اصطناع الأدب الصهيوني:قراءات في فكر غسان كنفاني

اصطناع الأدب الصهيوني:قراءات في فكر غسان كنفاني

حين نقرأ كتابات غسان كنفاني النظرية التي كرسها لدحض الدعاية الصهيونية وتفكيك ما تضمنته خزانة الأدب الصهيوني المليئة بالافتراءات، وكشف ما وقع فيه من مغالطات وأكاذيب ندرك بوضوح لما كان صاحب “عائد إلى حيفا” من أوائل من استهدفتهم آلة القتل الدموية الصهيونية، ومن هنا نجد ضرورة استحضار أفكاره والاطلاع على قراءاته لواقع يزداد كارثية وموتاً.

يوضح غسان كنفاني كيف تقاتل الصهيونية على جبهة اللغة، فالأدب كان سلاحًا بيدها لا يقل أهمية عن الاستثمار السياسي هذا إذا لم تسبقه، فالأدب الصهيوني تعبير عن الأدب الذي كتب ليخدم حركة استعمار اليهود لفلسطين سواء كتبه يهود أو سواهم ممن يتعاطفون ويتبنون أفكارهم الاستعمارية، فمن خلال تقصي جذور الصهيونية الأمر الذي أدى لغسل أدمغة عدد كبير من البشر، يتعقب كنفاني بعضاً من هذه الأعمال ويفند زيفها وضلالها من خلال شعار هام وهو: “اعرف عدوك”.

فهو يوضح كيف قفزت اللغة العبرية فجأة بعد احتلال فلسطين من لغة ديانة إلى لغة قومية، على الرغم أنه خلال ألفي سنة ماضية لم تشكل اليهودية فيه رابطة قومية ولا روابط جغرافية ولا سياسية أو اجتماعية فمن أجل ذلك تم التركيز على اللغة لادعاء مشتركات غير موجودة بالأصل، وهذا يوضح الحملة التي تشنها الصهيونية على من يتمسك بلغته الأصلية غير العبرية مثل جماعة الييديش، لغة يهود أوربا الشرقية.

كيف ولدت الصهيونية الأدبية:

برز الإنتاج الأدبي الصهيوني بشكل كبير في فترة الانفراج التي عاشها اليهود ولم يكن انعكاساً للاضطهاد الذي عانوا منه، وفي فترة الحكم العربي بالأندلس تميز أفضل المفكرين اليهود وكذلك في المغرب ومصر ومنهم “موسى بن ميمون”، بالوقت الذي عانى اليهود في أوربا من الاضطهاد والقهر والتمييز.

وكان أمام اليهودي المضطهد موقفان: إما أن يتعذب في سبيل المساواة والاندماج أو المزيد من الشعور بالتميز والتمسك بأسطورة التفوق، فلم يكن الاضطهاد هو الرحم الذي نشأت منه الصهيونية.

وباعتبار أن الأدب العبري بمجمله أدب ديني فقد كان ثمة ضغط على التيار الذي يدعو للمساواة والاندماج على حساب إعلاء الآخر السلبي الذي يدعو للتفوق والاستعلاء، لذا استخدمت الصهيونية السياسية العرق والدين في الأدب الصهيوني لخدمة أهدافها العنصرية، ففي بداية القرن التاسع عشر بدأت اوضاع اليهود بالتحسن في أوربة مع شعارات نابليون بالمساواة في فرنسا، وبدأ الصوت الصهيوني يتوضح وقد أخذ شكله النهائي في مؤتمر بال عام 1897، وبدأت الشخصية اليهودية تتحول من نموذجها الشايلوكي إلى شكل أكثر توازناً نتيجة دعوات معاداة العنصرية، وبرز في إنكلترا تحول كبير بنبذ النموذج الشايلوكي وتعامل إنساني جديد مع الشخصية اليهودية عبر إنتاج ثقافي غزير، وبالمقابل فإن الأقلية اليهودية الموجودة في لندن بدأت تشكل نموًا اقتصاديًا واجتماعيًا لافتًا وصولًا إلى نقطة الانعطاف الهامة التي حدثت عام 1858 عندما أصبح اليهودي ليونيل روتشيلد عضوًا في البرلمان البريطاني لأول مرة في تاريخ اليهود مع تصاعد أعدادهم وتمركزهم في لندن، لينعكس ذلك على الأدب وتسييس الشخصية اليهودية فيه.

فبعد كتاب هارنغتون ورواية ايفنتهو لوالتر سكوت التي تطرح الطيبة والرومانسية التي ثبتها شيلي وبايرون في الشخصية اليهودية، كان المطلوب نموذجًا آخر لشخصية غير رومانسية وترفض الاندماج كذلك، على غرار الشخصية التي خلقها بنيامين دزرائيلي باعتباره داعية عنصرياً. ففي روايته “دافيد آلروي” طرح البطل اليهودي الصهيوني قبل نصف قرن من ولادة الصهيونية كموقف عنصري متطرف بتأكيده أن العرق العبري صاف غير مختلط ، وذات الموقف تبناه هتلر مقلوبا بعد 80 سنة ومجمل قول دزرائيلي في روايته أن اليهود وحدهم مهيؤون لقيادة العالم، وعلى خطى تطور وضع اليهودي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي كان الأدب صدى لهذا التطور والانتقال من البطل الرومانسي إلى الشخص الحائر وبعده إلى الشخصية العنصرية التي تؤمن بتفوق العرق، وقد وضحته شخصية مردخاي لدى “جورج إليوت” في روايتها “دانييل ديروندا” في ترسيخ هذا الأمر ورسم خطة عمل لصهينة اليهودي واستغلال عقدة التفوق إلى أبعد حد بالخلط بين العرق والدين حتى أصبح كتابها إنجيلاً صهيونياً.

منشأ شخصية اليهودي التائه وتطورها:

يرى غسان كنفاني أن اليهودي التائه مفهوم يدور في الحلقة الدينية التي استولدته وهو يتقلب بين دور المذنب لدور المتذمر؛ من موقف الخاطئ إلى موقف المعذب متأرجحًا بين التنور والتعصب ليركب بعدها اليهودي الجوال على موجة تحويل العرق والدين إلى قضية التفوق العنصرية.

قد تكون شخصية اليهودي التائه قد مثلت في الأصل حيرة الإنسان تجاه معضلة الموت والفرار منها إلى الأسطورة قبل أن تتخذ شكلها النهائي في حكاية رجل شاهد صلب المسيح واستعجله للذهاب إلى الصليب وحكم عليه المصلوب بالتجول في العالم إلى يوم القيامة، وكانت هذه الشخصية محببة إلى أن جاء وقت انقلبت إلى شخصية اليهودي الجوال صاحب قضية اجتماعية وتحولت تدريجيًا لتطرف وانزلقت إلى العنصرية وانتقلت الشخصية من المجال الديني إلى أن أخذت طابعها السياسي.

 وقد تجلت في مسرحية “الغريب” ل ديفيد بينسكي وتبنتها فورًا فرقة هابيما في توظيف الديني لخدمة قضية سياسية ليشكل بعدها ثلاثي الدين والعرق والسياسة أبشع غزو استعماري في العصر الحديث، ويبلغ هذا التيار ذروته مع الكاتب السويدي الحائز على نوبل بار لاغركفيست في روايته القصيرة ” موت اهاسورس” حيث اليهودي الجوال هو من يحاسب الرب على العقوبة التي جعلته يتوه في أنحاء الأرض، ويعتبر أن عذاب التجوال على مدى القرون هو أصعب من عذاب الصلب  نفسه، ويرى ذاته في موته أي نهاية تشرده في إسرائيل، ليصل كاتب آخر هو “أهارون دافيد غوردون” إلى نتيجة بأنه لهم ميزة أن يكونوا الأوائل ليس لأنهم الأفضل وإنما لأنهم تعذبوا كثيرًا.

فالرواج الذي هيأته السياسة للأدب الصهيوني ورعت انتشاره قد تسلح بكل الأسلحة الممكنة كالمبالغة والتزوير وطمس الحقائق، وكان يقوم بمهمة مزدوجة تعبئة اليهود لخلق جو عالمي للتعاطف معهم وطمس كل ما يمكن أن يعرقل مشروعهم.

إذ إن الأسلوب الدعائي الذي اتبعه تيودور هرتسل في روايته ” الأرض القديمة الجديدة”

قبل أن يتحول بكليته إلى السياسة بتصوير أرض فلسطين وكأنها بلاد ممتدة تنتظر عودة اليهود ليحيوها ويعيشوا فيها، ولا كلمة عمن يقطن في هذه الأرض بالأساس وعن مصيرهم.

شعوران يسيطران على الشخصية اليهودية كما صورها الأدب الصهيوني الأول هو الفخار وهو أمر مقبول والنوع الثاني احتقار البشر والنظر بدونية إليهم، على الرغم من أن الدراسات العلمية وضحت أن اليهود المعاصرين لا صلة لهم قومية أو دينية بيهود العهد القديم، وما يفسر رفض الصهيونية لفكرة الاندماج مع الشعوب التي عاشت في ظهرانيها ذلك التخطيط لأن تحل مكان وأرض شعب آخر، إذ يؤكد كنفاني في اعتراضه على أسلوب التفكير اليهودي في أنه لو تم التفريق بين الدين والقومية كمفهومين مختلفين لما وقع هذا الخلط والالتباس.

سمات البطل في الرواية اليهودية:

أهم صفتين للبطل أن يكون هارباً من اضطهاد وأن يكون آتياً من بلاد أوربية. ولقد صورته معظم الروايات وهو يعيش حالة غرام مع شخص غير يهودي وغير عربي يتفاعل مع قضيته وينضم إليها، ويبرز العرب كأفراد لا قضية لهم وبالغالب مأجورين من قبل قوة خارجية.

ويبقى السؤال لماذا عجزوا عن الاندماج مع الشعوب التي أتوا منها، من هنا جاء تضخيم حالة الاضطهاد التي عانوا منها وتصغير واحتقار الشعوب الأخرى، إذ لا يستطيع الكاتب الصهيوني أن يتجاوز عقد العرق والدين بالإضافة إلى القضايا الأخرى كالاضطهاد ومذابح هتلر.

وقد أجمل هذه المحاور التي دارت حولها الأعمال الروائية الصهيونية:

  • التفوق اليهودي المطلق والبطل المعصوم
  • الموقف من العرب ومن الشعوب الأخرى
  • الشخصية اليهودية وعلاقتها بإسرائيل
  • المبررات الصهيونية للغزو الإسرائيلي مثل الاضطهاد الذي عانوه والمذابح الهتلرية.

لذا فإن عقدة التفوق ستقود إلى موقف عنصري آخر سبق أن ثبته هتلر الذي يدعون العداء له، وتصوير العرب وهم يلقون القنابل على اليهود ورغم ذلك هم لا يتحركون كونهم في غاية الانسجام وهم يسمعون الموسيقى السنفونية، والغريب أن قنابلهم ومعداتهم الحربية لا تقتل النساء والأطفال، أما العرب فرغم تردي معداتهم القتالية والحربية لا يقتلون إلا النساء والأطفال، نعم هذه هي الصورة التي أرادوا تصديرها الى العالم،  فالدعوة الصهيونية إلى غزو فلسطين ترافقت بتبرير كأي مستعمر أو غازي متمثلة بأسطورة التفوق الحضاري والعلمي والبدني والأخلاقي، وأنهم أتوا لمساعدة البلاد التي يغزونها والعمل على ترقيتها.

فالأدب الصهيوني واجهته معضلتان: أولاً التبرير لماذا رفض اليهود الاندماج مع المجتمعات التي أتوا منها على الرغم من أن ذات الكتّاب الذين نادوا بذلك شجعوا على الاندماج بالمجتمع الأميركي والثانية تبرير اقتلاع شعب من أرضه وتهجيره عنها، إذ أفصح الأدب الصهيوني عن احتقاره لكل الشعوب وبالأخص العرب باعتبارهم أعداء مباشرين لهم، أما اليهود القادمون إلى أرض لا يعلمون عنها شيئًا فهم من يستميت في الدفاع عنها، وما العرب في حرب فلسطين بالنسبة لهم إلا عبارة عن حرب مرتزقة ومأجورين لا قضية لهم وهم غير جديرين بوطن بتأكيد سهولة الوصول إلى أراضيهم ونسائهم، هذا ما يسوقون له في رواياتهم من أكاذيب وتضليل للرأي العام العالمي وهذه هي الصورة السيئة التي يضعون العربي فيها.

ففي رواية “الينبوع” ل “جيمس بشنر” يصور المقاومة العربية في حرب عام 1948 بأنها حرب أناس قدموا من الصحراء للغزو مدهوشين من جمال المزارع اليهودية، كما ينفي فكرة أن يكون العرب قد حاربوا الصليبين يومًا، ويعطي أفكاراً حقيرة ومغلوطة عن الدين الإسلامي، وفي عمل آخر يؤكد أن المنطقة كانت صحراء هنا ولم تنتعش وتخضر إلا مع مجيئهم وأن كل ما فعله اليهود هو أنهم سرقوا منهم الأمراض والأوساخ والملاريا التي كادت تقضي عليهم. ويبدو الكاتب “جوشوا بارزيلاي” ناشزًا عن ذلك السيل من الافتراءات الدعائية التي يملؤون صحائفهم بها، حيث يصف أرض فلسطين قبل أن تلمسها قدم أي كائن يهودي مهاجر بأنها الجنة ذاتها ببساتينها وخضرتها، وذلك قبل أن تجند الدعاية الصهيونية لوصف أرض فلسطين بالصحراء وقبل أن يستوردوا شتلات النخيل من العراق ويخصبوا بها أرض الكنانة على حد زعمهم.

بماذا تبرر الصهيونية اغتصاب أرض فلسطين:

إن مذابح هتلر واضطهاد الغرب الأوربي تقف وراء مظلومية اليهود، إذ يذكر أحد أبطال إحدى الروايات بعد تدميره دبابتين عربيتين: “هذا من أجلك يا سارة”، لنعرف أنها سارة التي قضت في مذبحة بألمانيا، فالسؤال هنا ما شأن عرب فلسطين بتلك المذابح ولماذا عليهم هم دفع الثمن وخاصة أن قسماً كبيراً من اليهود عاشوا مع العرب دون أي مشاكل تذكر، كما يشير للوجود الإنكليزي في فلسطين: “هل يملك أولئك الإنكليز حق الوجود في فلسطين أكثر من اليهود الذين تعرضوا للاضطهاد” يعترف باللا شعور بأنه مستعمر آخر، فالإنكليز كانوا مستعمرين وليسوا أصحاب الأرض،  وفي مروية أخرى يقول:” إنها دار الأتراك” فهل وجود أي مستعمر ينفي حق أهلها الأصليين في وجودهم على أرضهم، فالاستعمار التركي كان في أغلب البلدان العربية والفرنسي والإنكليزي كذلك، وهذا لا يعطي أي حق لأي مستعمر جديد بغض النظر عن ظروف ومعاناة عاشها في أي مكان بالعالم، هذا إذ تجاهلنا الخرافات اللاهوتية عن يهود بنوا الأهرامات تحت سوط الفراعنة.

مع ذلك هناك بعض الأدباء اليهود المقيمين بفلسطين قبل عام 1948 كانوا غير قادرين على تحميل العرب الجرائم الهتلرية ولكونهم ليسوا مطالبين بتبرير الهجرة لأنهم موجودون قبلًا لذا كانت كتاباتهم أقرب للموضوعية ومنهم “يائيل دايان” ففي روايتها “طوبى للخائفين” وإن كانت تحاول تبرير العنف باعتباره وراثة جاءت من الأجيال السابقة فإنها انتقدت فكرة البطل المعصوم الذي خلقته الدعاية الصهيونية، وهناك “بنيامين تموز” الذي وصف علاقة العربي بشجرة الزيتون العتيقة وكيف تم قطعها، هذا النموذج تحرص الصهيونية على تجنبه رغم أنه لا يستطيع أن يتعدى نصف الطريق أي لا يمكنه أن يرسم اللوحة كاملة فهي حركة ذات حرية محدودة.

