أنطون سعادة: جُرح في الزوبعة

أنطون سعادة: جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ”ألواح أوغاريت”، يرمز إلى “بلاد كنعان” أو “فينيقيا” تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من خراب لا بدّ من أن تُعيد خلق نفسها من جديد، وكأنَّ صيرورتها لن تكتمل إلا إذا انبثقت من ظلام العدم لتتجلّى في ضوء الوجود، إذ ليس مُستبعداً أن تظهر حضارة وتتدهور، ولا أن يظهر إنسان للوجود ثُمَّ يَفنى؛ لكن المُستبَعدَ أو على الأقلّ غيرَ المرجَّح أن ترجعَ حضارةٌ عظيمةٌ بائدةٌ أو أن يعود إنسانٌ إلى الحياة بعد زواله؛ لكنَّ هذا الرجوعَ أو العَوْدَ قارٌّ في أعماق الذّهنيّة الكنعانيّةِ أو الفينيقيّة القديمة. ولقد عبّرَ زينون الرواقيّ (335-264 ق.م)-المعروف عند اليونانيين في عصره بالفينيقيّ نسبةً إلى بلاده الأصليّة فينيقيا-عن دورة البَعْل تعبيراً فلسفيّاً صادماً حينما تكلّم على ما أسماه “السَّنة الكُبرى للصيرورة” حين تقوم النَّار المركزيّة التي هي علّة العالم بالحكم على موجوداته وتدميرها بعد أن تكون هذه الموجودات قد استغرقت أزمنتها؛ لكنّ هذه النّار سَرْعان ما تُعيد تكوين العالم من جديد، وتستمرُّ هذه الجدليّةُ الوجوديّةُ العظمى من التدميرِ والتَّكوين إلى ما لا نهاية له!

  وها هو أنطون سعادة حينما واجه بصدره العاري أول رصاصةٍ من رشقات بنادق قاتليه كانَ دَمُهُ يكتبُ “تحيا سوريا” مثلما كانَ دمُ الحلّاج النَّازف–وهو معلّقٌ على صليبه يرتسِمُ ليكتُبَ كلمة: “الله”. ولئن كان الفرق بين دم الحلّاج ودم سعادة أنَّ دمَ الأوَّلِ يصَّاعدُ نحو السَّماء ودمَ الثاني يغورُ في الأرض، فإنَّ الدّمَ من أجل السَّماء ينزعُ من الإنسانِ الجسدَ-الأرضَ، أمّا الدّم من أجل الأرض فهو بذرة لإعادة بعثِ مجدها الضَّائع-التَّلِيد.

لقد كانَ دمُ سعادة هذه البذرة نفسَها، وتكاد تكون من عجائب اللغات أنَّ كلمة “دَمٍ” العربيّة موجودة في اللغة الكنعانيّة-الفينيقيّة، وتُنطق وفق رسمها بالإنكليزيّة DM؛ لكنها لا تعني-كما هو الحال في العربيّة- السَّائل الأحمر الذي يجري في العُروق والشرايين، بل تعني في الفينيقيّة الموجود الإنسانيّ HUMAN BEING؛ وليس هذا فحسب بل تعني كلمة “دمت DMT ” الفينيقية المشتقة من كلمة دم DM نفسِها الأرض LAND [1].

لقد نزف سعادة دمه ليستحيل إلى إنسانٍ وأرض، أو بالأحرى ليُصبح إنساناً يحيا في أرضه التي تحيا به؛ لكنَّ هذا الإنسان الذي هو بالكنعانيّة-الفينيقيّة “دم DM” سرقه العبرانيون وحوّلوه إلى آدَم אדם =Adam، وسلبوا هذه الأرض “دمت DMT” وحوّلوها إلى “أَدَمَا אדמה =Adamah. هذا، ونجد في اللغة العربيّة كلمة آدم بمعنى الإنسان والأدَمة بمعنى الأرض، لكنَّ الفرق بين العبريّة والعربيّة هنا أنَّ الأولى قامت على انتحال اللغة الكنعانيّة –الفينيقيّة وسرقتها، أما الثانية فهي التطور الطبيعيّ-التاريخيّ لها.

جاء موقف سعادة حاسماً ونهائيّاً، فهو حينما نادى بإحياء سوريا الطبيعيّة أراد إحياء حضارة عظيمة مغمورة أو بالأحرى مطموسة تآمر عليها أعداؤها، وهذه الحضارة وفقاً لرأيه لا بدّ أن تكونُ نواتها بلاد كنعان، وهو يُعنى بمن يُسمِّيهم “السوريين الكنعانيين” الذين هم–في رأيه-أول أُناس في العالم اعتنقوا “ديناً اجتماعيّاً خصوصيّاً” أفضى إلى تحقيق “الوجدان القوميّ” الذي يقف تاريخيّاً وراء “الرابطة القوميّة المؤسَّسة على فكرة الوطن”.

قال: “إنَّ الكنعانيين من بين جميع شعوب التّاريخ القديم، كانوا أول شعب تمشّى على قاعدة محبة الوطن والارتباط الاجتماعيّ وفاقاً للوجدان القوميّ، للشُّعور بوحدة الحياة ووحدة المصير(…)[2]

والحقيقة أنه يجب الانتباه في هذا المقام إلى قضيّة جوهريّة لا بدّ من إيضاحها على نحو دقيق وهي أنَّ سعادة لم يكن مفكِّراً محدود الآفاق ليُحيي الكنعانيين من أجل أن ينكص بالتعويلِ عليهم إلى نزعة عرقيّة مغلقة تتسبب في عزل سوريا الطبيعيّة عن امتداها في العالم العربيّ؛ بل على العكس من ذلك تماماً.

قال: “إنَّ المحافظة على الرباط الوطنيّ القوميّ عند الفينيقيين ظلَّ ملازماً لهم في انتشارهم في طول البحر السوريّ وعرضه وفي المستعمرات والإمبراطوريّات التي أنشأوها (…) ومع أنَّ الفينيقيين (الكنعانيين) أنشأوا الإمبراطوريّة البحريّة، فإنَّ انتشارهم كان انتشاراً قوميّاً بإنشاء جاليات استعمارية تظلّ مرتبطة بالأرض الأم وتتضامن معها في السَّراء والضَّراء. كان انتشارهم انتشار قوم أكثر منه اتّساع دولة. وإنَّ هذا الانتشار مع بقاء الاشتراك في الحياة بالروابط الوطنيّة والدّمويّة والاجتماعيّة كان الظَّاهرة القوميّة الأولى في العالم التي إليها يعودُ الفضل في نشر المدنيّة في البحر السوريّ والتي خبَتْ نارُها من قبل أن تكتمل بما هَبَّ عليها من حملات البرابرة الإغريق والرومان.[3]

يحتاج كلام سعادة هنا إلى استقصاء معمّق لإزالة أيّ التباس في الفهم، ويمكن لنا هنا أن نؤكّد من دون مواربة أنَّ الكنعانيين عرب أقحاح وهذا أمر غير قابل للمساومة ولا المزاودة؛ لأنَّ محكّ أصل الشعوب تكشفه اللغة، والعلاقة بين أبجديّة أوغاريت واللغة العربيّة أظهر وأشهر من إقامة الدليل عليها، دعْ أنَّ تحدّر العربيّة من الأوغاريتيّة معروف ومشهور لعلماء اللغة ولا يحتاج إلى زيادة بيان. أضفْ إلى ذلك أنَّ انتشار الكنعانيين كان ابتِدَاؤه من المملكة-الأم أوغاريت التي توجد أطلالها الآن في كلّ من رأس شمرا ورأس ابن هاني في منطقٍة على ساحل البحر شمال مدينة اللاذقية تبعد عنها 12 كم. وتؤكد الدراسات الأركيولوجيّة أنَّ الإنسان السوريّ استوطن منطقة أوغاريت منذ الألف السابع قبل الميلاد واستمرت هذه المدينة بصفتها حاضرة زاهرة إلى أن دمرتها شعوب البحر نحو عام 1177 ق.م. لكن لم ينته الوجود الكنعانيّ-الفينيقيّ بل بقي موجوداً وممتداً جغرافيّاً من منطقة لواء إسكندرون في الشمال إلى غزَّة في الجنوب. زدْ على ذلك انتشار الكنعانيين في قبرص والخليج العربيّ وسواحل المغرب العربي وصولاً إلى قرطاج وقادش في إسبانيا وغير ذلك كثير. وهذا الكلام تؤيده الأدلة الآثاريّة على نحو لا يترك مجالاً للشك، فإذا كانت لغة الكنعانيين وجغرافيتهم تتساوقان مع لغة العرب وجغرافيتهم، فألا يُعدُّ هذا الأمر دليلاً قاطعاً على أنَّ إحياء سعادة لسوريا الطبيعيّة يقصد به عُمقيّاً إحياء حضارة عربيّة قديمة مطموسة. ولا يقصد به أيّ نزعة عرقيّة فينيقيّة مغلقة تقتطع أجزاءً من ساحل سوريا الطبيعيّة بدعوى أنّه فينيقيّ وتفصله عن امتداده الطبيعيّ. لم يكن سعادة من دعاة نزعة فينيقيّة مغلقة ولم يكن يفكِّر بها على الإطلاق، وهذا كلام يجب أن يُقال للإنصاف التأريخيّ. غير أنَّ الإنصاف أيضاً يقتضي القول: إنَّ سعادة كان في أعماقه عاشقاً لسوريا بالدرجة الأولى لأنه يجد فيها المخرج من أزمة سياسيّة كبرى كانت تعصف بالأمة العربيّة فهو يعطي الأولويّة للقوميّة السوريّة دون أن ينكر أبعادها الحضاريّة؛ لكن الشعور القوميّ–في رأيه-يتصل بحنين عميق إلى الأرض التي نشأ فيها الإنسان، فمهما كان المرء ذا رغبة عارمة في تكوين قوميّة مترامية الأطراف، فإنه بوصفه كائناً عاطفيّاً مكوّناً من لحم وعظم لن يشعر بالحنين إلى أي مكان أكثر من المكان الذي ولد وعاش به ودُفِن فيه أسلافه وسيظهر عليه أبناؤه.

قال: “إنَّ الوطنَ وبرّيته، حيثُ فتحَ المرءُ عينيه للنّور وورث مِزَاجَ الطبيعةِ وتعلّقت حياته بأسبابها، هما أقوى عناصر هذه الظَّاهرة النفسيّة الاجتماعيّة التي هي القوميّة.[4]”   

    لكنَّ هذه البريّة الكنعانيّة التي سُلبت من أهلها الأصليين خرجَ منها “صوتُ صارخٍ في البريّة”؛ لكنَّ هذا الصوت لم يصدح لهداية “الخراف الضَّالة من بني إسرائيل”؛ بل لطردهم من برّيّة بلاد كنعان.

