منذ نحو سبعة أعوام وأنا أكتب لموقع صالون سوريا، وكانت معظم المواد والتحقيقات التي نشرتها في الموقع وفي مواقع أخرى، طوال أكثر من عشرة أعوام، تدور حول ظروف الحرب وتبعاتها، الحرب التي فرضها نظام الأسد على الشعب السوري لكي يُجهض ثورته العظيمة التي سيُخلدها التاريخ. كتبتُ عن الشوارع المليئة بمشاهد القهر والألم، والمزدحمة بالمتسولين والمشردين، الذين باتوا جزءاً مألوفاً منها، ونابشي حاويات القمامة التي باتت مصدر رزقهم الوحيد، وباعة الأرصفة الذين يرتجلون من العدم بسطاتٍ تبيع أي شيء يمكن بيعه كي يؤمنوا لقمة عيشهم. كتبتُ عن النازحين والفقراء والمعدمين، وعن المتسربين من التعليم وأطفال الشوارع الذين تربوا وكبروا فيها. كتبتُ عن تدهور الواقع التعليمي والثقافي وعن هجرات الفنانين والمثقفين وأصحاب الشهادات، وعن العقبات والصعوبات التي يواجهها من تبقى منهم في البلاد، كما تحدثت في أكثر من مادةٍ وتحقيقٍ عن أزمات الكهرباء والوقود والمواصلات، وعن تردي الواقع المعيشي والاقتصادي لدى السوريين، الذين أصبح جلهم يعيش تحت خط الفقر، وغير ذلك من الموضوعات التي تناولت معاناة الناس وظروف حياتهم اليومية التي تميتهم كل يومٍ عشرات المرات.
اليوم، وبعد سقوط نظام الأسد المجرم، الحلم الذي انتظرناه طوال حياتنا، وقفت عاجزاً طيلة الأسابيع الماضية عن الكتابة عن الفرح، رغم أن حدثاً كهذا، لم نكن نتخيله حتى في أحلامنا، يُمكن أن تُفرد لأجله عشرات بل مئات الصفحات، ولكن كيف يمكن للغةٍ من حروفٍ وكلمات أن تُجاري، تعبيرياً أو شعرياً، ما تقوله الشوارع والساحات التي كانت أفراحها أبلغ وأفصح وأشد تعبيراً من أنواع الفنون والأدب والصحافة كلها؟ أفراحٌ شاسعة بحجم وطنٍ يولد من جديد، كان لصوته الاحتفالي قدرة تعبيرية فاقت جميع محاولاتي التعبيرية التي عجزت عن صياغة مادةٍ ما، أنا الذي اعتادت لغتي لسنواتٍ على صياغة موضوعاتٍ تفوح منها رائحة بلاد مُنهكة، صُنفت كواحدة من أسوأ أماكن العيش في العالم.
في الساحات كانت وجوه الناس المُشرقة والطافحة بالنبض والفرح تكتب نيابةً عني، بعد أن زالت من تعابيرها معالم القهر واليأس والوجع. الأطفال المتسولون والمشردون في الشوارع والعاملون في نبش حاويات القمامة، في الصباح الذي تلا سقوط الأسد المجرم، كانوا يفردون صوره الممزقة على الطرقات والأرصفة ويدعون المارة أن يدوسوا عليها وأن يعبروا بسياراتهم من فوقها، وهم يرقصون ويهتفون هتافات الحرية والنصر الذي كان يَشعُّ من وجوههم التي زينوها برسوم علم سوريا الجديد، وجوههم التي لطالما تلونت بالقهر وأوساخ الشوارع والندبات التي حُفرت فيها. لربما كان هذا المشهد من أروع مشاهد انتصار العدالة.
بعض النازحين، الذين عاشوا لسنواتٍ في شققٍ غير مكسوة (على العظم) لا تصلح للعيش البشري، تحولت من سكنِ مؤقتٍ إلى شبه دائم، كانوا يحتفلون بكثيرٍ من الفرح والدموع في ذات الساحات والشوارع، التي لطالما جلسوا فيها باحثين عن أي عملٍ يمكن أن يؤمن لقمة عيشهم المريرة. كانوا يقفون فيها، مع أطفالهم، لأول مرة منتصرين على من دمَّر بيوتهم وهجَّرهم من مدنهم وقراهم، التي بات حلمهم بالعودة إليها قابل للتحقيق، وكان أطفالهم، الذين تفيض عيونهم أملاً وتفاؤلاً، يشعرون لأول مرة أن لديهم وطناً حقيقياً وأن بإمكانهم العودة إلى قراهم ومدنهم التي لم يتعرفوا إليها منذ ولادتهم.