بين جائزة نوبل وعدوان 5 حزيران: 

في عام 1966 منحت جائزة نوبل لكاتب صهيوني هو شموئيل يوسف عغنون وكأنها أشبه بوثيقة بلفور أدبية فلجنة نوبل وجدت في كتاباته العرقية المتعصبة رسالة إسرائيل إلى عصرنا وبعدها بسبعة شهور كان عدوان الخامس من حزيران وهو تتويج لكل ما تم تحضيره من غسل أدمغة العالم واليهود بثقافة عنصرية خرقاء.

ذلك الكاتب الذي أجمع النقاد على اكتظاظ نتاجه الأدبي بأفكار استعمارية توسعية وأردفها بقصص دينية لا تجد صدى لها إلا عند اليهودي المحافظ، لأنه لا يغطي قيمًا عالمية ولا موضوعًا إنسانيًا مشتركًا.

عمر أميرلاي: رائد السينما التسجيلية السورية وصانع نهضتها

عمر أميرلاي: رائد السينما التسجيلية السورية وصانع نهضتها

في مطلع سبعينيات القرن الماضي وبينما كان معظم صناع السينما في سوريا يتجهون نحو إنتاج الأفلام التجارية الرائجة، كان السينمائي الشاب عمر أميرلاي، ومن خلال عدسة كاميرته الثاقبة والذكية،  يَشقُّ طريقاً سينمائياً يختلف عن السائد، ليُشكل الملامح الأولى لصناعة السينما التسجيلية السورية، ويعمل على تطويرها. وفي وقتٍ كان فيه معظم السينمائيين السوريين والعرب يهربون من صناعة السينما التسجيلية، نحو السينما الروائية والأعمال الدرامية، كي يتجنبوا الصراع مع السلطات السياسية والرقابية والدينية، كان أميرلاي يعمل على كشف ممارسات تلك السلطات ليؤسس بذلك لمدرسة سينمائية نقدية استقصائية تطال جذور المشاكل وأسبابها، وتعالج أبرز القضايا الإنسانية والإجتماعية، فهو الذي يقول : ” لولا السينما لما كنت خضت في وحل واقعنا، ولما كنت عرفت الإنسان وأحببته، ولما كنت اكتشفت تلك الحقيقة البديهية من أنني جزء من الحياة وليس العكس، ولما كنت روَّضت طبعي العدمي ونزقي قبل أن أعرف إلى السينما سبيلاً”.  

ولد أميرلاي في دمشق عام 1944، بدأ مسيرته الفنية كرسام كريكاتير، سافر إلى باريس ليدرس المسرح في جامعة “مسرح الأمم” بين عامي 1966 و 1967، ثم  انتقل إلى دراسة السينما في المعهد العالي للدراسات السينمائية في باريس، لكنه توقف عن الدراسة بعد أحداث ثورة الطلبة التي وقعت في جامعة مونتير عام 1968، والتي أدخلته إلى ميدان العمل السياسي، ليعود بعد ذلك إلى دمشق في العام 1970 ويبدأ مسيرته الفنية بفيلمه  محاولة عن سد الفرات .

 منذ بدايتها تميزت تجربة أميرلاي السينمائية بصوتها النقدي المرتفع والمنادي بالحرية والعدالة، حيث عالجت قضايا الحريات المكبوتة بطريقة ذكية استطاعت تجاوز سلطة الرقيب، وأظهرت الواقع الحقيقي لسوريا دون تجميلٍ أو مواربة، لتوصل صوت الناس المهمَّشين والمقهورين وتوثِّق جانباً من حياتهم البعيدة عن الأضواء، وتفضح الواقع المؤلم الذي صنعه المفسدون في البلاد، مُشكٍّلة بذلك ثورة حقيقية في صناعة السينما السورية. ورغم أن الأفلام التسجيلية لم يكن لها الانتشار الواسع، ولم تكن تحقق مشاهدات كبيرة أو تجني أية أرباحٍ تُذكر، ظل أميرلاي طيلة حياته ملتزماً بخطه السينمائي، المنحاز لقضايا الشعب، ومخلصاً لمبادئه وأفكاره التي تأثر بها الكثير من المثقفين العرب، فحقق في عصره ما عجز عنه معظم زملائه السينمائيين.

ورغم أن أعماله  تنتمي إلى السينما التسجيلية إلا أنه استخدم فيها تقنيات السينما الروائية، بمختلف فنونها الإبداعية، التي أبرزت مدى فهمه وإتقانه للغة السينما، وذلك من خلال اختيار كوادر الفيلم وحركات الكاميرا وزوايا التصوير والمؤثرات البصرية وإنتاج الصورة السينمائية المكثَّفة والمعبِّرة والتي تنتصر على التعليق الصوتي في كثيرٍ من المشاهد، لتقدم العديد من الأفكار والمقولات دون حاجةٍ للكلام، هذا إلى جانب إدخاله لعنصري الحكاية والخيال الفني إلى المادة التسجيلية كي يُحررها من الجمود والحالة التقريرية، ليقدم بذلك فيلماً تسجيلياً بإحساس إنساني عالٍ وبلغةٍ سينمائية شاعرية وبديعة، استطاعت بفضاءاتها الجمالية وقوة تأثيرها أن تخفف من حجم قسوة وبشاعة المواضيع التي تم تناولها، فيما استعاض عن استخدام الموسيقى التصويرية في معظم أفلامه باعتماده على أصوات الطبيعة وأصوات الحياة اليومية التي منحت أفلامه بعداً سينمائياً مميزاً وقوة تأثير مضاعفة.

عدسة تؤرِّخ الوجع السوري  

في وقتٍ لم يكن السوري يعرف ما يجري خارج حدود قريته أو مدينته، استطاع أميرلاي من خلال فيلم الحياة اليومية في قرية سورية أن يسلط الضوء على معاناة وأوجاع سكان قرية المويلح/ دير الزور، التي تشبه حال الكثير من القرى السورية، حيث صوَّرت عدسة كاميرته الثاقبة أدق تفاصيل الحياة اليومية البائسة التي يعيشها سكان القرية المحرومة من أبسط متطلبات الحياة في ظل تراجع حجم الإنتاج الزراعي. وقد اعتمد الفيلم، الذي منعته الرقابة من العرض، على وجهتي نظر تكرسان حجم الهوة الكبيرة بين الواقع الحقيقي وما يقوله المسؤولون في الدولة والإعلام. فبينما يقول طبيب القرية إن نسبة الوفيات بين الأطفال قليلة، تكشف لنا الصورة السينمائية واقع الأطفال المصابين بالهزال، وارتفاع نسبة وفياتهم نتيجة تفشي الكثير من الأمراض في القرية. وبينما نجد معلم المدرسة يوعِّي التلاميذ بضرورة الاهتمام بنوعية الأغذية التي تجعل أجسادهم صحيةً وقويةً، نجد أن  طعام معظم الناس لا يتعدى الخبز والشاي الأسود، وأن غالبتهم تعاني من فقر الدم وسوء التغذية.  

قُّدِم الفيلم بطريقة سينمائية تقترب من أسلوب السينما الإيطالية الكلاسيكية، حيث أبرزت لقطاته الطويلة والمعبِّرة جانباً من الطبيعة الساحرة للمكان، وأضاءت على كثيرٍ من الطقوس والتفاصيل الإنسانية المميزة التي يعيشها الفلاحون البسطاء والمعدمون، والتي أظهرت أجمل ما فيهم من صفات طيبة ونبيلة رغم قساوة المكان والظروف المؤلمة التي تعصف بحياتهم.

وفي فيلم الدجاج يرصد أميرلاي حجم التغيرات المخيفة التي وقعت في قرية صدد / حمص، التي كانت تشتهر بالصناعات النسيجية اليدوية (البسط والأزياء التقليدية وغيرها) وتمتلك نحو 400 نول، حيث تخلى معظم  حرفيو القرية عن تلك الصناعة العريقة نتيجة تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد، ناسين تراثهم الثقافي والمهني، ليلجؤوا، إلى جانب الكثير من فلاحي القرية، إلى إنشاء المداجن وتربية الدجاج، ولكن مشاريعهم هذه، ورغم إنفاق الكثير من الأموال عليها، لم تحقق لهم أية أرباحٍ تذكر، وذلك نتيجة ارتفاع أسعار الأعلاف والأدوية وجميع مستلزمات تربية الدجاج، وعدم تقديم مؤسسات الدولة أي دعم أو مساعدة لأصحاب المداجن، الذين اضطروا بعد خسائرهم  المتعاقبة للتخلي عن تلك المشاريع والبحث عن أعمال أخرى، أو مغادرة بلدتهم نحو الخارج للبحث عن فرص عملٍ مناسبة.

تم تصوير الفيلم بلغة سينمائية رمزية جمعت بين التسجيلي والروائي وتضمنت جانباً من الكوميديا السوداء، المستوحاة من فن الرسم الكاريكاتوري، حيث يظهر الدجاج في الفيلم، من خلال اللقطات القريبة المصحوبة ببعض الأغاني والموسيقى، وكأنه شخصيات بشرية تنفعل وتُعبِّر عن ضجرها وسأمها من الواقع، فيما تظهر رؤوس الدجاج في لقطات أخرى، ومن زوايا مختلفة، وهي تتحرك بسرعة وترافقها أصوات بعض المسيرات والهتافات وكأن المشهد يحاكي محاولة تدجين الشعب. ويقول أميرلاي في حديثه عن هذا الفيلم: “اخترت أن أحكي عن البشر بلغة الحيوان، فذلك نوع من التعبير عن قهر المثقف، وعجزه عن إنطاق الناس”.  

 استطاع أميرلاي بحنكته وذكائه أن يتحدى سلطة الرقابة ليخرج فيلمه الشهير طوفان في بلاد البعث  الذي تضمن نقداً سياسياً لاذعاً لممارسات سلطة حزب البعث في البلاد، وأبرز مدى تغلل الحزب في جميع مفاصل الحياة والآثار المترتبة على سياساته، خاصةً فيما يتعلق بواقع التربية والتعليم، ليُرينا من خلال تصوير إحدى المدارس النظام التعليمي الأشبه بالنظام العسكري، والذي يزرع أفكار البعث في أدمغة التلاميذ، حيث يظهرون في بعض المشاهد، بطريقة كوميدية سوداء، وهم يرددون شعارات البعث ويغنّون نشيده ويتلقون الدروس التي تتحدث عن إنجازاته. وقد تم تصوير الفيلم في قرية النائب ذياب الماشي، الذي  شغل منصب عضوٍ في مجلس الشعب لنحو 55 عاماً متواصلاً، ويظهر الماشي في بعض المشاهد بشكلٍ كريكاتوري ليتحدث عن إنجازات البعث ويمدح قياداته ويمجدها، فيما يظهر مدير المدرسة، وهو أحد أقرباء الماشي، ليشيد بالدور الريادي لحزب البعث في دعم العملية التعليمية وتربية الأطفال على حب الوطن، بشكلٍ يثير السخرية والحزن في آن معاً.

بدت معظم لقطات الفيلم طويلة وصامتة تعكس حالة الجمود والرتابة والروتين الممل الذي تعيشه البلدة عموماً والمدرسة خصوصاً. ونتيجة لصوته النقدي المرتفع، مُنع الفيلم من العرض في سورية، ثم لاحقته الرقابة السورية إلى مهرجان قرطاج في تونس لتُخرجه من المسابقة الرسمية للمهرجان، فيما تعرض أميرلاي للملاحقة الأمنية واستدعى للتحقيق أكثر من مرة ومُنع من السفر.

الجولان المحتل حضر في فيلم طبق السردين  من خلال تداعيات ذاكرة أميرلاي التي أعادته إلى لقائه مع خالته وهو في عمر السادسة، ليتذكر طبق السردين الذي كانت تفوح رائحته في منزل الخالة، التي حُرمت عائلتها من تناول السمك الطازج الذي كان يأتيها من يافا قبل احتلالها من قبل إسرائيل. تتجول كاميرا الفيلم في شوارع مدينة القنيطرة لتُظهر الكثير من مشاهد الدمار المؤلمة التي خلفها الاحتلال الإسرائيلي، فيما يظهر مبنى سينما الأندلس، المبنى الوحيد الذي نجا من الدمار. ولكي يبتعد الفيلم عن الحالة التقريرية استطاع  أميرلاي بإبداعه السينمائي أن يوجد خطاً روائياً يدعمه خيالٌ بصري، تَظهر فيه شخصية طفلٍ يحاكي طفولة أميرلاي بشكل حكائي، لتسير مشاهد الفيلم في خطين، تسجيلي وروائي حكائي.

سينما تخطت حدود سوريا

لم يكتف أميرلاي بتسليط الضوء على القضايا الإنسانية والاجتماعية في سوريا فقط بل انطلق إلى خارجها ليصنع في مصر عام 1983 فيلم  الحب الموؤد الذي يُعتبر من أجرأ الأفلام الاجتماعية العربية التي تجاوزت الخطوط الحمراء. ويتناول الفيلم واقع المرأة ومعاناتها في ظل مجتمع محافظٍ تحكمه العادات والتقاليد الدينية والمجتمعية والسلطة الذكورية، ويتطرق بجرأة نادرة لفكرة الحب والجنس خارج نطاق الزواج، ويُرينا انعدام الثقافة الجنسية في المجتمع، كما يطرح مدى المعاناة النفسية والجسدية التي يعيشها الشباب، من كلا الجنسين، في ظل حرمانه من الحب والعلاقات الجسدية، وهو ما يضطره لكبح غرائزه وشهواته الجنسية أو اللجوء إلى الدين ليساعده على ضبطها، إذ لا يمكنه إشباعها خارج نطاق الزواج، الذي لا يستطيع البعض إليه سبيلاً في ظل ارتفاع تكاليف المهر. كما يضيء الفيلم على الواقع المؤلم الذي تعيشه المرأة المتزوجة، التي تتلقى شتى أنواع العنف والاضطهاد من قبل زوجها، ليكشف لنا كيف تعيش قيوداً مؤلمة حتى ضمن العلاقة الجنسية مع الزوج الذي، في كثير من الأحيان، يمارس تلك العلاقة معها كنوع من الواجب دون أي إحساس أو شعور عاطفي تجاهها.  

وبعد عشر سنوات على وفاة صديقه الباحث الفرنسي ميشال سورا أخرج أميرلاي عام 1996 فيلم في يوم من أيام العنف العادي مات صديقي ميشيل سورا ، ويروي من خلاله اختفاء سورا الذي اختُطف في بيروت عام 1985 من قبل إحدى المنظمات الجهادية الإسلامية، ثم قُتل على يد خاطفيه بعد عام من اختطافه. تنتقل الكاميرا في الفيلم انتقالات درامية  وشاعرية ووجدانية، حيث تظهر بعض المشاهد ضمن أجواء معتمة وخانقة، تتضمن بعض الديكورات الفنية المُعبِّرة، وتصاحبها موسيقى تصويرية خفيفة، فيما تقترب بعض المشاهد الأخرى من أجواء العرض المسرحي. الشخصيات التي تتحدث عن سورا، لا تتحدث بطريقةٍ تقريريةٍ وإنما بأداءٍ أقرب إلى التمثيلي، يدعمه خيالٌ بصري غني تقدمه الصور المتنوعة واللوحات التشكيلية والأعمال النحتية، الحافلة بالكثير من التفاصيل والأفكار. ومن خلال  ما جرى مع شخصية سورا أظهر أميرلاي صوراً تعيدنا بقسوتها ومأساويتها إلى ذكريات الحرب الأهلية اللبنانية، التي أنتجت الكثير من الفصائل المسلحة وعصابات القتل التي اغتالت الكثير من الشخصيات الفكرية والتنويرية والثقافية.  