قال: “اليهود قبائل متعدِّدة هاجمت سورية الجنوبية، واحتلت بعضها بعد حروب طويلة مع سكانها الكنعانيين، وقد بقي اليهود لانكماشهم على ذاتهم، خارج التفاعل الاجتماعي المولِّد للأمة السورية، شأنهم في كل مجتمع نزلوه، وقد قهرهم السوريون وطردوهم من البلاد فلذلك لا يمكن اعتبارهم أحد أصول الأمة السورية.[5]

  غير أنّه لا بدّ من الذهاب إلى أبعد في تحليل حقيقة الوجود اليهودي في بلاد كنعان، فهذا الوجود هو في حقيقته وجود روائيّ، أي وجود قائم على روايات تاريخيّة اختلقها اليهود أنفسهم، فهم شعب من دون جذور وحتى أسفار التوراة التي يُعوِّلون عليها في إثبات وجودهم التاريخي أدّى اكتشاف ألواح أوغاريت إلى إلغائها بصفتها وثيقة تاريخيّة، ولم يعد الباحثون الغربيون الموضوعيون في الدراسات الكتابيّة يُعوِّلون عليها، فكأنَّ أرض كنعان أخرجت من أعماقها ما يَكْلِمُ الكينونة اليهوديّة لينجلي زيفُها.

لقد بدأ الباحثون الغربيون يتّجهون الآن اتّجاهاً عظيماً قد يؤدي إلى تقويض أساطير اليهود على نحوٍ نهائيّ، فها هو–المأسوف على شبابه-مايكل س. هيرز Michael S. Heiser (1963-2023 م) وكان في بداياته باحثاً أمريكيّاً في العهد القديم ومؤلِّفاً مسيحيّاً خبيراً في التاريخ القديم واللغات السامية والكتاب المقدس العبري من جامعة بنسلفانيا وجامعة ويسكونسن ماديسون، قبل أن يتّجه نحو الدراسات الأوغاريتيّة التي غيّرت مسار حياته، يؤكد أنَّ اكتشاف ألواح أوغاريت كشف خفايا ديانة اليهود، ويُنبِّه إلى أنَّ اللغة العبريّة مأخوذة من اللغة الأوغاريتيّة، ويشير إلى أنَّ عبادة البعل عند بني إسرائيل-في مرحلة من مراحل تاريخهم-تعني الكثير من الدلالات، ويرفض هيزر أن يكون مصدر عقائد اليهود هو بلاد ما بين النهرين؛ بل مصدرها هو أوغاريت نفسها، ويذهب في التحليل إلى حدّ توكيده أنَّ معاهدة يهوه مع شعبه المختار–كما هي واردة في التوراة-مأخوذة من أدبيات المعاهدات الأوغاريتيّة الجارية في الحياة العاديّة! ويورد على نحو مثير للدهشة مقارنة بين نصوص معيّنة من ألواح أوغاريت ونصوص محدّدة من أسفار التوراة على النحو الآتي:

    “سِفْر دانيال 7: قديم الأيام، إله إسرائيل جالس على العرش الناري ذي العجلات [مثل إيل الأوغاريتي، فهو ذو شعر أبيض وكبير في السِنّ (“قديم”)]

 ألواح أوغاريت/دورة البعل: إيل، الإله العَليِّ المُسِنّ، هو صاحب السيادة المطلق في المجلس.

سِفْر دانيال 7: يهوه (=في ألواح أوغاريت: إيل)، القديم الأيام، يمنح المُلك لابن الإنسان الذي يركب السحاب بعد تدمير الوحش من البحر (في ألواح أوغاريت الوحش هو: يمّ).

ألواح أوغاريت/دورة البعل: يمنح إيل الملكية للإله بعل، راكب السحاب، بعد أن هزم بعل الإله يمّ في المعركة.

سِفْر دانيال 7: يعطي ابنَ الإنسان السُّلطانَ الأبديَّ على الأمم. وهو يحكم عن يمين يهوه.

ألواح أوغاريت/دورة البعل: بعل هو ملك الآلهة ووزير إيل، وحُكْمُهُ أبديّ.[6]

تكشف هذه المقارنة المدهشة التي أجراها هيرز بين التوراة وألواح أوغاريت أنَّ البعل الأوغاريتيّ قام من موته وهو حامل بيده زوبعته ليضرب بها يهوه؛ ولقد استشرف سعادة لقيام البعل وعرفَ أنَّ البعل لن يقوم إلا من سوريا؛ لذلك تلقّف سعادة هذه الزوبعة، فلم يقدر على حملها وحيداً، وواجهته وحوش واقعه التاريخيّ فكتب للسوريين من أبناء جلدته بدمه النَّازف: “إنّكم ملاقون أعظم انتصار لأعظم صبرٍ في التَّاريخ.[7]

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ

    الحواشي


[1] -PHOENICIAN-PUNIC DICTIONARY BY CHARLES R. KRAHMALKOV, UITGEVERIJ

PEETERS en DEPARTEMENT OOSTERSE STUDIES LEU VEN 2000, P.P, 33-34.

[2] أنطون سعادة، نشوء الأمم، دمشق، ط2، 1951، ص:179.

[3] -المصدر نفسه، ص: 180.

[4] -المصدر نفسه، ص: 181.

[5] -أنطون سعادة، الأعمال الكاملة، الجزء الثاني، دار سعادة للنشر، ص: 177.

[6] – Michael S. Heiser, What’s Ugaritic Got to Do with Anything? https://www-logos-com.translate.goog/ugaritic?ssi=0&_x_tr_sl=en&_x_tr_tl=ar&_x_tr_hl=ar&_x_tr_pto=sc

[7] -صدى النهضة، بيروت، العدد 132، 2/9/1946.

قراءة في فيلم “مزار الصمت” للمخرج السوري ثائر موسى

قراءة في فيلم “مزار الصمت” للمخرج السوري ثائر موسى

“تم التصوير في تونس، وذلك لأني لا أستطيع التصوير في سوريا لأسباب سياسية، مرتبطة بـ”ثورات الربيع العربي”. من المفترض أن الحدث يقع في إحدى بلدان اللجوء للسوريين، وقد اخترت أن يوحي الأمر وكأن مخيم اللاجئين موجود في الأردن، وكذلك قرية الزوج “زيدان”، الذي أدى دوره الممثل الفلسطيني محمد بكري، ولهجته قريبة من اللهجة الأردنية. جميع الممثلين والممثلات من تونس (باستثناء السوري الوحيد في طاقم التمثيل الممثل عيسى العيسى، الذي لعب دور الأخ)، وعلمناهم اللهجات المطلوبة، فكانت لهجة “أم ليلي” و”المحقق” سوريّة، أما البقية المفترض أنهم من قرية الزوج، فقد علمناهم اللهجة الأردنية، في حين كانت البطلة الرئيسية التونسية “ليلى” صامتة طوال الفيلم”.
                                                                           المخرج السوري ثائر موسى

بطاقة الفيلم

فيلم روائي طويل مدته 100 دقيقة

سيناريو وإخراج: ثائر موسى

إنتاج: شركة ميتافورا- شركة سينيتلفيلم

بطولة: محمد بكري – نور حجري

مدير التصوير: حاتم الناشي (تونسي)

مونتاج: أنس السعدي (تونسي)

موسيقى: حمزة بوشناق (تونسي)”.

تسنت لي مشاهدة فيلم “مزار الصمت” للمخرج السوري ثائر موسى، الصديق الشخصي والروحي، بفضل لفتة لطيفة منه بإرساله إلي. يتحدث الفيلم عن مقايضة بين عجوز (متزوج وله بنات ثلاث)، من أحد بلدان اللجوء السوري، وبين والدة وابنتها الصغيرة (المراهقة)، اللتين تقيمان في أحد مخيماته، هرباً من قمع “النظام الديكتاتوري السوري” إثر انفجار “ثورة الربيع العربي” فيه. وتستند المقايضة على تزويج الفتاة الصغيرة من العجوز مقابل وعد منه بإنقاذ أخيها من “المعتقل السوري”، عن طريق معارف له في سورية. الوعد، الذي كان فخاً للإيقاع بالفتاة ليلى، لم يتحقق بالطبع، التي لم تجد وسيلة لمقاومة الظلم سوى بالامتناع عن الاستسلام للعجوز وبـ”الصمت”.

أصبح “التهجير السوري” بحد ذاته تراجيديا أسطورية، بكل المآسي التي يحملها، تتجاوز فيه المشابهة مع “الأوديسة” الإغريقية إلى مشهد تراجيدي مفتوح على الأمكنة والأزمنة كلها في عالمنا الشرقي ـ العربي. هل هذا ما يرده الفيلم، أم هي انطباعاتي الشخصية عنه؟

لم يطلب ثائر أن أكتب شيئاً عن الفيلم، فأنا روائي ولست ناقداً، وبالأخص سينمائياً. لكني أمام قصيدة شاعرية بصرية مذهلة بلا حدود إلى درجة الدهشة، لم أستطع كتم التعبير عن انفعالاتي الإنسانية، وقررت أن أكتب انطباعاتي الشخصية:     

الدمعة تزور العين، عندما تشاهد اللقطة الأخيرة من فيلم “مزار الصمت”، كما زارت عين الأخ “أحمد”؛ الدمعة تختزن بكثافة أحزان القلوب في بلادنا، وكل القهر الذي نعانيه فيها منذ غابر الأزمان، ومازال حاضراً باستمرار. الحزن والقهر يلاحقنا في ذواتنا، وأحلامنا، وذكرياتنا، بحيث أصبحا متأصلين فينا جمعياً. والرجل العربي لا يذرف الدمعة إلا لقهر شديد ناله، بما يساوي قسوة موت أحباء، هو عاجز عن إنقاذهم، فيستسلم أخيراً لدمعته. تسقط الدمعة، وصدى عبارة “يللي حبسوك (يا أحمد) هم الذين قتلوها”، “نحن كلنا قتلناها” تلاحقنا بصدى قاتل بعد انتهاء الفيلم. نحن جميعاً قتلنا “ليلى”، وهذه العبارة بهذه الكثافة من القهر تختصر كامل الفيلم.

القصيدة البصرية تبدأ منذ اللقطات الأولى للفيلم، عندما تهفهف النسائم بستارة شفافة بيضاء، ووراءها يتساقط شعر فتاة، يغتسل بشلال مياه، كما المطر (هل تعرفون موسيقى المطر في بلادنا، كم هي جميلة، وكم تثير من الحزن المبهم والحنين في ذواتنا). والفتاة تسرح شعرها المبلول، كم هي جميلة في هذا؛ هي الحبيبة، الأخت، الأبنة، الأم. منذ هذه اللحظة، نعرف أننا دخلنا قصيدة بصرية شفافة، طافحة بشاعرية متفجرة، دون كلمات، وإنما بصور؛ رحلة في أسطورة تراجيدية، في حكاية صوفية، رحلة إلى الذات، أم إلى جموع ذوات، يحاصرها القهر والألم، وكلهم أنا، وكلهم نحن.

عند هذه اللحظات الأولى، أمسك قلم خيالي، وأبدأ معك كتابة قصيدة الصور، ثائر الجميل، وأرافقك مشاركاً رسم الأسطورة ـ الحكاية، بعد أن أبثها أحلامي، وذكرياتي، وحنيني، فتهمس لنا كلمات، توشوشنا، كي نتناقلها بتخاطر الأرواح، جيلاً بعد جيل. ألست أنت ثائر، الذي كسر بالصور الأزمنة والأمكنة، خارج التقاليد المجترة، فلا ندري، وقد خرجنا منها، في أي بلاد، وفي أي أزمنة، نحلق نحن. آه، نحن البلاد جميعها، التي نكتب حكايتها معاً، ونحن الأزمنة جميعها، المتراكمة في أرواحنا حنيناً مغمساً بالقهر، نتوارثه عبر الأجيال. والحكاية صور، نغوص فيها عميقاً، فنجتاز بالحنين الأمكنة والأزمنة فيها.

