هل انتهت العبودية أم غيرت أشكالها فحسب؟

هل انتهت العبودية أم غيرت أشكالها فحسب؟

تعيدنا بدرية البدري الروائية العمانية في روايتها فومبي والتي وصلت إلى القائمة الطويلة للبوكر العربية 2024 إلى عهد ظننا أننا تجاوزناه منذ قرن تقريباً وهو العبودية وتجارة الرقيق وزمن السيطرة الاستعمارية على إفريقيا لنهب ثرواتها واستعباد سكانها، ورغم أن هذا صار في الماضي إلا أنه لا يمكن نسيانه بسهولة ولا بد من إلقاء نظرة على تاريخ مليء بآلام بشر قضوا وعانوا ودفعوا أثماناً غالية، فمن ينسى صرخة كونتا كونتي في فيلم الجذور ومشهد صيده في الغابة ورحلته إلى العالم الجديد والمتحضر لكن كعبد، ومن ينسى مانديلا الحائز على جائزة نوبل للسلام.

يأتي عنوان الرواية (فومبي) غريباً ومثيراً وهي تعني الروح الهاربة من قبضة الشيطان حسب معتقدات السكان، فالأرواح الطيبة تكون شفافة بلا لون أما تلك الشاحبة والبيضاء فقد استلبها الشيطان٫ الشيطان الذي رأوه بالرجال البيض غريبي البشرة والسلوك إذ رأوا فيهم قدرة شيطانية لا محدودة لصنع الشر. تبدأ الرواية بأغنية شعبية من الكونغو عن حظ سيء يرافق الجماعة مع استدراك أن كل ما في الطبيعة سيقتل الرجل الأبيض وليس هذا سوى من باب التمني أو الأمل بأن العدل سيأتي يوماً.

تنتقل بدرية البدري الروائية العمانية والتي كانت قد أصدرت ثلاث روايات هي (ما وراء الفقد، والعبور الأخير، وظل هيرمافروديتوس) وعلى مدار ستة فصول بين عدة رواة هي شخصياتها المختلفة في جهة الصراع، إذ ينتقل السرد بينها ليروي الحدث من وجهة نظر السارد ويضيف رؤيته الخاصة، بدءاً من ستانلي الصحفي الأمريكي من أصل بريطاني الـذي تربى في ملجأ أيتام ولعدم اعتراف والده به أنكر نسَبه ووضع لنفسه اسماً كأنما يود أن يلد نفسه. فاستطاع منذ البداية إخبارنا بقدرته على الاحتيال لتحقيق مآربه، وهذا ما فعله للحصول على دعم صحفي للبدء في حملة استكشافية كانت التمهيد لحملات أخرى تبنتها بلجيكا بشخص ملكها الطامع ليس فقط بتحقيق المجد وإطلاق اسمه على الأماكن البكر التي لم يصل إليها أحد بل هي الرغبة بالحصول على ملكية هذه المناطق لاستنزاف ثرواتها، لكن سلطته مقيدة وفق القانون بسلطة البرلمان، وسعياً وراء طموحه في امتلاك دولة الكونغو قام برعاية مؤتمر الاتحاد الأوربي الإفريقي الذي رفع شعار الدفاع عن الدول الإفريقية ضد أساليب العبودية والاتجار بالرقيق ودعم التنوير ونشر الحضارة فيها والديانة المسيحية.

استعمار لأغراض سامية

تحت هذه الشعارات كان الباطن الاستعماري فحتى البلدان التي تبدو محايدة لها مطامعها السرية؛ إذ استعمرت بلجيكا الكونغو منذ 1902 إلى 1960كما استعمرت راوندا حتى عام 1962.

نعم قامت بلجيكا باستعمار الكونغو لأهداف سامية وتحت شعار مناهضة الرق ومنح السكان حريتهم التي يستحقونها كبشر، حشد الملك إمكاناته لزرع الفكرة ونشرها وترسيخها عاملاً بالمقولة ” إيصال المعلومة غير الدقيقة بطريقة تبدو في منتهى الدقة”. حتى اعترفت أمريكا بحق بلجيكا في الكونغو عبر بيان  يؤكد أن احداً لم يقم بعمل نبيل يهدف إلى تحويل شعب همجي إلى شعب متحضر كما فعلت بلجيكا .

هكذا يتم التلاعب بعقول البشر وتكوين الحقائق من الأفكار التي تزرع فيها عبر الإعلام والمؤتمرات وضخ الأخبار. والتلاعب بمصائر البشر عبر استخدام مشبوه للقيم والحقوق والحريات فتتم إقامة بلدان حسب الرغبة لخدمة مصالح الدول الكبرى كما فعلت الولايات المتحدة حين أقامت دولة ليبيريا ( أخذت اسمها من ليبرتي ) للعبيد المحررين بدل إعادتهم لبلدانهم الأصلية، عبر جمعية خاصة استعمارية أمريكية، مورس نفس الاحتيال على سكان الكونغو الذين لا يعرفون القراءة والكتابة ولا حقوقهم فتم استدراجهم للتوقيع على صكوك عبوديتهم وبيع أراضيهم وقوة عملهم  والعمل بالسخرة والالتزام بإحضار العمال اللازمين لجمع المطاط أو الحمل أو مد السكك الحديدية كل ذلك مقابل قطعة قماش ظنوها هدية لهم. هكذا أصبحوا مدينين للملك وعليهم أن يعملوا بشكل متواصل لسداد ديونهم التي تزداد يوما بعد آخر

كان الأفارقة أنقياء لدرجة أنهم تخيلوا الرجل الأبيض على ظهر السفينة التي تمخر نهر الكونغو، الرب يبحر في النهر وأن البندقية التي يقتل بها أبناء قبيلة الباساكو هي عصاه التي يعاقب بها. ثم اكتشفوا الخديعة التي وقعوا بها لكن لم يعد بإمكانهم فعل شيء سوى الرضوخ وصاروا بيد الرجل الأبيض كالبندقية التي يقتل بها أخوتهم وصارت المعادلة أن يكون الشخص إما قاتلاً او مقتولاً وبحثاً عن خلاص فردي تاجروا بأخوتهم واصطادوهم وباعوهم وقتلوهم وعذبوهم حسب رغبة الرجل الأبيض. فكانت الجرائم مثل شرب الماء وقتل العائلات للاقتصاص من فرد فيها تجري ببساطة وقد يكون ذنبه ليس أكثر من أن سلة مطاط من بين سلال كثيرة جمعها لم تكن مملوءة بشكل كاف. كان البيض يقومون بجرائمهم بيد أفارقة غالباً حتى صار الموت مشهداً عادياً بل راحة أمام التعذيب الذي لا يتحمله بشر. كما كان هناك الأفارقة الذين يصطادون أبناء جلدتهم كالحيوانات يبرر أحدهم ذلك: “من نصطادهم يظلون أحياء إلى أن نبيعهم ونقبض ثمنهم، لربما وجدوا هناك حياة مرفهة بانتظارهم وهذا يعني أن ما نفعله خير لهم، الأمر السيء الوحيد أنهم لا يعودون أحراراً ويضطرون لنسيان أحبتهم لكن ذلك أفضل من الموت” متناسياً رحلة الشقاء بين الصيد والبيع من تعذيب وتجويع وضرب حتى يفقدوا قدرتهم على المقاومة فيخرجوهم من الشبكة صاغرين للقيود باليدين والقدمين والرقبة كالحيوانات. لكنه يستدرك بعد أن يقول لا يعودون أحراراً فيقول لا أحد في افريقيا حر الجميع عبيد، سواط كانوا مصطادين أو فارين من الصيد رغم الثورات المتتالية والتي لم تنقطع ضد البيض لكن التفوق بالسلاح ومساعدة الأفارقة تحت الضغط مكنا البيض من السيطرة دوماً.

تبرر الدول الأوربية غزوها لإفريقيا الهادف لاستغلال ثرواتها من ذهب وألماس وعاج ومطاط وكنوز كثيرة متوفرة بمبررات كثيرة أولها إنقاذ الأفارقة من عبودية العرب ولمنع الحروب المستمرة بين القبائل الإفريقية المتناحرة دوماً إضافة إلى تخليص أفراد القبائل من عبوديتهم لرئيس القبيلة. ونقل الحضارة إليهم والتي تبين أنها لم تكن سوى في الأسلحة الموجهة لصدور الأفارقة، لكن البيض لم يكتفوا بالرصاص إذ كانوا ينظرون للسكان على أنهم ليسوا بشراً بل حيوانات. فتفننوا بتعذيبهم من تجويع وضرب بالسياط إلى بتر الأطراف أو ترك الكلاب تنهش الأطفال والفاقدين القدرة على العمل، إلى خصي الرجال وانتهاك نسائهم أمامهم وأطفالهم وإرسال الأيتام تارة إلى معسكرات القوة العسكرية أو إلى طهيهم وتقديمهم وجبات طعام للعمال الذين لا يعرفون أنهم يأكلون أبناءهم.

 لا يمكننا أن نذكر كل أساليب التعذيب التي توردها الكاتبة لكن يبدو أفظعها أن أحد الضباط  كان يزرع وروده بجماجم القتلى، وأثناء جمع المطاط وحتى لا يخسروا شيئاً منه على الأرض كانوا يتركونه يسيل على أجساد الرجال ثم يقومون بنزعه عنهم فيسلخ معه الجلد دون رحمة. أما الحمالون فكم قضى منهم تحت ثقل أحمالهم ودون أن يقدم لهم الطعام الكافي لسند أجسادهم، كتب على النصب التذكاري عند بحيرة ستانلي (حررتهم السكة الحديدية من الأثقال) يا للسخرية فقد بنيت على أجسادهم، لكن القاتل لا يتوقف عن لوم الضحية وعدم تقديرها لما فعله من أجلها.

كشف الأكذوبة وفضح ملك بلجيكا

 تم تعيين جورج واشنطن ويليامز المستكشف وهو ضابط سابق ومؤرخ زنجي من قبل الولايات المتحدة لتقييم الوضع في الكونغو بغية إرسال مواطنيها الأفارقة إلى هناك فكانت صدمته هائلة حين شاهد حجم الجرائم وأدرك الكذبة التي تعمم على العالم ورغم سوء صحته كتب تقريره وفضح ما يجري والسلوك الاستعماري الحقيقي. تابع ذلك ادموند موريل الذي استقال من شركة الملاحة بعد أن كشف الحقيقة فكل الثروات التي كانت تشحن إلى أوربا لم يكن يشحن مقابلها شيء لا بضائع ولا أموال فقط بعض الأطعمة للرجال البيض والضباط هناك، قام ادموند بفضح سجل الشحنات ونشر المعلومات في الصحف ونشر صور الجثث المعلقة فوق النار والمشنوقة وشهادات أشخاص تمكنوا من الفرار والإدلاء بشهاداتهم حول حجم التعذيب الذي يتعرض له شعب القبائل المتبقية فقد تم إبادة العديد منها، إلى أن تم تجريم الملك البلجيكي بكل الأعمال الغير قانونية ونهب الثروات على يد لجنة تقصي الحقائق في الكونغو التي انتحر عضو منها لقسوة ما رأى. أما القاضي الثاني فكان لا يمسك نفسه عن البكاء، أتى التقرير ب 150 صفحة وتبين أن تلك الأطراف المبتورة للترهيب والعقاب لم تكن سوى المادة الأولية لشركة اللحوم المعلبة والتي تحمل صورة حيوان على غلافها.