في ساحة الحجاز وخلال وجودي في وقفةٍ تضامنية مع المعتقلين المفقودين، كانت قدسية المشهد وعظمته وملحميته تُلهم ذهني بعشرات الأفكار والمواضيع التي يُمكن الكتابة عنها، لكن دموع المرأة التي كانت تقف بجواري، كانت أكثر بلاغة وتعبيراً من أي كلماتٍ يُمكن أن تُكتب، دموعها التي كانت تشبه سوريا المتخبطة بين مشاعر الفرح والأمل والحزن والفقد والحسرة على المعتقلين الذين استشهدوا لكي يرسموا لنا طريق الحرية.
كانت صور المعتقلين المحمولة في الساحة تحدق بي، وهي تقول الكثير، وكنت أشيح بوجهي عنها، أخجل من عظمتها ومن النظر إليها. كيف يمكنني أن أكتب عنها بضع كلماتٍ مقتضبة، وكل صورة منها تحفل بعشرات القصص والمشاهد والذكريات، ويُمكن أن تُفرد لأجلها عشرات المقالات؟
خلال وقوفي في الساحة فكرت للحظة أن أجمع حكايات بعض الناس الذين حضروا إلى الوقفة، حاملين صور أبنائهم وأخوتهم وأقاربهم المفقودين، علهم يحظون بأي خبرٍ عنهم، لكن نظراتهم، الباحثة عن أي أمل، كانت تصفعني وتجعلني مشلول الحركة، غير قادرٍ على القيام بأي فعل، بل كانت تُشعرني بسخافة أن يُكتب عن معاناتهم فيما يقف العالم بأسره عاجزاً عن تقديم أي خبرٍ يُريح قلوبهم المتعبة التي مزقها الفقد. هربت من نظراتهم ورحت استحضر إلى ذهني، مشاهد المعتقلين المحررين من المعتقلات والسجون، والتي أمضيت ساعاتٍ طويلة وأنا أشاهدها خلال الأيام الماضية، بمزيجٍ من الفرح والحزن. شردت معها بعيداً لدقائق، حتى قاطعت شرودي نظرات شابة كنت أعرفها حين كانت طفلةً في إحدى مراكز الايواء قبل نحو ثماني سنوات. من كان يصدق أنها ستقف اليوم في إحدى أهم ساحات دمشق، وهي تودع الخوف والقهر والعجز، وتحمل علم سوريا الجديد، لتقول للعالم إنها انتصرت على من دمَّر بلادها واعتقل عدداً من أقربائها وشردها مع عائلتها لسنوات طويلة؟.
في السنوات الماضية تحدثت في أكثر من مادة صحفية عن الجيل الجديد، أو ما يُمكن تسميته بجيل الحرب، الذي فقد شعوره بالإنتماء إلى سوريا المُدمرة والممزقة، التي قد لا يعرف منها سوى مدينته أو قريته، هو الذي تربى على ثقافة الحرب والانقسام السياسي والخوف من الموت، ولم يتبلور لديه أي مفهوم واضح عن الوطن في ظل انحسار دور المرجعيات الوطنية وتمزق معظم الهويات الوطنية الجامعة. ذلك الجيل، الذي كان السفر إلى خارج البلاد، بالنسبة لمعظمه، الحلم الأبرز وطوق النجاة الوحيد، تراه اليوم، بعد سقوط النظام البائد، يتعافى ويُبعث من جديدٍ، ينهض حافلاً بالطاقات والانتماء الوطني، يَنشَط كخلايا النحل، يحضر في الساحات، في الوقفات الاحتجاجية والتضامنية، في حملات تنظيف الشوارع وزراعة الحدائق، وفي مختلف الأنشطة المدنية، ويشارك في التجمعات السياسية والمدنية وفي المبادرات الشبابية، يُعبِّر عن رأيه ، الذي كان مغيباً، وبكثيرٍ من الحماس والمسؤولية يشعر اليوم أنه أمام فرصةٍ ذهبية ليستعيد انتماءه لبلاده وليكون شريكاً فاعلاً ومؤثراً في صناعة تاريخها الجديد والنهوض بها.