يلاحقنا البطلان الرئيسيان طوال الأسطورة ـ الحكاية إلى حد الاختناق شغفاً، يخترقان الكيان، ويسريان في الدماء، ويتغلغلان في الذاكرة. يوجعاننا بكاء، يتفجر في سفر الحنين إلى شيء، يكاد يكون مبهماً غامضاً في لاوعينا. وسرعان ما ينتزعاننا، هذان البطلان، من اختناقاتنا المكبوتة، لنكتشف كم كنا محرومين من معنى حياتنا. والمعنى في داخلنا، ينتظر شرارة صغيرة تفجره. هذان البطلان الرئيسيان، اللذان يسحراننا شغفاً، فنصبح ممسوسين بهما، هما “الموسيقى” و”المكان”، وبهما تنتظم الحكاية.

مع سير الحكاية، نكتشف شيئاً لاوعياً يرافقنا طوال الوقت، هو “الموسيقى” الخفية، القادمة من ذاكرة أسطورية مختزنة في ذاكرتنا الجمعية، موسيقى شبه بدائية تنبع من دواخلنا، من معابد أسطورية قديمة، كنا نعيش فيها روحانيتنا المفقودة، ونحن نشم رائحة البخور في الظلال. وها هي تشتعل، فتتلون بها صور المكان والأشخاص والأحداث، وتجعلها أنشودة تسمو بنا. الموسيقى هي التي تشعل فينا هذا الحنين الغامض، بحيث تطغى على الكلمات، وكلمات الأشخاص تبقى مجرد إيقاع خفيف خفي لصدى وجودهم الشبحي. تغدو الموسيقى تراتيل صوفية، ترفع الحدث الواقعي اليومي إلى مستوى أسطورة تراجيدية، تتجاوز إغريقيتها، نحو أصول شرقية غارقة أكثر في أزمان غابرة. شخصياً، انتهيت من مشاهدة الفيلم، دون أن استطيع انتزاع الموسيقى من روحي، أصبحت نبضاً أتنفسه. أجلس أكتب نصي هذا في الصمت حولي، ما عداها، ترافقني، وتسافر بي إلى حلم جميل، يراودني حنيناً إلى “المكان”.

نعم إلى “المكان”… والمفترض أن الشرارة التي أشعلت المكان هي “المعتقل السوري”، و”مخيم اللاجئين”، ولهما دلالتهما الرمزية المهمة، رغم عدم الرجوع إليهما طوال الحكاية، فيبدوان عابرين للوهلة الأولى. إلا أنهما يطغيان حقيقة على الأحداث كلها تالياً، يرميان بظلالها عليها طول الوقت، وبهما يتوطن مكان الأسطورة ـ الحكاية، وبهما تنفتح دلالتها. ومن هذين المكانين المحددين، ننطلق إلى عالم سحري (نهار/ ليل)، يفضي إلى أسطورية، تتجاوز تراجيديات بلاد الإغريق، لتحلق في عالم صوفي شرقي، يقودنا إلى “الحقيقة المطلقة”، العصية الفهم إلا على المسافرين إليها بأرواحهم. وهذه الحقيقة هنا ليست هنا إله الصوفيين، وإنما حقيقة سحر حكاية الفيلم، الذي تمضي أحداثه صوفياً، ولن نستطيع كمشاهد إلا السير بها روحياً، وإلا لن تتكتشف لك أسراره.

“نهار المكان” هو حكائي، أقرب إلى الأسطوري، بغض النظر عن وجود “المعتقل السوري” و”مخيم المهجرين السوريين” كواقع معاصر في بداية الفيلم. ما هما إلا مكانين عابرين، رغم ملاحقة رمزيتهما لنا طوال الحكاية، كمصباح خافت بعيد ينير ببصيصه دربنا الذي نشقه فيها. هذا “النهار” هو عالم يخترق اللامكان واللازمان إلى كل الأزمنة والأمكنة المتخيلة في شرقنا القديم المقهور، وما السيارة، في لقطة عابرة، إلا أداة انتقال من “العالم الواقعي” إلى “عالم الأسطورة الصوفية”.

في السيارة تتكشف أكثر حبكة الحكاية باتصال هاتفي مخادع من العجوز الذي يستولي على فتاة صغيرة من مخيم للمهجرين، مازالت تعابير وجهها توحي ببراءة الطفولة، بعقد زواج صوري، مقابل وعد بإنقاذ أخيها من جحيم “المعتقل السوري”. البنت قبلت أن تفدي نفسها لدى عجوز متزوج، مقابل “وعد” بإنقاذ أخيها من “المعتقل”. ومع النزول من السيارة، يختفي كل ما يدل على الواقع الحقيقي، الذي يغدو بعيداً؛ “المعتقل”، و”المخيم”، و”السيارة” و”الهاتف المحمول بالوعد الكاذب” (ماعدا الضحية ـ الغنيمة). يختفي الواقع نهائياً، ويصبح الزمان ـ المكان أسطورياً بالكامل، ليس فيه أي بصمة حضارية معاصرة ترتبط بعالمنا، يصبحان زمناً ومكاناً مطلقين، يمسنا نحن السوريين بالذات (وربما جميع أبناء منطقتنا، الذين عاشوا ومازالوا يعيشون نفس قهرنا وآلامنا).

“نهار شرقي”، يغمر المَشاهد جميعها بضياء الشمس. أراض مشمسة تهفو إليها أحلام الأوروبيين الرومانسية، لكنها جرداء لنا، إنما متغلغلة في أرواحنا. ورغم جفافها، فنحن نعرف جمالياتها السرية، وهو ما ستكشف سحره الكاميرة المبدعة “جماليات للمكان”، الذي يبقى طفلاً في أرواحنا، رغم تقدمنا في العمر.

نباتات الصبار الشوكية هي أول ما تطالعنا (هل أرواحنا جافة مثلها؟). وفي لقطة ذكية جمالية معبرة برمزيتها، نكتشف من ورائها بلدة قديمة بمنازلها، مترامية على تلة جرداء، حيث يسكن العجوز. الصبار هو نبات المناطق الجرداء، المحرومة من المطر إلا نادراً، وهو يزين مشاهد المكان النهاري باستمرار. ثم تتابع مشاهد البيوت الطينية القديمة، بباحاتها البسيطة وبواباتها العتيقة، الأدراج الحجرية (دروب إلى معابد قديمة ما مندثرة، مختفية في المكان)، الحارات والأزقة المتربة، والملتوية صعوداً. لا أشجار، لا نباتات مزروعة، لا ورود، لا أخضر، لا ألوان سوى البني المترب، الذي كنست الرياح الغبار عنه، فأصبح أكثر جفافاً. فقط امتداد المكان الأجرد شبه الصحراوي، في أزمنة قديمة، يختفي فيه أي مظهر من مظاهر الحياة الحديثة. مكان هو امتداد للنفوس المتعبة، التي يختفي منها الفرح والأمل، مجرد أشباح تتحرك، بوجوه شاحبة، تبدو النساء فيه شبه عاقرات.

يترافق مع هذه الأجواء المكانية الكئيبة الجرداء استقبال عائلة العجوز للعروس الشابة بشكل عدائي؛ الوجوه عدائية بصمتها، الأجساد عدائية بلامبالاتها. لكن الزوجة العجوز المغدورة، التي يعيرها زوجها بأنها لا تنجب له إلا البنات، ويتعلل أمامها بأنه مضطر للزواج من فتاة صغيرة من أجل صبي، تنفجر في وجهه. بينما تبقى الابنتان الشابتان، وإحداهن متزوجة، صامتتين، كتمثالي حجر. هكذا، تصل العروس الفتية، فلا تجد استقبالاً، لا حفل فرح، لا جيراناً، تنتظرها فقط غرفة عتيقة كقبر، وحياة راكدة، فهي غنيمة، سبي، تم شراؤها من سوق المُهجرات لمتعة عجوز.

لكن المشاهد المتربة، الكامدة، الكئيبة، في نهار المكان وفي أرواح ساكنيه، تخبئ حياة كامنة سرية صامتة، تريد أن تنفجر بقدوم ليلى؛ البيت الريفي، بغرفه وأثاثه البسيط، وباحته الجرداء، وأبوابه العتيقة، يبدو مثل قبر. مع مجيئها، تداعب النسيمات المشاهد من وراء الستائر الشفافة، ومعها الغسيل المنشور على الحبال، كما في حلم، يؤطر ماكينة الخياطة (النول الأبدي الذي ينقذ المرأة من وحدتها، ولا يتقن الرجل العمل به). يريد هذا المكان النهاري أن يمتلئ بانفجار الحياة بقدوم ليلى، بضجيج شبق صاخب، لكنه يبقى خامداً بصمتها العميق، الذي تتخذه “ملاذاً”. الصمت يسود المكان بغياب صوتها، يلفه، يخنقه، الصمت الذي ينال من جبروت العجوز ـ المستبد الشرقي البطريركي. الصمت يتحدى صلابة الرجال والحجارة، يطحنهما معاً.

لكن صمت “المكان النهاري”، المترب الكئيب، ينقلب ليلاً إلى صمت سحري مذهل، وشاعرية صوفية أخاذة، بكاميرة ذكية. تتلاعب في لقطاتها وتراقص شعلات الشموع، وأضواء الفوانيس والقناديل، مع ظلال عتمة شفافة، قادمة من صفاء روحي عميق، من سفر أحلام. القناديل تنتشر في كوى الغرف الطينية، والفوانيس هي دليل السائرين في عتمة الحارات الليلية، أما الشموع، فتتكثف بطريقة سحرية في مرقد الولي، الذي يتم عبره الولوج إلى قلب عالم صوفي. ليل حلم كأنه ينبثق من هدأة الروح وشفافيتها، لا علاقة له بنهارات مشمسة بحيادية ساطعة، دون أي ظلال حالمة، أو حتى أي ظلال.

في هذا الليل الأسطوري ـ الصوفي الحالم تعود بنا ليلى، الزوجة الصبية الفتية، إلى عالم “الأوديسة” الإغريقي. يذكرنا رفضها لنوم العجوز معها بامتناع الملكة بينلوبي في “الأوديسة” عن طلب الخُطاب لزواجها طمعاً بالمُلك. تنتظر زوجها أوديسيوس الغائب، التائه في البحار، بعد انتهاء مشاركته في “حرب طروادة”؛ تنتظر عودته، كي ينتقم لها منهم. تتعلل أمام الخطاب بأنها تريد إنهاء حياكة بساط على نولها، وبعد ذلك ستتخذ قرارها باختيار أحدهم زوجاً ـ ملكاً. لكن بينلوبي تحل ليلاً خيوط ما تحيكه نهاراً، كي تمرر الوقت، واثقة من عودة زوجها لينقذها.

