات وعروض الأوبريت التي يقدمها نماذج قيّمة يُحتذى بها، تُنافس بعض العروض الأجنبية أو العربية المستقاة من النصوص المترجمة من لغات أخرى. إلى جانب ذلك كان للقباني دور بارز في تعليم فنون المسرح والموسيقى لكبار فناني مصر، ومن بينهم: محمد كامل الخلعي وسلامة حجازي وعبده الحمولي، الذي كان يؤدي معه الفواصل الغنائية في بعض المسرحيات، كما تأثر بمسيرته الفنية فنان الشعب سيد درويش. وتكريماً لجهود القباني الفنية وتخليداً لذكراه أُطلق اسمه على أحد شوارع الإسكندرية. 

رحلته إلى شيكاغو 

خلال العقود الماضية بقيت حادثة رحلة القباني إلى شيكاغو غير مؤكدةٍ، إلى أن نشر الباحث تيسير خلف كتابه “من دمشق إلى شيكاغو” الصادر عام 2018، والذي أكد من خلاله حقيقة تلك الرحلة، مستعيناً بمجموعة كبيرة من الوثائق والصور، المأخوذة من الأرشيف العثماني والأمريكي والعربي، إلى جانب بعض الصحف المنشورة في تلك الفترة. وبحسب خلف، سافر القباني إلى شيكاغو عام 1893 برفقة فرقة “مرسح العادات الشرقية”ً (كان المسرح يسمى مرسحاً في ذلك الوقت) التي ضمت أكثر من خمسين  ممثلاً وموسيقياً وراقصاً، من سورية وفلسطين ولبنان، حيث تلقت السلطنة العثمانية دعوة موقعة من الرئيس الأمريكي بنيامين هاريسون عام 1891 للمشاركة في “معرض شيكاغو الكولومبي”، بمناسبة مرور ذكرى 400 عام على اكتشاف أمريكا ، وقد حاول السلطان العثماني إبراز الوجه الثقافي للسلطنة العثمانية فاستعان بالقباني، الذي كان أول فنان عربي يزور أمريكا، حيث قدم  مع أعضاء فرقتة -الذين تدربوا على أدوارهم نحو ستة أشهر قبل السفر- نحو ثمانية عروضٍ، تحدثت عن عادات الشرق وفنونه وموسيقاه، وتضمنت الرقص والموشحات والأغاني وبعض اللوحات الفنية التي تستعرض جانباً من الطقوس السورية. ومن بين تلك العروض : “هارون الرشيد”، “عنتر بن شداد”، “الدراما الكردية”، ” الدراما القلمونية”، “عرس دمشقي”، “العروس التركية”، و”الابن الضال”. وقد شكلت عروض القباني تفاعلاً ثقافياً هاماً بين منطقتي الشرق الأوسط والغرب، وكان لها الأثر الكبير في أمريكا ولاقت اقبالاً جماهيرياً واسعاً،  تحدثت عنه بعض الصحف، بل أن بعض المصادر  أشارت إلى اتهام النقاد الأمريكيين الكاتب المسرحي جيمس ماثيو باريس باقتباس حبكة مسرحيته “قصة حب البروفيسور” من حبكة مسرحية” الدراما القلمونية” التي قدمها القباني هناك.    

توفي القباني بين عامي 1902 و1903 بمرض الطاعون، الذي اجتاح البلاد آنذاك، تاركا وراءه إرثاً فنياً، حَفر اسمه في سجل الخالدين، ومازال الفنانون ينهلون منه جيلاً بعد جيل.  

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”

 قُدّاسٌ لراحة نفس أنطاكية

 قُدّاسٌ لراحة نفس أنطاكية

ترجمة: أسامة إسبر

في منتصف الليل أيقظتْني

أصواتٌ صادرةٌ من أقصى الحَلْق

لأرضٍ تهتزُّ

لصرخاتٍ، وصيحاتٍ

لغبارٍ حَجَبَ السماءَ بضبابهِ

لبرقٍ ومطرٍ وثلوجٍ

وبردٍ بعثَ القشعريرة في الجلد

لليلة نهاية العالم

أم هل انبلج الفجر؟

للظلام

والفوضى

والفقدان…

نعم، فقدان

قصصٍ قديمةٍ

وأحجارٍ عريقةٍ

وفسيفساء تَحطَّمت

فوق عشّاقٍ قدامى.