قبل أيام من سقوط نظام الطاغية المجرم، كنت أفكر بالكتابة عن تلوث الهواء في بعض المناطق المحيطة بدمشق، وخاصة مدينة جرمانا، والتي يضطر الكثير من سكانها، في ظل أزمتي الوقود والكهرباء، لإشعال النايلون والبلاستيك والخشب والكراتين في مدافئهم، وكل ما توفر من موادٍ تساعدهم على استحضار بعض الدفء إلى بيوتهم الباردة. ويؤدي احتراق تلك المواد إلى انبعاث دخان كثيفٍ يلوث الهواء ويبعث على الاختناق. لكن هواء المكان تغير فجأة، بعد سقوط النظام البائد، وليس في الأمر حالة شاعرية ورومانسية، فقد لمس معظم الناس هذا التغيير وأصبحوا يتنفسون هواء مريحاً وخفيفاً وغنياً بالأوكسجين، بعد أن زالت رائحة الخوف واليأس والعجز من الشوارع التي أصبحت مُشرقة ورحبة، وتفوح منها رائحة الفرج والأمل.
آخر المواد التي كتبتها كانت تتحدث عن انعدام مساحات التنفس عند الناس في سوريا، نتيجة ما أفرزته ظروف الحرب التي التهمت الكثير من المساحات الخضراء وحرمت معظم الناس من طقوس النزهة والسيران وزيارة البحر، في ظل تدهور الواقع الاقتصادي وتفاقم أزمات الوقود والمواصلات، وهو ما جعلهم يلجؤون إلى أي مساحةٍ زراعيةٍ أو حتى ترابية تذكرهم بالطبيعة. اليوم، بعد سقوط نظام الطاغية، يُمكن القول أن كثير من الناس وجدوا مساحات تنفسهم في الساحات والشوارع التي بات السير فيها، بالنسبة لهم، نوعاً من النزهة والسيران، بل أن عشرات الآلاف باتوا يأتون كل يوم لزيارة دمشق من مختلف المحافظات، وبعضهم كان يتعرف إليها لأول مرة. الشباب الذين كانوا محاصرين في أحيائهم وحاراتهم وبيوتهم لسنوات، كونهم مطلوبين للخدمة العسكرية، تحرروا أخيراً من سجنهم وتعافوا من رُهاب الحواجز، وباتوا يتنقلون بين الأحياء ويجوبون الشوارع والساحات بكامل حريتهم، وتعلو أصواتهم في المقاهي وهم يخوضون النقاشات السياسة حول مستقبل سوريا، وكأنهم يولدون من جديد.
لقد كنت واحداً من أولئك الشباب، وبقيت مشلول الحركة لنحو سبعة أعوام، خشية اقتيادي للخدمة العسكرية الاحتياطية، كنت خلالها أتنقل، عند الضرورة، بحذرٍ شديد، سيراً على الأقدام، وأحياناً كنت أستعين بهوية أخي، وها أنا اليوم أمضي كثيراً من الوقت متجولاً في أحياء دمشق، التي كتبت كثيراً عن تعبها ومرضها وعتمتها، أتسكع في شوارعها بخفة ورشاقة من يمتلك جناحين، وأنا أودع الخوف الذي كان يتربص بخطاي كلما رأيت حاجزاً أو دورية عسكرية. أحاول استعادة علاقتي الحميمية الأثيرة مع المدينة، أُمعن النظر في كل تفصيلٍ صغيرٍ في شوارعها وأبنيتها، أُدرِّب عيني، التي اعتادت لسنواتٍ على رصد مشاهد الفقد والألم والقهر، أُدرّبها على إبصار التفاؤل والأمل والفرح الذي بات يرتسم على كل تفاصيل المدينة ويطل من وجوه الناس. لقد كنت أشتكي خلال السنوات الماضية من نقص الأصدقاء الذين غادر معظمهم إلى خارج البلاد، وها أنا اليوم أكتشف أنه مازال هناك الكثير منهم في دمشق، بعد أن خرجوا من حصارهم وعزلتهم ليبصروا النور، أصادفهم في الشوارع والمقاهي والساحات، التي بت أستعيد من خلالها ذكريات أصدقائي المسافرين، الذين عادت ذكرياتهم وضحكاتهم وأحاديثهم وخطاهم لتطل من كل شارعٍ أسير به، بعد أن باتت عودتهم، التي كانت شبه مستحيلة، إلى سوريا أمراً ممكناً.