تتمنع ليلى أيضاً ـ مثل بينلوبي ـ على زوجها العجوز، فتمضي ليلها في حياكة ثوب أبيض على ماكينة خياطة قديمة، بانتظار عودة أخيها أحمد لينقذها، فيما العجوز ينتظر وينتظر في الفراش دون جدوى. الثوب يطول ويطول، ويمتد منفرشاً على الأرض، ولا ينتهي. وأحمد غائب، مثل أوديسيوس، يتأخر في الحضور. يلاقي تعذيباً وحشياً في غياهب “المعتقلات السورية”، بعد أن اختار درب الحرية، بما يعادل الأهوال التي لاقاها أوديسيوس في حرب طروادة. وكان على الإثنين أن يعودا؛ أوديسيوس لإنقاذ زوجته بينلوبي التي تتمنع على الخاطبين، بعد غياب طويل في الحرب امتد سنيناً طويلة، وأحمد لإنقاذ أخته ليلى، التي تتمنع على العجوز، وغاب في المعتقل ثلاث سنوات طويلة، بدت دون نهاية. لكن أوديسيوس تاه في البحار عشر سنوات، وتاه أحمد في صحرائه، وهو يحاول اجتياز الحدود (على الأغلب السورية ـ الأردنية، أو اللبنانية أو التركية، لا يهم)، مخاطراً بحياته للوصول إلى “مخيم المهجرين”، حيث والدته وأخته المفترض وجودها هناك، ليكتشف فجأة تضحيتها العبثية لأجله.

تهرب ليلى من المنزل كل ليلة إلى مرقد ولي البلدة المقدس، فعبثية خياطة الثوب لم تعد تكفي لمماطلة زوجها، الذي ينتظرها في الفراش. وفي هروبها اليومي ينير دربها نور الفانوس، الذي يقودها إلى حقيقة روحية (في المرقد أم في داخلها؟). تبدع الكاميرة بتصوير الصمت السحري في المرقد، بشاعرية الإضاءة الشفافة، التي تنشرها شمعات تتراقص ألسنة لهبها فتنشر فيه دفئاً روحياً عميقاً. هنا، تكتسب ليلى قوى روحية من قداسة المكان؛ قداسة مختزنة منذ أزمنة قديمة، عمق الحكاية المزروعة فيه. وبالأحرى، سيفجر فيها المكان طاقاتها الروحية الحبيسة، طاقة “الإلهة الأم” من عصر الأمومة، التي تمنح الفرح والخصب والحياة لكل ما حولها. تتحدى بهما سلطة “الإله التوحيدي” القمعي، الذي يتحدث باسمه كل مستبد بطريركي؛ بدءاً من الديكتاتور الذي سجن أخاها في “المعتقل”، مع آلاف من أمثاله الساعين إلى “الحرية”، وصولاً إلى تفريخاته بصورة العجوز، الذي اشتراها سبية. وأداة تحديها المستمر هو صمت الأنثى المرعب، الذي يهزم الرجل البطريركي.

القوى الروحية المتفجرة فيها تجعلها قادرة على تسكين الأطفال الرضع، فيهدؤون، ويتوقفون عن الصراخ، والنسوة العاقرات يتباركن بها، فيحملن بعد طول انتظار. تمنح الجميع البركة وشعاع ابتسامة يشع من وجهها. أليست هي “الإلهة ـ الأم”، التي تمنح الحياة؟

في لحظة حمل زوجة طال انتظاره، يقوم الزوج بممارسة طقوس شكر باسمها ليلى “الإلهة ـ الأم”، وليس باسم الإله التوحيدي. في لحظة تلقيه الخبر، يرتل اسمها أنشودة صلاة، وهو يحتفل راقصاً في الهواء الطلق بإطلاق النار في الهواء، مقدماً لها أضحية خيالية دون دماء، بعكس ما يعشقه الإله التوحيدي الذكر وأتباعه الدمويون.

 تصبح ليلى مدعوة إلى كل المناسبات الاجتماعية في البلدة، لأن وجودها يمنح الخير والبركة، وتضج الحياة بوجودها، وهي تمنح ابتسامتها للناس البسطاء، لكن ليس لزوجها العجوز. الابتسامة له تعادل منح جسدها، وهي لن تمنحه إياه أبداً. ولأول مرة نشاهد عرساً باحتفالية فرح، الناس يرقصون ويبتسمون، وليلى بينهم مبتسمة، وجودها أشعل الحياة في البلدة. وعندما يحضر شيخ البلدة التقي إلى العرس، تتراكض الفتيات لتقبيل يده تبركاً به، وليلى بينهم، فيمنعها عن ذلك. ثم يلثمها بأبوية في جبينها اعترافاً بقداستها، وهي القبلة الوحيدة التي لم يمنحها لأي امرأة في حياته من قبل.

“الراوي” في التراجيديا الإغريقية هو من ينشد الحكاية بطريقة خطابية، أثناء عرض المسرحية، كي يتطهر المشاهدون من آلامهم وأحزانهم، وهو ما يتناسب مع عقلانية الإغريق. لكن في مجتمع شرقي لا مكان لراوٍ مسرحي عقلاني، وإنما راو ينبع من حميمية المكان وأصالته الشاعرية، من الحزن المختزن فيه. يغدو الراوي هنا عازف الربابة، يروي الحكاية بعزفه المستمر كل ليلة، ونلمحه فقط خيالاً شاعرياً مثل حلم، من وراء ستارة نافذة مضاءة، وكلماته هي موسيقى ربابته. لا نسمع صوت آلته الموسيقية، وإنما صوت موسيقى الفيلم، وبها ينظم إيقاع الحكاية. بل هو أشبه براو شهرزادي ليليّ، يروي حكاية ليلى كل ليلة، وهو موجود فقط لأجلها. يرويها لأهل البلدة، كي تتطهر أرواحهم بها، وللزمن، كي توثقها ذاكرة الأمسيات للأجيال القادمة؛ صرخة حرية عالية بـ”الصمت المتحدي”؛ “الملاذ”. وليلى هي التي تحضر له العشاء اليومي، تضعه أمام باب بيته، كي يستمر بموسيقاه التي تنظم بها الحكاية.  

وليلى لا تستسلم للعجوز، لا باللين، ولا بالعنف. تتقوى بصمتها، الذي يلازمها طوال الفيلم. هو التحدي، تقاوم به الجلاد، الذي اعتقل أخاها، والعجوز البطريركي المخادع الكاذب. صمتها شبيه بصمت بينلوبي، وهي تحيك بساطها، تطيلان أمد الحكاية بانتظار عودة الغائب. وعندما يقرر العجوز المستبد السيطرة على ليلى بالعنف (كما حاول الديكتاتور مع المنادين بالحرية)، فيرمي من يديها عشاء الراوي ـ المغني، ويمنعها من الخروج من المنزل، كي تتوقف حكايتها الشهرزادية، بالخضوع له، والمضي إلى فراشه البطريركي، نفهم عندئذٍ أن المواجهة قد وصلت إلى الذروة.

لن تستسلم ليلى، رغم قدوم والدتها من المخيم لزيارتها، التي تنقل لها تهديدات العجوز بلطف ولين… العاصفة الغبارية بغضبها الشديد في البلدة تأخذ رمزيتها أيضاً داخل ليلى. الطبيعة تعلن غضبها، كما ليلى. خرج المارد من قمقمه، ولن يعود إليه، فتُصَّعد ليلى المواجهة، ليس بالصمت الذي لم يعد يُجدي، وإنما بتقديم نفسها، في لحظة قدسية، أضحية عشتارية في وجه كل الظالمين؛ أضحية كي تنقذ أخاها أحمد من غياهب “المعتقل”، كما تنقذ الإلهة عشتار حبيبها الإله تموز من ظلمات العالم السفلي. يتحرر الإله تموز من ظلماته في العالم السفلي، حيث كان محتجزاً، فيمارس طقوس الخصب  مع عشتار من جديد، ليظهر الخير مع ربيع الحياة (كما مع ثورات الربيع العربي، التي كان من المفترض أن تجابه استبداد الخريف العربي).

هكذا، تقدم ليلى نفسها أضحية على مذبح حرية أخيها، لقمع جلاده، وجلادها العجوز. تمضي إلى موتها راضية تحت شجرة الزيتون، رمز التجذر في الأرض والذاكرة والحكاية، وتهطل الأمطار غزيرة مدرارة على البلدة، كما لم تهطل من زمن بعيد. تغتسل الأرض الجرداء الكئيبة العطشى من أحزانها وقهرها بالمطر، كي تتجدد زيتوناً واخصراراً. ويخرج أحمد من “المعتقل”، يجتاز صحراء الحدود الخطرة، التي يترصد فيها له الموت في كل خطوة، كما كان يترصد لأوديسيوس في بحار عودته، وينجوان. تنجح تضحية ليلى بنفسها ورمزيتها على مستوى الوطن بإنقاذ أخيها أحمد. “الحرية” تحتاج إلى التضحية، كي نتحرر من الظلم. ومع تضحية ليلى، “موتها”، يختفي الراوي وربابته. انتهت أسطورة ليلى التراجيدية.

لكن الأسطورة تحتاج إلى نهاية، عندما يفرج الجلاد عن أحمد من “المعتقل الدموي”، كي تبقى حكاية محفورة في جدار الذاكرة، تتحدى الزمن. يعود باحثاً عن أخته، وعن أحلام الطفولة الشفافة المفتقدة، في زمن كانا يعيشان فيه بحرية. وعندما أراد الانتقام من العجوز الجلاد، يعرف أن “من حبسوك هم الذين قتلوها”، و”نحن جميعاً قتلناها”. يقرر أن ينتقم على طريقته، بأن يرسم الحكاية على جدار الزمن للذاكرة والتاريخ، حكاية طفولته مع أخته، حكاية جيل، وأجيال ناضلت طويلاً من أجل الحرية ولازالت.

ينتهي الفيلم، وتلاحقنا الموسيقى والمكان، قصيدة بصرية مذهلة. وستذرف دمعة مع أحمد، إذا شاهدته بشفافية روحك.

كل منا يكتب “الحكاية السورية” بأصالتها وتوقها للحرية بطريقته، بعيداً عن سلطة “البوط العسكري” و”السيف الإسلامي”. نحن نهزمهم بحكايتنا التي ستوثق نضالات سلمية طويلة من أجل الحرية. أحمد يكتبها بذكريات حريته رسوماً على جدار الزمن، وثائر موسى المبدع يكتبها بفيلمه “مزار الصمت” (وأنا أحاول أن أكتبها بمشروعي الروائي).

الحكاية السورية هي حكاية “ربيع عربي” يتوق إلى “الحرية”، وثائر موسى أبدعها قصيدة بصرية خالدة، للذاكرة وللمستقبل، قصيدة أعادت المعنى لإنسانيتنا المهدورة، قصيدة أعادت للسينما السورية ألقاً شاعرياً، اختفى تحت سطوة “الديكتاتور” و”شبيحته” الذين يتزيون بالثقافة شهادة تزوير للتاريخ.

كم من الإسقاطات السياسية للفيلم على “الربيع السوري” و”الربيع العربي”، وعلى كل “ربيع قادم”. والأهم كم من الإسقاطات الإنسانية عن كرامتنا المهدورة. هو حكاية الإنسان الثائر الباحث عن الحرية ضد “الديكتاتور ومعتقله”، وضد كل “الاستبداد الشرقي” الذي مازال متشبعاً في ذواتنا المتعجرفة. الفيلم هو حكاية “المرأة الرمز عشتار”، التي ضحت بنفسها في “المعتقلات”، وفي “مخيمات التهجير”، وفي “المنافي”، كي تعيش فكرة الحرية.  

ثائر شاعر متألق بقصيدته البصرية “مزار الصمت”. وهذا الفيلم لن تستطيع مشاهدته إلا بروح شفافة، وترغب بالعودة إليه مراراً وتكراراً… ثائر هو ثائر، صدى التوق في ذواتنا إلى حكايتنا، إلى حريتنا.