هل كانوا ما يزالون متعانقين؟ 

ما هذا الحلم الذي يسكنني؟

أرى هذا من فراشي البعيد.

دموع، دموع تُذْرف

على أشخاص لا أستطيع الوصول إليهم.

أرى يداً تشير:

أنا حيٌّ

لا تتركوني.

أنا هنا

تحت السَقْف

تحت السماء.

ترتفع يدٌ كيد الله

(كما في جدارية مايكل أنجلوخلق آدم“) 

ها أنذا هنا

لا أستطيعُ التنفس…

تحت ركامِ

الأثاثِ المحطّمِ

والأحلامِ المُجْهَضةِ،

تحت الأحجار والمعادنِ.

حتى يد الله لا يمكن أن تصل إلى هنا!

أتساءلُ، ما الذي فَعلْتَهُ في آخر يومٍ من حياتكَ يا عمّي؟

هل سرتَ في شارع القصر واشتريتَ جريدةً

ثم تجوّلْتَ في الأزقة البيزنطية القديمة

قبل أن تصل إلى المقهى حيث

جلستَ على المصطبة مع أصدقائك القدامى

ودخنت سيجارةً، واحتسيتَ فنجان قهوةٍ تركية

وربما لعبتَ الطاولةَ أو الشطرنج

شكوت من السياسة أو الاقتصاد

أو ألم الصدر؟

هل كان بوسعك أن تعرف أنّ هذا كلّ ما كان موجوداً؟

لو عرفتَ، ما الذي كنت ستفعلهُ؟

أم هل كنت ستفعل أي شيء؟

هل كنت سترتّب أوراقكَ؟

هل كنتَ ستخطَّ رسالةً؟

رسالةَ وداعٍ؟

رسالةَ حبٍّ؟

رسالة تروي قصة حياتك؟

رسالةَ غضبٍ، قبولٍ، خوف؟

رسالة إلى ذريتك؟

ما الذي كنت ستكتبه؟

ما الذي أكلْتهُ يا عمي،

في عشائك الأخير؟

هل تناولتَ وجبة شرقية؟

هل تناولت الكبة أم الكباب؟

الأرز والسلطة؟

القليل من الزعتر على خبزك

خبز الحياة (ربما ليس هذه المرة)

ربما أكلت قطعة بطيخ كي تغسل فمك

أو قطعة بقلوى بالفستق الحلبي

أو لقمة كنافة منكّهة بماء الورد؟

ربما احتسيتَ جرعة عَرَق

فأنت تحبُّ حليب السباع ذاك

المصنوع من عنب مقطّر وبذور يانسون.

والذي أحبُّ رائحته

لكن بالطبع، عمتي لن تشرب منه.

فهي تفضّلُ أن تشرب الشاي 

 في الكأس الشفافة التي نُقشت عليها أزهار الزنبق.

أتساءل إن تناولتَ وجبتك الأخيرة

معها،

مع العائلة والأصدقاء

بمتعةٍ

وتقاسمتم الطعام

كما نُظهر حبنا،

حبنا،

وخسارتنا.

لا أحد يذكرُ القطط أو الكلاب الشاردة

أو الطيور التي تحلّق محذرة،

أمواج البحر

أو الأغصان المتكسّرة في النهر.

أترى يا عمي،

لقد وُلدْنا كي نموت، أليس كذلك؟

أنتَ لستَ وحيداً.

لكننا نقرّرُ ما نفعلهُ بين الولادة والموت،

أليس كذلك؟

إنه فعلُ الحياة

البقاء في الحاضر.