لكن هناك الكثير من الجرائم لم ينتبه لها أحد كأفعال بريطانيا في الأمازون وسيراليون ونيجيريا والتعتيم على ما يجري في زنجبار.

 تبدأ الرواية بداية مرتبكة فالاسترسال بخيالات ستانلي رافقه استرسال بالجمل الطويلة، لكنها لا تلبث أن تستحوذ على انتباه القارئ في التشويق وتقديم أحداث تاريخية مهمة بطريقة أدبية جذابة عبر تغيير الرواة فرغم تغير السارد بين فصل وآخر وفي داخل الفصل نفسه إلا أن الكاتبة استطاعت أن تمنح لكل صوت خصوصيته وألمه وحزنه والقدرة على التعبير عما يحتدم بداخله، واستفزاز المشاعر القوية التي تتماشى مع طبيعة السرد وطبيعة الحدث.

 تؤنسن بدرية البدرية الأشياء على يد سارديها فمثلاً كان أحدهم يتألم من أجل السوط الذي تخيل أنه يتألم حين ينزل على جسده مستدلاً على ذلك بصوته الذي يبدو كاعتذار.

 كما قدمت الشخصيات المتناقضة والتي تواجه بعضها في الصراع دون أن يختلف مستوى السرد، لم تكتف الرواية بالمعلومة التاريخية وإنما وظفت ذلك لإبراز الحقائق الغائبة والمغيبة.

هل انتهت العبودية؟

حين أكدت واقع القارة الإفريقية وصراعاتها الداخلية بدا الأمر وكأنها تشير إلى التشابه بين الديكتاتوريات المحلية والاستعمار العنصري القاتل. فالملك البلجيكي يقوم بالتشبه والمقارنة مع ملكة مدغشقر وأساليبها الوحشية للسيطرة على شعبها، ومن خلال استعراض الحياة الخاصة للملك وأفراد أسرته ندرك ان للعبودية أشكالاً متعددة فرغم أن عائلة الملك من النبلاء لكنهم كانوا عبيداً للتقاليد الملكية وسلطة الأب القاسي والمتهور حتى انتهى بعضهم للانتحار والقتل أو الجنون والفرار، وفي النهاية تدق الكاتبة جرس الخطر حين تقول: لم تنته الحكاية بل إن أبطالها يتكاثرون في الحياة.

فالعبودية لم تنته وإنما تغير شكلها فما زال الانسان طريدة صيد لشبكات عديدة تستهدفه ليس آخرها المفاهيم الحديثة أو العالم الافتراضي بشبكته الإلكترونية أو زرع الرقاقات في الأجساد البشرية.

فالثورات المتلاحقة في عالم التقنيات أذهلتنا وجعلتنا ننسى الكثير من التفاصيل الصغيرة التي استغلتها الشركات الكبرى وحولتنا إلى مجرد حالات رقمية يتم التحكم بنمط حياتها وطريقة تفكيرها وبرمجتها بأفكار مستحدثة تحت مسميات عديدة من الحداثة إلى الخصوصية في الوقت الذي تنتهك فيه خصوصيتنا تحت نفس الشعارات وعبر برامج الحماية ولم يعد خافياً الجرائم التي ترتكب عبر وسائل التواصل من الاحتيال إلى القتل.

إنها الشركات الرأسمالية العالمية التي تدعم كل أشكال السيطرة لتحقيق أرباح تساعدها على النمو بدءاً من الاستعباد الجسدي واحتلال الدول إلى استعباد العقول وتغيير المفاهيم.

فالسلوك الاستعماري ليس ناتجاً عن حالات وعقد نفسية لدى ملك بلجيكا أو ضباطه ورجاله العاملين أو لدى تجار العبيد ولا تعويض لنقص بل إنها تختار من تعتمد عليهم من هؤلاء لتحقيق سياستها ودعم نفوذها.

رواية فومبي من الروايات المميزة والتي تخاطب الإنسان كقضية عامة وكذات فردية لها خياراتها تسجل من خلالها بدرية البدري حضوراً مميزا للأدب العماني الذي يثبت وجوده بقوة.

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن سبقه من جهة وميله للتجديد والحداثة ورغبته بربط البلاد بأواصر التقدم واللحاق بركب الحضارة من جهة أخرى.  

فالعجيلي يعد علماً من أعلام الأدب والثقافة، له الريادة في التأسيس والانفتاح على الثقافة العالمية، ولطالما كان التخلف والتأخر الحضاري هاجسه المؤرق لما لهذين الثنائي من نتائج كارثية على مستوى العباد والبلاد، فلا نهضة ولا تحرير ولا عدالة بغياب العلم والثقافة دعامتي الوعي والتقدم الحضاري، لذا تراوح نشاطه بين الرؤى الناقدة للبيئة من عادات وتخلف اجتماعي وبين محاولاته ترسيخ ما يحمله الموروث من قيم إيجابية وعراقة وأصالة فقد عمل على المزاوجة بين العادات الصارمة والأخلاق النبيلة والحذر من رقابة تلك الأعراف بذات الوقت لوعيه بمسؤوليته للنهوض بهذا المجتمع لا أن يكون غريمًا له   وهو الطبيب الرقيق والرفيق بالفقراء والمعوزين.

لقد انتمى جيله إلى موجة أحداث سياسية كبرى تميزت بتنامي التيارات الفكرية والسياسية وقد كان بارزاً في معمعة التحولات الجارية وذلك بربط الكلام بالعمل في انسجام أخلاقه وسلوكه مع ما يكتبه ويقتنع به ويمارسه كالتحاقه بجيش الإنقاذ في فلسطين وتخليه عن مناصب هامة لأجل ذلك ومعاناته مثل الجميع من ثقل النكسة على وجدان الفرد العربي.

جمع عاشق الفرات السياسة مع فطرة البداوة مع استيعابه وانسجامه مع نمط الحياة المدينية لكثرة ما ارتحل وسافر وتعرف على الأمكنة والبلدان، هو الهاوي الأبدي للكتابة على الرغم أنه لم يحترفها بمعنى التفرغ ولم يمارسها إلا في أوقات فراغه ومع ذلك اتسع عالمه ليحاور ويجرب أغلب الأشكال الأدبية إلى جانب مهنته الأساسية كطبيب ومهامه الأخرى التي كلف بها مثل إشغاله مناصب في البرلمان والوزارة فقد جرى تكليفه العام ١٩٦٢ بين شهري نيسان “ابريل” وأيلول “سبتمبر” بثلاث وزارات، الثقافة والإعلام والخارجية.

رحلته مع السرد:

عبد السلام العجيلي حكاء من طراز خاص يكتب بعفوية الفنان دون أن يفكر في أي مكان أو مذهب أدبي سيصنف أو يحتسب، فقد بلغ رصيده من الأعمال الأدبية حوالي أربعة وأربعين كتابًا، وقد ترجم البعض منها إلى اللغات العالمية، ومما يلفت الانتباه قدرته على التنقل بين الأجناس الأدبية إذ نرى نتاجه موزعاً بين الشعر والقصة والرواية والمقالات بالإضافة لأدب الرحلات والمذكرات والسير الذاتية، ويرى محمد أبو معتوق أن العجيلي استطاع «أن يؤسس ملامح السّرد التقليدي ودعائمه في سورية، من قصة ورواية…».

عرف عن طبيب الفقراء التزامه العروبي واعتزازه بقوميته وما مشاركته في حكومة الانفصال إلا محاولة منه لرأب الصدع وتلافي العوائق ولكن القوى المهيمنة كانت أقوى منه وقد ضمن مكابداته تلك في أعماله المتعددة، فالأدب لديه انعكاس تلقائي لأحاسيسه وأفكاره وقد صرح بذلك بما معناه ” أنا أكتب كي أنفث عما يعتمل في أعماقي” فقد كان مهموماً بفكرة الوحدة العربية إبان المد القومي بالمنطقة، لذلك حفرت حادثة الانفصال بين سوريا ومصر آثاراً عميقة في وجدانه ظهرت في روايته “باسمة بين الدموع” التي صدرت بفترة الخمسينات تعرض فيها لمافيات الفساد المهيمنة، وقد اعتمد فيها أسلوب الخطف خلفاً المستعار من السينما بأن يبدأ بنهاية العمل ليتدرج بعدها إلى البدايات، وقد رصد فيها النفاق الاجتماعي والسياسي في المجتمع> وكذلك في رواية “قلوب على الأسلاك” التي صنفت من بين أفضل مئة رواية عربية اشتغل فيها على تقنية الترجيع والاستباق وعبر مشهديات منفصلة بدت كلوحات نصية يترك عبء الربط فيما بينها على عاتق القارئ الحصيف، وقد سمح بذلك أسلوب التداعي للأفكار التي يدرجها البطل في مذكراته، فهو يصور الطبقة المخملية في المجتمع التي ولدت من رحم الطبقة الإقطاعية المرتحلة بعيني شاب ريفي يأتي إلى العاصمة وهو يكتشف ناسها وأهلها وينتبه لاهتماماتهم التي تتقنع بالشعر والأدب عبر صالونات الثقافة وعبر إطار علاقات عاطفية لبطله التي يوحي العجيلي أنها هدفه من العمل، ولكن يتبدى في ثناياها مواقف تلك الفئة التي تتبوأ المراكز الهامة والمفصلية بالبلد، وتختار بناء تلفريك يربط ساحة الأمويين بجبل قاسيون في العاصمة دمشق، بذات الفترة التي تحتاج البلاد لخطط تنموية أكثر أهمية وتوطيد بنى تحتية تضمن حاجات الشعب وتدعم الاستقرار وعدم التبعية للخارج، وهنا يصور حالة التوتر الذي ساد عقب الانقلاب السياسي الذي  دفع بجمعهم إلى الهروب الكبير، كتعبير عن الفشل والعجز، مما يلخص موقف البرجوازية المحلية غير الحقيقي من مشروع  التحديث والتنمية ومن قضية الوحدة كذلك، حيث الهروب من المركب قبل الغرق واللحاق بمصالحها هو هدفها غير المعلن، وترك الجماهير وقاع المجتمع لتقلبات السياسة الهوجاء.  

تتميز سردياته بالتنوع وغنى الأمكنة التي يتجاور فيها مجتمعا البداوة والحضر بالإضافة لتجاور الأساليب الفنية المختلفة كما ينوع بين الخيال العلمي والواقعية الصرفة ويزاوج بين التوجه للعلم وبين استثمار الطقوس الروحانية والأعراف المتوارثة مروراً بالعجائبي كما في قصة ” العراف”، أو أسلوب القصة داخل قصة كما في قصة “الأحجية”.

وتميز أيضاً بتشريح علاقة الشرقي بالغرب في روايته الأخيرة “أجملهن ” والتي كانت واضحاً فيها التمييز الدقيق بين مفهومي الآخر المتحضر الذي يجب الاستفادة من تقدمه وتطوره وبين المستعمر الذي يمتص خيرات البلاد ويرسخ الجهل والتخلف فيها.

أما في مجال القصة القصيرة فقد عُد أحد روادها في سورية كما صنفه القاص المصري يوسف إدريس وقد اتسمت مجموعته القصصية الأولى “بنت الساحرة” بالواقعية والمباشرة والبساطة باعتماده صوته الشخصي في سرد الأحداث كما عُدت نموذجاً للوعظ الأخلاقي المحافظ، وقد اعترف الكاتب نبيل سليمان في كتابه النقدي اللاذع” الأدب والأيديولوجيا في سورية” بالمستوى الأدبي الرفيع لعبد السلام العجيلي رغم تصنيفه بخانة شواهد الأدب القديم، وأرى هنا من الضروري أن نفهم ونقيم تجربته الأدبية في سياقها الزمني الذي كتبت فيه والتي كانت في باكورة المنجز العربي عمومًا.