عن الطغاة والحبر

عن الطغاة والحبر

شهد الكاتب هرمان هسّه، الحائز على نوبل 1946، الحربين العالميّتين الأولى(1914-1918) والثانية(1939-1945) وناهضهما بشدّة، كمناهضته للحروب عامّة. في مقال بعنوان “الحرب والسلام”، كتبه سنة 1918، يقول:” إنّهم على حقّ وبلا أدنى شكّ أولئك الذين يصفون الحرب بأنّها حالة بدائيّة وطبيعيّة. ولطالما يتصرّف الإنسان مثل الحيوان فإنّه يعيش الصراعات دوماً. والسّلام أمر يصعب تعريفه ونحن لا نعرفه، إنّما بإمكاننا الإحساس به والبحث عنه، هو مثلٌ أعلى إنّما شديد التعقيد، لا استقرار له وجميعنا يعرف القاعدة الجوهريّة:” لا تقتل!”.”لا تقتل” لا تعني ألّا تؤذي غيرك! بل ألّا تحرم نفسك من الآخر كي لا تؤذي نفسك.”لا تقتل” تكاد تعني “لا تتنفّس!” ويرى هسّه أنّ الخوف لا يعلّم البشر، ولطالما يجدون في الحرب متعة فلن يأبهوا بذكريات الخراب والدمار، أو يرتدعوا عن إشعالها باستمرار.

 لكنّ هسّه بدا أكثر تفاؤلاً في مقال آخر كتبه 1948، بعنوان “عن رومان رولان”، المفكّر الثوري والأديب الفرنسيّ الحائز على نوبل 1915، بيّن فيه إمكانيّة تحقيق السلام انطلاقاً من إيمانه بالمعرفة؛ معرفة الداخل الإنساني وتلمّس الطاقة النورانيّة الكامنة فيه. وبوجود كثير من المؤمنين الصادقين خارج الكنائس والطوائف يرعبهم انحطاط الروح الإنسانيّة وتغييبها للسلام وزعزعة الثقة في العالم، من بينهم رومان رولان، وليو تولستوي أستاذ هذا الأخير، والمهاتما غاندي الذي خصّه رولان بأحد مؤلّفاته. يقول هسّه:” مات الثلاثة العظام لكنّهم ما يزالون أحياء في قلوب الآلاف، يؤازرونهم لصون إيمانهم ورفع مشاعلهم لتنوير هذا العالم البليد والفاقد للعقل.”

وإذاً، لا أمل في تحقيق سلام مستقرّ إطلاقاً، لتتأبّد صرخة كازينتزاكس التشاؤميّة:” لا جدوى يا يسوع، لا جدوى.” خاتمة روايته شبه الملحميّة “المسيح يصلب من جديد”، وتحكي إلى جانب آلام المسيح خلال صلبه، عن صراع البشر التاريخيّ لخلق حياة إنسانيّة أرقى. إنّما عبثاً! صدرت الرواية سنة نشوب الحرب العالميّة الثانية، وبعد عامين من صدور رواية إيريش ماريّا ريمارك “لا جديد على الجبهة الغربيّة.” وعندها أتوقّف قليلاً لأسباب أدرجها فيما يأتي.

يعدّ النقد “لا جديد على الجبهة الغربيّة” من أفضل الروايات التي تناولت موضوع الحرب، إن لم تكن أفضلها. صدرت عن دار أثر/الدمّام 2020، في نسخة جديدة، وللمرّة الأوّلى في ترجمة مباشرة من الألمانيّة إلى العربيّة، أنجزتها المترجمة ليندا حسين.  

تحكي الرواية عن الإنسان وتحديداً عن الجنديّ في خوضه الحرب العالميّة الثانية. سبعة جنود/شخصيّات الرواية الرئيسين، زملاء صفّ مدرسيّ واحد في سنّ الثامنة عشرة. يجدون أنفسهم بغتة بعيداً عن الأهل والديار غرباء على الجبهة الغربيّة؛ مكان هو مسكن للموت المتربّص بهم كوحش جائع، للحمّى، للهذيان والجنون! وفيه سيكتشفون العالم وأنفسهم؛ حقيقة قيمهم وأخلاقهم؛ أفكارهم وقناعاتهم، إزاء خيارين وحسب، أن يكونوا قتلة أو مقتولين في حرب لا تخصّهم بشيء، حرب غير شرعيّة ولا أخلاقيّة هدف قادتها الوحيد توسيع نفوذهم وأطماعهم الاستعماريّة. فإقرار الحروب تتفرّد به الحكومات والسلطات السياسيّة، فلم يحدث في التاريخ أن شنّ شعب حرباً على شعب آخر، والشعوب هم وقود الحرب وضحاياها. تلك حقيقة موجعة واجهها الأصدقاء، ليتعاطف الراوي الجندي بول بويمر مع جنديّ فرنسيّ عدوّ مصاب، ويحاول إنقاذه.

عند استشهاد أوّل الزملاء، يطرح الجندي بويمر السؤال العبثيّ المؤلم: “الآن يرقد هنا، لأجل ماذا؟” سؤال يصعب حدّ الاستحالة أن يطرحه جنود يخوضون حرباً شرعيّة أخلاقيّة وواجبة وطنيّاً تقرّرها الشعوب بنفسها لطرد الاحتلال من أراضيهم. شاسع هو الفرق بين حرب استعماريّة، وبين حرب شعب يقاوم الاستعمار لتحرير بلاده، وصون ذاكرته ولغته وهويّته الموحّدة، كحرب غزّة ضدّ الكيان الصهيونيّ الغاصب.

في رواية ريمارك، تباغت الجنود الزملاء اكتشافاتهم المريرة: نفاق العالم وانحرافه بمؤسّساته المختلفة؛ التربويّة والتعليميّة، العسكريّة والدينيّة! فما الذي تغيّر في العالم حتّى اليوم؟ لا شيء! تكفي حال البلدان العربيّة في حروبها الراهنة شواهد لاستفحال النفاق والفساد والاستبداد وقتل حتّى المشاعر الوطنيّة، إضافة إلى توحّش هذا العالم “الفاقد لعقله” الذي تديره وتقرّر مصيره المصالح الخاصّة لثلّة من دول العالم “المتحضّر” الاستعماريّة أصلاً، تتسيّدها أمريكا! ومن بين فضائل المقاومة الغزّاويّة الفلسطينيّة الباسلة تعريتها للكيان الصهيونيّ الهشّ واللّا أخلاقيّ، وفضحها للعالم الرسميّ وضميره الميت، وللموقف العربيّ الذليل! حقّاً، يستحضر الغزاة حكّاماً عبيداً لهم، طغاة على شعوبهم. فتحالفهم حتميّ لضمان استقرارهم معاً!

في عودة للرواية، قتلت الحرب جسد الراوي بويمر، في حين قتلت روح الروائيّ ريمارك الذي خاضها بدوره. وسيثير كلاهما غضب هتلر والنازيّين، فتُحرق الرواية وكتب أخرى لريمارك، تُسحب منه الجنسية، وبدمغة خائن للوطن يُنفى إلى الخارج! وأدى تصاعد حدة التطرّف النازيّ إلى منعه من العودة إلى وطنه، ليموت في منفاه. ويجنّ جنون النازيّين لعرض أوّل فيلم مأخوذ عن الرواية ذاتها في ألمانيا، لدرجة أنّهم خلال العرض أثاروا الصخب فوق رؤوس المشاهدين، وأطلقوا الفئران بين أقدامهم! هترليّون نازيّون متعطّشون لخوض حرب عالميّة ثانية انتقاماً لهزيمتهم في الحرب الأولى، فيُهزمون مجدّداً؛ دُمّرت ألمانيا وانتحر هتلر!

ألا يذكّر هتلر بجنون عظمته وإجرامه وسعيه لإبادة من ليسوا ألماناً، بالمجرم نتنياهو المؤمن بتشريع الدين الصهيونيّ العنصريّ لاستعباد من ليسوا يهودا/”الغوييم” وإبادتهم؟! ألا يتطابق موقف هتلر المتنصّل من معاهدة فرساي 1919، التي شاركت ألمانيا في انعقادها، وأشعل شرارة الحرب العالميّة الثانية بغية تحقيق النصر انتقاماً لهزيمة بلاده في الحرب الأولى، مع موقف نتنياهو الناكر لاتفاق “أوسلو”-غير العادل أصلاً بحقّ الشعب الفلسطينيّ وخرقه لقوانين الحرب الدوليّة، ليمعن وما يزال في ارتكاب مجازره المروّعة انتقاماً لهزائمه المتلاحقة؟ يعجزه صمود المقاومة المدهش، صاحبة الأرض الشرعيّة، وقد عرّته أمام العالم: فنتنياهو ليس مقاتلاً، إنّما مجرّد قاتل متوحّش! ثمّ ألا يماثل نتنياهو هتلر بمحاولات طمسه لكلّ ما يصدر من نقل للوقائع والحقيقة، سواء صدر عن المقاومة أو عن أبناء جلدته، ولهؤلاء قانون لعقوبتهم؟ وقد بلغ الكذب والتزييف والتزوير لديه مبلغاً عالي الصفاقة، كأسلافه الصهاينة، بدءاً من تزوير التاريخ وليس انتهاء بآخر كمين أوقعت وستوقع فيه المقاومة جنوده! وما يزال يلزمهم من الأكاذيب والتزوير زنة ثلاثة آلاف عام من عمر وجود الشعب الفلسطيني على أرض كنعان العربيّة، الاسم الذي رافقها حتّى سنة 1200ق.م، مع غزو القبائل الكريتيّة لها، فسمّيت فلسطين وبقيت للفلسطينيّين وحدهم.

أليست الصهيونيّة الوجه الآخر للنازيّة؟ وفي الأحوال كلّها، الطاغية هو الطاغية!

ورجوعاً للرواية، وفيها نلقى اختلاف حول مآل معنى الكتابة وجدواها، في حالات الإحباط، فقد باتت تمثّل لبويمر اليائس خلاصاً شخصيّاً وفرديّاً. أمّا لدى ريمارك فإلى جانب أهمّيّتها على الصعيد الشخصيّ، فلها هدفها الأخطر على الصعيد العام، وضمّن روايته صرخته الإنسانيّة لشجب الحروب وإيقافها، وتحقيق حياة إنسانيّة عادلة وكريمة هي حقّ شعوب الأرض قاطبة. صرخة ساهمت في شهرة الرواية الواسعة.

لا شكّ تبقى الكلمة سلاح المثقّف الأوحد لمحاربة الظلم والطغيان، وتجفيف الحبر محال كتجفيف البحر. حتى وإن دفع مثلاً غزو الصهاينة لبيروت وحصارها 1982 بخليل حاوي للانتحار، ولشلل الكتابة لدى محمود درويش لأربع سنوات. لكنّ درويش تجاوز إحباطه، ففي سنة 1985، أجاب على سؤال أحد محاوريه عن دور الشاعر الفلسطينيّ في ظلّ غياب الأمل المطبق، قائلاً:” أن تكون شاعراً فلسطينيّاً، في هذه اللحظة، معناه أن تحوّل تساؤل هاملت إلى حسم، فبدلاً من القول:” أن تكون أو لا تكون عليك أن تقول:” أن تكون أو تكون: هذا هو القرار.”

إذاً، حين تعجز الكلمة وتسكت على السلاح أن ينطق. فلا حياة إنسانيّة حقيقيّة في أرض محتلّة!