ومن خلال فيلم مصائب قوم يتحدث أميرلاي عن الظروف المؤلمة التي فرضتها الحرب الأهلية اللبنانية على الناس، والتي جعلت أعمال القتل والعنف عملاً يومياً اعتيادياً. كما يسلط الفيلم الضوء على تجار الحرب والأزمات، الذين لم تتأثر تجارتهم ونشاطهم الاقتصادي رغم حجم الموت والدمار، وذلك من خلال شخصية الحاج علي التي تتكيف مع جميع الظروف وتبحث عما يحتاجه السوق في الحرب لتتاجر به وتزيد من حجم أموالها، ومن هنا نكتشف أن مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد.

سينما البورتريه

حاول أميرلاي من خلال مشروع سينما البورتريه تسليط الضوء على بعض الشخصيات الثقافية والسياسية البارزة، ليبرز مدى أهميتها والدور الريادي الذي لعبته في حياتها. ومن خلالها كان يطرح الكثير من القضايا والمفاهيم السياسية والاجتماعية والثقافية والإنسانية والفكرية ليتم مناقشتها بشكل واسع مع محاولة إسقاطها على الواقع.

شَكَّل فيلم فاتح المُدرِّس ، الذي أخرجه أميرلاي بمساعدة المخرجين أسامة محمد ومحمد ملص، مرجعاً ثرياً وهاماً عن شخصية المدرِّس الاستثنائية، أحد أبرز مؤسسي الحداثة التشكيلية في سوريا، والذي ترك بصمة فريدة في تاريخها الفني والثقافي. ويوثِّق الفيلم، بعدسةٍ ذكية وبلغة سينمائية شاعرية، أدق تفاصيل مرسم المُدرِّس، بفوضاه الجميلة وفضاءاته الرحبة، ويُظهر لنا اللوحات والألوان الموزعة في كل مكانٍ بشكلٍ مسرحي، ليُضيء على أهم تفاصيل الحياة اليومية للمُدرِّس، فيما تُبرز بعض اللقطات وبطريقة حكائية عملية الرسم التي يقوم بها، والتي نتعرف من خلالها على تفاصيل وفضاءات غنية في عالم الفن التشكيلي واللوني. ويتحدث المدرس من خلال الفيلم عن طفولته وشبابه، وعن بعض تجارب الفن التشكيلي في العالم، وعن فلسفة الضوء والألوان وعلاقته معها، إلى جانب الملامح التي شكلت تطور الفن والثقافة في سوريا في منتصف القرن الماضي، لنتعرف من خلال ذلك وعن قرب، على شخصية المُدرِّس المتفردة والغنية، التي تَظهر بحالات مختلفة: مرة كفنانٍ مبدع ، ومرة كأستاذ ومنظِّر للفن، وأخرى كإنسان عادي وبسيط.

وفي فيلم “وهناك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء” الذي صوره أميرلاي مع المسرحي الكبير سعدالله ونوس، يظهر الأخير وهو جالس على سريره في المستشفى يقاوم مرض السرطان الذي أنهك جسده، متحدثاً عن الكثير من الآراء والأفكار السياسية التي تبناها في حياته، وعن الخيبات والانكسارات التي تعرض لها بوصفه مثقفاً عربياً، وذلك نتيجة فشل السياسات العربية وما تعرض له الواقع العربي من هزائم متلاحقة وتحديداً هزيمة حزيران 1967. استطاع أميرالاي من خلال الفيلم أن يربط ما بين مرض ونوس وتداعي المثقف العربي وكأنه بذلك يُرينا واقع الثقافة العربية المحتضرة. وبالتزامن مع حديث ونوس عن الهزائم العربية يعرض الفيلم بعض المشاهد الأرشيفية لصور النكبات العربية وللخطابات الفارغة لبعض الزعماء السياسيين، بالتوازي مع لقطاتٍ أخرى لبعض المرضى داخل المستشفى وكأنه بذلك يحاكي مرض الأمة العربية.  ومن خلال اللقطات المتكررة لقطرات السيروم التي يتغذى عليها ونوس المحتضر، يحاول أميرلاي أن يقول لنا إن البلاد كلها بحاجةٍ لسيرومات تتغذى عليها.

أميرلاي الذي حاول تسليط الضوء على حكايات الأبطال المنسيين لينقذها من النسيان، عرَّفنا من خلال فيلم نور وظلال  على شخصية نزيه الشهبندر، الذي لا يعرفه سوى القليل من السوريين، وهو أبرز صناع السينما في سوريا، بدايات القرن الماضي، ومخترع أول آلة تسجيل صوتية، قَدمت خدمة كبيرة لصناع السينما في سوريا ولبنان ومصر، إذ كانوا آنذاك يضطرون للذهاب الى أوروبا لكي يسجلوا أصوات الفيلم السينمائي. يضيء الفيلم من خلال شخصية الشهبندر على الوجه الثقافي الجميل لسوريا في بدايات ومنتصف القرن الماضي، وعلى بدايات صناعة السينما ومراحل ازدهارها، ويتحدث عن بعض صالات السينما كسينما الهبرا التي بُنيت عام 1917، كما يُرينا بعض مواقع التصوير داخل الاستيديوهات التي صُورت فيها بعض أفلام تلك المرحلة.  صَور الفيلم، وبحرفية سينمائية عالية تقترب من تقنية السينما الروائية، أدق تفاصيل حياة الشهبندر داخل منزله، الذي يشبه شريطاَ سينمائياَ مليئاً بالحكايا والذكريات، ليُرينا من خلاله علاقة الشهبندر مع آلاته ومعداته وخرداواته السينمائية التي يعيش معها وحيداً ويتعامل معها كصديقة مقربة، ويخشى عليها، وهو الذي أصبح كهلاً، أن تلقى حتفها بعد رحيله. وهكذا استطاع الفيلم أن ينصف شخصية هامة ومحورية في تاريخ سورية كانت مهددة بالنسيان لتموت وحيدة في بيتها، وقد كتب في شارة نهاية الفيلم : “إلى نزيه شهبندر وأمثاله ممن نذروا حياتهم لكي تجد السينما مكانا لها في بلدهم .. نهدي هذا الفيلم” .

ولم تقتصر سينما البورتريه عند أميرلاي على الشخصيات السورية فقط بل تناول من خلال  فيلم  الرجل ذو النعل الذهبي شخصية رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، الرجل الفقير الذي أصبح ثرياً ينتعل حذاء ذهبياً لا يعلق عليه الغبار. ويدافع الحريري من خلال الفيلم عن مكانته السياسية والاجتماعية ويتحدث عن دوره في دعم وتطوير لبنان في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، كما يظهر في الوقت ذاته كرجل عادي وبسيط يعيش حياته البسيطة البعيدة عن الأضواء. وقد أدخل أميرلاي نفسه كشخصية في الفيلم مقابل الحريري، لتتحدث بلسان المثقف الذي يحاور رجل السلطة، وليبرز العلاقة الجدلية والإشكالية بين تلك الشخصيتين، ونظرة كل منهما إلى الحياة عموماً وإلى الوطن خصوصاً.

ومن خلال فيلم ” إلى جناب السيدة رئيسة الوزراء بنظير بوتو”  حاول أميرلاي تسليط الضوء على حياة  بوتو التي كانت جزءاً بارزاً وهاماً من عالم السياسية في باكستان، ولعبت دوراً مؤثراً في تاريخ بلادها، لكن ولصعوبة الوصول إليها، جعل أميرلاي الفيلم توثيقاً لمحاولاته المتكررة للقاء بها دون جدوى.

توفي أميرلاي في الخامس من شباط/ فبراير  عام 2011 إثر جلطة دماغية، عن عمرٍ ناهز السابعة والستين عاماً، تاركاً لنا إرثاً سينمائياً ثرياً تضمَّن نحو عشرين فيلماً تسجيلياً، هذا إلى جانب مساهماته الكبيرة في إغناء الثقافة السورية حيث ساهم في تأسيس اتحاد نوادي السينما عام 1982، بهدف نشر ثقافة السينما بين الناس في عموم المحافظات السورية وتطوير ذائقتهم الفنية، كما استطاع جذب أجيالٍ عديدة من الشباب نحو العمل السينمائي ودعم مشاريعهم فنياً، وكان شريكاً داعماً للتجارب السينمائية لبعض أصدقائه المخرجين كمحمد ملص وأسامة محمد، اللذين استفادا من أفكاره ورؤيته السينمائية والإخراجية التي تركت بصمة مؤثرة في تاريخ السينما السورية وشكلت مدرسة متفردة ومرجعاً هاماً لكثيرٍ من صناع السينما في سوريا والوطن العربي، وقد حققت أفلامه شهرة عالمية وعُرضت في أهم المهرجانات السينمائية، كمهرجان أمستردام الدولي و أدفا في هولندا ، مهرجان أفلام في مدينة مارسيليا الفرنسية، مهرجان الفيلم العربي في برلين ، ومهرجان الدوحة و الاسماعيلية وغيرها، فيما حازت بعض أفلامه على جوائز هامة، من بينها جائزة التحكيم الخاصة من مهرجان تولون الفرنسي، وجائزة مهرجان برلين السينمائي عام 1976، وذلك عن فيلمه “الحياة اليومية في قرية سورية”، فيما حصل فيلم “طوفان في بلاد البعث” على جائزة أفضل فيلم قصير في بينالي السينما العربية الذي أقامه معهد العالم العربي في باريس عام 2006.  

 ونذكر هنا أبرز أفلامه وفق تسلسلها الزمني: فيلم “محاولة عن سد الفرات” عام 1970، “الحياة اليومية في قرية سورية” 1972،  “الدجاج” 1977، “عن ثورة” 1978، “مصائب قوم” 1981، “رائحة الجنة” 1982، “الحب الموؤد” 1983، ” فيديو على الرمال” 1984 ، “العدو الحميم” 1986، “سيدة شيبام” 1988، ” شرقي عدن”  1988، “إلى جناب السيدة رئيسة الوزراء بينظير بوتو” 1990، ” نور وظلال” 1994، ” فاتح المدرس” 1995، ” في يوم من أيام العنف العادي مات صديقي ميشيل سورا” 1996 ، ” وهنالك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء” 1997. “طبق السردين” 1997 ، “الرجل ذو النعل الذهبي” 1999، و”طوفان في بلاد البعث” 2003.  

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”

المغامرة الفنية وكسر القيود المتعارف عليها: حوار مع المخرجة السورية هالة العبد الله

المغامرة الفنية وكسر القيود المتعارف عليها: حوار مع المخرجة السورية هالة العبد الله

قليلات النساء اللواتي عملن في الإخراج السينمائي، وخاصة في سوريا.  يبرز اسم هالة العبد الله بينهن، وهي التي تميزت بالفيلم الوثائقي، كما كانت عضوة في لجان تحكيم عدة مهرجانات سينمائية. كان فيلمها الأول بعنوان “أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها” وقد منع عرضه في سورية ولم يظهر للمشاهد إلا في عام 2021 حين تم طرحه في اليوتيوب تحية للشاعرة السورية دعد حداد. وقد تحدثت عن منع الفيلم وعن السينما السورية، بشكل عام في هذا اللقاء:

تقولين في فيلمك الطويل الأول” أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها”: “أردت ان أحقق أفلامي في بلدي سوريا، وليس في الغربة، ولكن بعد 25 سنة؛ عندما رأيت أن عمر الخمسين يقترب والعودة إلى البلاد تبتعد، تنبهت إلى أن مشاريع افلامي تتراكم فوق ظهري وأن الوقت قد حان للتخلص من هذا الحمل “. بعد سبعة أفلام طويلة وثلاثة قصيرة إلى أي حد تشعرين بذلك التخفف؟ أم أن المشاريع تتوالد أكثر مما يتيح الزمن تحقيقه؟

– كنت يومها -عام ٢٠٠٦- أقصد تلك الأفلام التي تراكمت منذ بداية الثمانيات، أي خلال 25 سنة من عملي في السينما على أفلام الغير. ولم أتمكن من إعطاء الوقت لأفلامي الشخصية، وبالتالي ازداد ثقل هذا الحمل من بقاء مشاريع الأفلام في مخيلتي وعلى أوراقي وفي ملفاتي. وحتى من كان منها له وجود بصري كنت أؤجله في منتصف الطريق لكي أعمل على أفلام الآخرين.

كانت مشاركتي معهم تشكل لي متعة، وأهمية وغنى كما لو كنت أنجز أفلامي الشخصية.

المهم في الأمر أن هذا الفيلم جاء يحمل كل تلك الأفكار والمشاريع التي رغبت في تحقيقها وتركت الوقت يمر دون أن أنجزها، فأشرت لها بطريقة ما في الفيلم واعتبرت أمام نفسي أن هذه الإشارة كانت كافية. والحقيقة كان هذا نوعاً من الخديعة من طرفي للمخرجة في داخلي، إذ أوهمتها بأن هذه الأفلام؛ قد أخذت حقها مع أنها لم تتحقق كاملة، بل فقط مررت على ذكرها باختصار شديد. بفضل هذا الوهم خففت من ذلك الحمل الذي كان على كتفي وصنعت فيلماً أنا سعيدة به اليوم.

ما تغير بعد إنجازي لهذا الفيلم، هو علاقتي وطبيعة إحساسي بمرور الزمن. ففي عمر الخمسين قمت بنقلة حقيقية مع فيلمي الطويل الأول هذا، بعدها صار طعم الزمن مختلفاً جداً. صار لدي إحساس أنه يسبقني، وأنني يجب أن أركض خلفه، وأركض وأنا أصنع أفلامي. هكذا أضحيت ألهث لأستطيع تحقيق كل ما أفكر به وأرغب بإخراجه للنور. اليوم أشعر أن روحي مكتظة بالمشاريع التي علي أن أحققها ولن أسمح لنفسي بعد الآن أن أهدر الوقت كما فعلت في الماضي.

نال فيلمك هذا جوائز عالمية، وشارك في مهرجانات عدة، لكنه منع في سورية ما السبب برأيك؟ وهل عرضت لك أفلام أخرى في سورية؟

– كان عرضه الأول عام ٢٠٠٦ في مهرجان فينيسيا، وكان الفيلم الوثائقي السوري الأول الذي يُعرض في مهرجان دولي، عمره تقريباً سبعون عاماً. رفرف يومها العلم السوري بين أعلام الدول المشاركة، وكان لذلك أثر عاطفي ووجداني علي. مُنع الفيلم في سوريا بطريقة مباشرة جداً وبعيداً عن اللف والدوران كما يحدث عادة بقرارات الرقابة غير المعلنة. كان عرضه مقرراً في سينما الكندي في دمشق، برعاية السفارة الإسبانية ضمن نشاط تنظمه المخرجة المصرية أمل رمسيس، لعرض مجموعة أفلام، حوالي (12) فيلماً،  لمخرجات أفلام ناطقة أو مترجمة للإسبانية، لكن طرفاً يمثل السلطة السورية طلب من الملحق الثقافي الإسباني عدم عرض فيلمي، وأن حضوري للعروض الأخرى غير مسموح به ومنع يومها أيضاً، على ما أذكر، فيلم مكسيكي من المجموعة. وتم بشكل رسمي طلب إزالة عنوان الفيلمين من كتالوج هذا النشاط السينمائي بالإضافة لمنعي من التواجد في صالة العرض. فارتأت منظمة التظاهرة توقيف كل العروض مع إعلان السبب الحقيقي للصحافة بكل وضوح.