تُعَدّ سوريا من البلدان الغنية بتنوعها الثقافي والفني، وبعد سقوط نظام الأسد، تبرز الحاجة إلى مناقشة مستقبل الفن التشكيلي في سوريا وتحدياته وآماله في ظل المتغيرات السياسية المرتقبة.
الادعاء بأن نظام الأسد كان راعياً للفن والفنون بمعزل عن الرقابة هو جزء من زيف النظام الذي تمحور حول تقديم نفسه كمجسد للصورة العلمانية والديمقراطية. وفي حين أنه كان يزعم أنه يدعم الفنون، كان الواقع عكس ذلك. فقد خنقت الرقابة الحريات العامة وحرية التعبير، ما أسهم في خلق مناخات خنقت الإبداع وحدت من تطلعات الفنانين. وأحدثت هذه التناقضات بين الادعاءات والواقع الكئيب تأثيراتها السلبية على الحركة الفنية.
سألنا الفنانة رولا بريجاوي عن الرقابة التي فُرضت على الفن التشكيلي خلال فترة حكم النظام السابق، فقالت إنه لم تكن هناك رقابة مباشرة على الأعمال الفنية، ولكن كان هناك منع لوجود موديلات إنسانية عارية. وترى بريجاوي أن أي نظام قادم يمكن أن يفرض رقابة، إلا أنها تعتقد بأن الفن يمكنه تحقيق التواصل مع المحيط الاجتماعي بطرق متعددة وبأدوات متنوعة، ما يجعل الرقابة غير فعالة في النهاية.
قدم النحات سهيل ذبيان رأياً مخالفاً وأكد أن الرقابة كانت قائمة وصارمة، مشيراً إلى أن الفنانين كانوا يواجهون رقابة أمنية مشددة، حيث كانت صالات العرض تحتاج إلى موافقات أمنية قبل إقامة المعارض، بل وقد مُنع عدد من الفنانين من عرض أعمالهم. يبرز هنا الاختلاف في الرأي بين بريجاوي وذبيان، إذ تعبر بريجاوي عن تفاؤل أكبر بشأن قدرة الفن على التكيف، بينما يؤكد ذبيان على الصعوبات الكبيرة التي واجهت الفنانين في ظل النظام القمعي.
يدور نقاش مشروع حول مستقبل الفنون البصرية في سوريا، وخاصة النحت والرسم، حيث يتبنى البعض آراء شرعية تحذر من وجود التماثيل وتصوير المخلوقات الحية. فالرأي الشرعي الذي يعتبر الأصنام محرمة، وجد صداه في تحطيم عدد من تماثيل شخصيات تاريخية في عدة محافظات سورية بعد سقوط نظام الأسد. علاوة على ذلك، يُعد تصوير الإنسان والمخلوقات الحية موضوعًا مثيرًا للجدل يستوجب النظر إليه بعناية في السياق الثقافي والديني.
في هذا الإطار، من المهم فتح الحوار بين الفنون والتفكير الشرعي، ما قد يسهم في إيجاد توافق يسمح بتطور الفنون ضمن المعايير الثقافية والدينية المقبولة. وأوضح الفنان سهيل أن الفن لا يمكن أن يزدهر في بيئة فكرية تضيق عليها الحدود، مع التأكيد على أن الثقافة الفنية تتعرض للتقليص في ظل تلك التيارات.
علاوة على ذلك، عبر ذبيان بثقة عن رأيه بأن التطرف ليس له مستقبل في سوريا، وهو ما يعكس قناعته بأن المجتمع السوري يتجه نحو تغييرات إيجابية تفتح آفاقاً جديدة للفن والثقافة.
تعتبر رؤية بريجاوي لمستقبل الفن التشكيلي إيجابية، حيث تتطلع إلى أن يلعب الفن دوراً هاماً في بناء ثقافة حيوية ومجتمع إنساني خالٍ من آثار العنف والقمع. بينما أعرب الفنان محمد أبو زينة عن قلقه من أن الظروف الاجتماعية والاقتصادية الحالية قد تجعل الفن التشكيلي يبدو كترف بعيد المنال بالنسبة للعديد من الناس.
لكن سهيل ذبيان يعتقد أن التحولات السياسية المقبلة قد توفر فرصة أكبر لحرية التعبير، ما يعزز من مستقبل الفنون البصرية في سوريا. التاريخ يؤكد أن الفنون تتأثر بالتغيرات السياسية، ووجود مناخ حر للتعبير الفني سيساهم في تطوير التجربة الفنية.