ومجدّداً، وبحزم أشدّ اتخذت المقاومة الفلسطينيّة اليوم “القرار”.

زكي الأرسوزي أو أمل ضائع بأُمّة تنبعث من عبقريّة لسانها

زكي الأرسوزي أو أمل ضائع بأُمّة تنبعث من عبقريّة لسانها

تعرّض زكي الأرسوزي (1899-1968 م) لإهمال كبير، ولم يُكَرَّس في الأدبيات الفلسفيّة العربيّة إلا على نحوٍ عَرَضيّ، بصفته أحد دعاة الفكر القوميّ، ومؤسِّس فكرة حزب البعث العربيّ، التي أخذها ميشيل عفلق منه وحوّلها إلى تنظيم سياسيّ فاعل في سوريا، وتلاشى ذكر الأرسوزي مع تلاشي الآمال الضائعة للإيديولوجيات الدّاعية إلى قيام وحدة قوميّة بين العرب، وطُمِسَ بذلك فكر إنسان ممتاز، وأُهملت رؤيته التي تؤلِّف نظرة إبداعيّة عميقة في ماهيّة اللغة، تحديداً اللغة العربيّة، علاوة على ما عاناه في حياته من تجارب وجوديّة عنيفة واضطراب وجدانيّ وفقر وحرمان وعُزلة بسبب مواقفه السياسيّة، فضاعت شخصيّة الأرسوزيّ الحقيقيّة بين صراع السياسيين البعثيين على السُّلطة، وخضعَ لاستقطاباتهم وتنافراتهم ثم غُيِّبَت على نحوٍ نهائيّ جهود الأرسوزي لمواجهة الاحتلال العثمانيّ-التركيّ والاستعمار الأوروبيّ.

لكنَّ المهمَّ هنا ليس قراءة الأرسوزي قراءة إيديولوجيّة أو سياسيّة مُسْتَهلكة؛ بل الكشف عن العناصر الأصيلة في رؤيته الفلسفيّة للعالم، أو بالأحرى إظهار شخصيّة الأرسوزيّ الحقيقيّة التي احتجبت وراء غبار لعنة شهوة السيطرة على الحُكم.

لقد انصّبت عناية الأرسوزيّ على كشف ماهيّة اللغة العربيّة، ويمكن تصنيفه بصفته مؤسِّس تيار فلسفة اللغة في الثقافة العربيّة المعاصرة، غير أنَّ حقل الدراسات اللغويّة الذي أسّس له الأرسوزيّ بقي مجهولاً، علماً أنَّ الدراسات التي قدّمها فلاسفة اللغة الغربيّون، أصبحت مركز اهتمام الثقافة الغربيّة، بل العربيّة أيضاً، بدءاً من أواخر القرن الماضي، وصولاً إلى يوم النّاس هذا. إذ نجد حضوراً كبيراً بين أوساط المثقفين، ترجمةً وتأليفاً، لنصوص منقولة أو مستوحاة من جورج إدوارد مور (1873-1958م) أو برتراند رسل (1872-1970 م) أو لودفيغ فيتغنشتاين (1889-1951 م) وغيرهم. علاوة على ظهور دراسات عربيّة كثيرة محكومة بالنزعة البنيويّة التي أسس لها فرديناد دي سوسير (1857-1913)؛ وفي المقابل لا نكاد نجد للأرسوزي ذِكْرَاً بصفته فيلسوفاً عربيّاً معاصراً عُني عناية حقيقيّة بقضيّة اللغة.

تعمّق الأرسوزي في ماهيّة اللغة العربيّة في “مؤلَّفه العبقريّة العربيّة في لسانها”، ووجد أنَّ اللسان العربيّ مكوَّن على نحوٍ اشتقاقيّ، فالألفاظ التي ينطق بها الإنسان العربيّ ترجع إمَّا إلى ظواهر إدراكيّة حسيّة، تحديداً صوتيّة-بصريّة مُستَمدّة من الطبيعة، أو إلى أُصول شعوريّة مُستَمدّة من النَّفْس الإنسانيّة.

ويوضِّح الأرسوزي حقيقة الألفاظ التي ترجع إلى ظواهر طبيعيّة صوتيّة بصريّة، فتمثيلاً لا حصراً: نجد أنَّ الكلمة “خَشَّ” هي صورة صوتيّة-مرئيّة، ناجمة عن “حركة في عُشب يابس”. وهذه “الصُّورة” أصبحت على المستوى اللغويّ نواةً لتوليد أفعال ومشتقات جديدة مثل: خَشُنَ، خشَبَ (=جَفَّ)، خَشَعَ، إلخ؛ ومِنْ خَشَّ بتحويل الخاء إلى حاء يمكن اشتقاق حَشَّ والحَشيش؛ وبتحويلها إلى عين نحصل على عشَّ والعِشّ، وإلى ما هنالك. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، يُبيِّن الأرسوزي أنَّ الإنسان العربيّ لم يقف بالنسبة إلى بناء الألفاظ التي ينطق بها عند حدود الصُّور الطبيعيّة الصَّوتيّة-البصريّة فقط، بل اعتمد على التّصويت الطبيعي عند الإنسان، أي الأصوات التي تُعبِّر عن حالات شعوريّة معيّنة مثل “أَنَّ” التي تدلّ على التوجُّع أو التألُّم، فظهرت أفعال ومُشتقّات وفق الآتي: فبإلحاق الهمزة جاءت “أنا”، وبإلحاق التّاء “أنتَ”، أنتما، وبقيّة الضمائر. ومن “أَنَّ” اشتُقَ الفعل أَنَّبَ (=عنَّفَ)، والاسم الأنين، وإلى ما هنالك.

وركّز الأرسوزيّ على أنَّ الذهن العربيّ لم يقتصر -في عمليّة تكوين اللسان العربيّ-على الصُّور الصوتيّة المرئيّة أو الأصوات المُعبِّرة عن حالات نفسانيّة، بل نهج نهجاً اصطلاحيّاً أيضاً، يقوم على إظهار الحروف عن طريق التداعي، فالحروف الأسهل من حيث تسلسل الظهور تتوالد لتكوِّن صورة تصبح موضوعاً للفكر، ومدلولاً عليها في الوقت نفسه بألفاظ، فمثلاً من حرف الباء (ب) صنع التداعي أسماء من قبيل الـ:”أَبّ”، و”الأُبّهة”، وأفعال من قبيل أَبِهَ، أَبى….

وعُني الأرسوزيّ بكشف مناهج تكوين الألفاظ في اللسان العربيّ، فاكتشف أنَّ هناك صوراً صوتيّة ذوات أصول فيزيولوجيّة، فمثلاً هناك صور صوتيّة ترافق حركة عضلات الفمّ من قبيل: عَضَّ، وهنا يشتق الذهن مع المحافظة على الإيقاع بإضافة حرف أو بتحويل آخر، فبالإضافة نحصل على عَضَبَ (=قطَعَ)، وبالتحويل، أي بتحويل العين إلى قاف، نحصل على “قَضَّ (=ثَقَبَ)”. هذا، وبالطريقة نفسها اشتُقَ فعل “قَدَّ (=قَطَعَ)” ثم “قَدَرَ(=قَسَمَ) ومنها: القَدَر؛ وقَدَسَ (قَطَعَ)، ومنها: “القُدْس (=الحجر المقطوع)” وتوالت المشتقات مثل القُدُّوس، والمُقَدَّس، والقداسة، والتّقديس، وحُمِّلت بمعان مختلفة، إلخ.

ولقد فهم الأرسوزيّ اللغة فهماً يدلّ على عمق نظرته، فهو يُرجعها إلى غريزة متأصِّلة في الإنسان أسماها “غريزة الكلام”، ووجد أنَّ غريزة الكلام موجودة على نحوٍ متفوِّق عند العرب، منذ فجر التّاريخ، بدلالة أنَّ علم اللغات المقارن يكشف وجود قواعد مشتركة بين اللسان العربيّ واللغات الهندو-أوروبيّة من ناحية، إضافةً إلى كشفه وجود اشتراك في المفردات وأساسيات النحو بين اللسان العربيّ واللغات الساميّة من ناحية أخرى، وهذا يثبت أنَّ الإنسان العربيّ خاض تجربة كونيّة نادرة في تكوين لغته، كان لها تأثير عالميّ لا يمكن نكرانه. والحقيقة أنّنا إذا أرجعنا اللغة العربيّة إلى أُصولها الكنعانيّة (=الفينيقيّة)، لوجدنا كلام الأرسوزي صحيحاً، إذ قام اليونانيون بتعديل الأبجديّة الكنعانيّة (الأوغاريتيّة)، بما يتناسب مع لسانهم الهندو-أوروبيّ. ولا شك في أنَّ استخدام اليونانيين للأبجديّة الألفبائية-الصوّتيّة الكنعانيّة أسهم في تطوير طُرق التّفكير النّظريّ عند اليونانيين لما في اللغة الكنعانيّة من إمكانيّة تؤهِّل الناطقين بها للقيام بعمليات التّفكير المجرّد. هذا، وحينما وصل التجار والمستعمرون اليونانيون إلى أتروريا (=منطقة وسط إيطاليا الحالية)، ونشروا الثقافة الهيلينية في أوائل القرن الثامن قبل الميلاد. أدخلوا الحروف اليونانية-الكنعانيّة لتشكيل الأبجدية الإتروسكانية (=الإيطاليّة القديمة). التي عُدِّلت من قبل الرومان، وأصبحت أبجدية أساسيّة لأوروبا الغربيّة.

لقد امتاز الأرسوزي من بين مختلف المُنَظِّرين القوميين العرب بأنّه دخلَ إلى السياسة من بوابة الفلسفة، وهذا ما جعل طريقة تفكيره أكثر عُمقاً وأبعد غوراً؛ إلا أنَّ لهذه الطريقة في التفكير مخاطرها، فقد جعلته مُفكِّراً يوتوبيّاً، إذ بنى آماله على حُلم ضائع بتكوين دولة مثاليّة تكتنف أبناء أمّة عربيّة واحدة أسماها “الجمهوريّة المُثلى”، ويقدّم الأرسوزي في كتاب له يحمل الاسم نفسه (=الجمهوريّة المثلى) تحليلات لمعنى هذا الاسم عينه، مستخدماً بصيرته اللغويّة الفذّة في تفسير معنى كلمة جمهوريّة، فيوضِّح أنّها منحوتة مِن “جم” وتدلّ على (الجمّ الغفير)و(جهر) وتعني إفصاح كلّ فرد من النّاس عن رأيه في ما يتعلّق بتنظيم الشؤون العامة. وحدّد الأرسوزي معنى كلمة “المُثلى” على أساس أنّها مأخوذة من “المَثَل الأعلى”، أي من الكمال، تبعاً لتكوين كلمة الكمال نفسها. وشرحَ تكوين كلمة كمال شرحاً لغويّاً رائعاً: كمُلَ من كُم الزَّهرة، وحرف “ل” المُلحق بـ”كم” يُفيد هنا معنى النموّ، فالكمال-وفق قوله-مُستوحى من برعم يستكمل شروط كِيانه بالزهرة.