أتساءل حتى اليوم؛ ما سبب منع بوح بعض النساء عن تجربتهن وآلامهن وأحلامهن؟ كيف يمكن أن يكون ذلك مؤذياً لهيبة الدولة؟ الحقيقة لا أعلم!

لقد تكرر هذا الأمر مع أفلام أخرى كثيرة، مثل فيلم لعمر أميرلاي، بعنوان (الحياة اليومية في قرية سورية) وقد نظمتُ له عرضاً منذ عدة أشهر بمرسيليا، ونحن اليوم في عام ٢٠٢٣ والفيلم مازال حتى اليوم ممنوعاً في سوريا، رغم أنه أنجز عام ١٩٧٣ أي منذ خمسين سنة!

 -ما حجة في منع فيلم ما، وبعد كل هذه الزمن؟

فيلم يحكي عن واقع أشياء غير متخيلة أو غير مخترعة، بل من صلب حياتنا وهو لم يفعل سوى تسليط الضوء عليها.

 إنهم يخافون من الحقيقة ويعملون على أن تبقى في العتمة. الرقيب هو من يحدد ما على المتفرج أن يرى ويقول: “أنا بعرف شو لازم تشوف وشو ما لازم تشوف “! هذه الرقابة الغبية التي ما زال يطبقها حتى اليوم نظام القمع في بلادنا!

أما عن الشق الثاني من سؤالك حول عرض أفلام أخرى لي في سوريا فلم يحدث على ما أذكر سوى عرض فيلم وحيد هو «هيه! لا تنسي الكمون» ِ وذلك ضمن نشاطات داخل المركز الثقافي الفرنسي.

-هناك كثير من السوريين، وخاصة الشباب لا يعرفون هالة العبد الله، ما تأثير ذلك عليك.  إلى أي حد يؤلمك ذلك؟

الحقيقة أنا غير معروفة في سوريا لا لجيل الشباب ولا للكبار أيضاً وهذا الشيء لا يفاجئني وبالتالي لا يؤلمني ولا أقوم حتى بالتساؤل عن ذلك. لأنني أولاً على دراية بالوضع العام للبلد ومن هم تحت الأضواء فيه. وثانياً لا يعنيني أن أكون معروفة أم لا، في حال أنك تقصدين مقارنتي بنجوم المسلسلات. لا رغبة لدي بالبحث أو انتظار أو ترقب شيء اسمه الشهرة. ما يعنيني في الحقيقة؛ هو أن يكون كل إنسان في سوريا له الحق بمشاهدة الفيلم الذي يريده، أن تكون الحرية كاملة لكل الشباب، والصبايا، والكبار والصغار، للاطلاع على جديد السينما العالمية وأنواعها، وعلى أفلام المخرجين السوريين أيضاً. ما يهمني وأتمناه أن يكون هناك تواصل لي وعلاقة حقيقية مع الجمهور. وأن تتمكن السينما الوثائقية من الوصول لكل الناس. هذا شيء نفتقده في سوريا بشكل ممنهج ومقصود. ومن هنا أعتبر نفسي، متل أي مخرج آخر للأفلام الوثائقية، محرومة من حق التواصل، مع جمهور يهمني كثيراً، ليس بهدف الشهرة والنجومية، بل لأني أصنع أفلامي من أجله أولاً وقبل أي طرف آخر. قلبي يتلهف للقائه وكل ما يتمناه دوماً هو أن أستطيع عرض أفلامي له في سوريا.

فيلمك الطويل الوثائقي الأول الذي نتحدث عنه صور بالأبيض والأسود أتساءل لماذا؟ ألأنه ينبش في الذاكرة/الماضي؟ أم لأنه يصطاد في ماء العلاقة مع الذات حيث تحديد الأشياء بدقة لا لبس فيها ولا تلوين؟

– الحقيقة؛ بعد مرور سنين طويلة على صناعة فيلم “أنا التي تحمل الزهور الى قبرها” ما زال يثير فضولي حتى الآن، تفسير المتفرجين والأصدقاء، لخيار الأبيض والأسود في هذا الفيلم، وكيفية تلقيهم له. أستمتع بالاطلاع على ذلك، كما تأثرت جداً الآن حين عرفت تفسيرك له من خلال طرحك للسؤال حول هذه النقطة، لكن الحقيقة كان ذلك لأسباب أخرى.

صنع الفيلم بطريقة مغايرة لما هو متداول عادة. إذ لم تكن له فترة تصوير محددة، ولم أكتب له نصاً مسبقاً، فقد كان فيلماً يصنع عند توفر الوقت، وأثناء مشاركتي بأفلام الآخرين ويتأثر بالتالي بحسب اللحظة المتاحة للتصوير بالإضافة لرغبتي بالمغامرة الفنية، وبالرغبة بكسر القيود، والقوالب المتعارف عليها، في الفيلم الوثائقي. لقد تم تصويره في أكثر الأحيان، بطريقة عفوية وارتجالية، و بمعدات تصوير متنوعة، ليس بنفس الكاميرا ولا بنفس الضوء أو الأوقات ولا مع نفس الأشخاص، كان لدي مواد منوعة جداً، ومختلفة عن بعضها البعض، وكنت أحياناً كثيرة، أنا من يصور بشكل اضطراري (فلم تكن هذه مهنتي) ثم في بعض الفترات ساعدني بالتصوير عمار البيك. كانت كل المواد المصورة ملونة، وليست بالأسود والأبيض. وخلال المونتاج، الذي امتد لفترة طويلة، كنا نتناقش دوماً حول تنافر مواد الفيلم؛ من الناحية التقنية والبصرية وحين انتهينا من المونتاج -وكان الفيلم بالألوان- برزت هذه المشكلة بشكل أكبر.

حينها وبعد نقاش طويل بيني وبين عمار، بحثنا كيف يمكن أن نوّحد كل هذه المواد المبعثرة فنياً وزمنياً ووجدانياً، وقررنا أن نجرّب رؤيتها بالأبيض والأسود. حين حولنا الفيلم للأبيض والأسود أحسسنا بالوحدة البصرية التي نريدها، وصار هناك نوع من الألفة بين اللقطات، وفي نفس الوقت وجدنا أن الأبيض والأسود، بالإضافة لتخفيفه الكثير من المشاكل، أضفى نوعاً من الإحساس بالماضي وبالذكريات وبالنوستالجيا، ما أدخل على الفيلم شيئاً من الدفء والحنان أيضاً، وهكذا اعتمدنا أخيراً خيار الأبيض والأسود.

كتبتْ دعد حداد بتفرد بلاغة الألمفهل أردتِ حين تقولين: أريد لدعد أن تكون ملكة الفيلم كشف تلك البلاغة لدى شخصياتك أيضاً؟ أم استخدمت نفس البلاغة بربط التجارب والمواضيع مع بعضها وحيث يتجلى القهر الذي يتركه مرور الزمن؟

– حين أعمل على إنجاز أفلامي، أكرر لنفسي ما سأقوله لك الآن، وهو مثال لإيماني العميق بعملي: أشعر كأني أرمي خيوطاً باتجاه المتفرج، وأحب أن يمسك كل شخص بطرف الخيط الذي يختاره، و يسحب الفيلم نحوه، وبذلك أشعر أن المتفرج صار شريكاً معي بصناعة الفيلم، وهذا ما أريده لكل أفلامي، أي أن يكون هناك لكل متفرج قراءته الخاصة.  كأننا أمام مبنى من عدة طوابق؛ وكل متفرج يختار طابقاً له ويستقر فيه: الطابق الأول، الطابق الثاني، بلكون بدون بلكون، شبابيك بدون شبابيك الخ…

 له الحرية باختيار ودخول المكان الذي أحبَه، أو لمسه أو حتى تخيله. هذا شيء يفرحني كثيراً؛ أن تحرّض أفلامي الناس على أن تتخيل شيئاً آخر مختلفاً، بعيد أو قريب من الشيء الذي أعنيه كما تفعلين أنت بأسئلتك الآن.

بالنسبة لدعد حداد كملكة للفيلم، ومع أنني أحبيت كثيراً ما قلتيه في سؤالك حول هذا الأمر، لكن الذي حصل أنني أثناء التصوير قلت بعفوية مطلقة في لحظة ما بالفيلم أنني أريد لدعد حداد أن تكون ملكة لفيلمي. جاء هذا من إحساسي بكم الظلم الفظيع الذي عاشته دعد حداد، سواء من المجتمع، أو من الرجال الذين أحبتهم وخذلوها حين لم يقدّروا هذا الحب. في الفيلم أو خارجه تمنيت لو أستطيع ضمها ضمة كبيرة لقلبي وأقول لها: أنت جميلة جداً وحساسة جداً، أنت جريئة ومحبة وقوية. كنت أريدها أن تعرف أنها جديرة بأن تكون ملكة، ملكة الأحاسيس والمشاعر، ملكة الجرأة في الكتابة، ملكة الِشعر. بهذا المعنى قررت أن أطوَبها ملكة على فيلمي. لأنها تستحق ذلك ولم تأخذ حقها من الحياة.

اختيارك العنوان وإنهاء الفيلم بقصيدة ثم نشاهد في الفيلم لوحات يوسف عبد لكي إلى أي مدى ترين السينما حالة ثقافية يمكنها جمع هذه الفنون؟

– الحقيقة إن وصول الفيلم للمتفرج مكسب كبير لأي مخرج. بالنسبة لي أؤمن أن السينما؛ هي وسيلة تعبير تساعدني لقول ما أريد وتسليط الضوء عليه. وعلى تخفيف الضغط الذي يخنق روحي. أقاوم من خلالها، الوقوع والاستسلام لخيبات وصعوبات الحياة. إضافة لكل ذلك، تأتي أهمية السينما من وجهة نظري بأنها تجمع كل أِشكال الفنون ففي السينما سرد، ورواية، وجمال بصري له علاقة بالتشكيل واللوحة. في السينما شغل على الضوء، والصورة والحركة، وعلاقة مع ممثلين أو شهادات أشخاص يبوحون ويعبرون عن أنفسهم، وهناك المؤثرات الصوتية والموسيقى، وتطويع الأغاني لخدمة دراما الفيلم. فعلاً السينما تجمع كل أنواع الفنون بلحظة واحدة. حتى انتقاء عنوان الفيلم أو النهايات التي نسميها “الجينيريك” هذه الأمور التي نختار حلولاً لها في الغرافيك أوالخط أو الأرشيف، تأتي من عالم فني مختلف لتغني الفيلم، حتى ولو جاءت كإضافات في اللحظات الأخيرة.

في نفس الوقت فإن الفيلم، يمثل فسحة من الحرية لكل أنواع الفنون لتتداخل مع بعضها وتجتمع وتأخذ مكاناً لها بزاوية ما منه، فتكون منسجمة أو متناقضة مع ما يليها أو ما يسبقها. قد تفتح له طريقاً أو تتغلب عليه وتدفعه الى الوراء.  يتم هذا الفعل علناً او سراً بشكل بنّاء أو هدّام. هذا الجانب البديع والغامض في السينما هو الطاقة السحرية التي تنطلق من فيلم ما باتجاه المتفرج فيلمسه بفضلها ويستمتع به ويدخله الى قلبه.

كانت أفلامك واقعية ووثائقية وتناولت مواضيع شتى من السياسة إلى الاجتماعي والعائلة وماذا في ذهنك من قضايا جديدة؟ وهل في بالك إخراج فيلم روائي وما المانع؟

– لأنني صرت بعيدة عن سوريا، ولم أتمكن من زيارة بلادي منذ اثني عشر عاماً، سواء لفترة قصيرة أو طويلة، لم أعد أسمح لنفسي بالحديث عن الواقع السوري. لأنني أشعر أني أضحيت بعيدة بعض الشيء رغم أني أتابع كل المستجدات وتغيرات الواقع، وأتلمس عن بعد نبض البلاد دوماً. ولكن لم أعد أجد لدي المصداقية حالياً للعمل على فيلم وثائقي عن الوضع في الداخل السوري.

بجميع الأحوال منذ فترة أجد نفسي ميالة للعمل على قضايا النساء بشكل عام. هذا ما يشغلني حالياً وسأحاول أن أعمل عليه أكثر.

بالنسبة للسينما الروائية، فأنا منذ سنتين تقريباً أحضّر لمشروع فيلم روائي قصير، وأتأمل أن أتمكن من إنجازه قريباً. فهو جاهز للتصوير، ولكني أنتظر الحصول على التمويل اللازم لتغطية الحد الأدنى من احتياجات الفيلم المادية. أتشوق لخوض تجربة جديدة شخصية لها علاقة بالسينما الروائية، خاصة أنني عملت كثيراً مع مخرجين آخرين على أفلامهم الروائية، وكان لي فيها تجربة مهمة تعلمت منها الكثير.

أخرجتِ فيلماً عن المخرج السوري عمر أميرالاي رغم أنك عملتِ مع غيره من مخرجين سوريين لا يقلون أهمية عنه فلماذا هو بالتحديد؟

– عندما أصنع فيلماً عن شخص ما أو شخصية ما، فليس لأنه أهم شخصية أو أهم فنان في العالم، ولكن لأن هناك نداء ورغبة تغليان في أحشائي، هناك فضول وثقة بأنه ستكون هناك نتيجة إيجابية، ودخول لأماكن كانت مغلقة لدى هذه الشخصية، وأنني سأتمكن من تسليط الضوء على أماكن عاتمة في أعماقه. هكذا أعمل على مواضيعي التي أتناولها في مشاريعي، سواء كانت شخصية أو موضوع عام. فليس الأمر هو مقارنة بين أحد وآخر من حيث الأهمية أو القوة، بل قصة مزاج ورغبة وشعور بالضرورة، وهذا ما يولد في أعماقي دون أسباب موضوعية.  إضافة إلى أن عمر أميرلاي هو صديق زمن طويل، وهو مخرج سوري لديه حوالي 25 فيلماً مواضيعها مرتبطة بالحرية، وبالموقف الاجتماعي والسياسي الواضح مع العدالة، وضد الظلم والاضطهاد و90 بالمائة منها ممنوع. كان لعمر مواصفات مختلفة عن الآخرين من الناحية الموضوعية، لكن في الحقيقة حين أرغب بصناعة فيلم لا تكون دوافعي موضوعية، بل تكون فعلاً دوافع داخلية وشخصية بحتة.

ما رأيك بواقع السينما في سوريا حالياً؟

ــ أفضل أن أقول السينمات بالجمع لوجود حالات متنوعة من الإنتاج السينمائي ظهرت بعد الثورة السورية. ففي الداخل السوري هناك إنتاج سينمائي رسمي يصفق للسلطة، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ويدعمها ويقف ضد من عارضها وقاومها. وهناك نوع آخر يمكننا وصفه بالضبابي، هم أولئك الذين لا يعلنون موقفاً سياسياً واضحاً، فيصنعون ما يسمى سينما حيادية وهذا ما أسميه هروباً من مواجهة الحقيقة. وهؤلاء لهم أعذارهم إذ ربما هم لا يملكون الطاقة أو الرغبة بتحدي السلطة.

 ومن جهة أخرى وفي الصف المقابل فمن المؤكد، أن هناك الكثير من المشاريع والأفلام الاحترافية التي تطبخ على نار هادئة في سوريا. وستظهر في يوم من الأيام إلى النور وسيكون فيها نفَس مختلف جميل وجريء ومتميز. لا بد أن هذا سيحصل في السنين القادمة.