تناول الفنانون الثلاثة تأثير المناخ السياسي على الفن التشكيلي، وأشار محمد أبو زينة إلى أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي السيء، مثل الفقر والافتقار إلى الدعم، قد يحدان بشكل كبير من تطلعات الفنانين وقدرتهم على الإنتاج الفني، فالفنان وفقًا له، يحتاج إلى بيئة مُشجعة وتوافر الموارد لإبداع أعمال جديدة .
وفي هذا السياق، أعربت رولا بريجاوي عن قلقها حيال تأثير التغيرات السياسية على فرص الفنانين في التجريب والإبداع. إذ قد يؤدي عدم الاستقرار السياسي إلى عرقلة حركة الفنون، حيث يواجه الفنانون صعوبة في تنظيم المعارض أو الوصول إلى جمهور أوسع. ورغم الظروف الصعبة، ترى بريجاوي أن هناك دائمًا إمكانية للإبداع ، حيث يمكن أن تجد الفنون طرقًا جديدة للتعبير عن نفسها حتى في الأزمات.
أما سهيل ذبيان، فقد أعرب عن تفاؤله بأن الفترات الانتقالية يمكن أن تساعد في إحياء الفن، مشيرًا إلى أن التاريخ يبرهن على أن الفنون عادة ما تزدهر في أوقات التحولات الكبرى. وأكد أنه مع وجود تغييرات سياسية إيجابية، يمكن للفنانين استغلال الفرص لبناء مشهد فني أكثر حيوية وتنوعًا، ما يُعتبر مؤشرًا على انتعاش الثقافة الفنية في البلاد.
في المجمل، يُظهر الفن التشكيلي في سوريا أنه يظل مرآة للمجتمع، تتأثر بتغيراته السياسية والاجتماعية، بينما تبقى الآمال قائمة في أن تعود هذه الفنون لتغذي المشهد الثقافي وتساهم في التغيير الاجتماعي المنشود.
يبقى مستقبل الفن التشكيلي في سوريا مرتبطًا بشكل وثيق بمسعى المجتمع نحو الحرية والتغيير. فبينما قد تواجه الفنون تحديات كبيرة، فإن لديها القدرة على التأقلم والنمو في ظل أي ظروف، ما يجعلها عنصرًا حيويًا في عملية إعادة بناء الهوية الثقافية للمجتمع السوري. يترقب الفنانون عهداً جديداً من الإبداع والتعبير الفني، ويأملون في أن يصبح الفن رافداً حيوياً لبناء سوريا المستقبل.
بعد انهيار نظام الأسد الاستبدادي، تمر سوريا اليوم في مرحلة دقيقة وحاسمة من تاريخها، جراء الفراغ السياسي والدستوري الذي حصل في البلاد بعد أن فرّ بشار الأسد في الثامن من كانون الأول/ديسمبر الماضي، وظهرت أمام السوريين تحديات كبيرة غير مسبوقة، تتداخل فيها معطيات الداخل والخارج في لوحة شديدة التعقيد، لكن الأمل في بناء مستقبل سوريا جديدة يبقى مستمراً، والطريق إلى هذا المستقبل يحتاج بكل تأكيد إلى حوار سوري سوري حقيقي، يعتمد على الشراكة والعدالة، ويقطع الطريق على التفرد بالقرار أو الهيمنة الخارجية.