 وينفر الأرسوزيّ نفوراً كبيراً من واقعه العربيّ الذي كشف فيه خطر تحوّل الإنسان العربيّ إلى عبد، ويُفْهم معنى العبوديّة، وفق منظار الأرسوزيّ، على أساس أنَّ الإنسان العبد هو الذي يكون آلة أو أداة بيد نفسه أو بيد غيره من النّاس: يكون عبداً لنفسه إذا حوّلَ طاقاته الخلّاقة إلى أداة للحصول على شهواته، ويكون عبداً لغيره إذا استهلك مواهبه في خدمة الأقوى. ويطالب الأرسوزي باستبدال الإنسان الحرّ-النبيل بالإنسان العبد-الأداة. وهنا يفجِرّ الأرسوزي بعبقرّيته اللغويّة السَّاحرة ينابيع مأساة الإنسان العربيّ، فكلمة “حريّة” في رأيه اشتُقت من كلمة “حرب”، ونبيل اشتُقت من “النِبَال”، أي السِّهام التي يُرمى بها الأعداء؛ لذلك يصعب على الإنسان أن يحتفظ بإنسانيته أو بالأحرى بحرّيته إلا إذا كان مُحارباً رامياً لأعداء إنسانيته بالويلات!

جمع الأرسوزي في شخصيته بين عالم اللسانيات والمفكر السياسيّ؛ فعاش حياةً تنوس بين الهدوء والاضطراب، ولا نجد شبيهاً للأرسوزي الآن أقرب من المفكِّر الأمريكي نعوم تشومسكي الذي جمع في شخصيته هو أيضاً بين عالم اللسانيات والمفكّر السياسيّ؛ إلا أنَّ الفرق بين الأرسوزي وتشومسكيّ فرق كبير جدّاً، فالأرسوزيّ عاش حياة قهر مستمر وفي أعمق لحظات معاناته كان هدفه بناء أمجاد أمّة عظيمة فقدت القدرة على النّهوض؛ بينما تشومسكي عاش حياة حافلة بالأمجاد في على أرض جمعت شعوباً من مختلف أنحاء العالم، وكوّنت أمّة عالميّة. لقد نجحت أُمّة تشومسكي الطارفة ولم تنجح بعد أُمّة الأرسوزيّ التليدة.

المراجع:

زكي الأرسوزي، المؤلفات الكاملة، دمشق، 1972.   

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ

 قراءة في  المجموعة القصصية “هو” للكاتب السوري فراس الحركة

 قراءة في  المجموعة القصصية “هو” للكاتب السوري فراس الحركة

حسب تعبير موباسان (إن هناك لحظات منفصلة في الحياة، لا يصلح لها إلا القصة القصيرة)، والقصة القصيرة تبدو النوع الأدبي الأقرب إلى روح العصر الذي اتسم بالسرعة والاختزال فتناسلت أنواع جديدة منها كالأقصوصة والقصة القصيرة جداً (ق.ق.ج) إمعاناً في الاختصار. والحقيقة أنها حافظت على  جمهورها دوماً وذلك بقدرتها على اقتناص اللحظة والإبحار بالقارئ في تلك المسافة القصيرة من السرد بتركيز وانتقاء مهمين.

وفي هذا السياق صدر مؤخراً عن دار موزاييك للطباعة والنشر مجموعة قصصية بعنوان (هو؟) للكاتب والقاص السوري فراس الحركة وهو الحائز على جائزة زكريا تامر للقصة القصيرة عام 2008 وجائزة  اتحاد الكتاب العرب للنصوص المسرحية عام 2009 عن مسرحيته (صاحب النساء السبع).

تحمل المجموعة عنوان (هو؟)، وإذ ينتهي العنوان بعلامة استفهام يفتح باب السؤال لدى القارئ للبحث عن دلالة ضمير الغائب فهو ليس إخبارياً، لكنه عنوان القصة الأخيرة في المجموعة والتي سيتوقف القارئ عندها كما العديد من القصص التي تفتح باب التفكر والتأويل لإماطة اللثام عن مآل النص وتفكيكه في محاولة البحث عن المرامي البعيدة والقريبة التي يأخذنا إليها الكاتب. إذ يصور الذات الإنسانية في تشظيها سابراً عوالمها الداخلية وصراعاتها المشحونة عاطفياً في مشهدية تصويرية تميل للغرابة حيناً  وبلغة تقترب من الشعر حيناً.

وعلى مدار ثماني وعشرين قصة حوتها المجموعة ينوع الكاتب أسلوبه فيتجاوز الترتيب الزمني للحدث منطلقاً من المشهد الأخير في بعضها مستعيداً خيوط السرد عبر تصاعد الحالة النفسية للشخصيات أو من المشهد الذروة ليفكك الحدث الذي يستنتجه القارئ ويقوم بتركيب خيوطه، فالقارئ هنا وغالباً يشارك الكاتب في إعادة بناء القصة في خياله عبر الإيحاء الذي يعتمد عليه الكاتب، ومفككاً الغموض الذي لجأ إليه ليستدرج القارئ نحو المشاركة في تخيل الحدث واتباع خيوطه المتعددة والمتشعبة.

يتخذ القاص فراس موقع السارد الذي يقوم بوصف وسبر العالم الداخلي للشخصيات جاعلاً الحدث في هوامش السرد منتقياً مواضيعه من المحيط بحيث يملك عوالم أبطاله النفسية والذاتية غالباً مقدماً المقولة على القص  تارة كما في قصة الطريق أو الصندوق الأسود وممسرحاً القص تارة أخرى كما في قصة العازف أو الأبواب ومحاولاً فتح العوالم النفسية لشخصياته وهواجسها وانفعالاتها وهمومها وهذا ما جعل الإبهام والغموض حاضراً في السرد وترك الباب مفتوحاً أمام القارئ كما في قصة انتقام مسلطاً الضوء على معاناة الفرد أمام المجتمع القاسي والمستكين لقوالبه الجامدة والمتخلفة  وظلمه للإنسان سواء بقوة العادات والمفاهيم المتخلفة أو بقوة السلطة الراسخة والتي تسعى لإدامة قيودها وذلك الصراع بينهما والذي ينتهي غالباً لصالح الأقوى.

يفضح المجتمع المتخلف وما يرتكبه بحق الأفراد إذ يكيل دوماً بمكيالين في سبيل الحفاظ على مقدساته ومقولاته التي كرسها عبر الزمن فيطلق أحكامه المستمدة من المفاهيم المتخلفة والخرافات والتي درج عليها كما في قصة ابن الجنية ليبرر أفعالاً وأحداثاً يخاف أن تتداولها الألسن حيث تصبح البنية النفسية لهذا المجتمع مهددة حين ترى الحقيقة. إنه المجتمع القائم على أوهام وكذبات صنعها بنفسه عبر الزمن . ففي قصة ابن الجنية نرى البطل فاضل والملقب بالنمر رغم كل أفعاله الحميدة وصفاته النبيلة التصق به لقب ابن الجنية ما جعله غير مرغوب به رغم أن هذه الجنية أمه لم تكن سوى مناضلة ساعدت الثوار في الجبال وماتت بتسمم جراحها، وكما تموت الحقيقة بالنكران يبقى اللقب العار ابن الجنية متوازياً مع ابن الحرام ومرفوضاً مثله.

وكما في قصة أطلال حيث يقوض الواقع أحلام الإنسان وقصص الحب التي تموت بيد الواقع ولا يبقى منها إلا الذكريات التي يطمسها الزمن مع تقدم الحياة التي لا ترحم فالحبيبة تتزوج ممن لا تحب ومكان اللقاء (البيادر) تقوم عليه البيوت الإسمنتية هكذا يحل الجماد محل العواطف.

وفي قصة الدم نرى انتقال المعركة من الرصاص الحي إلى الكلمة التي في النهاية تغتالها السلطات حين تعتقل الكاتب. السلطات التي تعيد  إنتاج الحزن وتجعله مستمراً ورفيق جيل الشباب في قصته (ذلك الحزن) حين تعتقل رفيقهم الذي عاد إلى البلد بعد غياب طويل.

مثلما تغتال المفاهيم الجامدة قصص الحب وتقسر الشاب في قصة أنا قدرك للتخلي عن الحبيبة نتيجة إعاقتها والزواج بأخرى .

يبرع الكاتب في وصف لحظة الذروة في الانفعال العاطفي والصراع النفسي للشخصيات التي تنتقل بين ضمير المتكلم وضمير الغائب وذلك في مشهدية تصويرية تأتي على لسان القاص محاولاً تصوير تلك الانفعالات والصراع الذاتي المكتمل مع المحافظة على إشارات مفتوحة توحي بالنهايات.

لا تأتي القصص في سوية واحدة فهناك موضوعات مطروقة سابقاً كواقع المرأة المستلبة الراضخة لمشيئة المجتمع الأبوي ومعاناتها في انكسار قصص الحب وقتل الذات وتحويلها إلى أداة إنجاب وعمل لا أكثر بينما تموت المحاولات الصغيرة ويبقى صوتها ضعيفاً، مؤكداً أن تحرر المرأة لا يكون إلا بيديها. يحاول الكاتب التجديد في أسلوب الطرح وليس الموضوع وهذا ينطبق على أكثر من موضوع كما في قصة الأبواب أو الطريق حيث يجسد الجماد ويؤنسنه على طريقة أنسنة الحيوان وإنطاقه في كليلة ودمنة لتقديم العبرة والمقولة، ليصبح الطريق شخصية تتمنى وتريد أن تكون ذاتاً تملك وجهة وهدف وصول.

يقول غيورغي غوسبودينوف: “إن المتاهة قد تكون من وفرة المخارج وليس فقدانها.”

وفي قصة الأبواب نرى أنها مخارج لطرق تتنوع وتنفتح بين الداخل والخارج ، بين الذات والمحيط تتعدد وتتداخل وكل باب يُفتح أمامه طريق على هدف ويستعرض البطل المتمثل بضمير الغائب هذا الأمر باحثاً عن اكتمال رؤاه. أبواب سبعة بما يحمل الرقم سبعة من قدسية في الذاكرة الجمعية وحين يصل إلى الباب السابع إذ يجتمع الأمل مع الفرح والنور و معاناة البلاد وبحث الإنسان عن شرط الحياة يأتي صوت المذياع في بيان رسمي يرمز للسلطة التي تصادر كل اكتمال وكل كيان باحث فينتهي البطل إلى البكاء.

يقابل الأبواب النوافذ وهو عنوان قصة أخرى (نوافذ صامتة) إذ نرى خلف النوافذ قصصاً مختلفة يجمعها الفقد والغياب والموت والإحساس بالاغتراب حيث يجتر الإنسان آلامه الخاصة . هذه الحيوات المتعددة كمثل مشاهد سينمائية أو عروض مسرحية يقوم كل منها بدوره دون تأخير.

لا تختلف معاناة الكاتب عن أبطاله فيصور تشتت المثقف واحتدام الصراع في داخله للبحث عن ذاته وعن تحقيقها إذ يرتقي من النواح إلى مرحلة القرار في قصة ارتقاء.

أما في قصة ارتكاب وحيث يصور أعماق الكاتب المشتتة والدؤوبة نحو التجلي وذلك عبر مونولوج داخلي يتنوع خطه البياني بين الذروة والقاع بين الانتشاء والبكاء وحالات متلاحقة تجعله يكشف غربته الداخلية وتناقضه مع المحيط وظروف الواقع والآلام التي تلتهم الإرادة وتحاول قتل اللحظة المبشرة بولادة الإبداع.

يبحر الكاتب في تلافيف العقل باحثاً عن رؤاه كصوفي يحتدم العالم في داخله فيقطر الواقع المر ويتطهر منه باكتمال الفكرة والإبداع الموازي للنور.