  بالنسبة للوجه الآخر للسينما التي ظهرت بعد الثورة، فهناك كثير من المحاولات للتعبير عن المعاناة اليومية التي يعيشها الشعب السوري، إن كان تحت القصف أو في سجون النظام أومن الظلم والقمع في كل تفاصيل الحياة أوعن أنواع الموت، والهلاك أثناء محاولات الهروب الى المنافي. وهناك أيضاً الكثير من الأفلام التي تتأمل المستقبل، وتعرض وسائل المقاومة والتحدي. ويمكن أن نرى في كل هذا الإنتاج السمعي البصري، روحاً تجريبية ومغامرة ورغبات قوية لدى الجيل الشاب، بأن يستخدم وسائل التعبير هذه ليقول كلمة الحق، ويدافع عن العدالة والحرية. ولكن ليس بالضرورة أن تملك هذه الأفلام قيمة فنية متميزة أو سينمائية عالية. وفي هذا السياق لا يمكن أن نتجاهل دور وأهمية وجرأة هؤلاء الأشخاص الذين قاموا بإخراج أفلام وثائقية سجلوا فيها لحظات العنف التي طبقها النظام السوري على كل من رفع رأسه وصوته ضده. هؤلاء الذين غامروا بحياتهم وهم في سوريا كي يسجلوا الواقع، وينشروا الحقيقة رغم إدراكهم لإمكانية دفع الثمن غالٍ. منهم من كان محترفاً ومنهم من كان يصوّر بعفوية وارتجال، دون أية معرفة أو خبرة مهنية. منذ بداية الثورة ولد هذا النوع من الإنتاج البصري السمعي الذي سمحت لنفسي بأن أطلق عليه تسمية سينما المؤلف الوثائقية، رغم ما تخلل هذا النوع من بدائية سينمائية في بعض الأحيان.

من جهة أخرى ظهر نوع آخر من الإنتاج السينمائي في دول الجوار أو في أوروبا، نضج وصار له وجود وهوية واضحة، عن طريق التدريب والاطلاع والمعرفة والتجربة فانتشرت مجموعة كبيرة من الأفلام، التي فرضت نفسها بفضل قيمتها السردية والسينمائية العالية، رافقت الثورة عن بعد وساندت الشعب السوري في مطالبه بالحرية والكرامة. وأخيراً هناك نوع من الأفلام التي صنعها بعض المخرجين السوريين في الخارج، وهي تميل لاستعراض العضلات ومداعبة الغرب، إما بهدف الحصول على دعمه التمويلي أو للانتشار في أوروبا ودخول المهرجانات.

 للأسف أنها نجحت في سرقة الأضواء وأنا أعتبرها نوعاً من السينما الانتهازية التي تسلقت الثورة ثم أدارت لها ظهرها. ورغم أنها وصلت أحياناً لمبتغاها ونالت جوائز وشاركت في مهرجانات مهمة. ولكنني شخصياً لا أعوّل على هذا النوع ولا أثق به. هذا للأسف طريق مُغرٍ ويفتح الشهية على محاولة اقتناص الفرص. وكم أتمنى من الشباب أصحاب المواهب المتميزة، أن لا يتورطوا في تجارب انتهازية مثلها.

هناك تجارب سينمائية سورية شابة تحصد جوائز هل تتابعين هذا الجيل الشاب وما يفعله ورأيك بهذه التجارب؟

– من واجبي أن أتابع وأرافق بحرص وجدية إنتاج الجيل الشاب. يعنيني هذا الأمر، لأنه يمثل مستقبل السينما السورية أولاً. وثانياً لأنه يمنحني طاقة منعشة، ورغبة أكبر لأعمل على أفلامي الشخصية. لدي يقين بأن هناك إنتاج جديد يكبر وينضج مع هذا الجيل. أحرص لأن أتفاعل معهم ونتبادل تجاربنا سواء الذين في الداخل، حيث أرافقهم عن بعد وأساندهم في مشاريعهم في مراحل الكتابة، أو أثناء الإخراج، وكذلك الأمر لمن هم في الخارج بالإضافة لأني أشرف أيضاً على دورات تدريبية لهم. حيث أتعامل منذ سنين طويلة باهتمام ومثابرة مع هذا الأمر، وقد منحته الكثير من وقتي وجهدي وتجربتي. وأنا سعيدة ومؤمنة بعمق الفائدة المتبادلة بيني وبينهم. أما عن الجوائز التي يحصلون عليها فلا أتوقف عند هذا الموضوع طويلاً. لا أؤمن بأن الجائزة تعطي قيمة حقيقية للفيلم فقيمتها إعلامية ولحظية وبراقة. قد يكون الحصول على الجائزة منعشاً للمخرج، ويحفزه على العمل ويعطيه الحماس، وهذا جانب إيجابي خاصة حين يكون للجائزة مصداقيتها وليس فيها مسايرة أو دعم سياسي. لا أنكر ذلك طبعاً ولكن يجب أن لا ننسى أن إقرار الجائزة له علاقة بمجموعة محدودة من الأشخاص، يحكّمون الفيلم ويتفقون على منحه الجائزة، في لحظات تتعلق بالمزاج والذوق وكمية ونوع الأفلام المتنافسة معه. المشاركة بالمهرجانات هي فرصة جميلة للقاء المخرج مع متفرجين من ثقافات وأذواق متنوعة ولمتابعة سينما بلاد أخرى وخوض نقاشات غنية تبلور الرؤية السينمائية وتصقلها. ولكن هذا لا يستدعي أبداً الهوس بالسعي خلف المهرجانات واختبار عدم المشاركة بها أمر مأساوي.

هل تنتظرين معي أن ينجز أحد ما فيلماً عن هالة العبد الله وأن تكون ملكة فيلمها؟

 – بالتأكيد لا أنتظر ولا أسعى لذلك أبداً. إن حدث مستقبلاً تجربة من هذا النوع، وتمّ ذاك التماس الداخلي بيني وبين مخرج أو مخرجة ورغبوا أن يعملوا فيلماً عني، فلن يكون لدي مانع، ولكن بشرط أن أشعر بوجود هذا النداء الجواني لدى الشخص الذي سيصنع الفيلم عني. مثل النداء الذي يحرضني أنا حين أعمل أفلامي حول الآخرين.

 إن رغبتُ يوماً أن تكون دعد حداد ملكة لفيلمي، فلأنها كانت إنسانة شاعرة رقيقة وحساسة، عانت بشكل هائل من ظلم واضطهاد الرجل والمجتمع لها وكانت جريئة ومقدامة برفضها لا عدالته، وعدم خضوعها لكل هذا، فعاشت على الهامش ودفعت ثمن ذلك غاليا. دفعت حياتها ثمناً لتفردها وحريتها ولعدم انصياعها لهذا المجتمع.

 ولكل هذا أحببت أن أنّصبها ملكة على فيلمي. ولكنه أمر غير وارد بالنسبة لي ولا يمكن أبداً أن أقارن نفسي بها.

قُسْطنطين زريق وحلمه باتحاد قوى التحرر والتقدم المسيحية-الإسلامية

قُسْطنطين زريق وحلمه باتحاد قوى التحرر والتقدم المسيحية-الإسلامية

أعتقد أنَّ أزقة حي القيمرية في دمشق ما تزال تردّد وقع خطوات قسطنطين زريق (1909-2000) إلى يوم النّاس هذا، وهو يسير في هذا الحيّ الذي ولد فيه؛ لكنَّ ضِيْقَ هذه الأزقة لم يمنعه من التفكير أو التنظير لحضارة عربيّة شامخة يُجَلِّيها شعور قوميّ عميق يسري في دخيلة كلّ واحدٍ من أبنائها. إذ كان هاجسه الوحيد هو تكوين دولة عربية مترامية الأطراف تتلاشى فيها الحدود المصطنعة، لتسري فيها روح شعب واحد توحِّده عوامل مشتركة أكثر أولويّة مما يزرع الفرقة والتناحر والبغضاء من عرقيّة وطائفيّة وقبليّة.

  امتاز قسطنطين زريق بفهمه العميق لدور المسيحيين الجوهريّ في تكوين الدولة العربيّة المنشودة؛ وهو بصفته مسيحيّاً اكتشف أنَّ مهمة تشييد صرح الحضارة العربيّة في المرحلة المعاصرة لن تكون ممكنة على الإطلاق ما لم يشارك المسيحيون فيها مشاركةً أصيلةً، فهو يريد كشف حقيقة باقية، حقيقة أنَّه يجب على المسيحيين العرب ألا يدخلوا في متاهة الذوبان في الدول الأجنبية، شرقاً أو غرباً، لاعتقادهم أنَّ العامل الدينيّ يوحّدهم مع الآخر الأجنبيّ-المسيحيّ، ويفصلهم في الوقت نفسه عن أبناء جلدتهم من المسلمين العرب. ويقتضي هذا الوعي أنَّ مشروع الوحدة القوميّة العربيّة فاشل مسبقاً من دون إسهام كياني للمسيحيين العرب فيه، ولن يرتد هذا الفشل على المسلمين وحدَهم؛ بل سيكون ارتداده أكثر خطراً على المسيحيين أنفسهم؛ لأنَّ مفهوم العروبة هو مفهوم كينونيّ لا يقبل أيّ مجال للمساومة، والتخلّي عنه يعني التخلّي عن الهُويّة الوجوديّة الأعمق للإنسان.

ولقد برع قسطنطين زريق في فهم الواقع العربيّ، وكان سبّاقاً من بين المفكرين العرب كافةً إلى التفكير، استناداً إلى استشراف علوم المستقبل، لرسم رؤى لمصير الشعب العربيّ.

رجَّحَ أنَّ هناك احتمالاً مستقبليّاً لاستمرار قوى الطغيان والرجعيّة والتخلف في الأنظمة الديكتاتوريّة-الاستبداديّة ليس في الوطن العربي وحده، بل في العالم كلّه، وسيكون ذلك على حساب قوى التحرّر والتقدّم، وستزداد القوى الأولى شراسة ووحشيّة لما تمتلكه من أدوات قمع على نحو يؤدي إلى القضاء على الحريات رغم الكثرة الكاثرة من الشعارات التي تطلقها هذه الأنظمة باسم حرية الشعوب. ولن يكون هناك أيّ مجال لديمومة قوى التحرر والتقدّم، وستتجه نحو الزوال، وحينها سيفقد الإنسان الشعور بمعنى وجوده، ونبَّهَ إلى أنَّ الأنظمة الديكتاتوريّة ستتحالف على نحوٍ حتميّ مع دول أجنبيّة تبعاً لمصالحها، وهنا ستخضع الشعوب لتمزيق مزدوج: داخليّاً بسبب سلب الحريّات الذي يقوم به الطُّغاة، وخارجيّاً بسبب الهيمنة السياسيّة الغربيّة. وهنا سيتجه مصير الحضارة العربيّة نحو السقوط في هاوية سحيقة لا قرار لها.

ويضع قسطنطين حلاً احتماليّاً لاجتناب هذا السقوط الحضاريّ العربيّ، ولن يكون هذا الحلّ ممكناً إلا بتعاون المتحرّرين العرب من مسيحيين ومسلمين، وإن لم يحصل هذا التعاون فلا يوجد أمامنا إلا الخراب، لذلك لا بدّ من نضال عربي مسيحيّ-إسلاميّ مشترك.

 يقول: “إنَّ هذا يعني المزيد من التلاقي بين المتحرّرين في الجبهتين الإسلاميّة والمسيحيّة ومن التفاعل الخيّر في سبيل تخليص المجتمع من رواسب الماضي، والانفتاح على القوى التقدّميّة في العالم، والتعاون وإياها في شق طرق المستقبل.”[1]

وحذّر من إمكانيّة ظهور قوى تقدّمية وتحرريّة، لكن قد تنمو مؤسساتيّاً على نحو يؤول بها إلى أن تتحوّل إلى شكل جديد للديكتاتوريّة، فالنمو أو التطور حتى للقوى الثوريّة الأصيلة يكتنف مخاطر قد تنعطف بهذه القوى أنفسها كي تتحوّل إلى قوى قامعة للناس بذريعة المحافظة على الثورة أو حماية الثورة.

والحقيقة أنَّ تركيز قسطنطين على أنَّ إمكانية النهوض الحقيقيّ بالأمة العربية مشروطة بالتعاون الثوري المسيحيّ-الإسلاميّ، لا يعني أنّه يصدر في تفكيره عن مطالبة بنوع من الوحدة الساذجة بين أتباع دينين رئيسين في العالم العربيّ، من أجل بلوغ ضرب من علاقة تركيبيّة مفتعلة أثبت استقراء وقائع التاريخ أنّها لم تتحقّق على نحو مثاليّ.

إنَّ دعوته للتعاون المسيحيّ-الإسلاميّ يجب أن تُفهم في أفق فلسفته لمعنى الحضارة الإنسانيّة، لأنّه يؤكد أنّه لا يمكن على الإطلاق فهم أيّ حضارة من الحضارات ما لم يتم فهم الأديان المنتشرة فيها. وهنا يجب الانتباه إلى أنَّ قسطنطين امتلك رؤية عميقة جداً بخصوص معنى الدين ففي رأيه أنَّ فهم حضارة من الحضارات لا يعني فقط فهم الأديان السماوية أو التوحيدية الموجودة فيها؛ بل لا بدّ من معاملة مختلف أنواع الدّيانات حتى الوثنيّة منها بطريقة الفهم نفسها، وإلا سيكون فهم الحضارة منقوصاً، فكلّ شكل من أشكال الدّين يجب التعمّق فيه حتى لو كان مرفوضاً من قبل الأكثريّة، فروح الحضارة تتجلّى في الأديان المنبوذة والمرفوضة كما تتجلّى في أكثر الأديان أتباعاً؛ بل يذهب قسطنطين إلى أبعد من ذلك، إذ يعتقد أنّه حتى في الحضارات التي تغلب على ثقافاتها التيارات الإلحادية في مختلف أشكالها يمكن أن نكتشف في مجتمعات هذه الحضارات نفسه نوعاً من التديّن. إذ يقول: “…إنَّ لهذه المجتمعات، وإن ضعف اهتمامها بالدين بهذا المعنى الذي نتحدث به أو أنكرته وحاربته-إنَّ لها أديانها الخاصة بها بمعنى أعم لهذه الكلمة، فالماركسية مثلاً بهذا المعنى دين، مهما اشتدّ استبعاد أبنائها لهذا الوصف ورفضهم إياه. إنّها عقيدة لها أنبياؤها وأتباعها، وأركان إيمانها وقواعد سلوكها، ونظمها وطقوسها وأوصاف أخرى كثيرة شبيهة بأوصاف الأديان المعروفة…وكذلك قد تتخذ القوميّة-كما اتخذت في الفاشية والنازية-صفة الدِّين وتقوم مقامه. وهكذا إنَّ كلَّ دين –بمعنى ما يدين به المجتمع وما يعتقد أنه الحقيقة هو عنوان بارز لحضارة ذلك المجتمع ودليل من أوفى الأدلة عليها.”[2]

ويمكن أن نستنبط من أفكاره في هذا المقام انّه أراد تحقيق وحدة دينيّة أعلى بين المسلمين والمسيحيين، من أجل بلوغ ما يمكن أن نسمّيه مجازاً دين الحضارة القوميّة العربيّة، ولا شك في أنَّ هذا الإخلاص الكبير من قِبَلِه لمعنى الوحدة الحضاريّة العربيّة يعني أنّه في أعماقه كان شغوفاً إلى أقصى حدّ للارتقاء بالعرب على مستوى يجعل منهم قوّة حضاريّة عظمى على المستوى العالميّ.