كذلك أفرد العجيلي مساحة لأدب الرحلات لكونه كثير الأسفار والتنقلات بين المدن والعواصم وقد نقل تجربته إلى قراءه وألف عن رحلاته ثلاثة كتب هي: ” دعوة إلى السفر” و ” خـواطر مسافر” و” حكايات من الرحلات.”

وأيضا برع في فن الرسائل الذي كان حاضرًا في قصته (لقاء كـل مساء وثلاث رسائل أدبية) من مجموعة “الخيل والنساء” حين تحدث عن الحب والعلاقات الإنسانية.

حكايته مع المدينة:

 المكان الأول ” الرقة” تلك المدينة الواقعة على كتف الفرات التي كانت معلماً حاضراً في وجدانه أينما ارتحل وأينما حل، وهي التي ارتبطت باسم العجيلي بشكل بارز وجلي، حيث أواصر الارتباط العالية للأديب بالمدينة وكأن المدينة هو، وكأنه المدينة.

انحدر عبد السلام العجيلي من بيئة بدوية من عشائر البو بدران التي نزحت من الموصل إلى ضفاف الفرات، وقد تخرج طبيبًا من جامعة دمشق واستقر في مدينته الرقة بعد التخرج وافتتح عيادته بها، وهو الذي عشق السفر والترحال عبر أصقاع الأرض ومع ذلك بقي رجوعه إليها دائماً وظل عاشقاً متيماً لمدينته “الرقة” عروس البادية السورية.

 وترجع تسمية الرقة على الغالب بأن الرقة بطائح الماء بعد الفيضان، فيضان النهر أو ما يتبقى منه حين يحل الجزر بعد المد، ومفردها البطيحة أي الرقة، الرقة درة الفرات، والعجيلي الذي سلخ تسعة عقود من الزمن كان جلها فيها لدرجة سميت “رقـة البـدري” وهي كلمة مختصرة من بدوي وحضري، نعم هي الرقة التي لطالما كانت غاوية ومغوية ولطالما قصدها الملوك والشعراء ورجال الفكر والسياسة منذ هارون الرشيد ومن قبله هشام بن عبد الملك وسواهم، وقد قال عنه نزار قباني بأنه: أروع بدوي عرفته المدينة، وأروع حضري عرفته الصحراء.”

 كان العجيلي صاحب نكتة ونوادر ساخرة وقد انضم إلى “عصبة الساخرين” قديماً، مع المرحـومين عبـاس الحامض، وممتاز الركابي وعبد الغني العطري وسعيد الجزائري. ومع نشأت التغلبي وآخرين، وقد قال في إحدى الكلمات التي ألقاها:” أن الله في الدار الأخرى، لن يحاسب الكتّاب على ما كتبوه وهم أحياء على ظهر البسيطة، بل إنه سوف يحاسبهم على ما لم يكتبوه” في تورية عميقة للرقيب الاجتماعي والسياسي في حجب المخزون الثقافي المختبئ في داخله وكثافة ما يود قوله لو منح مزيداً من العمر فقد عاش حياة مفعمة بالعمل والإبداع، كان مع الناس وللناس في زمن مبكر اتسمت المنطقة بالتخلف وسيطرة الرجعية غداة تحررها من ربقة الاستعمار ولطالما عُد رائداً من رواد النهضة في سورية والوطن العربي فهو الطبيب والأديب والسياسي المفوه الذي اجتمعت القلوب على محبته.

وقد وصف أهل الرقة جنازته “بأنه مات على سروج الخيل” أي كان يعمل ويكتب ويسافر حتى آخر أيامه بكل روح العطاء والإقبال على الحياة ورحل في صحبة الضوء مشعاً وخالداً.

     *تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ

ميساء محمد:رسامة من فصيلة الساحرات

ميساء محمد:رسامة من فصيلة الساحرات

في عالمٍ باتَ مليئاً بالنجوم، نجوم السوشيال ميديا أو ما يسمّونهم صنّاع المحتوى، الخاضعين لخوارزميات و سياسات مواقعِ التواصل الاجتماعي، و آخرون يصنعُهم رعاةٌ مخلصون يروّضونَ تطور العقل البشري بحيثُ يظلّ القطيعُ بخير، نجوم تُبهر و تغيّر، و أخرى تعمي العيون، قد يكون رحيلُ أحد المُبدعين مناسبةً كي نبدأ بالحديث عن أعماله أو أقواله بموضوعيةٍ أو بعين النقدِ الحقيقية، بحثاً عن نجمٍ حقيقيٍّ احترق كي يضيء.

ميساء محمد فنانة تشكيلية سورية، من مواليد مدينة جبلة 1964، فُجِعَ مُحبّوها بخبرِ مرضِها في مكان إقامتِها في دبي أولاً، ثمّ غيابِها المُبكّر مؤخراً، كان مجتمعُ الفنانين التشكليين يتابعُ تجربتَها باهتمام، فقد قدّمت في مراحلِها الأخيرة سلسلةً من اللوحاتِ المتحفيّة كانت ثمرة تراكم خبرةٍ طويلةٍ في الرسم، و موهبة استثنائية في التعبيرِ عن مكنوناتِ النفسِ الإنسانيةِ عن طريقِ الخطّ و اللون. اللافت في تجربةِ ميساء هو تطوّرها الواضح باتجاه الواقعية التعبيرية، المبنيّة على امتلاكٍ حقيقيّ للرسم كأداةٍ مرنةٍ بينَ يدَيها، تشكّل من خلالِها وجوهاً ذاتَ طابعٍ سحريّ، و مناخاًغرائبيّاً، كأنّها تنقلُنا إلى عالمٍ موازٍ، شخوصُهُ تُشبهُنا، لكنّها تحملُ قدراً من الجمالِ و التصالحِ مع الذاتِ، يجعلُنا نقفُ أمامَها مشدوهين.

من الملفت أنّ ميساء لم تدخل تجربة الرسم بجديّةٍ إلا مع بداية الحرب السورية، ربما هرباً من أشباحِ الموتِ و الدمار التي سكنت البلاد، أو نتيجة شعور خَفيّ بنهايةٍ قد تكونُ وشيكة، ما جعلها تستخرجُ تلكَ الجوهرة التي طالما أهملتها في أعماقِها، و تعمل على صقلِها، “البحث عن الصمت، ملك الأطراف، حجر الدم، مقام الصبا، هناكَ أمل” هي عناوين لمجموعتها التشكيلية أو معارضِها التي أقامتها في كل من دمشق، دبي، زيورخ، و فينيسيا.

إنّها رسامة مشت بكلّ ثقةٍ صوبَ ذاتِها، فحفرت طريقَها حيثُ اتّجهت بوصلةُ قلبِها دونَ أن تتمكن منها مقولاتُ غيرها، ربما هذا سرّ تفرّدِها و أصالتِها، فهي لم تذهب إلى الخارج لتستورد مفردات، أو تعيدَ إنتاجَ تجربةٍ بعَينها، بل حفرت في روحِها و رسمت ما تُحب. و لأنّها أسّست أسلوبَها على ما يهوى قلبَها و يؤرقُ عقلها، كانت الشامُ حاضرةً في أعمالِها، هي التي شغلَها موضوعُ الهوية، حاولت أن تتمسّك بهويتها السورية التي شعرت أن الحربَ ستأتي عليها، فرسمتها، ” في لوحاتي لم أتعمّد العودة إلى الماضي، و لكن طبيعة الهوية هي التي تقودُني إلى ذلك، حاولت قدرَ الإمكان أن أكونَ وفيّةً لفكرةِ الجمال والرومانسيةِ العالية، التي اعتبرتها بمنزلةِ أدواتٍ لمواجهةِ عدو الثقافة و الهوية العربية التي مكّننا الفن التشكيلي من اكتشافِ كاملِ تفاصيلِها”. شخوصُها التي تطلُّ علينا من عالمٍ مُختلف، طفولي أحياناً و أسطوري أحياناً أخرى، ترتدي غالباً أزياء دمشق التراثية، التي يُقالُ إنّها تعودُ إلى تصاميم أزياء الملوك القدامى الذين عاشوا في دمشق أو تدمر،أفاميا، ايبلا، و أوغاريت، يذهبُ الشاعر و الناقد فاروق يوسف إلى ربطِ تجربتها بالفنان السوري نذير نبعة، فيما يخصّ طريقة معالجتِها للوجوه، والأجواء الشامية التراثية الباذخة، فالنساءُ بجمالهنّ الأسطوري، كأنّهنّ حفيداتُ الليليت وعشتار وإينانا والمجدلية و زنوبيا، يغنينَ مشهدها البصري و يمنحنَهُ بصمةً سوريّة خاصة.

و كما تستخدم ميساء الواقعية السحرية كي تأسرَ عين المشاهد، تستخدم كذلك الرمزية، فالحُلي والورود والغربان و السفن الورقيّة والزخارف الشرقيّة، كلّها أدوات تنقل مكنونات الفنانة وأفكارها، أمّا أداة التعبيرالأهم،  التي تمنحُ لوحاتَها قوة تعبيريّة استثنائية فهي العيون، فإذا كنّا نريدُ أن نلجَ عالم ميساء محمّد، علينا أن نفهم ما تقولهُ عيونُ شخوصِها، فهي تتّسع كي تحيطَ بالواقع من كلّ الجهات، أحياناً تقفُ أمام العالمِ مذهولةً وأحياناً أخرى خائفة، لكأنّ هولَ المشهدِ جعلَها بكماء، وحدهُ بريقُ عيونِها يُفصحُ عما يدورُ في روحها، قد يكونُ بريق الوعي، أو حزن دفين يأبى أن يتدفّق ما يمنحُها سحرها الخاص، إنّ عيون ميساء محمد هي بحدّ ذاتِها موقف من العالم و وجهة نظر، تُعاتبُ و تُحبّ، تتأمّل، تحزن، وتفرح في نظرةٍ واحدةٍ، كأنّها لم تستطع أن تصرخَ في وجهِ الحربِ فحدّقت بها، وحين رحلت تركت لنا تلكَ النظرة الخالدة، لتجعلنا نتساءل و نتساءل، دون أن نتمكّن من سبرِ غورِ إحساسِها.

إنّها امرأةٌ من فصيلةِ النساء الساحراتِ، اللواتي منحتهُنّ الطبيعةُ مواهبَ استثنائية ليحاربنَ بها طغيانَ المجتمع، السحرُ هنا ليس بمعناهُ الشرير، إنّما هو السحرُ الذي يسخّر القوى الكامنة في الطبيعة من سبيل الخير، و إذا كانت ظاهرة ملاحقة الساحرات و السحرة قديمة قدمَ التاريخ، فإنّ أغلب النساء اللواتي اتُّهمنَ بممارسة السحر في العصور الوسطى في اوروبا، كنّ من المثقّفات والعالمات وصاحبات الفكر المتنوّر، ربما الفيلسوفة و عالمة الرياضيات هيباتيا التي قُتلت على يدِ حشدٍ من المتعصّبين في الاسكندرية عام 413م هي أول ساحرة معروفة تعاقبها السلطة الدينية.