كيف عشتَ يا عمي؟

هل جَعلْتَ حياتكَ تستحقّ النَفَس الذي تتنفّسه
لشغل مساحةٍ على هذه الأرض؟

كيف نحدّدُ قيمةَ حياتنا؟

هل هي متعةُ المعرفة، الشعور،

الحبّ،

هذه اللحظة التي نحن أحياء فيها

ونقدّر كل نَفَسٍ نتنفسه؟

أم أنك لم تعد قادراً على الشعور،

صرت مخدراً

إزاء الوجود كالبعض؟

هل غادرتَ هذا العالم مديناً لأحد يا عمي؟

ربما بالحب، أو النقود، أو ربما باعتذار؟

ما هي العبارة المتداولة القديمة؟ عشْ حياتك كما لو أن كل يوم

هو يومك الأخير.

هل فعلتَ هذا، يا عمي؟

أم هل حددتَ الوقت فحسب؟

لا نعرف أبداً متى تنتهي حياتنا.

لا نعرف أبداً متى تسقط الكارثة من السماء.

أو تخرج من الأرض،

لا نعرف حقاً.

كنتَ حافظَ سجلات

أسلافنا، دمنا.

هل سيتذكّرُ أحد ما قصصك،

ويروي حكاية آمالك

وأحلامك ورغباتك؟

ما زلتُ غير قادرة على فهم لماذا كان يجب أن تغادرنا

بهذه الطريقة الدرامية،

وتُدفن تحت طبقات.

لم نملك الفرصةَ كي نودّعك

كي نغسل جسدك،

كي ندفنك ونحن نصلي

كي يحملك الأحباء إلى قبرك.

لم تكن هناك أزهار

ولا حديقة جميلة للأرواح.

أم هل من المحتمل أن زيوس أرسلَ صاعقة

شقَّ الأرض بعصاه

وزرعكَ كبذرة في رحم الأرض

كي تولد مرة أخرى

كي تنمو من جديد

مثلما حين يموت نجم

ويصبح مهداً لنجوم أخرى؟

وها أنت هنا يا عماه،

عناصر نجمة.

نجمة فيك.

إذاً، يا عمي العزيز

أصلّي لك كي تنعمَ روحك في الفردوس

أصلّي لك كي لا تشعر بألم حين تأتي الملائكة

أن تكون بخير أينما حللت.

أستطيع أن أشاهدك الآن.

يوماً ستستيقظ شاعراً بالشمس

فيما ملكة الشرق تعاود ظهورها

فوق ذلك الجسر المؤدي إلى طريق الحرير

متألقة 

كالألماس

فوق نهر العاصي. 

يمكن الاطلاع على هذا لقاء مع الشاعرة بعنوان “أخيراً، عثرتُ على جذوري: حوار مع الشاعرة والفنانة التشكيلية الأمريكية من أصل سوري أريكا هيلتون

عبد الكريم اليافيّ: عالم الفيزياء متصوِّفاً

عبد الكريم اليافيّ: عالم الفيزياء متصوِّفاً

    ولد عبد الكريم اليافي في مدينة حمص عام 1919 وتوفي مدينة دمشق عام 2008، وكانت حياته عبارة عن انبثاقات معرفيّة دائمة، سواء على المستوى الأكاديميّ أم المستوى الثقافيّ، فقد تتلمذ في بداية حياته على مشائخ اللغة والأدب والفقه في مدينة حمص إلى أن حصل على شهادة الثانوية العامة “فرع الرياضيات”، ثم التحق بكلية الطب في جامعة دمشق؛ إلا أنه لم يجد في علم الطب ضالته، فسافر في بعثة إلى فرنسا من أجل التخصص في دراسة علم الفيزياء، ونال درجة الإجازة في العلوم الرياضية والفيزيائية عام 1940 وهو في ريعان شبابه، ثم نال إجازة أخرى في الآداب، ثم حصل على دكتوراه في الفلسفة عام 1945، ثم حصل أيضاً على مجموعة مذهلة من الإجازات أو الشهادات الجامعيّة في تخصصات من قبيل: علم النفس العام، فلسفة الجمال، المنطق والميتافيزيقا، تاريخ العلم، علم الاجتماع وعلم الأخلاق. وكان اليافي يُسمّى بين زملائه وطلابه في جامعة دمشق بـ”الرجل الذي يعرف كلّ شيء”. علاوة على ما امتاز به من أخلاق رفيعة وهدوء وتواضع وترفّع على الصغائر. والحقيقة أنَّ اليافي شكّل تياراً خاصاً إزاء التيارات التي كانت سائدة آنذاك في قسم الفلسفة في جامعة دمشق في منتصف القرن العشرين فصاعداً: إذ كان كل من نايف بلوز وصادق جلال العظم وطيب تيزيني يمثلون التيار الماركسي بدرجات متفاوتة؛ وكان محمد بديع الكسم يمثّل اتجاهاً منطقيّاً صارماً، وعادل العوا يمثل نزعة دينية أخلاقية وإلى ما هنالك؛ غير أنَّ اليافي اختلف عنهم جميعاً بتأسيسه لموقف فكريّ علميّ-صوفيّ. وقد وضع مجموعة مهمة من الكتب جاء تسلسها التاريخي على النحو الآتي:

1-الفيزياء الحديثة والفلسفة-دمشق، 1951.

2-تمهيد في علم الاجتماع-دمشق، 1964.

3-شموع وقناديل في الشعر العربي-دمشق، 1964. 

4-تقدّم العلم-دمشق، 1964.

5-المجتمع العربي ومقاييس السكان-دمشق، 1966.

6-دراسات فنية في الأدب العربي-دمشق، 1972.

7-جدلية أبي تمام-بغداد، 1980.

8-معالم فكرية في تاريخ الحضارة العربية-دمشق، 1982.

9-بدائع الحكمة-دمشق، 1999.

10-معجم مصطلحات التنمية الاجتماعية والعلوم المتصلة بها –جامعة الدول العربية.

11-شجون فنية-دمشق، 2000.

    هذا، إلى أنه كان نشيطاً جداً على مستوى النشر في المجلات والدوريات، فكتب عدداً كبيراً من المقالات والأبحاث في مجلة المعرفة السورية ومجلة الآداب اللبنانية ومجلة تراث السورية التي عمل مدة رئيساً لتحريرها وإلى ما هنالك. وكان أول من أدخل علم السكان على أسس رياضية إحصائية إلى جامعة دمشق، علاوة على طرحه للنظرية الكوانتية على نحو مبكر في ما يتعلّق بفلسفة الفيزياء، كما اهتم بالأدب العربي اهتماماً كبيراً وكانت له آراء نقديّة مهمة في هذا الاتجاه. هذا إلى جانب ممارسته لمهنة التدريس في قسم الفلسفة وعلم الاجتماع في جامعة دمشق وفي أقسام أخرى من الجامعة.

      وبما أنَّ اليافي كان ضمن كادر قسم الفلسفة في جامعة دمشق منذ بدايات تأسيسه، إلا أنه لم يكن فيلسوفاً محترفاً، فلم يضعْ نظرياتٍ في الفروع الرئيسة للفلسفة، وأعني بها الأنطولوجيا أو علم الوجود، وهو علم يُعنى بتقديم إجابة نهائيّة عن معنى الوجود، والإبستمولوجيا أو (نظرية المعرفة) التي تُعنى بالكشف عن أصل المعرفة ومصادرها وقيمتها، والأكسيولوجيا (علم القيم) ويدرس أصل القيم وطبيعتها وأنواعها ومعاييرها؛ ما يعني أنَّ اليافي لم يكن ميّالاً إلى أن يكون فيلسوفاً نسقيّاً، أي واضعاً لنسقٍ فلسفيّ يقدّم تفسيراتٍ نهائيّة لمعنى وجود الإنسان لأنه لم يكن مقتنعاً بالدراسات الفلسفيّة البحتة التي تعتمد المناهج الاستقرائية والاستنباطيّة وتُغيّبُ الأبعاد الروحانيّة عن موضوعاتها، لذلك كان لا بدّ في رأيه من الجمع بين المناهج، سواء أكانت علمية أم فلسفيّة وبين ما يسمّيه المتصوفة طُرق العلم اللدنيّ، فاليافي كان شغوفاً إلى أقصى حدّ بإيجاد علاقة تركيبية بين العلم والتصوّف.