لكن يبدو أنَّ التنظير مهما كان عميقاً لا يمكن أن يكون قادراً على تغيير الواقع، وهذه إشكاليّة كبرى في تاريخ الثقافة البشريّة، فالفكر شيء والواقع شيء مختلف تماماً، ولئن حاول الفكر تقديم طُرق لإنقاذ العالم –وهذا حقّ متاح للمفكِّرين-إلا أنَّ الوضع مرتهن في هذه الحالة بعبقريّة المفكِّر وقدرته على استقراء المشكلات والحلول، وليس هذا ممكناً للجميع، لأنّنا نجد كثرة كاثِرة من الحلول الفكريّة الساذجة التي لا تدلّ على أيّ قراءة موضوعيّة للواقع، ولا تعدو أن تكون أضغاث أحلام أو أوهام.

والحقيقة أنَّ آمال قسطنطين زريق بتكوين حضارة عربيّة عظيمة كانت مبنيّة على فهمه الموضوعي لإمكانيات النجاح والإخفاق في هذا العمليّة، لكن يظهر أنَّ قراءة الفيلسوف الألماني هيغل لمسار تطور الحضارات البشريّة تبقى القراءة الأكثر ألماً بالنسبة لنا نحن العرب، ففي رأي هيغل أنَّ الحضارات الشرقيّة على وجه التحديد ومنها الحضارة العربيّة لن تتجه على الإطلاق نحو التطور. ذلك لسبب رئيس وهو أنَّ الشرقيين لم يعرفوا على الإطلاق معنى الحريّة الذاتيّة، وإن عرفوا أيّ معنى لحرية الإنسان، فستكون هذه المعرفة متصلة بحرية شخص واحد هو الإمبراطور أو الملك أو الديكتاتور، فهو وحدَه الحرّ!

  يقول هيغل: “لم يحرزْ الشرقيون أي معرفة بأنَّ الرُّوحَ-الإنسانَ، بما هو عليه، حرّ؛ وبسبب أنّهم لا يعرفون ذلك، فهم أنفسهم ليسوا أحراراً. إنّهم يعرفون أنَّ هناك شخصاً واحداً يمكن أن يكون حُرّاً؛ لكن انطلاقاً من هذا الحسبان بالذَّات، فإنَّ حريّة هذا الشخص الواحد ليست سوى نزوة (…) كانت الشعوب الألمانيّة German nations تحت تأثير المسيحيّة أوّل مَنْ بلغ وعي، أنَّ الإنسان، بوصفه إنساناً، حُرٌّ، أي إنَّ حريّة الرّوح هي التي تكوِّن ماهيته the freedom of Spirit which constitutes its essence”.[3]

لكن هل تستطيع الشعوب العربية تحت تأثير اتحاد قوى التحرر والتقدم المسيحية-الإسلامية فيها أن تعرف معنى الحريّة –كما أراد قسطنطين زريق؟

ننتظر الجواب الواقعيّ أو العينيّ عن هذا السؤال، ونأمل أن تبطل نظريّة هيغل في فلسفة الحضارة لتحلّ محلّها نظرية هذا السوريّ الكبير.

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”

الحواشي:


[1] -قسطنطين زريق، المسيحيون العرب والمستقبل، في: المسيحيون العرب: دراسات ومناقشات، المحرر: الياس خوري، مؤسسة الأبحاث العربية، 1981، بيروت، ص: 119.

[2]-قسطنطين زريق، في معركة الحضارة: دراسة في ماهيّة الحضارة وأحوالها وفي الواقع الإنساني، دار العلم للملايين، بيروت، ط4، 1981، ص: 96.

[3] – HEGEL, G. W. F., LECTURES ON THE PHILOSOPHY OF HISTORY. TRANSLATED FROM THE THIRD GERMAN EDITION BY J. SIBREE, M. A., LONDON: GEORGE BELL & SONS, YORK ST., COVENT GARDEN, AND NEW YORK. 1894. P.19.

قراءة في كتاب “جَدَد القول – هموم وأوهام في الفكر الإسلامي”

قراءة في كتاب “جَدَد القول – هموم وأوهام في الفكر الإسلامي”

صدر كتاب “جدد القول، هموم وأوهام في الفكر الإسلامي” حديثاً عن دار الجديد للكاتب السوري محمد أمير ناشر النعم، والجدد حسب ما يشرح الكاتب في مقدمته هو القول الذي لا اعوجاج فيه ولا التواء، وهي إشارة لسلوكه الدقة في وضع اليد على مكامن الخلل كما يراها وتقديمه رؤى في سبيل تجاوزها. ولعل تضمين الكتاب جانباً من سيرته الذاتية ما هو إلا تقديم شهادة حية لتلك الهموم التي تَلمسها بشكل شخصي، إذ يحدثنا عن نشأته في مدينة حلب والتحاقه بالمدرسة الخسروية ( الشرعية) التي تخرج منها أعلام في الفكر الإسلامي في عصر النهضة لكنه صدم بالأساليب التي كانت تمارس والأفكار التي تغذيها إدارة المدرسة من التعصب الديني والمذهبي ومحاصرة الأساتذة الذين يتميزون بآرائهم بتهمة الآراء الشاذة عبر تحذير الطلاب من تعاليمهم وفكرهم. إلا أن الكاتب اعتمد على نباهته فاقترب كما يمليه عليه تفكيره من هؤلاء الأساتذة بالمسافة التي هيأت له نمو فكره وتمكنه من تكوين الوعي ورفض ما يتعارض مع عقله، و رفد  ذلك بالقراءة والاطلاع والانفتاح على الثقافات الأخرى وعلومها، وعدم الاكتفاء بمصدر واحد، حتى وصل إلى تكوين شخصيته الفكرية ونبذ التعصب وأراد الوصول الى التسامح الذي لا يستند على الإلحاد كنوع من رفض الأديان ولا على اللا يقين أو الشك بل أراد تسامحاً يستند على إيمانه ويقينه في قبول الآخر كما هو والتعايش معه.

مدخل إلى الكتاب

يبدو غريباً لأي قارئ استناد الكاتب في البداية إلى قول برنارد شو:  “سيأتي على البشرية زمان يدينون فيه بدين واحد ويتكلمون لغة واحدة أما ذاك الدين فهو الإسلام المجدد وأما اللغة فالإنكليزية “.

الغريب هو أن يأتي هذا الكلام بعد ما رأينا من أحداث اختتم بها القرن العشرين كأحداث أيلول والتي وضعت العالم تحت الخطر الإسلامي واقترانه بالإرهاب وما تلا ذلك من ظهور الجماعات الاسلامية المسلحة والمتطرفة ونشاطها في العالم وخاصة بعد حرب أفغانستان، أضف ما يحدث في الغرب حيناً بعد آخر من حرق للقرآن أو رسوم مسيئة للرسول والضجة المرافقة لذلك.

ولعلنا نلاحظ على الجهة الأخرى، اعتناق بعض الغربيين للإسلام وخاصة بعد الربيع العربي وانخراط بعضهم في الجماعات المتطرفة تحديداً ومشاركتهم في حروبها في أماكن شتى. فهل هو تحقيق للنبوءة أم أنهم ضحية  للتغرير بهم من قبل  الدعاة واستغلال الخواء الروحي الذي يعاني منه الغرب ويتجذر؟

أزمة الثقافة الإسلامية

لا يحسّن هذا صورة الإسلام كدين ومعتقد ولا الثقافة الإسلامية التي ما زالت تتقهقر في الواقع، ويرى الكاتب أن الإسلام على وضعه الحالي لا يمكن أن يحقق نبوءة طالما لا يتجاوز عيوب أساليبه في التعاطي مع نفسه أولاً ومع الآخر ثانياً.  متوقفاً عند مفاصل مهمة ومؤثرة  لضرورة البحث عن الأسباب ودراستها للنهوض من جديد . أما المفكر الجزائري مالك بن نبي فقد وضع شرطاً لذلك وهو تجاوز أزمة الحضارة التي يعاني منها الفرد المسلم.

  تتجلى ازمة الثقافة الإسلامية حسب رأي الكاتب في:

1 غوغائية في إدراك المفاهيم والمعطيات المعرفية الإسلامية،

2 خلل في التحويل والتطبيق.

أما الغوغائية فهي ” في عدم الدقة في النقل والتقصي حول الأصل” وفي التحقيق، واعتماد بعض المفاهيم دون الأخرى وعدم ضبط معناها ودلالاتها، أو مراعاة تماسكها وطغيان جانب على آخر. يقول الكاتب :” إن شرط الإحاطة ضروري لبناء تصور واضح ومتناسق بين الكل والجزء ومن غير ذلك سيكون المسلم في مرحلة تأتأة عقلية”.  فهناك مثلاً الكثير من الحوادث والأحاديث نسبت للرسول دون تدقيق ومن قبل أشخاص عاشوا بعده على الأقل بمئة عام معتمدين على الذاكرة الشفوية التي ولا شك عرضة للتضخيم والأسطرة وخاصة حين تتناول شخصاً هو نبي الله وامتد هذا إلى ما نُقل وأُشيع عن الحوادث المفصلية في التاريخ الإسلامي وآراء ومقولات تنسب للمذاهب المختلفة محاولة  التقليل من شان أحدها على حساب الآخر.

كما هناك الخلط بين العادات والدين ووضع العادة مكان الدين وتقديسها بينما تختلف العادة من زمن لآخر ومن بيئة لأخرى. وكذلك تقديس الأقوال ومعاملتها معاملة النص الأصلي؛ فالقول والتفسير يعتمد على قدرة الشخص على الفهم ومرجعيته الثقافية .

 يضاف لذلك، الهوة بين المفاهيم والتطبيق والحاجة إلى إعادة تعيين المفاهيم، إن الاعتراف بالخلل وأزمة الثقافة الإسلامية هو البداية للخروج من بؤرة موحلة تغرق فيها.

الفقه الإسلامي المعاصر

يميز الكاتب بين الفقيه والمتفقه للتمييز بين العالِم والمدَّعي وعبر استعراض تاريخي نتعرف على مجموعة من الفقهاء ظهروا مع عصر النهضة يصفهم الكاتب بالعبقرية والموهبة والعقل الراجح قاموا بوضع  أحكام الفقه الاسلامي بدقة وإحكام ولكن من جاء بعدهم بدد و هدر ما تركوه من ثروة معرفية وثقافية في فهمهم الخاطئ لدور الفقيه إذ أخذوا يتدخلون في حياة الإنسان في الشاردة والواردة ويطلقون فيها فتاوى وأحكاماً حتى صار فقهاً متقزماً. وانقسموا إلى فريقين الأول مذهبي تقيد بأحكام مذهب معين والثاني أنكر المذهبية وأراد العودة للكتاب والسنة وبدأ بينهما التكفير واللعنات والشتائم. وكانت كليات الشريعة ترفد كلا من الفريقين بفقهاء جدد ومشرعين لم يخرجوا عن الطريق الذي رسم لهم رغم أن بعضهم كان جاداً في طلب العلم.

تكاثرت الفتاوي التي لم تقتصر على العبادات بل طالت حياة الناس الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وحملت صيغة وقوة الإلزام وأحكمت الطوق على عنق الإنسان وحرمته الحياة الطبيعية وسبيلها في ذلك العودة إلى الذاكرة لاستنباط الأحكام دون تمريرها بالمحاكمة المنطقية والعقلية التي تتطلبها التغيرات الحضارية والزمنية.

فخرجت عن جوهرها الحقيقي وهو تيسير أمور الناس في ظل التطورات اللاحقة والمتسارعة وصارت في الواقع عرقلة للحياة العامة سواء على الصعيد الاجتماعي أو الاقتصادي أو الحضاري أو العلمي ويذكر الكاتب أمثلة كثيرة منها فتاوى الطلاق وأخذهم بالطلاق الشفوي وتأمين الزوج المحلل وتحريم الاحتفال بالأعياد والمناسبات الاجتماعية كعيد الأم أو معايدة الأديان الأخرى وتحريم التجنيس للمغتربين وتحريم الالتحاق بالجامعات نظرا للاختلاط فيها كما حدث في الجزائر وتحليل صيغ العقود للتجار وغيرها كثير.

 ولعل قضية الانتحار مثال ساطع لعدم مواكبة الفقه للوقائع الجديدة.  فمع التطور العلمي في الطب التشريحي والطب النفسي تغيرت النظرة عالمياً إلى الانتحار وعرف ضمن سياق الأمراض العقلية وأمراض الهوس الاكتئابي. لكن الإسلام بقي ينظر للمنتحر من منطق العصور الوسطى حتى معاقبة من نجا من المحاولة وهذا ما يجانب الإنسانية. كما أنه من المثير للاستغراب أن تتناول الفتاوى قضايا في الطبيعة الإنسانية كالضحك والمزاح وإيجاد حكم شرعي له، ينبه الكاتب أن هذه الأحكام لا تفيد المسلم بل تخرجه من طبيعته الإنسانية السمحة وتحوله إلى آلة تنفذ المسموح به وحسب في إطار الحلال والحرام. وفي هذا السياق يأتي اختلاف الفقهاء على حكم الترحم على غير المسلم استناداً إلى تفسير سورة التوبة التي تعددت تفاسيرها أصلا وتركوا القياس بما وصلنا من أقوال أنبياء الله فالنبي إبراهيم طلب الرحمة لوالديه الكافرين وهل هناك من هو أرحم من الله .

 ثم يعرج الكاتب على الدعاة في القنوات الفضائية والشيوخ في البرامج الدينية التي تكاثرت في الفترة الأخيرة فصار واضحا أن همها الاستيلاء على المشاهد لتحقيق الأرباح للقنوات ولا تنفك عن التحسر وتأنيب المسلمين لتهاونهم في تنفيذ التعاليم وتتنافس بإطلاق الاحكام والآراء دون احترام وعي المشاهد ورأيه وتبينه الصدق من الكذب.

يقوم الكاتب بتحميل مسؤولية ما وصل إليه الفقه الإسلامي  لهؤلاء من المتفقهين والمفتين الذين لا يتحلون بالمسؤولية التاريخية، وهذا الدور ليس بالجديد عليهم فمن ينسى أن الحلاج والسهروردي وعماد الدين النسيمي قد قتلوا بأبشع الطرق وبفتوى فقهاء الدين  تلبية لرأي السلطة السياسية .

مجلس للأخلاق

يطرح الكاتب إمكانية الاستفادة من تجربة الدول الأوربية في إحداث مجالس أخلاق كمجلس الأخلاق الألماني للبت بقانونية وأخلاقية الأبحاث العلمية وتطبيقها كبنوك التهجين البيولوجي والتشخيص الجيني ومختلف أبحاث الطب الحيوي مستنداً على ما فعلته السلطنة العثمانية ذات يوم في مجاراة نابليون في سن القوانين الفرنسية ونظراً لنمو الحاجة للاستنارة بمصادر غير التبعية، فشكلت لجنة من علماء الفقه والحقوقيين والأساتذة لدراسة الأحكام الشرعية ووضع القوانين في هديها ومنهم الأستاذ شفيق شحاتة القبطي المسيحي الذي ساعد في صياغة الفقه الإسلامي ضمن نظريات الحقوق الغربية. يتساءل الكاتب: ألا يجدر بنا الاستهداء بهذا لتشكيل مجالس أخلاق على الغرار الأوربي؟

 لكن لو نظرنا إلى التطور العلمي والصناعي والحضاري لدينا لرأينا أن ذلك سيكون مجرد تقليد أعمى دون الحاجة الحقيقية له وخاصة أن الكاتب  قد أفرد فصلاً تحدث فيه عن تراجع العلوم الميكانيكية التي تحتوي كل الاكتشافات الطبية وتستند عليها الاختراعات الحديثة مقابل تنامي وبقاء علوم الاحتيال المالي والفقهي والتي تعبث بالقوانين والأحكام الشرعية. بينما ما زلنا نلوك أفكارنا القديمة وننظر للماضي العريق وإنجازاته ودون أي رؤية مسؤولة للحاضر والمستقبل. وهذا ينطبق على التعاطي مع  أفكار الديمقراطية والإصلاح السياسي والتجديد دون خطوة واحدة باتجاهه.