تجلّى سحرُ ميساء فيما تجلّى في اللون، فقد استحضرتهُ في أعمالِها بكامل بريقه، ليساهمَ في تشكيلِ مشهدِها البصري الخاص، و منحِهِ بعداً غامضاً و شاعريةً مُختلفةً، فكان أن أظهرتهُ على العجينةِ اللونية للوجوه، فاقعاً، فاضِحاً شغفَها بالجسدِ الإنساني و مكنوناتِهِ، لقد حذت هنا حذوَ الانطباعيين في الابتعاد أحياناً عن المزج و إظهارِ تدرجات اللون على سطح اللوحة، كما اتكأت على المبالغة اللونية كطريقة في التعبير، اهتمّت ميساء بنضارةِ وصفاءِ ألوانها، كما استخدمت تلكَ المتكاملة والمنسجمة، لتمنحَ لوحاتها ضوءاً مختلفاً وبعداً سريّاً، لكأنّها هنا متأثرة بالفن الكنسي وكبار فنانّي عصر النهضة ، كما لجأت أحياناً إلى المبالغة في رسمِ أطرافِ نسائها، فتطاولت الأصابع و رقّت، ربما كي تحاكي رقّة الفنانة و سمو روحِها.

تنتمي ميساء إلى فئةٍ من التشكيلين السوريين الذين تمسّكوا بالرسم كقاعدةٍ لانطلاقهم في عالم الفن التشكيلي، فبحثوا عن أصالةٍ تشبهُهم دون الانخراطِ في تجربةِ النسجِ على منوالِ المدارس الغربية، فعلى الرغمِ من مقولات الحداثةِ و ما بعدها التي هيمنت على المشهد، صنعت ميساء حداثتَها الخاصة غير مكترثةٍ سوى بمقولاتِ روحِها، فعبّرت بطريقتِها عن فكر ومشاعر رسّامة أنثى، عايشت حقبةً من الحربِ و الهمجيّةِ ربما أودت بها في النهايةِ إلى مرضٍ و موتٍ مبكّر.

في وسطِ إحدى لوحاتِها المعجونةِ بتدرّجاتٍ رماديّةٍ، مساحة حمراء على شكلِ مستطيلٍ انفتحَت أطرافُهُ السفلى كأنّها دماءٌ تسيلُ،  على هذه الخلفية جلست أنثى بثوبٍ أبيضٍ و بعينين هَلعتين، بطلة اللوحة تحضنُ إطاراً أحمراً مربوطاً في إحدى زواياهُ بشريطٍ أسود، أما داخل الإطار فتفاجئنا ميساء برسم بورتريه للأنثى الهلعة ذاتها المتربّعة في الوسط ، كأنّ البطلة تقفُ شاهدةً على موتِها، كأنّها تنعي نفسَها، هل تنبّأت ميساء هنا بنهايتها الوشيكة؟ هل كانت تعي ما ينتظرها من مصيرٍ سيحرمُها من ممارسة سحرها الخاص”الرسم”؟  لا نعلمُ حتى الآن مدى صدق نبوءة الشعراء و الرسامين، لكن و إذا كانت ميساءُ نجماً مرّ بسرعةٍ في عالمِنا فيبدو أنّها تركت أثراً سيدوم،  يُقالُ إن بعض النجومِ التي لا يزال ضوءها ينيرُ ظلمتَنا هي في الحقيقة ميّتة، أن تكون نجماً حقيقياً يعني أن تتركَ وهجاً يدوم.

الواقعية السحرية في رواية باهبل لرجاء عالم

الواقعية السحرية في رواية باهبل لرجاء عالم

الفضاء المكاني والاجتماعي

استطاعت رجاء عالم في روايتها با هبل والتي وصلت للقائمة القصيرة للبوكر العربية هذا العام، أن تأخذنا بقوة إلى الفضاء المكاني الذي تحلق فيه وهو مكة المكرمة حيث لم تكن تدافع فقط عن روح المكان التي نالت منها الحداثة فاقتطعت وقلبت بغرض توسيع الحرم لاستيعاب خدمة الوظيفة الدينية بل وأيضاً عن أصوات أناس عاشوا وماتوا هناك في عتمة الواقع وعن ماض اجتماعي كانت فيه المرأة جزءاً من نظام العبودية المقنعة رغم انتمائها لأسرة حرة. وليس لأن الماضي يشغلها بل لأن ظلاله تمتد إلى الحاضر.

 ترصد الكاتبة هذا الواقع عبر حياة أسرة السردار منذ عام 1945 وحتى 2009 والتي كانت تقطن بجوار الحرم الشريف في مجتمع ذكوري يجد مجرد التفوه باسم البنت عيبا ً وتنكر العائلة وجود فتاة في المنزل لتعتني بأهلها آخر العمر، ويتحكم الأب بحياة ابنته حتى بعد الزواج وقد يطلّقها دون استشارتها. تقول العمة سكرية: “تظن أن الحنوط سر فرعوني؟ بيوتنا المكاوية شغلتها تحنيط البنات أمثالي ” وحيث حتى الأحلام تقمع ويجب عدم التصريح بها حتى لا تتحقق. أما زيارة الطبيب فغير ممكنة دون موافقة الأب مصطفى السردار المتحكم والذي رفض نقل زوجة ابنه للمشفى بعد تعثر ولادتها قائلاً إن موتها أفضل من ذلك.

تاريخ عائلي بطريركي بامتياز

تبدأ الرواية بمشهد انتحار البطل عباس السردار، فحين يعود إلى البيت وتصدمه وحدته الكبيرة، يقوم بتفقد المنزل مروراً بحائط المقارع الذي جمع عليه مقارع البيوت المكية المزالة بالهدم، ويغادر باتجاه بيت عمته نورية المهجور حيث عاش أجمل أيامه وجمع فيه التحف واللوحات والموسيقا وأشرطة أفلامه التسجيلية لينتحر هناك بالشماخ الذي ربطه بالثريا.

تعيدنا الكاتبة بعد مشهد الانتحار في استرجاع سردي لحياة عباس وتاريخ أسرته في محيط الحرم وعماته اللواتي كان ابناً لكل منهن فهو الابن المدلل في العائلة والمولود بعناء الأم ولخطأ في قص الحبل السري يعاني من فتاق لا يختفي إلا بعد القضاء على حركة جهيمان الذي سيطر على الكعبة لمدة عشرة أيام انتهت بدخول الجيش للحرم الشريف واستخدام الأسلحة والرصاص فيه، في إشارة لا بد من التوقف عندها، وهو توءم لجنين شرد بعد ولادته حسب ما قالته القابلة لتعيش الفكرة في العائلة وفي داخل عباس إذ يشعر بوجود قرين له في داخله يسميه نوري ويحمله المسؤولية عن كل فعل خارج عن السيطرة ويتمتع بجنون الفن والخيال.

تأخذنا الكاتبة إلى تفاصيل حياة العائلة وحياة عماته اللواتي تصفهن بالمحجوبات وعلاقتهن في الدائرة الضيقة؛ المجتمع العائلي المغلق والمجتمع الكبير الذي لا يحتكين به إلا عبر سلطة الأب الساهر على حراسة العادات الموروثة.

  شكلت العمات أمهات لعباس ونوري لا فرق فكل منهن تعاملت مع إحدى شخصياته كما تحب ويحب، حتى صار عدة أولاد في جسد واحد وهو الذي كان يقول إن له قرائن كثراً في بقاع العالم، لكن هذا لم يمنحه القدرة على الخروج عن سلطة العرف فحين تختاره شركة جنرال موتورز مصمما لهياكل سياراتها يعد والده ذلك فضيحة (الرسم) ويحبسه في المنزل إلى أن يغير رأيه.

 كان قرين عباس (نوري) الذات المقموعة له وينسب له كل فعل صدامي مع المحيط وهو فطرة الفن وجنونه في داخله وتحت هذا الغطاء جمع عباس التماثيل وأسطوانات أم كلثوم وقام بتأليف فهرس لأغانيها إذ كان يحلم ببناء متحف يضم كل منجزات البشرية على  شكل حلزوني يصل إلى السماء وفي قمته تتصاعد أصوات المغنيين الخرافيين من تراتيل سومر وحتى آخر المغنيين كأنه يقيم آذاناً كونياً. 

ولعل الحوار الذي يدور بين عباس ونوري أقرب إلى المكاشفة الذاتية وما بحثه عن قرائنه إلا رغبة بالانتماء للحلم الذي يريده وبقدر ما يحمل ذلك من عذاب البحث بقدر ما يحمل من غربته عن عالم يعيش فيه. وإذ يكاشف نوري يكشف لنا ما في داخله من عالم المتناقضات المتجاورة والأنواع دون أن ينفي أحدها الآخر الطفل والشيخ، المهبل والقضيب، الماضي والحاضر، والضعف والجرأة.

فيلم تسجيلي طويل

وبتأثير نوري يقوم عباس بتصوير عماته في فيلم تسجيلي تروي فيه كل واحدة قصتها فتقول له سكرية: الحياة نزهة عشها والظل الذي ترتاح له اسكنه وطالما تستطيع الاحتراق افعل”. أما نورية فتناديه بنور عينيها.

  وبقيت حورية بجانبه حتى رؤيته لأحداث غير مفهومة وفي لحظة خاطفة يكتشف أنه  يحتضر وإذ يخترق معها تلك الستائر الندية التي تفصل عالم الأموات عن الأحياء. يعرف أنه يغادر الحياة ويتذكر أنها ميتة مثله منذ زمن بعيد برصاصة في الرأس في حادثة جهيمان وهو ما عاشه طفلاً دون أن يراه وأن هذا الفيلم التسجيلي الذي صوره ليشارك به في مهرجان البندقية ليس سوى شريط ذكرياته مع عماته والعائلة والذي يستحضره في احتضاره الطويل إنه الشريط الذي يمر في ذهن المحتضر قبل مغادرة العالم.

 ليس عباس وحده من يصدمه الاكتشاف بل القارئ أيضاً فالرواية لم تكن سوى هذا الشريط الذي يستعيده في لحظات الاحتضار مثقلاً باحتدام المشاعر والأشخاص وأحلامها في لعبة فنية مشوقة تبرع فيها رجاء عالم إذ تأخذ القارئ بتلك الواقعية السحرية الفاتنة منذ أخبرتنا أن نورية قدحت شرارة الرواية في ذهنها إذ وقعت تحت سطوة التوصيف السريالي لعباس حين أخبرها انه أراد رمي جثة عمته نورية في البحر فلطالما كانت تتمنى أن يكون الموت سفراً في بطن حوت. وكيف ألحت عليها نورية في الحلم لتدفع روايتها للنشر فصوتها ضمن الأصوات المكتومة في الرواية- الحياة.

 ومنذ مشهد محاولة الجارية في البداية حرق ابنتها على السطح لأن السردار لم يعترف بأبوته لها إلى وصف عباس الطفل لما حدث في الحرم الشريف في حركة جهيمان وحيث ماتت عمته حورية لكنها ستواصل وجودها بينهم ولا تنتهي تلك الغرائبية في المشهد إذ سنكتشف أن هذا كله ليس إلا استرجاع عباس ذكرياته قبل الموت.