تبدو ذروة هذا الاغتراب والتشظي في قصته (هو؟) وضمير الغائب هنا إشارة إلى الظل رفيق الجسد في الضوء لكن ظل الأنا المتكلمة هنا وهو الكاتب يتجسد في العتمة يقول: (أفغر عيني في العتمة أجد الظل).

والظل ليس انعكاساً لجسم مادي بل هو ذات أخرى تنفصل عنه وتتجسد لعلها الحلم ولعلها المكبوت ولعلها الذات المتمردة المشاكسة حيث يفعل ما لا يجرؤ عليه الكاتب ساخراً منه ومن جبنه وعجزه إنه الكائن الحر المدفون في داخلنا.

وهذا الفصام يبدو جلياً في قصص فراس الحركة إذ  يغوص في العوالم  النفسية والداخلية للشخصيات واصفاً انفعالاتها وهواجسها ويوجهنا إلى البحث عن الشبيه. اللغة عند فراس لاعب ماهر إذ تعبر بدقة عن تلك الإرهاصات وتميل إلى الشعر أحياناً مختزلة ومكثفة لكن يؤخذ عليه الإسهاب في الوصف في بعض الأحيان ما لا يخدم البنية القصصية ويشتت القارئ.

(هو؟) مجموعة مختلفة في البناء والأسلوب تبشر القصة القصيرة بفتوحات جديدة سجل فيها فراس الحركة اسمه بمهارة.

حين لا يأتي أحدٌ ليضع حداً للمجزرة: قصائد للشاعر الأمريكي كوس كوستماير

حين لا يأتي أحدٌ ليضع حداً للمجزرة: قصائد للشاعر الأمريكي كوس كوستماير

ترجمة عن الإنكليزية: أسامة إسبر

كوس كوستماير شاعرٌ ومسرحيٌّ وروائيٌّ أميركي بدأ حياته الأدبية كاتباً مسرحياً وكاتب سيناريو. صدرت له عدة مسرحيات وثلاث مجموعات شعرية وتُرجمت له رواية إلى العربية بعنوان ”فارغو بيرنز“  صدرت عن دار خطوط وظلال في الأردن في ٢٠٢١. عُرضت مسرحياته في أميركا وفي بلدان غربية أخرى وحصل على العديد من الجوائز بما فيها جائزة دائرة نقاد المسرح في لوس أنجلوس لأفضل مسرحية وجائزة جمعية نقاد المسرح الأميركية.

من أعماله المسرحية ”حول النقود“،  ”تاريخ الخوف“، “المستنقع الغربي الكبير“، و”حلم الحرية المطلقة“، وصدر له في الشعر الدواوين التالية: ”سرير الزواج“، ”العام الذي اختفى فيه المستقبل“، ” بلا عنوان“، أما في الرواية فله ”دين مفقود“، ”سياسة اللامكان“، و“جادة الأيام الحزينة“.

القصائد التالية هي قصائد جديدة كتبها الشاعر عن حرب غزة، وخصَّ بها ”صالون سوريا“.

١- عناد

الرجلُ يستعملُ يديه بدل المطرقة

يركع وحيداً بين الأنقاض

يضربُ الفولاذ

يُدْمي الحجر

يصرخُ منادياً أسماءهم بأعلى صوته

 يصلّي كي ينطق من تبقى

غير أنه لا يخرج أحد.

الرجلُ الذي يستخدم يديه بدل المطرقة

ينبش الأرض بأظافره

يتضرّعُ إلى الموتى

يتوسّل إليهم أن يرجعوا.

حين تكتفي الريح من الإصغاء

تُعْول وتهبّ مبتعدةً

حينها، حتى المطر

يشعر بالعار من بقائه.

٢- الحرب على الأطفال

“هذه حرب على الأطفال”.

جيمس إلدر الناطق باسم الأمم المتحدة متحدثاً من جناح في مستشفى في غزة.

تتقدّم الجيوشُ

فوق الحليب الأسود والدم المسفوح.

يبكي أطفالٌ رضّعٌ

تحت الأنقاض ويفرُّ الناس.

تُعرّى أمهاتٌ

وتُقْحم أصابعُ في أعضائهن.

يُلفُّ آباء بالرايات ويُضْرَبون.

يُجْبرُ أطباء على السير على الماء

يُقتل أطفالٌ في حاضناتهم

يُقتل أشقاءٌ وشقيقات

وتتعفّن جثثهم في ضوء الشمس

حين لا يأتي أحدٌ كي يضع حدّاً للمجزرة.

تتدفق الأسلحةُ من الولايات المتحدة.

سياستنا موادّ لصناعة الأسلحة.

شهدْنا نهاية الأيام

وما من طريقةٍ كي نبعث المستقبل.

الأنهار تتدفّقُ داكنةً وحمراء من الدم

وما من مكانٍ نهرب إليه،

 أو نختبئ فيه

ما من طريقةٍ لإصلاح الريح المتكسرة

أو لإعادة الأطفال

كي نغنّي وندغدغ بشرتهم الناعمة التي كالعسل

حين لا يأتي أحد ليضع حداً للمجزرة.

نرى أجساد الأطفال

تُرْفَع محطّمةً من تحت الأنقاض.

نسمعُ أشخاصاً يتسوّلون شربة الماء

يصلّون للسلام،

لكن لا أحد يأتي كي يخفّف أحزانهم

ويحوّل أمنياتهم إلى خبزٍ

أو يروي ظمأهم الحارق

لإنقاذ أطفالهم من الدفن

لا أحد يتمرد

 ضد العرض المقيت لأكاذيب قديمة

تتقدّم عبر أخبارنا اليومية

وتزحفُ على شاشاتنا في الليل

كي تحتفي بدولارات جُمعت

وأذى أُلحق بالآخرين

حين لا يأتي أحدٌ ويضع حداً للمجزرة.

٣- درس لشرح المفردات

(إلى نعومي شهاب ناي)

نتعلّمُ اللغة في مركز العالم المحترق.

(السياسة، جريمة، صديق، عذاب، شظايا، دولة)

كلّ كلمة لطخةٌ لا نستطيع إزالتها

(بطل، قناص، شهيد، طاغية، سلطة، مصير)

هناك كلمات مجنونة، وأخرى مُهلكة وغادرة

وهناك كلمات كثيرة كاذبة.

(غريب، صاروخ، وطني، خصم، الآخر، نار)

إن نَحْو المأساة عظيمٌ، وإذا ما أصغيتَ

ستسمعه يتكسّر على الجدران

ويعاود ترتيب الجثث في جميع الأمكنة.

دَرْسُنا اليوم هو كلمة ”دبابة“.

 هل تعرفونها؟

Tank: الكلمة ذات المقطع الأحادي الثقيل

تمتلك شهية أسطورية

للموت وتقتلُ كل شيء

يقع في مدى بصرها.

تستهدف الجنود والأطفال والنساء والمعلمين

والطلاب والمزارعين، والأطفال

والناس بشتى أصنافهم.

هذا الاسم الذي لا يعرف الصفح

يتكاثر في جميع الأمكنة

ويفضّل أن يعمل في الشوارع

ليتمكن من استخدام خطمه القاتل والإجهاز على فريسته

دون أن يضطر لالتهام ما تبقى.

وكل ما يتبقى هو الشيء نفسه دوماً:

مرادف للأسى

وكلمة أخرى للكراهية.

٤- فن الحرب

حين جاءت الطائرات

كان قايين يستلقي في فراشه في البنسيون

 شبه نائمٍ ولم يحلق ذقنه بعد.

أنتم تعرفون المشهد،

أعرف أنكم تعرفونه،

ومطّلعون على خلفية الفيلم:

الغرفة القذرة بالأسود والأبيض

حيث كلّ الأغطية رطبة من الخبز المتعرّق

التلفاز مُدار، والسيجارة مُشعلة.

وحين بدأت القنابلُ بالسقوط

كان يقف عند النافذة

في الوهج الأحمر للصواريخ

والسماء مذهلة وملتهبة.

تعرفون الأغنية،

 أعرف أنكم تعرفونها:

الأطفال يموتون، هذه الجعجعة الفارغة.

النار تلتهم حقول القمح

الظلال تتقيّح في الشوارع.

لكن هذا هو قابيل، أتفهمون؟

الرجل نفسه الذي يحدّق بالأطفال وهم يحترقون،

ويركضون في عاصفة معدنية

صُنعت بلغةٍ

لم يتعلموها أبداً في المدرسة.

يتذكر فجأة

كيف سقط أخوه الأصغر هابيل تحت الضربات

قرب مذبحٍ دمويٍّ في يوم الأضاحي الكريه ذاك.

السماء فارغةٌ وصامتة الآن

آه، لكنّ جميع الأمهات يعرفْن

أن الموت قادم غداً إلى البلدة.

يقفْن خلف نوافذهن ويحدّقْن في الخارج

إلى الأشلاء وشظايا العظام، والبراز الدموي.

تعرفون المشهد:

 الرئيس، ثم بالطبع فواصل إعلانية

وفجأة ابن الإنسان

بوجهه المنهك منعكساً على لوح زجاج النافذة

يصيح بصوت مرتفع: ما الذي فعلتُه؟

ما الذي فعلته؟ 

ثم يكرر الصياح: ما الذي فعلته؟

٥- النظام العالمي الجديد

يتجلى جمال الأمم حين تكون النكهات كلّها محليةً،

 وتصبح الحياة لذيذة في جميع الأمكنة

إذا تُبّلت بطريقة ملائمة.

في اليونان، مثلاً، يمكن أن تشرب الريتسينا، وتتذوّق على شفتيك

أحجار التاريخ المرّة. يتصلّبُ لسانك كالفولاذ داخل فمك

وتشعر بأنك قادر على ممارسة الحب مع زوجتك

طوال الليل حتى الصباح.

أحجارُ اليونان نظيفةٌ وبيضاء،

لكن النبيذ الأحمر الداكن لبوجليا يجب ألا يُزدرى أبداً. فهو يمنح

فمك طَعْم الطمي

والشذى الأسود للتوت المسحوق.

لكلّ منزل سرّهُ،

 ولكلِّ أمةٍ متعتها:

الجوز الأرضي من السنغال

نبيذُ النخيل من غامبيا.

خيوط المعكرونة الفضية النحيلة والساكي الحارق من اليابان،

الشنكليش والمكدوس من قلب سوريا الجريح،

 أطباق المازة التي تُدْعى التاباس من أسبانيا

وخبز التشاباتي من إسلام آباد.

يجب أن تُزال الحدود اليوم،

على الفور،

وتحلّ محلّها قوائمُ طعامٍ بأطباقٍ محلية.

وفي هذا النظام العالمي الجديد

سنمدّ مائدةً مشتركة تحت قبة السماء

ونتحلّقُ حولها كأصدقاء وجيران

ونعدّ وليمةً عظيمة.

نحتفي بالصداقة أولاً،

نحكي قصصاً مدهشة بكل اللغات

عن أعاجيب عادية رأيناها.

نتقاسم كلّ ما أحضرناه،

 ونعتني بالجميع

مبتدئين بكبار السن ثم بالصغار.   

حينها كم ستبدو الحياة ثمينة لنا!

 كم ستبدو رائعة وعذبة!

وبعد العشاء نتذوّق أباريق متخمّرة

من شاي النعناع القوي،

ثم نجتمع معاً تحت النجوم

ونهدهد أطفالنا إلى أن يناموا.