   إنّه يجمعُ في تفكيرهِ بين أكثر المناهجِ العلميّةِ دقّةً وأكثر الحدوس الصوفيّةِ الوجدانيّةِ تعالياً على مناهج العلم، فهو إن صحَّ وصفي عالمٌ وضعيٌّ متصوِّف، لذلك نكتشف في كتاباته علميّة التصوّف أو صوفيّة العلم. وها هنا وجه المفارقة في شخصيّة اليافي، فهو عالمٌ ملتزمٌ بمعايير البحث العلميّ ومناهجه، ولكنه في المقابل يركن إلى اللُّمَعِ والبوارق والسوانح الصوفيّة واجداً فيها الملاذ الأمين.  

  إنَّ ما يطلبه اليافي من هذا الحدْس الصوفيّ عينه، هو إعادة النظر في تاريخ الميتافيزيقا في الإسلام، ليثبت أنَّ الثقافة الإسلاميّة تنضوي في داخلها على عناصر تجديدها؛ بل انبثاقها الدائم على نحوٍ يخلّصها من القراءات الفقهيّة والسلفيّة المُغلقة كافةً التي أصبحَ الإسلام يقدّم بسببها اليوم بصفته ديانةً-إرهابيّة؛

  وقد كان اليافي واعياً وعياً عميقاً بالخطر الذي يهدّد الدِّين الإسلاميّ، واكتشف على نحوٍ مبكِّر ضرورة الإصلاح الدِّينيّ، ففي مقالة له نشرها في مجلة الآداب اللبنانية عام 1983 طرح سؤالاً هو: “من المؤهلون لتجديد التعبير الصحيح عن الفكر الدِّينيّ الأصيل والقيام بالإصلاح المنشود؟”.

    وهنا قدّم اليافي جواباً عن هذا السؤال هو وفق قوله: “لا شك أنَّ المؤهلين هم علماء الدِّين أكثر من غيرهم. ولكن القسم الأكبر من علماء الدِّين الإسلاميّ في الوقت الحاضر محتاجون أن يتجاوزوا مجرّد اطلاعهم على أصول الدِّين الإسلاميّ إلى التزوّد الواسع بالعلوم الإنسانيّة الحديثة بل العلوم الموضوعيّة لتُنشِئ لهم صحّةَ النظرِ في حاضرِ الأوضاعِ والتنظيمات العامّة الحديثة في مشكلاتِ الحضارة المعترضة”.      

     غير أنَّ اليافي-كما أفهم تجربتَه لم يجد في الموروث الفقهيّ أيّ إمكانية تساعد في الإصلاح الدِّينيّ المنشود، ولكنه وجد هذه الإمكانيّة في تراث المتصوفين المسلمين الذين رسّخوا الإسلام، بصفته ديناً كونيّاً، يقوم في جوهره على الحبّ. وكان اليافي يعرف أكثر من غيره أنَّ كبار المتصوّفين في الإسلام كانوا عُرضةً للاتهام بالزندقة والمروق والكفر؛ بل تعرّض الكثير منهم للقتل بأبشع الطرق من أمثال الحلاج (858-922م) والسُّهرورديّ (1155-1191م) وعين القضاة الهمداني وغيرهم!

     ولقد وجدَ أنَّ التصوّف الإسلامي لا يُلغي الذات الإنسانيّة في الذات الإلهية، أو لا يُغيِّبُ المتناهي في اللامتناهي؛ بل تدلُّ تجارب المتصوّفين الكبار على أنَّ هدفهم الرئيس هو توكيد الذات الإنسانيّة بطابعها النسبيّ المحدود إزاء الذات الإلهيّة بطابعها المطلق اللامحدود. وهذا يُفضي إلى تأسيس علاقةٍ جديدة بين الإلهيّ والإنسانيّ تقومُ على فهمٍ جديدٍ للإسلام يعطي للحياة الإنسانيّة قيمةً كبرى بعد أن صارت قيمتها مبتذلةً بسبب ما شهدناه وعايشناه من انتهاكاتٍ قامت بها الجماعات التكفيريّة التي يزعم فقهاؤها، أنهم ناطقون باسم الألوهيّة وأنَّ إسلامهم هو الإسلام الصحيح، أي إسلام السلف.