وتستمر الكاتبة بتلك الغرائبية السحرية محلقة في جمالية السرد وحيث يختلط الواقع بالخيال ويسير جنباً إلى جنب معه حتى النهاية ولا تترك للقارئ أن يمتلك مهارة تحديد أين ينتهي الأول ليبدأ الثاني. وحيث يتداخل عالم الأموات مع عالم الأحياء تفصل بينهما الستائر الندية والشفافة والتي لا يخترقها إلا من ينتقل من عالم لآخر في مشهد تخييلي سريالي بديع كما كان عباس يتحرك بين الماضي والحاضر بخفة بفضل وجود القرين المتخيل.

خصوصية المكان والبيئة  

حرصت رجاء عالم على الاقتراب من الواقع فاعتمدت اللهجة المكية وطعمت السرد بالأمثال الشعبية المتداولة وأوضحت المفاهيم الروحانية لبعض العادات وهي من الجمال بمكان كعادة رش الكافور على الميت؛ وذلك حرصاً على إطفاء خصوبة الموت، أما المسك فيخلط بالكافور لتخفيف الحزن.

وعرجت على تقاليد العرس والجهاز الذي يخص العروس كالسيسم وغيرها.

كما تأخذنا لوصف المكان كسوق المدعى التراثي والذي عمره أكثر من قرن ويمتد وسط مكة وكيف هدم بالكامل مع البيوت المجاورة لتوسيع الحرم. وما جرّته تغيرات المكان من تغير انعكاسه في الذات الإنسانية فحين صارت بئر زمزم تضخ بالمضخات فقد الماء طاقته الروحية وصار العطش مقيماً لا يمكن ريه.

 كما تشير بشكل غير مباشر إلى التغيرات التي رافقت اكتشاف النفط وتدفق الأموال، يقول عباس نحن أولاد آدم البترولي، في إشارة إلى أن التغيرات في المجتمع بعد اكتشاف النفط كانت شبيهة بولادة جديدة لكن من رحم الأموال النفطية، إذ صار الهم هو جمع الأموال ومراكمتها واستهلاك مظاهر الحضارة والرفاهية الغربية التي وصلت من الغرب فجأة فأحدثت صدمة حضارية هزت القيم وصار الإنسان يعيش فصاماً حقيقياً في علاقته بالآخر. وهذا ما حدث مع عباس الذي كان يعيش اغترابه عن الواقع حتى أنه انتحر!

توهج السرد واللغة والوصف في مشهد اكتشاف عباس لموته في حواره مع عمته حورية لتخبره بكل رقتها عن موته الواقع في سردية مؤثرة وبليغة وتنقلت في الرواية بين الاسترجاع والمونولوج والميتا سرد والواقعية السحرية والمونولوج الداخلي الذي ينبش الخوف الإنساني من الحتمية بما يلامس داخل القارئ.

 لكن يبقى السؤال لماذا اختار البطل الانتحار في بيت عمته نورية وليس في أي مكان آخر في عهدة القارئ.

نافست رواية رجاء عالم على البوكر بجدارة وهي التي فازت بالجائزة عام 2011 عن روايتها طوق الحمام والتي تدور في ذات الفضاء المكاني.

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في إبداع الموشح الحلبي المعاصر ذي الهوية السورية والعربية الأصيلة، وجَعَله يرتقي إلى مرتبة الموشح الأندلسي ويكون امتداداً له، ليُشكل  بذلك مدرسة فنية متفردة ومتكاملة في فنون الموشحات ورقص السماح المرافق لغنائها. مدرسةٌ أغنت مكتبة الموسيقى العربية ونشرت إرثها الفني المتنوع في مختلف بلدان الوطن العربي.

ولد البطش في حي الكلاسة/ حلب عام 1885، درس القراءة والكتابة في الكتاتيب، إلى جانب علم الحساب والتجويد، وقد ظهر ميله إلى الفن منذ طفولته، حيث تمكن من حفظ عشرات الموشحات القديمة، وكان يرافق والده وخاله لحضور حلقات الأذكار وسهرات البيوت، التي تُنشد فيها الموشحات والأغاني الصوفية والطربية، ويتردد على الزوايا والتكايا الصوفية ليستمع لعمالقة الطرب وكبار المنشدين، الذين تتلمذ على يدهم، ومن بينهم: الشيخ بكري القصير وأحمد عقيل وصالح الجذبة وأحمد الشعار، وقد تعلم منهم فنون الموشحات وطرق غنائها وعلوم المقامات والإيقاعات والأوزان، بالإضافة لفن رقص السماح.

في عام 1905 التحق البطش في الخدمة العسكرية ضمن الجيش العثماني، ولأنه كان يمتلك موهبة وخبرة موسيقية مميزة ضَمَّه الوالي العثماني إلى الفرقة الموسيقية العسكرية، كعازف ترومبيت وآلات إيقاعية، وقد تعلم خلال ذلك قراءة النوتة الموسيقية ليصبح، في تلك المرحلة، واحداً من الموسيقيين القلائل الذين يجيدون تدوين مؤلفاتهم. وبعد إنهائه للخدمة العسكرية عمل البطش كعازف إيقاع مع الكثير من الفرق الموسيقية والإنشادية في عدد من مسارح حلب وزواياها، ثم بدأ أولى مراحل التلحين ليبرز كواحدٍ من أهم المراجع الموسيقية في حلب، إذ كان يحفظ مئات الموشحات القديمة، ويلمّ بأغلب المقامات والإيقاعات والأوزان الموسيقية الخاصة بالموشحات.  

في عام 1910 إنضم البطش لفرقة الشيخ الحلبي الشهير علي الدرويش كمنشد وعازف إيقاع، ثم سافر بصحبته في عام 1912 إلى العراق في رحلة موسيقية استمرت لعامين، أسسا خلالها بعض الفرق الموسيقية واطلعا على الإرث الموسيقي في المنطقة ونشرا جانباً من التراث الحلبي هناك. وبعد عودته إلى حلب تابع عمله الفني كمنشد وعازف إيقاع مع العديد من الفرق الموسيقية وفرق الإنشاد، إلى جانب عمله في التلحين وفي توثيق التراث الموسيقي الغنائي، حيث ساهم في حفظ وإحياء الكثير من كنوز التراث الحلبي.  

وبالإضافة لتلحين الموشحات كرس البطش حياته في تدريس فنون الموشحات ورقص السماح، سواء في منزله أو في معاهد حلب ومن ثم دمشق، وقد تتلمذ على يده  كبار مطربي ومنشدي حلب، الذين أصبحوا من أعلام الفن وعمالقة الطرب، ومن بينهم: صباح فخري وصبري مدلل ومحمد خيري وزهير منيني وبهجت حسان وحسن بصال وغيرهم. وإلى جانب ذلك، تأثَّر العديد من الملحنين والوشاحين العرب بمدرسة البطش ونهلوا من فنونها  الكثير من أساليب وطرق تلحين الموشحات واستخدام أوزانها وإيقاعاتها، وخاصة فنون الموشح الحلبي، ومن بينهم فنان الشعب سيد درويش، الذي يعد من كبار الوشاحين المصريين، كما ساهم البطش أيضاً في تطوير وإغناء عددٍ من موشحات درويش، وذلك من خلال تلحين خانات إضافية لها لتنويع لحنها الأساسي وفق قالب الموشح الحلبي الحديث، فعلى سبيل المثال أضاف البطش لموشح يا شادي الألحان الخانة التي تقول: “هات يا فتان أسمعنا.. نغمة الكردان”، وإلى موشح يا بهجة الروح أضاف خانة: “هات كاس الراح وأسقيني الأقداح”، وإلى موشح العذارى المائسات أضاف خانة: “من ثغورٍ لاعسات ذاق طعم العسل”.

 في منتصف الأربعينيات ومع افتتاح معهد الموسيقى الشرقية في دمشق، على يد الزعيم الوطني فخري البارودي، الذي كان وراء النهضة الموسيقية الكبيرة التي شهدتها دمشق في الأربعينيات والخمسينيات، انتقل البطش إلى العاصمة، بدعوة من البارودي، ليدرِّس في المعهد فنون الموشحات والمقامات والأوزان ورقص السماح، كما قام بتأسيس فرقة موسيقية وغنائية وفرقة راقصة خاصة برقص السماح، وقد تتلمذ على يده مجموعة من الطلاب الذين أصبحوا فيما بعد من أبرز ملحني الموشحات ومدربي رقص السماح في سورية، ومنهم: صباح فخري، عدنان منيني، سعيد فرحات، بهجت حسان، عبد القادر حجار، وعمر العقاد.

مع افتتاح إذاعة حلب عام 1949، استعان القائمون عليها بالشيخ البطش ليقوم بتدريب الفرقة الغنائية التابعة للإذاعة على غناء الموشحات والأدوار وغيرها، وقد ضمت الفرقة، التي سجلت العديد من أعمال البطش، كبار المنشدين والمطربين الحلبيين، مثل: صبري مدلل ومحمد خيري وصباح فخري وعبد القادر حجار ومصطفى ماهر وحسن بصّال.  

انتهج البطش بموهبته المتفردة والمبدعة أسلوباً جديداً ومبتكراً في تلحين الموشحات، وذلك عبر الخروج من وحدة الإيقاع ورتابة اللحن، اللتين كانتا تُثقلا القوالب الموسيقية الغنائية التقليدية، فأغنى قالب الموشح بالكثير من الإضافات والتنويعات الفنية على بنيته اللحنية والشعرية، ليعمل على تطويره وعصرنته كي يتلاءم مع ذائقة العصر الحديث، وليدخل بيوت جميع الناس، وتعشقه أذن المستمع العادي وأذن الموسيقي المحترف على حدٍ سواء. وإلى جانب ذلك ساهم البطش في إحياء الكثير من الموشحات القديمة والتي كانت مهددة بالاندثار، وعمل على تطويرها ومنحها روحاً جديدة بإضافة خانات لحنية عليها، لتغيير مسار ورتابة اللحن الواحد الذي كان يقتصر فقط على الدور.

تميز البطش بكونه مرجعاً هاماً في علم المقامات الموسيقية وفي التعريف بالمقامات النادرة منها، والتي تتطلب مسارات لحنية خاصة لكي تبرز شخصيتها الموسيقية، لذا كان يلجأ لتلحين موشحاتٍ على تلك المقامات لتكون بمثابة وسيلة شرح وإيضاح لها. ومن إحدى الطرائف الشهيرة التي تروى عن البطش عندما التقى بالموسيقار محمد عبد الوهاب الذي زار مدينة حلب في الثلاثينيات، أن عبد الوهاب أراد أن يمتحن البطش بطلبه سماع موشحات على مقام السيكاه الصافي، وهو مقام يناسب الألحان الشعبية، لذا لم يكن مستخدماً في تلحين الموشحات. أخبر البطش عبد الوهاب أنه سيسمعه ما يريد في سهرة اليوم التالي، ولأنه لم يكن يتوفر أي موشح على ذلك المقام، أمضى البطش ليلته في التلحين، فلحن ثلاثة موشحات على مقام السيكاه، وقام في اليوم التالي بتدريب فرقة تخت شرقي وعدد من المغنيين على عزفها وغنائها ليسمعها للموسيقار عبد الوهاب في الموعد المحدد، على أنها موشحات قديمة،  وبذلك فتح البطش الباب أمام الملحنين لتلحين موشحات على ذلك المقام.