هدي الحيوان في التشريع الجنائي الاسلامي:

عجت وسائل التواصل والقنوات الفضائية بمقاطع فيديو وحوادث يوردها الدعاة عن سلوك الحيوان لتثبيت بعض الأحكام الإسلامية كما فعل العريفي في حادثة قتل النمل للنملة السكرانة وطردها أو زغلول النجار في  حادثة محاكمة الغربان للغراب المذنب مفصلا أحكام الغربان في عدد من الحالات تصل للقتل في حالات الزنا، أو رجم القردة التي وردت استناداً لصحيح البخاري، يقوم الكاتب بتفنيدها وبيان ضحالة الفقه والفكر لدى هؤلاء الدعاة ويعتبر أن من العار محاولة جرنا للتشبه بعالم الحيوان لتحقيق العدالة وفي  الاستدلال ما يحط من قدر الإنسان ولا يدل سوى على الإعياء الفكري في المحاكمة العقلية والشرعية علماً أن ما ينشرونه من مقاطع فيديو غير مثبت أو موثوق ويشير الكاتب إلى أنهم يعتمدون على إثارة الخوف ولا يتوخون الدقة، فمثلاً لا يخبروننا عن أحكام الحيوان: هل تقبل شهادة الحيوان الذكر مثل الأنثى؟ وهل ينظرون الى النية والقصد؟ وماذا عن إثبات الجريمة؟ وهل هناك فرق بين الفاعل والشريك؟ وماهي موانع التنفيذ؟ وهل تدرأ الحدود بالشبهات؟ وكيف نضيف الزنا للحيوان والزنا وصف شرعي لفعل مكلف كالزواج علماً أن الزواج الفاسد والباطل والوطء بشبهة ماهي إلا أوصاف نابعة من علم الاعتبار الشرعي الذي لا يدخل الحيوان فيه.

كلها أسئلة يطرحها الكاتب لبيان مقدار استغباء العقل وفقرهم الفكري والشرعي .

يقول الكاتب لقد دعاهم الله ورسوله إلى الإبصار والتبصر والتعقل والتدبر فإذا هم أرادوا السير وفق هدي الحيوان ويخشون إنكار أقوال البخاري أكثر من خشيتهم من الله ورسوله.

آهات إسلامية

وضمن نفس الإطار تأتي ظاهرة الآهات الإسلامية التي ظهرت على اليوتيوب إثر فتاوى تحريم الموسيقا في مفارقة واضحة حيث الموسيقا حرام والتأوه حلال ! وقد غاب عن أصحاب هذه البدعة أن تجويد القرآن موسيقا تتم ببناء لحني متكامل بحيث توائم كل نغمة موسيقية معنى الآية المقروءة ليستعيضوا عن ذلك بآهات باهتة مكررة بشكل ساذج .

النكاية باعث من بواعث الفكر الإسلامي من أجل فهم أعمق

أثناء دراسة التاريخ والفقه الإسلامي نرى الاختلاف بين علماء الإسلام في طرق البحث والاستنباط والترجيح في المبادئ ينوه الكاتب إلى دور الفقيه والدارس في ذلك فهو إنسان له مزاجه وملكاته العقلية والذهنية. كما أننا نلاحظ ظاهرة النكاية بين بعضهم وتبدو واضحة فيما نراه من مشاكسات بينهم وسخرية بعضهم من بعض وهذا طبيعي فهم بشر خطاؤون وليسوا مقدسين وبينما أسقط النص القرآني القداسة عن الأحبار والرهبان يتم تقديس فقهاء الدين الاسلامي. يطالب الكاتب بنزع القداسة عنهم جميعاً  فما فعلوه خرج من الأشخاص إلى المذاهب والطوائف وساهم في قدح الخلافات بينهم وأدى إلى الاختلاق في الحديث والتاريخ والسيرة النبوية .

الحنين إلى الوثنية بعد ما فعلته الجماعات المتطرفة، داعش مثالاً

 ظهر هذا الحنين متمثلاً بالتغني بأقوال وصلتنا من الحضارات القديمة والوثنية والثناء على قدرتها على احترام الإنسان والمشاعر الإنسانية وتجلي المسؤولية تجاه الإنسانية عامة من هذه الأقوال:

(لا تشتم إلها لا تعبده) التي نقشت على الصخر في معبد تدمري . أو العبارة الأوغاريتية الشهيرة (حطم سيفك وتناول معولك واتبعني لنزرع المحبة والسلام). وعلى إثر ما تتناقله نشرات الأخبار من جرائم بحق الإنسانية ترتكبها الجماعات الإسلامية وخاصة داعش التي قتلت باسم الله في سنة واحدة ١٥١١ مواطناً مدنياً بينهم ٢٣ طفلاً و٣٢ امرأة عدا السجن والجلد معتمدة أقوال منسوبة للنبي. في الوقت الذي لم نشاهد فيه أي موقف بارز أو بيان من جهة إسلامية للتعاطف مع أي كارثة أو حادثة إنسانية يورد الكاتب أمثلة كثيرة ولعل أبرزها حادثة خطف الصحفيتين الإيطاليتين في حلب، وظهور من يقول: لا يجوز التعاطف معهما لأنهما مسيحيتان وسافرتان! وينطبق الأمر نفسه على المحامي وناشط حقوق الإنسان خليل معتوق الذي قضى حياته وهو يدافع عن المعتقلين ولم يصدر أي بيان استنكار أو مطالبة بالإفراج عنه وكذلك رزان زيتونة ورفاقها. لا يعكس هذا سوى الضيق ووهم الانسانية ويتساءل الكاتب كيف يمكن الدعوة للإسلام كدين عالمي ونحن لا نجيد حتى التعاطف في قضية واضحة.

كثير من الأوهام وقليل من الحقيقة

يقودنا هذا إلى أوهام الاقتصاد الإسلامي وظاهرة البنوك الإسلامية التي ظهرت تحت شعار البنوك اللاربوية، وهو الشعار الذي يخفي الحقيقة فهي تعتمد مبدأ المرابحة وهو الوجه الآخر للفائدة فعلم الاقتصاد هو خليط مجموعة علوم تبدأ بالرياضيات وتنتهي بالفلسفة فهل نقول رياضيات إسلامية مثلاً؟

يتطرق الكاتب لوهم الخلافة الإسلامية والحاجة إليها لنشر الإسلام ويفند الكاتب هذا الوهم بالعودة لدراسة النسب البيانية في الدراسات الكمية في البلدان التي خضعت للفتح الاسلامي فنرى أن دخول الاسلام كان متفاوتاً وبالتدريج وليس أفواجاً كما نقل لنا لكنه كان يزداد مع الزمن ويتوقف على عوامل تاريخية كالإحساس بالخطر في الحروب وغالباً ما كان يترافق ازدياد الدخول فيه مع ضعف السلطة المركزية والسياسية لانعدام الحاجة لها فالدخول في الإسلام كان يبدأ من القاعدة أي اجتماعياً ويحقق الاستقرار نتيجة حالة الاكتفاء الروحي والنفسي التي يشيعها الدين الجديد وهذا يفقد المناداة بالحاجة للخلافة مبرراتها.

قدم الكاتب في كتابه مساهمة مهمة  في تحليل ظواهر تهيمن على طريقة التفكير والثقافة الإسلامية دون أن يغفل الجانب الذاتي في التخلص من حالة الاستلاب تجاه المعطى وقدم نفسه نموذجاً مشيراً لأهمية العامل الذاتي للخروج من عباءة سيطرة المؤسسة الدينية ولكنه لم يتطرق لدور السلطات تاريخياً في كم العقول قبل الأفواه واستخدامها للمؤسسة الدينية ودعم هذه المؤسسة لها غالباً ولهذا يبدو جلياً أن إعادة الوجه الروحي للدين وتنقيته من الشعوذات والدجل الممارس باسمه ليسد الخواء لدى الكثيرين يرتبط بالحاجة المتنامية لقيام الدولة المدنية التي تقوم على فصل الدين عن الدولة واحترام المواطنين كافة على اختلاف مشاربهم الدينية والقومية بما لا لبس فيه وتحت لواء المواطنة والعدالة الإنسانية التي تنحي التمييز حسب الانتماء ما يحقق الانفتاح على الآخر والتسامح.

فاتح المدرس: آخر ما يموت في غابة الدهشة هو اللون

فاتح المدرس: آخر ما يموت في غابة الدهشة هو اللون

لُقِّبَ برائد الحداثة التشكيلية في سوريا، شاعر اللون، رسام الأرض، سفير الفن التشكيلي السوري إلى العالمية، وأيقونة الفن السوري المعاصر. هو الفنان التشكيلي فاتح المُدرس، أحد أبرز الفنانين التشكيليين العرب في القرن العشرين، والذي حقق شهرة عالمية، وأسهم في تطوير أدوات الفن التشكيلي السوري، عَبر نقله من الواقعية التقليدية والحالة التسجيلية المباشرة إلى فضاءات الحداثة وتياراتها المتمثلة في التعبيرية والانطباعية والرمزية، كما تميز بكونه كان الأكثر جرأة بين الفنانين العرب في طرح المفاهيم الفنية الجديدة والمؤثرة، والأكثر فهماً واستيعاباً لمعطيات ثقافات وفنون العصر.

وُلِّد المُدرس في قرية حريتان/ حلب عام 1922 وتعلم في مدارس المدينة. برزت موهبته في الرسم في سنٍ مبكرة، فلفت انتباه مدرّسي الرسم منذ مرحلة الدراسة الابتدائية. وفي بداية الأربعينيات سافر إلى لبنان ليدرس الأدب الإنجليزي في الجامعة الأمريكية، وعاد بعد ذلك إلى حلب ليعمل مدرساً للغة الإنكليزية والتربية الفنية في بعض المدارس. أقام معرضه الأول عام 1950 في نادي اللواء في حلب، وأثبت من خلال لوحاته، التي سرقت الأضواء ولفتت انتباه الجمهور، أنه فنان واعد يمتلك ذهنية متفردة تبحث عن كل جديد. ثم جاء عام 1952 ليكرسه كفنانٍ مبدع صاحب قدراتٍ فنية مدهشة ومؤثرة، وذلك بعد مشاركته في معرض المتحف الوطني في دمشق، إلى جانب أبرز الفنانين التشكيليين السوريين، حيث نال الجائزة الأولى عن لوحته “كفر جنة” التي اقتناها المتحف الوطني، وشكلت الملامح الأولى لرؤية المُدرس الحداثوية، ولاتجاهات الحداثة في الفن التشكيلي السوري، وقد اعتبرها النقاد من أبرز الأعمال التصويرية في الفن السوري المعاصر آنذاك. وفي عام 1957 أُرسل إلى روما في بعثة دراسية، ونال في العام 1960 إجازة في فن الرسم من أكاديمية الفنون الجميلة العليا، وبعد عشرة أعوام سافر إلى فرنسا ليدرس في المعهد الوطني العالي للفنون الجميلة في باريس، حيث نال شهادة الدكتوراه عام 1972.

وبينما اقتصرت أعمال معظم فناني الخمسينيات والستينيات في سوريا على رسم الزخارف وتصوير الطبيعة الصامتة وبعض مناظر العمارة التراثية، تفردت أعمال المدرس بعبقريتها وحداثتها وتنوع أساليبها، التي جمعت بين مختلف المدارس الفنية (الواقعية، التعبيرية، الرمزية، السريالية والتجريدية) لتنير عقول كثير من الفنانين التشكيليين العرب، وتفتح أمامهم آفاق الخيال ليخرجوا من قيود الفن النمطي، كما تركت بصماتٍ واضحة على تجارب من تأثروا بمدرسته ونهلوا من أفكاره الفنية الخلَّاقة، فقد شكل المُدرس من خلال أعماله مرجعية أسلوبية، كونه أول من أدخل المدرسة التجريدية والسريالية إلى الفن السوري عبر لوحاته، وكونه مزج في أعماله بين الواقعية والرمزية والأسطورية، ليبتكر بذلك كله رؤية ونهجاً جديداً في مسيرة الفن التشكيلي السوري والعربي، هذا إلى جانب امتلاكه فلسفة خاصة في فهم علم الجمال، تمثلت  بعبقريته وذكائه في استخدام الألوان والخطوط والمؤثرات البصرية، حيث أبدع خيالاً فنياً يشحَن روح المتلقي بطاقة كبيرة من الألوان والضوء والصور والمعاني. إذ كانت الألوان بالنسبة له مثل شخوصٍ، يفهم لغتها، يحاورها ويصغي إليها ويتفاعل معها. وقد منحته تلك العلاقة معها قدرات تعبيرية خاصة، جعلت الخطوط في لوحاته تظهر بشكل رشيق متناغم وكأنها تتحاور في ما بينها، فيما تتكاثف الأفكار لتشكل فضاءات واسعة من الأطياف والمَشاهد والتكوينات، التي تقدم دراما انفعالية حسَّية، تفيض بعشرات الانطباعات والمشاعر الجمالية، إذ يمكن لأي لوحة من لوحاته أن تقدم عَرضاً فنياً متكاملاً، فهي عالم غني، يتداخل فيه التاريخ مع الجغرافيا والميثيولوجيا والأحلام الإنسانية والتأملات والحكايات، وتمتزج فيه الوجوه مع الطبيعة في هندسةٍ لونيةٍ شاعرية، شكلت ثورة حقيقية على المفاهيم التشكيلية السائدة.

ونستشهد هنا بما قاله المُدرس عن الحالة التي يعيشها خلال عملية الرسم : “عندما أرسم أشعر بأن هناك ظلمة شديدة أطبقت على كل شيء، وأنني أخرج من نفقٍ، وأنني أرى نوراً في داخل رأسي، وكأن ريحاً باردة تَهبُّ على وجهي، فابتسم وأعرف أنني وصلت إلى قمة الانفعال في اللوحة، وأعرف أنها انتهت. هذا هو الإحساس في كل عملٍ أقوم به، وكل لوحةٍ لا أمرُّ بها في هذه الحالة أعتبرها عملاً كاذباً وغير ناضج”.

ابتكر المدرس، بذكائه التعبيري المدهش، أسلوباً فنياً غنياً بالرموز والأشكال المستوحاة من التراث السوري الغني بقصصه الشعبية، ومن البيئة المحلية الريفية التي أوغل في أعماقها، ومن تاريخ الحضارة السورية ومدلولاتها وأساطيرها الفريدة، وقد قدم ذلك كله بلغة تصويرية، سريالية أو تجريدية أو تعبيرية أو رمزية، مزاوجاً بين روحانية الشرق ومادية الغرب بتقنياته الفنية المتنوعة، فيما استلهم ألوانه من حقول الشمال والبراري السورية، ليشكل بذلك كله هوية تشكيلية سورية متفردة وأصيلة، ظهرت  جلياً في العديد من لوحاته ومنها : “صلاة البادية السورية”، “قصص الجبال الشامخة”، “زفاف في جبال القلمون”، “نساء من بقين”، ” بدوية من الجزيرة”، “التدمريون”، “مرتفعات بلودان”. وهو الذي يقول في هذا الشأن: ” قد خلصت من تجاربي كلها أن على الرسام المُحب لوطنه أن يعمل على بلورة الفن في بلاده، في طابع أصيل يمت للتاريخ والتقاليد، فليس هنالك فنٌ بلا واقع أو تقاليد عميقة الجذور، وكل هذا يجب أن يتماشى مع أحدث المفاهيم العالمية”.