        لقد أرادَ اليافي التأسيس-إن صح التعبير-لعلمِ اجتماعٍ صوفيٍّ، أي لعلم اجتماع لا ينظر إلى الظاهرة الاجتماعيّة نظرةً وضعيّةً تسلبها قيمتها الرّوحيّة، بل يؤكدها بصفتها ظاهرةً اجتماعيّةً تتصفُ بالوضعيّةِ والرُّوحيّةِ في آن. وهنا استند اليافي كيما يؤكّد هذه النزعة الإنسانيّة في التصوّف إلى ما قاله ابن عربي في مُقَدَّمة كتابه “عنقاء مُغرب”: “فليس غرضي في كلّ ما أُصنّف في مثل هذا الفنّ معرفة ما ظهر في الكون وإنما الغرض معرفة ما ظهر في هذا العين الإنسانيّ والشخص الآدميّ”.

  وها هو اليافي يستجلي أسرار فكر ابن عربي الذي أسس لعلاقةٍ جدليّةٍ عميقة بين الله والإنسان، فالإنسان محلّ ظهور الألوهيّة، وهنا نجد سبقاً واضحاً عند ابن عربي لتعرّف المطلق على ذاته في الإنسان في فينومينولوجيا الفيلسوف الألماني هيغل. لقد كان اليافي ميّالاً إلى نظرية وحدة الوجود، وهي نظريّة فلسفيّة-صوفيّة ذات تأثير عميق في تاريخ الثقافة البشريّة بوجهٍ عامٍّ، أعني أنّه يفهم هذه النظريّة فهماً جديداً نابعاً من تفسير دقيق لنصوص الصوفيّة.

  وحاولُ اليافي أن يستندَ في هذا الاتجاه من أجل ترسيخ نظريته في وحدة الوجود إلى قول النبيّ محمد الذي يخبر فيه عن سبب خلق الله للخلق: “كنتُ كنزاً مخفيّاً فأَحببت أن أُعرف فخلقتُ الخلق فبي عرفوني”.

 ذهبَ مذهباً خاصّاً في تفسير معنى هذا القول، مستنداً في ذلك إلى علم الفيزياء، أي أنَّه أرادَ أن يُفسِّر الموروث الدِّينيّ في أُفق جديد تماماً يكون مستمداً من العلمِ الحديث، أعني من علم الفيزياء؛ لكن السؤال الجدير بالبحث عن إجابة شافية هو: أيمكن التوفيق بين الموروث الدِّينيّ تحديداً منه الحديث النبويّ والفيزياء المعاصرة؟

  ليس بمقدورنا الإجابة عن هذا السؤال، إلا بعد الفحص عن منهجيّة اليافي في تفسير حديث “كنتُ كنزاً مخفيّاً…” في ضوء علم الفيزياء.

    وهنا بيّن اليافي أنَّ “النّور الطبيعيّ هو غاية في الوضوح والإيضاح، به نرى الأشياء بأنواعها وألوانها وحجومها ومقاديرها وأشكالها. ولكن النور لا يُرى إن غابت عنه المادة. الفضاء الكونيّ ليل مظلم. إنَّه فراغٌ سماويٌّ لا يُقدّمُ للنّور نقطة ماديّة تنثره أو ينعكس عليها لتجعله مرئيّاً ولتصبح هي مرئيّة به، حتى إذا صادف الشُّعاعُ غير المرئيّ في مسراه ذرةً من الهواء أو الهباء في الجوّ المحيط بالأرض أمكن أن نرى الهباء متلألئاً والذرة براقةً. فوجود المادة وسيلة لرؤية النّور ورؤيتها به”. 