كبير الوشاحين العرب

لحَّن البطش خلال مسيرته الفنية نحو 135 موشحاً من عيون الموشحات العربية، تضمنت مختلف أنواع المقامات الموسيقية والإيقاعات والأوزان المركبة، وقد سجل أغلبها لصالح إذاعة حلب بعد افتتاحها، وغناها كبار المطربين والمنشدين السوريين والعرب مثل: محمد خيري، صباح فخري، ومصطفى طاهر، صبري مدلل، حسن الحفار وغيرهم، إلى جانب العديد من الفرق الموسقية السورية والعربية. ومازال المطربون والمغنون يتغنون بموشحاته جيلاً بعد جيل، كونها تضفي قيمة فنية كبيرة لمسيرتهم الفنية، إذ كانت ومازلت تشكل مرجعاً موسيقياً للباحثين في علوم المقامات والإيقاعات، وتُدرَّس في كثير من المعاهد الموسيقية كوسائل إيضاح للتعريف بأنواع المقامات والإيقاعات والأوزان المركبة.

ومن أشهر موشحات البطش: موشح يمر عجباً  وهو على مقام الحجاز كار كرد، وإيقاع المخمس التركي، في الروض أنا شفت الجميل على مقام الحجاز كار كرد، وإيقاع الثريا، هذي المنازل على مقام الراست وإيقاع المخمس المصري، قم يا نديم  على مقام النوا أثر وإيقاع الدارج/ يورك، مُنيتي من رُمتُ قربه  على مقام الراست وإيقاع العويص،  داعي الهوى  على مقام العجم عشيران وإيقاع الشنبر الحلبي، وموشح يا مالكاً مني فؤادي على مقام العجم عشيران وإيقاع السماعي الثقيل والرقصان.

ومن أبرز موشحاته على مقام اليكاه: موشح صاحِ قُم لِلحان هيا  الإيقاع: فرنكجين تركي، موشح مُفرِدُ الحُسن المُبين الإيقاع: الطرّة، موشح حُسنك النشوان والكأس الروية  الإيقاع: سماعي ثقيل، موشح مُبرقع الجمال  الإيقاع: دارج يورك، وموشح بلبلٌ في الروض غنى الإيقاع: المُحجر.

ومن موشحاته على مقام النهاوند:  موشح  سُبحان من صور   الإيقاع: سماعي ثقيل،  يا ناعس الأجفان الإيقاع: أوفر مصري، خدك النَدي بوجه أنور  الإيقاع: قتاقفتي، بدر حسنٌ زار الإيقاع: الشنبر الحلبي، يا مُنى القلب الإيقاع: أقصاق، وموشح ذا الأهيف المُعجب الإيقاع: مدور رباعي.  

ومن الموشحات التي لحنها على مقام النكريز:  موشح يا من رماني بالسهام، الإيقاع: الأوفر المصري، يا قوام البان الإيقاع: سماعي ثقيل،  زارني تحت الغياهب الإيقاع: الفاخت، بين قاسيون وربوة الإيقاع: دارج يورك.  وعلى مقام الزنجران : موشح طلعة البدر المنير الإيقاع: النيم دور، رقوا لمجروح الهوى  الإيقاع: سماعي دارج، طاب يا محبوب شُربي الإيقاع: سماعي ثقيل،  إذا دعانا الصبا هَبَبنا  الإيقاع: الفاخت، وموشح يا جناني أقم الإيقاع: سماعي ثقيل. كما لحن على مقام الحجاز كار كرد: موشح طال عمر الليل عندي  الإيقاع: نواخت،  عذبوني ما استطعتم  الإيقاع: أقصاق، يا عيوناً راميات  الإيقاع: نواخت هندي، يا ذا القوام الإيقاع: مقسوم ووحدة كبيرة، وموشح فتاكة اللحظ  الإيقاع: أقصاق تركي.

ويعد البطش من الوشاحين القلائل الذين لحنوا موشحات على مقام السيكاه ومن أبرزها:  موشح صاحِ حان الروض باكر، الإيقاع: نواخت،  يا مُعير الغصن الإيقاع: المُربع، وموشح رمى قلبي رشا أحور  الإيقاع: المُربع.

وإلى جانب ذلك لحن البطش عدداً من الموشحات الدينية والصوفية، ومن أبرزها: موشح يا مادحاً خير الأنام على مقام العجم عشيران، موشح لُذ في حمى خير الأنام على مقام النهاوند. موشح هام قلبي على مقام البيات. وموشح يا خير خلق الله  على مقام الهزام. والموشحات الأربعة على إيقاع الوحدة الكبيرة.

تطوير رقص السماح

بحسب كثير من المؤرخين والباحثين تعود أصول رقص السماح إلى مدينة منبج في حلب وتحديداً إلى الشيخ عقيل المنبجي الذي عاش في القرن السابع الميلادي، وهو من أبرز شيوخ الطريقة الصوفية. ويُعرف رقص السماح بشكله التقليدي بأنه فن يقوم على تجاوب حركة القدمين مع إيقاع الموشح، وتمايل حركة الأيدي والجسد مع اللحن والكلمات، ويمكن أن يرافقه العزف على الدفوف. وقد بقي هذا الفن محصوراً بمدينة حلب حتى نقله الشيخ عمر البطش منها إلى دمشق،  لينتقل بعد ذلك إلى عدد من الدول المجاورة. ويعود الفضل للشيخ البطش في تطوير رقص السماح وتقديمه بالصورة المعاصرة التي استمرت حتى يومنا هذا، حيث قام بتطبيق حركات الأيدي والأرجل على إيقاعات الموشحات، وجعل كل إيقاع من الموشح يختص بحركات للأيدي أو للأرجل أو لكليهما معا، ليتكامل التعبير الفني بين السمع والبصر، وليتجلى التجسيد الحركي للإيقاع ونبضاته بأبهى صوره، ولتبرز العلاقة المتناغمة والعميقة بين أداء المغني وحركة جسد الراقص الذي يمثل الحس الحركي للإيقاع في كافة تنويعاته. وبغرض إغناء وتلوين رقص السماح وإبراز جمالياته بأفضل شكل تعبيري ممكن قام البطش بتطوير آلية تلحين الموشحات، التي تُغنى مع الرقص، بإدخاله التنويعات الإيقاعية واللحنية المقامية على الموشح ومنح المغني مساحاتٍ للارتجال والتفريد بصوته. ومثالنا على ذلك موشح قلت لما غاب عني ، الذي يتضمن ثلاثة إيقاعات. يبدأ بإيقاع النواخت، وهو سُباعي بطيء، ثم ينتقل إلى إيقاع  السربند، وهو إيقاع ثلاثي معتدل السرعة، ومن ثم ينتقل إلى إيقاع الدور الهندي، وهو سُباعي سريع، ليعود بعد ذلك إلى الإيقاع الأول.  

أدخل عمر البطش الكثير من التغييرات والتنويعات على رقص السماح، الذي كان في الأصل رقصاً صوفياً، بغرض إخراجه من قالب “السماح الديني”، الذي كان يؤدى في الزوايا والتكايا الصوفية، إلى “ السماح المسرحي” الذي يؤدى على المسارح من قبل الفرق الفنية. ويعود له الفضل في إشراك النساء في رقص السماح، الذي كان في الأصل حكراً على الرجال، وفي جعله أكثر تعبيرية ومواكبة للعصر، وذلك من خلال تحديث الفضاء العام للعرض الراقص وتحديث أزياء وألبسة الراقصين، بإدخال بعض التطاريز والزخارف عليها لكي تعطي طابعاً أندلسياً.

في نهاية الأربعنييات وبرغبة من الزعيم الوطني فخري البارودي قام الشيخ عمر البطش، الذي كان يُدرِّس  فنون الموشحات وعلوم المقامات ورقص السماح في المعهد، بإدخال رقص السماح إلى مناهج التدريس بعد أن طوَّره بشكل منهجي، كما قام أيضاً بتعليمه لطالبات مدرسة دوحة الأدب للبنات، وقد قدمت طالبات المدرسة عرض رقص السماح  لأول مرة على مسرح مدرج جامعة دمشق، في الحفل السنوي للمدرسة، لتصبح عروض رقص السماح بعد ذلك  جزءاً أساسياً من عروض حفلها السنوي على مدى سنوات.

وقد استمر تقديم عروض رقص السماح، من قبل العديد من الفرق السورية والعربية الراقصة، حتى يومنا هذا، وذلك استناداً إلى الأسلوب المُطور الذي ابتدعه البطش، ومن بينها فرقة أمية للفنون الشعبية، التي قدمت عشرات العروض ضمن أداء استعراضي مشترك بين الراقصين والراقصات، وتحت إشراف أبرز تلامذة البطش: الأستاذان عمر العقاد وبهجت حسان.

في أواخر حياته مرض البطش وضعف بصره حتى كاد أن يفقده، ثم تدهورت حالته الصحية وأصيب بالشلل قبل أن يفارق الحياة في نهاية العام 1950 عن عمر ناهز الخامسة والستين عاماً، أمضاه حارساً للتراث ومخلصاً لرسالة الفن والإبداع، ليُخلد كواحدٍ من عظماء الفن في القرن العشرين، ويُمنح العديد من الألقاب، ومن أبرزها: كبير الوشاحين العرب، عميد الوشاحين، شيخ الكار، عبقري الموشح، سيد درويش سوريا، مؤسس الموشح الحديث، ورائد الموشح في سوريا والعالم العربي.

     *تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ

الروائيّ مازن عرفة يكتب لمقاومة الذاكرة الجمعيّة ضدّ العبثيّة المتوحشة

الروائيّ مازن عرفة يكتب لمقاومة الذاكرة الجمعيّة ضدّ العبثيّة المتوحشة

يكتبُ الروائيّ السوريّ مازن عرفة (1955) نصّه بحرارةٍ تُشعلها الذاكرةُ ويطاردها الخوفُ وتُشتّتها السورياليّة المُطلقة. هذا ما نتلمّسه في أعمالٍ سابقةٍ له مثل “الغرانيق” و “سريرٌ على الجبهة” وصولاً إلى أعماله الجديدة “الغابةُ السّوداءُ” و “داريّا الحكاية”؛ يُمعن “عرفة” في تقديم مشاهداته السوريّة من بوّابة تجربته الذاتيّة ومحاكاته لواقع عايشه بالتفاصيل، ومرَّ عبرهُ بقسوة، ربّما احترق فيه ولم يُعد حتى الآن، لذلك لازال إنتاجه الأدبيّ عن سوريا دون تردد.

ثمّة فروق نقديّة توقّفنا عندها مع جديده اليوم، مثلاً حجم النصّ في كلّ رواية وأسلوبها ومعمارها الفنيّ. هناك تجريبٌ سرديٌّ لا ينتهي، ربّما مُشتّت، وآخرُ سبق وأن اختبرهُ قبل أعوام في أعمال سابقة. يتميّز صوته الروائيّ بزخمٍ مضطربٍ من الصور واختلاط الواقع بالحلم حتى حدود غير معقولة من الخيال والألم.