المُدرس الذي كان يؤنسن جميع الأشكال والعناصر، عَبَّر من خلال لوحاته عن معاناة الإنسان وهمومه وصراعه الوجودي مع الحياة، وحضرت المرأة بقوة في معظم أعماله التي تناولت أيضاً أهم القضايا العربية الوطنية والسياسية، فظهرت القضية الفلسطينية في العديد من لوحاته، كلوحة “المسيح يعود إلى الناصرة” التي كان يحاكي من خلالها عودة الفلسطيني إلى وطنه المسلوب. وبعد اندلاع الحرب الأهلية في لبنان رسم المدرس بعض الأعمال  التي تناولت  عمليات النزوح ومعاناة الشعب اللبناني وبطولات المقاومة التي تصدت للاجتياح الإسرائيلي، ومن أبرز تلك الأعمال: لوحة “لبنان المقاومة”، “بيروت في ليل الحرب الأهلية”، و”أطفال حرب لبنان”، وغيرها.   

الرسم من خلال الكلمات

المدرس الذي لقُّب بشاعر اللون، كان يُعلق على جدران مرسمه، إلى جانب لوحاته، قصاصات من الورق، كَتب عليها بعض تجلياته وومضاته الشعرية، التي عكست عالمه الفلسفي الفني، وكشفت عن موهبةٍ شعريةٍ فريدة، إذ كانت الكتابة بالنسبة له نوعاً من الرسم، فمن خلال الحروف كان يرسم صوراً إلى جانب بعضها البعض، ليُخرج لوحةً من الكلمات.

كَتب المدرس القصيدة السريالية متأثراً بصديقه الشاعر الحلبي  أورخان ميسر، رائد الشعر السريالي في سوريا، وشكل شعره خروجاً عن التيارات الشعرية السائدة، في تلك الفترة، وقَدم خيالاً بصرياً حسياً، كَثَّفَ الصورة الشعرية ومنحها بعداً جمالياً وبلاغياً مختلفاً. وقد ساعدته موهبته الشعرية على الدمج بين الشعر والرسم، فأسس بذلك لمدرسة اللوحة التي تتضمن شعراً، وقد اعتمدها من بعده بعض الفنانين الكبار مثل عمر حمدي ويوسف عبدلكي.  

نشر المدرس عام 1962 أول قصيدة له بعنوان “الأميرة” في مجلة القيثارة، الصادرة عن مدينة اللاذقية. وفي العام ذاته نشر ديوانه الشعري الأول: “القمر الشرقي على شاطئ الغرب”، بمشاركة الشاعر شريف خزندار. ثم نشر في العام 1985 ديواناً آخراً بعنوان “الزمن الشيء” بمشاركة حسين راجي.

ونقتبس هنا بعضاً من شذراته الشعرية :

“إن آخر ما يموت في غابة الدهشة هو اللون”.

“الليلة كتبتُ اسمك على أرض غرفتي، ومضيت أتسلق الجدار ماشياً، كما لو أنَّ هذا الكوكب بلا أحذية”.

” بلا حبٍ تنام أشجاري.. انظروا :  أورقت مساميرَ وحروفاً”.

” صوت العاصفة المدمِّرة، أجمل أنواع الموسيقى”.

” هذا المغني قاطع طريق.. يرسم الجبال بصوته”.

” يقف العقل بعدالته الجميلة حزيناً أمام صندوق الرشاوى في الذاكرة”.

” اصنع شمساً .. جميل أن تكون لك شمسك، تتمتع بها مع من تحب دون أن يراها الآخرون”.

” إننا نعاني من فيروس الغضب الجماعي الصامت، الذي لا يسمح بتحريك عضلة واحدة من هذا الوجه الذي بحجم التابوت الإنساني الضخم”.

” في وسخ الأرض أكتشف مغزى ارتفاع السماء”.

 ” الضياء خيوط نسيجٍ، منديل من الشمس سقط على الأخضر.. أرفعُ المنديل، أنظرُ :  زهرة”.

وإلى جانب إبداعه في الشعر برز المُدرس كواحدٍ من أهم كتاب القصة في سورية، وقد نشر عام 1981 مجموعة قصصية بعنوان “عود النعنع” ، فيما أنتجت السينما السورية عام 1974 ثلاث قصصٍ من أعماله ضمن فيلم روائي بعنوان “العار”  تناول معاناة أبناء الريف في زمن الإقطاع، وهو من إخراج بلال صابوني، بشير صافية، ووديع يوسف. وبحسب كثير من المثقفين والنقاد شكلت أعمال المدرس القصصية نمطاً جديداً في مسيرة القصة السورية، حيث دمجت بين التصويري والقصصي، وأضاءت على عوالم وفضاءات حكائية وجغرافية رحبة وغنية، وقُدمت بلغةٍ مشهديةٍ تعبيرية، تحمل طابعاً سينمائياً، كرسته كواحدٍ من الرواد المجددين في عالم القصة السورية. ونستشهد هنا ببعض ما كتبه الأديب سعيد حورانية  في المقدمة التي وضعها لمجموعة “عود النعنع” : “قصص فاتح كأفضل لوحاته، وبعضها من أفضل ما كتبه أدباء اللغة العربية على الاطلاق.. تلعبُ الصورة بوجهٍ عام والصورة الطبيعية بوجهٍ خاص دوراً مهماً في فن فاتح القصصي، فالفنان التشكيلي الكبير لا تخطئه العين في قصصه أيضاً، ولكن الصور هنا ليست إطاراً تزينياً أو استطراداً شكلياً، بل هي كالنهر المُهدد تماماً، تدخل في نسيج الحدث فاعلة ومنفعلة.. ولغة فاتح لغة طازجة ندية متقشفة، فوراء هذه العفوية والبراءة الظاهرية تكمن معلميّة وصنعة في اختيار الكلمة المناسبة، وأحياناً الغريبة، وأحيانا المخترعة. المهم أن تلعب الكلمات دور الألوان في اللوحة، من حيث التوازن والشفافية والإيحاء، فلا تستوقفك ولا تشعر بانفرادها وإنما باندغامها المدهش في مجموع العمل”.

وفي مقالٍ له بعنوان”فاتح المدرس: الفنان السوري الذي حارب من أجل العدالة” يقول الروائي عبد الرحمن منيف عن تجربة المدرس القصصية: “فاتح المُدرس في القصة القصيرة، كما في الفن التشكيلي، أحد الرواد والمعلمين.. كيف تتحول القصة القصيرة إلى ملحمة، إلى نشيد؟ وكيف تستطيع، باقتصادها المتناهي، أن تتحول إلى عالمٍ بهذا الاتساع؟. هذا هو جوهر الفن، وهذا ما يقوله فاتح المدرس بأكثر من شكلٍ وبأكثر من وسيلة”.  

مساهمات وإنجازات

عمل المُدرس أستاذاً في كلية الفنون الجميلة منذ تأسيسها عام 1961، وكان له الأثر الكبير على طلابه، الذين فتح أعينهم وخيالهم على فضاءات جديدة في الفن، وحرر أذهانهم من المفاهيم الفنية التقليدية، وقد تتلمذ على يده أفضل الفنانين التشكيليين السوريين، الذين أصبحوا فيما بعد من رواد الفن التشكيلي الحديث في سوريا، ومنهم: زهير حسيب، عصام درويش، ادوار شهدا، نذير نبعة، وغيرهم. وبين عامي 1981و1991 شَغًل المدرس منصب رئيس نقابة الفنون الجميلة التي كان من أبرز أعضائها المؤسسين، كما كان من الأعضاء البارزين المؤسسين لاتحاد الفنانين التشكيليين العرب، وانتخب عضواً في المجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية.

ولم يكتفِ المُدرس بما قدمه من أعمالٍ فنية وأدبية، بل كانت له إسهامات ثقافية أغنت مكتبة الفن التشكيلي في سوريا، حيث نشر عام 1954 مؤلفاً من ثلاثة أجزاء: “موجز تاريخ الفنون الجميلة”، أصبح مرجعاً لأساتذة الفن التشكيلي في المدارس والجامعات. كما شارك المدرس عام 1962 مع محمود دعدوش وعبد العزيز علوان بنشر أول بيان فني عن الفلسفة الجمالية للفن العربي، هذا إلى جانب نشره لبعض الدراسات في النقد الفني المعاصر، ونشر دراسة عن تاريخ الفنون في اليمن قبل الميلاد، ومجموعة محاضرات عن فلسفة الفن ونظرياته منذ عام600 قبل الميلاد، بالإضافة لدراسة عن الكلمة/ الصورة، بالتعاون مع معهد العالم العربي في باريس.

ورغم أن مرسم المدرس كان قبواً رطباً، ضعيف الإنارة ويعاني من مشاكل في التمديدات الصحية إلا أنه كان أشبه بملتقى ثقافي ومحطة إلهام لكثير من الفنانين التشكيلين والموسيقيين والمثقفين، الذين كانوا يقصدونه  ليخوضوا نقاشات بنَّاءة وعميقة عن الفن والأدب والمسرح والسينما، ولينهلوا من تجارب المُدرس وفضاءاته الفنية الواسعة التي تحفزهم على تنشيط طاقاتهم الفنية والابداعية.

وخلال مسيرته الفنية عَرَض المدرس لوحاته إلى جانب  أشهر فناني العالم من أمثال بيكاسو، وكان من الفنانين العرب القلائل الذين بيعت لوحاتهم في مزادات الفن العالمية، كما حصد الكثير من الجوائز والأوسمة، ومنها: جائزة معرض المتحف الوطني في دمشق 1952، جائزة استحقاق من المعرض الدولي في جامعة كليفلاند/ فلوريدا في أمريكا 1952، الجائزة الأولى لأكاديمية الفنون الجميلة في روما 1960، الميدالية الذهبية لمجلس الشيوخ الإيطالي 1962، جائزة شرف بينالي سان باولو/ البرازيل 1963، الشراع الذهبي للفنانين العرب في الكويت 1977، جائزة الدولة للفنون الجميلة في دمشق 1986، جائزة الدولة للفنون الجميلة في الأردن 1992، ووسام الاستحقاق السوري عام 2005. 

 خُلدت أعمال المدرس في معظم متاحف الفن الحديث وفي أبرز المؤسسات الثقافية العربية والعالمية، ومن بينها: المتحف البريطاني، معهد العالم العربي في باريس، المتحف العربي للفن الحديث في الدوحة، المتحف الوطني في دمشق، ومتحف دمر. وقد اقتُنيَت أعماله من قبل أبرز الشخصيات السياسية والثقافية العالمية، مثل: رئيس جمهورية ألمانيا الاتحادية فالتر شيل، والرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، الذي كان صديقاً مقرباً للمدرس، وترجم له بعض قصائده من الإيطالية إلى الفرنسية.

 ويُعد المدرس من أكثر الفنانين العرب إقامة للمعارض عربياً وعالمياً. ونذكر هنا أبرز معارضه ، وفق تسلسلها الزمني :

– عام 1950 أقام المعرض الأول لأعماله الأولى في نادي اللوء بحلب.

– عام 1952 شارك في معرض مركز الصداقة في نيويورك، وأقام معرضاً لأعماله في مركز “لوند” في السويد.

– عام 1955 أقام معرض شخصي في نيويورك.

– عام 1957 شارك في معرض الفنانين العرب في روما.

– عام 1959 أقام معرضاً شخصياً في غاليري “شيكي” في روما (اقتنى الفيلسوف سارتر ثلاثة أعمال للمدرس)

– عام 1960 أقام معرضاً في صالة هسلر في ميونخ/ ألمانيا ، ومثَّل القطر العربي السوري مع الفنان لؤي كيالي في بينالي البندقية.

– عام 1961 شارك في معرض البندقية، ضمن جناح الجمهورية العربية المتحدة (خلال فترة الوحدة بين سورية ومصر) وأقام معرضاً في صالة الفن العالمي الحديث في دمشق.

– عام 1962 أقام معرضاً في صالة “غاليري ون” في بيروت.

– عام 1963 أقام معرضاً في صالة “غاليري ون” في بيروت، وشارك في بينالي سان باولو في البرازيل، وفي المعرض المتجول لفناني الدول العربية في أمريكا اللاتينية. إلى جانب مشاركته في معرض شتوتغارت في ألمانيا الاتحادية.

– عام 1964 شارك في الجناح السوري في معرض نيويورك.

– عام 1965 شارك في المعرض السوري في بيروت (سوق سرقس)، وفي المعرض العربي السوري في موسكو وواشطن.

– عام 1967 شارك في المعرض العربي السوري في لندن، والمعرض العربي السوري في تونس، وأقام معرضاً في غاليري “كونتاكت” في بيروت.

– عام 1968 شارك في بينالي الإسكندرية لفناني دول البحر المتوسط.

– عام 1970 أقام معرضاً في دمشق بعنوان : تحية إلى مالزو (أديب فرنسي)

– عام 1973 أقام معرضاً شخصياً في مونتريال/ كندا

-عام 1976 أقام معرضاً مشتركاً في حلب مع زميله الفنان لؤي كيالي.

– عام 1977 شارك في معرض الفن التشكيلي العربي السوري في عمان، الكويت، المغرب. وأقام معرضاً خاصاً في باريس.

– عام 1978 أقام معرضاً شخصياً في بون/ ألمانيا.  

– عام 1980 شارك في معرض الدول العربية في بون وفرانكفوت. وفي معرضٍ عن الفن السوري في القصر الكبير في باريس.

– عام 1982 شارك في المعرض العربي السوري في صوفيا، والمعرض العربي السوري في تونس والجزائر.

– عام 1983 شارك في معرض الفن التشكيلي السوري في باريس و برلين الشرقية، وفي معرض “كان سورمير” في فرنسا.

– عام 1984 أقام معرضاً خاصاً في المركز الثقافي البلغاري في دمشق، وشارك في المعرض المتجول في دول أمريكيا اللاتينية.

– بين عامي 1986 و1991 شارك في أغلب المعارض الرسمية السورية.  

– عام 1993 أقام معرضاً شخصياً لأعماله في واشنطن.

– عام 1994 أقام معرضاً شخصياً في واشنطن، ومعرضاً استعادياً لأعماله في معهد العالم العربي في باريس.

– عام 1996 أقام معرضاً استعادياً في بيروت.

– عام 1997 أقام معرضاً استعادياً في دبي.

-عام 1998 أقام معرضاً شخصياً في صالة عشتار في دمشق.

توفي المدرس في حزيران/ يونيو عام 1999، بعد معاناة مع مرض السكري والسرطان، وقد تحولت لوحاته، بعد وفاته، إلى تحفٍ وأيقوناتٍ فنية، أشبه باللقى الأثرية النادرة، لتتسابق صالات العرض والمتاحف والمؤسسات الثقافية ودور المزادات الفنية العربية والعالمية على الفوز باقتنائها أو تسويقها، ويُعد المدرس من الفنانين القلائل الذين لم تتوقف عمليات تزوير لوحاتهم حتى بعد وفاتهم، كونها من أغلى اللوحات العالمية وأكثرها مبيعاً.   

المراجع

– جمر تحت الرماد / فاتح المدرس رحلة الحياة والفن، للمؤلف محمد جمعة حمادة. منشورات دار بعل / دمشق 2008 .

– إحياء الذاكرة التشكيلية في سورية/ مختارات من مجموعة المتحف الوطني في دمشق. صادرة عن الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008، والمديرية العامة للآثار والمتاحف في سوريا.

 – “فاتح وأدونيس” ، كتاب صارد عام 2009 بمناسبة الذكرى العاشرة لرحيل المدرس. الناشر: غاليري أتاسي. يتضمن الكتاب مجموعة حوارات ونقاشات جرت بين المدرس و الشاعرأدونيس عام 1998.

عود النعنع/ قصص قصيرة لفاتح المدرس. المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ الطبعة الثانية 1986

– فيلم “فاتح المدرس” وثائقي من إخراج عمر أميرلاي، أسامة محمد ومحمد ملص.

– موقع أرشيف الشارخ للمجلات الأدبية والثقافية  العربية.

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”