   يظهر هنا على نحوٍ واضحٍ أنَّ اليافي يُشبّه الله (الكنز المخفيّ) بالنّور الذي غابت عنه المادة، أي أنَّ الله لا يُعرف معرفةً حقّة، إلا عن طريق مخلوقاته، وعلى هذا الأساس تُعَدُّ عمليّة الخلق التي هي في أصلها عمليّة أنطولوجيّة أو وجوديّة شرطاً جوهريّاً لنظرية المعرفة، أي أنَّ هناك ترابطاً ماهويّاً في عمليّة الخلق بين الخالق ومخلوقاته، إذ إنَّ الحالةَ التي تكونُ فيها المخلوقات قبل خلقها لا تتيح للخالق أن يكون قابلاً للمعرفة، أي قابلاً لأن يُعرف. وبذا تحوز المخلوقات، أي الأَناسيّ بوجهٍ خاص قيمةً كبيرة، إذ هي أساسُ انكشافِ الألوهيّةِ لنفسها، وهذا هو التفسير الدقيق لعبارة “أحببتُ أن أُعرف”، فالله كوّن العوالم كلّها، بسبب حبّه لذاته، والمخلوقات أو الموجودات تشكّل لحمة هذا الحبّ وسدَاتِه، أي أنَّ عمليّة الخلق منسوجةٌ بحبِّ الله لذاته، لذلك المخلوقات نفسها تشكّل جزءاً مكوِّناً من حبِّ الله لذاته. والحقيقة أنَّ تفسير اليافي يحمل في طواياه عُمقاً كبيراً يستحق الإيضاح، إذ إنَّ الله لو لم يخلق الخلق لبقي الوجود في جملته الجامعة، مخفيّاً بما في ذلك الله ذاته، وهنا نكتشف نوعاً من التكامل بين الله والمخلوقات، وهذا يتضح تماماً في التعابير التي أوردها اليافي من قبيل “الفضاء الكونيّ ليل مظلم”، أو الـ”فراغ سماويّ”، بمعنى أنَّه لو لم يَقُم الله بخلق المخلوقات لكان الوجود صحراء قاحلةً لا مكان فيها لذي روح. إذن، الألوهيّة تحقق ذاتها في مخلوقاتها أعلى درجات التحقيق.

    وهنا اتجه اليافي من أجل تدعيم وجهة نظره إلى تفسير بعض آيات القرآن تفسيراً علميّاً، مؤكداً ضرورة فهم الآية القرآنية (الله نورُ السموات والأرض) [النور 35] على أساس أنَّ الله نور أصليّ لولاه لكان الكون كلّه ظلمة مُطبقة. إنَّ الله خلق الخلق ليتلقى نوره الغامر ويظهر، ويصبح النور مرئيّاً لمن كانت عنده بصيرة وليغدو الله معروفاً.   

      لقد حاول اليافي أن يجمع بين اللاهوت المُوحى وعلم الفيزياء، بمعنى أنّه يجد في مقولات الوحي تعبيراً عميقاً عن إعجازٍ علميّ. إذ تتسق هذه المقولات–في رأيه مع أحدث الاكتشافات الفيزيائيّة الحديثة. وبذا يسعى اليافي إلى جسر الهُوّة بين الدّين والعلم، قاصداً بذلك تكييف الدِّين مع العلم، وتهذيب العلم بالدِّين؛ لكن إلى أيّ مدى يستطيعُ السير في هذا الطريق؟

      وهنا يجب أن نذهب في التحليل إلى أبعد، فاليافي وفقاً للتحليلات السابقة لا ينظرُ إلى عالم الدِّين أو اللاهوت الموحى، بصفته عالماً مغلقاً على نحوٍ نهائيٍّ ومفصولاً عن عالم العلوم الوضعيّة؛ بل يمكن الاتصال مع ينابيعه ذاتها، أو بالأحرى يمكن منحه ينابيع جديدة، ليس بوساطة طرقه المعهودة المتعارف عليها؛ لكن بوساطة طُرق أخرى تُعَدُّ ذات صدقيّةٍ حقيقيّة في التعبير عن جوهرِ العلاقةِ بين الإلهيّ والإنسانيّ. وهو لا يقصد بهذه الطرق سوى طُرق المتصوّفة ونظراتهم في فهم حقيقة النبوّة، بمعنى أنَّ الحِكَم والإشراقات والحدوس الميتافيزيقية الصوفية تمثل وسائل معرفية لبلوغ المطلق والتعبيرِ عنه في آن مثلها مثل الوحي.