صدر للكاتب مؤخراً رواية “الغابة السوداء” (منشورات رامينا – لندن 2023)، ورواية “داريا الحكاية” (منشورات ميسلون – باريس 2023) واللتان كانتا “رواية واحدة، وجهين متقابلين متشابكين لعوالم “البلاد” وعوالم “الغربة”، حسب ما قال “عرفة”، وللمزيد حول ذلك أجرينا معه الحوار التالي:

عمر الشيخ :هناك تداخلٌ ما بين وقائع شخصيتك الحقيقية، والشخصية التي تعيش صراعات “الغابة السوداء”، مثلا تذكر دراستك في بولونيا وبعض التفاصيل التي يمكن الوصول إليها ببحث بسيط عن سيرة حياتك الحقيقية، كأنك تحاول اقتراح حياة تبحث عنها أو عشت شيئاً منها، ألا ترى ذلك ضُعفاً في التجربة يستنزف قصص “الأنا” حتى الرمق الأخير؟

مازن عرفة: أستخدم في جميع رواياتي “الأنا ـ الراوي”، وهي مفضّلة لي بدلاً من “الراوي. العالم”، لأنّها أكثر قدرة على التعبير عن المشاعر والعواطف والتجارب الشخصيّة، وهي ترتبط عميقاً برؤيتي للحياة، وطريقة التعبير عنها. الحياة هي بالنسبة لي رواية (أو بالأحرى مزيج من الرواية/ الفيلم)، وأنا أعيشها كما لو أنّني في قلب شكل من “المُحاكاة الإلكترونيّة”، يُختزل فيها دور “الإرادة” إلى أشكال من “الاستيهامات” و”أحلام اليقظة”ـ سواء على المستوى الفرديّ أو الجمعيّ.، مقابل نوع من “الحتميّة الخفيّة” المتحكمة بنا (“العولمة”، خاصة بشكلها “الاستهلاكيّ الاقتصاديّ. الثقافيّ”، و”شبكات التواصل الاجتماعيّة الإلكترونيّة”، و”احتكارات الأسلحة والمخدّرات والجنس” العابرة للحدود بكافة أشكالها، وليس آخرها “الماورائيّات الدينيّة”).

أحاول دائماً عبر هذه “الأناـ الراوي” تسجيل تفاصيل الحياة اليوميّة، لكنّي أتركُ الفانتازيا تلعب بالوقائع، باستخدام مزيج من “الواقعيّة السحريّة”، و”السورياليّة”، و”الكوميديا السوداء”، الأقدر على التعبير عن “استيهاماتنا”، و”أحلام يقظتنا”. لذلك، يُسيطر الشكل “الأوتوبيوغرافي. الفانتازيّ” على ما أكتبه، وهو ما يتوسع دائماً بآفاق تجربتي الإنسانيّة، في تنوعات الزمان. المكان.

إضافة إلى ذلك، لا أجد في “الأناـ الرواي” أيَّ ضعف أو استنزاف لديّ، فهي تمثيل لـ”الأنا الجمعيّة” بغناها، التي تتمزّق وتتبعثر باستمرار في مجتمعاتنا العربيّة إلى عشرات الشخصيات. تعود هذه “الانفصاميّة التعدديّة”ـ مثلاً في المجتمعات السوريّة، والعربيّة الشبيهةـ إلى أن الفرد هو نتاج مجموعة من البُنى المتشابكة؛ سياسيّةـ اجتماعيّةـ تاريخيّة. وتتمثل بـ”الاستبداد الشرقيّ البطريركيّ”، “والعسكرة الأمنيةـ الستالينيّة، و”الذهنية الدينية الدمويّة المتوحشةـ الجّهاد”. هذه البُنى تجعل من الفرد الواحد ممزقاً بالكامل إلى عدّة شخصيات، تحدّد هويتهُ المُتقلبة بينها؛ الظروف المتغيّرة، فيلعب في الوقت نفسه أدوار الازدواجيّة لثنائية “الديكتاتورـ البطل الثوريّ”، أو “الجلادـ الضحية”، أو “الطائفيّ. العلمانيّ”، على سبيل المثال، مع القدرة على تلّبس أيّة شخصية منها، واقعياً، حسب الظروف التي يعيش بها.

عمر الشيخ :إلى أيّةِ درجةٍ تعتقدُ أنّ النجاة-الآن، ومأساة-الماضي، هي فرص حياتيّة تُتيح مساحة آمنة للحكاية التي تريد تتويجها كتاريخ ربّما أو كـ توثيق فنيّ للألم السوريّ على طريقتك الأدبيّة؟

مازن عرفة: تنتظم جميع رواياتي في إطار “الحكاية السوريّة”، بمعناها الواسع، أينما يعيش السوريّ، بما فيه عالم المنافي. في العادة، تبدو العودة إلى الماضي نوعاً من “النوستالجيا المرضيّة” ـ بالنسبة لي، ما بين أربعينيات وسبعينيات القرن الماضي، حيث عشتُ طفولتي وشبابي، قبل انتشار الشكلين المتوحشين لـ”العسكرة” و”المدّ الدينيّ، الوهابيّ خاصة”ـ، إذ ينبغي للمرء أن ينظر للمستقبل بآمالٍ متجددةٍ. لكن عندما أنظر للمذبحة السوريّة الحالية، بآلام الحاضر وسوداويّة المستقبل المجهول أمامنا، أضطر للعودة إلى ماضي حياتنا ببساطتها، سواء الريفيّة أو المدينيّة. لا يكتفي كلٌّ من “البوط العسكريّ” والسيف الإسلاميّ” بتشويه سرديّة حكاياتنا؛ بل ويسعيان إلى خلق ترهات جديدة تلغي بساطتها وجمالياتها الإنسانيّة. لذلك، فالتوثيق الروائيّ لـ”الحكاية السوريّة”، على طريقتي بالفانتازيا، تجعلها عابرة لـ”الزمان ـ المكان”، كنوعٍ من مقاومة “الذاكرة الجمعيّة” ضدّ العبثيّة المتوحشة التي نعيشها!

عمر الشيخ :ما بين فصلي “الصور” و”المتاهة” حتّى النهاية؛ يُلاحظ في روايتك “الغابة السوداء” أن هناك انفلاتاً مفاجئاً من تجميع خطوط الحكاية عبر الشخصيات المحيطة بالشخصية الرئيسية التي تحكي بضمير المتكلم (أنا)، وتقذف بالقارئ إلى هلوسات لا تنتهي بين الماضي السوريّ والحاضر الألمانيّ، ألا تخشى على شكل معمار روايتك من التشتّت؟

مازن عرفة: بالعكس، التشتّت ليس في بنية الرواية، وإنّما في حياة “المهجر السوريّ”، وهذا ما أحاول أن أعكسه بكتاباتي. لا تنس أن هناك ما لا يقلُّ عن ثلاثة عشر مليون مهجر خارج سورية، وعدداَ آخر كبيراَ داخلها. وبالأصل كلّ منّا يعيش “المنفى” في داخله، سواء كان فيها أو خارجها. لكنّ الأزمات النفسيّة تتراكب لدى كلّ منا كمُهجرين، خاصة إلى أوروبا، تلاحقنا “كوابيس المذبحة السورية” ليلاً، لنستيقظ على كابوس نهاريّ آخر، مرتبط بضياع ذواتنا في مجتمعات نفتقد فيها الحميميّة الشرقيّة. نحن نعيش الحنين إلى “الحكاية السوريّة”، لكنّه تمّ تدمير أُسسها الماديّة! وإذا عدنا، لن نجد بيوتنا ومراتع ذكريات طفولتنا وشبابنا. وفي الوقت نفسه نحن نعيش في أوروبا دون “حكاية”، في حين أن أطفالنا سيبنون حكاية شخصية لهم؛ ألمانيّة، فرنسيّة، سويديّة…إلخ، أي حكاية سيقتلعون فيها بالكامل من جذورنا.

“ظلمة الغابة السوداء” تعيش في ذواتنا، على طريقة “جوزيف كونراد” في روايته “قلب الظلام”، التي نُشرت في نهاية القرن التاسع عشر، وأعادها فرانسيس كوبولا فيلماً “القيامة الآن”، في نهاية القرن العشرين. ومع أنني أستقي فكرة الظلمة من هنا، إلا أن “الغابة السوداء” لدي تصبح “الغابة المُنيرة”، عندما نتخفف من آلامنا بروايتها حكاية. والحكاية تعني الذاكرة والجذور، وبالتالي التماسك قدر المستطاع في وجه التشتّت والتمزق.

عمر الشيخ :هناك مسرحةٌ سورياليةٌ في الجانب الخاص بهلوسات بطلك في رواية “الغابة السوداء” وكأنّنا نتلمس نوعاً من “أدب الشواش” هنا. برأيك إلى أي حدّ يمكن للكاتب إعادة تدوير “ثيمة” الأحداث بما أنك تناولت حالة “الشواش” في روايتك السابقة “الغرانيق” بشكل كبير أيضاً؟!

مازن عرفة: في “الغرانيق” كانت شخصية “الأناـ الرواي” أكثر من مشوشة، كانت متقلبة بانفصاميّة متشظيّة، بسبب عدم القدرة على اتخاذ موقف. كان هو “الشاب الثوريّ العنيف”، الذي سيتحول بظروف القمع إلى “إسلاميّ متشدد”، وفي الوقت نفسه هو “الزعيم الجنرال الديكتاتور”، و”المثقف الانتهازيّ المتقلّب”؛ جميعها وجوه لفرد واحد، حسب الظروف التي يعيشها. تطورات “الثورة السوريّة”، والعنف الدمويّ والتهجير الديموغرافيّ الذي سيرافقها… كلّ هذا جعل من الصعب اتخاذ مواقف حاسمة فيها، ناهيك عن لعبة “الضحيةـ الجلاد” المتبادلة لدى الفرد نفسه. المهجر السوريّ في “الغابة السوداء” يعيش واقعاً جديداً، فبالإضافة إلى تمزقاته التي يحملها في داخله من البلاد، ستنمحي شخصيته بالكامل (وبالتالي هويته)، في “اللا بلاد”؛ في مجتمعات مريعة، تفتقد الحميميّة والدفء الإنسانيّ والتكافل الاجتماعيّ في بنيتها، بعكس ما اعتاد عليه كشرقيّ. ويتحول بعد اقتلاعه من جذوره إلى أكثر من مُهمش، إلى مسحوق بالوحدة المُريعة، دون أن يستطيع الاندماج بما حوله، وتتحول حياته إلى عالم من الهلوسات مرتبطة بتمزقاته، وكأنّه يعيش في “محاكاة” مرعبة. نحن نعيش الشّواش والتمزق والضياع و”المنفى” في داخلنا أصلاً، لكنّها تزداد حدة في مجتمعات الغربة. ربما تلملم “حكايتنا” بعضاً من ذواتنا، وتعزز “الذاكرة الجمعية” كهوية، تصمد في وجه غربة نفوسنا، سواء كنا في البلاد أو خارجها.

عمر الشيخ :تبدو رواية “الغابة السوداء” تجربة أكثر اختزالاً عن رواياتك السابقة، من حيث الحجم وأسلوب البناء الأدبي وتكثيف الصور والجمل القصيرة، ووحدة الموضوع، وهي تعكس واقعيّة سحريّة من النوع المأساويّ، ولفتتنا جملة تقول “ماذا يعنني الاسم والهوية إذا لم ألتقِ أحداً كي أعرف عن نفسي؟” هل تعتبر تلك النظرة تبشيراً بالعدميّة الممتدة من سوريا إلى السوريين في لجوئهم؟ 

مازن عرفة: أعتمد في روايتي دائماً على عنصري “الغرابة” و”إثارة الدهشة”، في إطار عوالم مجنونة. في البداية، كنت أستفيض في الوصف رغبة في إيصال تفاصيل حياة يوميّة مُحددة. لكن في روايتيّ الأخيرتين؛ “الغابة السوداء”، و”داريا الحكاية”، وبسبب كثافة “الهلوسات” و”الكوابيس” و”اللّامعقوليّة”، التي تميزهما، وجدتُ أنّي بحاجة إلى تكثيف “المعنى” في كلمات جمل قصيرة، إنّما بطريقة شاعرية، تسمح بانفتاح المعاني على “استيهامات” مُتعددة. وقد تَطلّب هذا تطوير طرق التعبير الأدبيّ المكثف لدي، بحيث تقترب بعض النصوص فيهما من شاعريّة كثيفة، وأدى هذا إلى اختزال النص. لكن هذا لم يحدث عفوياً، ففي الأصل كانت كلتا الروايتين الأخيرتين رواية واحدة! وجهين متقابلين متشابكين لعوالم “البلاد” وعوالم “الغربة”. واضطررت إلى فصلهما بسبب إشكاليات النشر. رغم أن أوروبا تحترم “تعدّد الثقافات”، ضمن مفاهيم “حقوق الإنسان”، إلاّ أنّه في نهاية الأمر يبدو أن مفهوم “اندماج المهجر” يتطلب عملياً التحول إلى “برغي في ماكينة العمل الضخمة” لديها، والانغماس في “رتابة الحياة وإيقاعاتها السريعة”، ضمن تعقيدات مجتمعات عولمية متقدمة. وبالضبط من أجل هذا تستقبلنا أوروبا، وهي تفكر باحتياجاتها الاقتصادية. وإذا كان جيلنا يعاني تمزق “الهوية” في مجتمعات غريبة بالكامل، بعيداً عن حميميتنا الشرقية، فماذا سيحصل مع أجيالنا التالية، التي لن تتذكر سورية التي نعرفها، خاصة في ظل احتلالات يبدو أنها طويلة الأمد؟ ربما يحاول كلّ منها فرض قيمه الخاصة، بالارتباط مع تغيير “البنية الديموغرافية” فيها. هل ذلك عدمية، أو واقع…؟

عمر الشيخ :لاحظنا وجود صراع أخلاقيّ لدى البطل في تبرير سلوكيات أصدقائه في مجتمع منفتح مثل ألمانيا، وشيئاً من الإضاءة على “ازدواجيّة المعايير”، “العنصرية”، “التطرّف”، “فوبيا الدين”.. وتفكيك مفرداتهم وقصصهم وظهوره كضحية إلا قليلاً! أضف إلى أنّه على نحو ما يبدو رومنسياً بشكل غير معقول، هل تريد الإشارة إلى مدى السذاجة التي تعاني منها الشخصية السورية في المنفى؟

مازن عرفة: شخصياً أعد نفسي مواطناً أقرب إلى “الكوزموبوليتانية” بثقافات متعددة؛ “عربية”، و”فرنسية” و”بولونية” (عشت في بولونيا ما يقارب ستة أعوام)، والآن “ألمانية”، فلا أجد أي مشكلة لي في مجتمع غريب. لكن أفكر بجيل المهجرين السّوريين، خاصة الذين تجاوزت أعمارهم الأربعين، الذين قدم معظمهم إلى بلد أوروبي لأول مرة، يحملون في لاوعيهم “ما ورائياتهم الدينية”، و”نرجسياتهم وخيلائهم الشرقيّ” المرتبطة ببنى “ما قبل الحداثة”؛ “الطائفة” و”العشيرة” و”العائلة”، والأهم “اعتيادهم على الانفلات من القانون” في مجتمعات “الفساد العربيّة”. مثل هؤلاء سيصطدمون بشكل مريع بقيم مخالفة لهم ومستفزة؛ “سيادة القانون”، “المجتمعات اللادينية”، “ممارسة الجنس فيما قبل الخامسة عشر”، “مجتمع (الميم) بعوالم المثليين والمتحولين جنسيّاً”، “شرعنة تدخين الحشيشة”، “منع الأهل من ضرب الأطفال”، “حرية اتخاذ الأولاد قراراتهم، والانفصال عن أهلهم بحماية القانون”… هم لا يستطيعون منع جيل أطفالهم من الاندماج في هذه الحياة، ولا يسعهم سوى أن يتمزقوا، ولا يبدو الموقف عندئذ “موقف أخلاقيّ” أم لا. أنت أمام مجتمعات استقبلتك بكل احترام كـ”مهجر حرب” وقدمت لك المأوى والأمان وفرصة العمل الكريم، وهو ما افتقدته في بلدك، فماذا تفعل أمام قيمها الاجتماعيّة المغايرة.

عمر الشيخ :“داريا الحكاية” كانت تتسلسل ببداية ممتعة عن تفاصيل سورية عريقة في تاريخ المجتمع وعاداته وتقاليده، ما لبثت الرواية إلى أن تحولت إلى ساحة حرب، هل تحاول أن تظهر لنا بساط الحياة التي كانت وانقلابها مع وجود العسكر في السلطة؟ 

مازن عرفة: ليس فقط وجود العسكر في السلطة، وإنّما أيضاً انتشار المدّ الإسلاميّ، برمزيتهما معاً “البوط العسكريّ”، و”السيف الإسلاميّ”؛ وجها القمع للعملة نفسها، خاصة منذ سبعينيات القرن الماضي. في جميع رواياتي، أحاول إعادة إحياء “الحكاية السورية” بجذورها، ليس كـ “نوستالجيا”، وإنّما في مواجهة “التشويه” الذي نالها من هذين الطرفين. في بداية “داريا الحكاية” استخدمت شكلاً من “الواقعية الشعريّة” لوصف حياة الناس البسيطة، قبل “عسكرة البلاد” بشكل شمولي. لكن، بالوصول إلى حاضرنا مع “الربيع العربيّ” وتداعياته المأساويّة، لجأتُ إلى نوع من “سوريالية اللّامعقول”، وهو ما لا يمكن وصف ما حدث فعلاً في الواقع إلا بها. يُضاف أنّه بواسطتها يمكن الذهاب من الخاص إلى العام، لتشمل ليس فقط المناطق السورية الأخرى، وإنّما أي مكان أو زمان تنتهك فيه كرامة الإنسان بوحشية الحروب ومجازرها.

عمر الشيخ :شعرنا في “داريا الحكاية” بالكثير من الاضطراب بسبب كمية الكره نحو شريحة اجتماعية تنتمي لها سلطة النظام في سورية، ألا يخيفك هذا الانحياز بوضع كلّ من ينتمون لتلك الشريحة بأنهم متهمون أيضاً، حتى لو لم يوافقوا على إرهاب تلك السلطة وأفعالها؟

مازن عرفة: ليس اضطراباً، وإنّما مواجهة واقع حدث فعلياً، حتّى نفهم كيف تطورت الأمور لاحقاً، بهذا العدد الهائل من القتلى والمعوقين والمهجرين المشردين، بما فيه مشروع “التغيير الديمغرافيّ” في سورية، وهو ما يتم الحديث عنه بالملايين بلغة الأرقام. استغلت السلطة الديكتاتوريّة العسكريّة التجييش الطائفيّ في قمع سلمية “الربيع العربي”، وهو ما أدى إلى ظهور “الأسلمة” بوجهها الوحشيّ ضمن ظروف إقليمية ودولية معقدة. وبالتأكيد، لا ينبغي تعميم رموز القمع من أي طرف على أي مجموعات أثنيّة أو دينيّة أو طائفيّة، إذ إن كثيراً من أفراد من هذه المجموعات لهم تاريخ نضاليّ طويل من أجل الحريّة ضد السلطة الديكتاتورية نفسها، قضى قسما كبيراً من حياته في المعتقلات، قبل في “الربيع العربي”، وشارك في بداياته السلمية. وهم أصدقاء شخصيون يعيشون الآن المنافي مثلنا. يستند مشروعي الروائيّ كلّه عن “الحكاية السورية” على مواجهة سوريالية ما حدث، بالسوريالية نفسها، كأحد أشكال الفانتازيا.

عمر الشيخ :هناك نوع من الموافقة الضمنيّة على استخدام “أدبيات إعلامية” ليست دقيقة، كانت قد أنتجتها فئة من “المعارضة السورية” ألا تعد ذلك شحاً بالمخيلة لإعادة انتاج مفردات رمزية تبعد العمل عن خانة التصنيف الفوريّ بأنه مراجعات أدبية عن تقارير واقعية لأحداث وثقها الإعلام؟

مازن عرفة: الرواية هي رؤية أدبيّة ـ فانتازية، تحاول أن تنتقل من خصوصيّة منطقة، للتعميم على جميع المناطق السوريّة. لكنّها تنهض في الوقت نفسه على وثائقيّات محدّدة؛ الأول منهاـ وهو الأهمّ. ما شهدته أنا نفسي شخصياً، وقد عشتُ هذه الفترة في بلدتي بريف دمشق الغربيّ، المُلاصقة لداريا، بكلّ أجواء جنون المجازر الوحشيّة السائد وقتها، وربّما نجوت بحياتي منها بالصدفة. وثانياً شهادات أصدقاء من أهالي داريا أنفسهم، الذين نجوا من المجازر فيها بأعجوبة. لكن إلى جانب ذلك، كانت هناك مفاتيح مهمة، هي تلك الوقائع الموثّقة بالفيديوهات، ومن قبل منظمات دولية. الكثير منها هي من وثائقيات النظام الديكتاتوري نفسه، التي يفتخر بها. لا توجد عائلة في سورية إلا ولها قتلى في “المُعتقلات السوريّة”، وتحت “البراميل المتفجرة”، ومهجرين مشردين لكني في روايتي كنت موضوعيّاً، فالفصل الرابع، وهو من أهم الفصول التوثيقيّة، الغارق بالكامل بـ”سوريالية الجنون اللّامعقول”، يستند على واقعة قامت فيها “داعش” بسحق أحد الجنود تحت جنازير دبابة، مقابل وقائع شبيهة قام بها الجنود المتعصبون وميليشياتهم في الطرف المقابل. الضحية في كلّ الأحوال هي “الإنسان السوريّ”.

عمر الشيخ :انتقدت في ختام روايتك “لغة الدّم” ألاّ ترى أنك أيضاً استخدمت ذات اللّغة في تجسيد الوجع السوريّ في هذا العمل، ألا يمكن للأدب أن ينجو من الدم؟ وإذا كان الجلاّد شريراً هل يجب أن نكون أكثر شراً منه لنرفع صوتنا؟ ألا ترى ذلك تجريداً من الإنسانيّة يجرنا نحو وحشية مطلقة؟

مازن عرفة: الراوي في “داريا الحكاية” يحمل جُثث المجازر في داخله، ترافقه في الذاكرة دائماً، هي “حكاية السوريّ” أينما تنقل. الجُثث برمزيتها ضاجة لا تهدأ، إلا إذا تم رواية حكاياتها للزمن. حدث هذا أيضاً في “الغابة السوداء”، حيث ستتحول في داخلنا إلى “الغابة المُنيرة”، بمجرّد أن نروي حكاية مآسينا، ونتخّف بذلك من آلامها. الهدف من رواية “الحكاية السوريّة” في “مشروعي الروائيّ” هو تحدي رموز القمع بكافة أشكاله، وتوثيق مجازره، وإنّ عن طريق الفانتازيا، حتّى لا ننسى. وسيأتي الزمن المناسب، ويحاسب التاريخ رموز القمع هذه بكافة أشكاله. ليست وظيفة الأدب التغيير السياسيّ المباشر، وإنّما هو نشر الوعي بقيم الحياة الإنسانيّة واحترام حقوق الإنسان وكرامته.