   والحقيقة أنَّ موقف اليافي من التصوّف يشابه موقف الفيلسوف الفرنسيّ هنري برغسون حينما قال: “وفي رأينا أنَّ غاية التصوّف اتصالٌ بالجهد المبدع الخالق الذي ينجلي عن الحياة، ومن ثمَّ اتحاد جزئيّ به. وهذا الجهدُ هو شيء من الله، إن لم يكن هو الله ذاته. والصوفيّ الكبير هو ذلك الإنسان الذي يتخطّى الحدود التي رسمتها للنوع البشريّ ماديته، ويكمل بهذا فعل الله”.   

    أرادَ اليافي يبني علاقةً جديدةً مع المقدَّس تقومُ على إعطاء قيمة كبرى لتجارب فرديّة لأفرادٍ ممتازين مرّوا في تاريخ الثقافةِ العربيّة الإسلاميّة، فكانوا مثلاً حيّاً على قدرةِ الإنسانِ العربيّ على تجاوز التقليد وتوكيد ذاته بإزاء المطلق.

   ووسّع اليافي دائرة الفهم الوجوديّ للأُلوهيّة، فيرى إلى الله مبثوثاً في الكون كلّه على نحوٍ ينشر الجمال في مختلف أنحاء الوجود؛ ذلك أنَّ الألوهيّة تعبّر عن ذاتها في الكون بصور الجمال المتنوّعة. وبما أنَّ الجمالَ منثورٌ في الكون، فلا بدّ من أن يثيرَ الحبَّ، فالجمال مطلوبٌ بصفته محبوباً. وهنا يجب التساؤل عن الغاية من هذا الحبّ؟

     لجأ اليافي هنا إلى الشيخ الأكبر، إذ قال: “الغائيّةُ في الحبّ تلك هي التي يدعوها الشيخ محيي الدّين بن عربي في “فتوحاته” حبّ الحبّ. ويريد أن يوضّح هذا المعنى، فيعرّفه بأنّــه “الشُّغلُ بالحبِّ عن متعلَّقه”.

     والحقيقة أنَّ هذا التعريف يسمو بالحبّ إلى أعلى درجاته على الإطلاق، فلم يعد موضوع الحبّ الماديّ هو شاغل المحبّ؛ بل صار المحبُّ مشغولاً بحبّه نفسِهِ عن محبوبه.

     ويجب هنا أنَّ نقول: لقد حاول اليافي تـأسيس فهمٍ جديد للدِّين الإسلاميّ في أُفق تأويله الصُّوفيّ للنصوص، فصار الدِّينُ الإسلاميّ وفقاً لهذا الفهم دين الحبّ الكونيّ الساري في الكائنات كلّها، أو بالأحرى صار الدِّينُ الإسلاميُّ ديناً مؤسّساً لوحدة الأديانِ كلّها، سماويّها ووضعيّها.

    يُعدّ اليافي حالةً فكريّةً خاصّةً في الفكر السوري في القرن العشرين، فلم يؤخذ بالتيارات الفلسفية الغربية من براغماتية وظاهراتيّة ووجوديّة ووضعيّة منطقيّة وغيرها رغم اطلاعه الكبير عليها؛ بل أراد أن يبقى مخلصاً لتراثه، تحديداً الصوفيّ منه، من أجل أن يؤسس لفهم خاصّ لمعنى الوجود، قد لا يلقى قبولاً من كثيرين الآن؛ ولكن مع ذلك يبقى فكر اليافي محاولة للقبض على ماهية المطلق في عصر اللا أدريّة المبتذل.

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ

الحواشي

١)اليافي، عبد الكريم، الدِّين والإحياء الرّوحي في الوطن العربيّ: تباعد أم لقاء مع أوروبة الغربية؟ مجلة الآداب، العدد رقم 4-5، 1 أبريل 1983.
٢) المصدر نفسه، المعطيات السابقة نفسها.
٣)اليافي، عبد الكريم، بدائع الحكمة، دار طلاس، دمشق، 1999، ص: 60.
٤)برجسون، هنري، منبعا الأخلاق والدِّين، ترجمة” سامي الدروبي؛ عبد الله عبد الدائم، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة، 1971، ص:236.
٥) اليافي، بدائع الحكمة، مصدر سبق ذكره، ص: 60.