لقد شكّل فرار الأسد إلى روسيا برفقة عائلته، نقطة تحوّل مفصلية في تاريخ سوريا الحديث، من المفترض أن تقدم للشعب السوري فرصة للخروج من عقود من الاستبداد والقهر والقمع، ولكنها في الوقت نفسه تفرض تحديات عميقة على كافة الصعد داخلياً وخارجياً، وهو ما دعانا في “صالون سوريا” لسبر آراء عدد من السياسيين السوريين للوقوف على أبرز التحديات المقبلة التي تواجه سوريا على كافة الصعد سواء السياسة أو الأمنية أو الاقتصادية والاجتماعية... بالنظر لما يحدث اليوم في عموم الجغرافية السورية، فكان هذا الاستطلاع الذي يسبق عقد مؤتمر الحوار الوطني الشامل المفتر ض، الذي سيضم مجمل أطياف ومكوّنات الشعب السوري، والذي ستتم الدعوة إليه خلال الفترة القريبة المقبلة…
جورج صبرة: إعادة بناء الدولة ومؤسساتها
بداية حديثنا كانت مع الكاتب والسياسي جورج صبرة (الرئيس السابق للمجلس الوطني السوري، وعضو سابق في الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وقيادي في حزب الشعب الديمقراطي)، الذي قال: حقيقة هي أكثر من تحديات، لأنها قد تلامس أحياناً حافة الخطر. لأنّ المهام المطلوبة على قاعدة التنفيذ كبيرة وعديدة، تلامس إعادة بناء الدولة ومؤسساتها ومعالجة التخريب والعطب على المستوى الاجتماعي الذي سببه نظام التسلط الراحل، فارتكابات النظام الأسدي وجرائمه وأعماله التخريبية طالت كلاً من الدولة والمجتمع، وتمادت عمقاً واتساعاً على امتداد البلاد خلال أكثر من نصف قرن. أول هذه التحديات هي الأمنية وعدم الاستقرار:مخاطر إيران عبر ميليشياتها وعملائها. فانتصار الثورة السورية أكبر هزيمة لمشروعها في المنطقة. ويصعب على نظام الملالي ابتلاعها والانكفاء داخل إيران بانتظار هزيمة أخرى أو الانهيار الداخلي. وكذلك هناك المخاطر المحتملة من أزلام النظام البائد وزبانيته من مرتكبي الجرائم والمهددين بالملاحقة الأمنية. الذين يحملون السلاح ولديهم وفرة من الأموال المسروقة. وقد تتوفر لهم مساعدة خارجية. أضف إلى ذلك الصدامات المحلية مع قوى الأمر الواقع وفيما بينها، وخاصة بعد حل المنظمات المسلحة وجمع السلاح. ناهيك عن أعمال الانتقام المحتملة الفردية والجماعية، إذا تأخرت عملية العدالة الانتقالية، أو لم تحقق المطلوب.
ثانياً، التحديات الممكنة خلال مرحلة تسيير الأعمال،وأجملها بالنقاط التالية:
– توفير الحاجات الضرورية للحياة اليومية للمواطنين.
– تأمين عمل المؤسسات الرسمية في الداخل والسفارات في الخارج بما يلبي حاجة السوريين وتوقعاتهم.
– حماية الاقتصاد الوطني من التضخم النقدي المحتمل، وحماية السوق والمواطنين من غلاء الأسعار.
– مخاطر القلق الشعبي وردود الفعل الجماعية المعاكسة والرافضة، التي تسببها التجريبية والقرارات والإجراءات الاستنسابية، التي تتخذ دون دراسة كافية وخارج المألوف في الحياة الشعبية الراسخة.
– عدم توفر الملاءة المالية الكافية لتلبية متطلبات عمل ماكينة الدولة والنفقات الجارية بالوقت المناسب.
يضيف صبرة: هناك تحديات تشكيل مؤسسات الحكم ومنظمات العمل المطلوبة خلال المرحلة الانتقالية، بداية من المؤتمر الوطني العام، الذي يتطلب إعداداً متأنياً وشاملاً. بحيث يوفر الحضور الحقيقي والفاعل لمكوّنات الشعب السوري، مع الحرص على صحة التمثيل والخبرة الكافية وحسن الأداء. ومن ثم تشكيل هيئة حكم انتقالي كسلطة جماعية مؤقتة، تدير المرحلة الانتقالية. تقوم بمهمة التشريع ومراقبة عمل المؤسسات التنفيذية للدولة، وتوفير البيئة الوطنية والمناخات المناسبة لعملية الانتقال السياسي. إضافة إلى تشكيل المجلس العسكري لإعادة بناء الجيش والقوات المسلحة والأجهزة الأمنية، واستيعاب الفصائل والمنشقين من الضباط وصف الضباط والأفراد اختيارياً. بموازاة ذلك جمع السلاح وضمان حصرية حيازته بيد الدولة، وتشكيل مجلس القضاء الأعلى والمحكمة الدستورية العليا، وضمان استقلالهما وحرية عملهما للتدقيق بدستورية القوانين والإجراءات المتخذة من قبل كافة السلطات في المرحلة الانتقالية. ومعالجة الوضع في شمالي شرق البلاد (قسد) مع ذيوله واستطالات مؤثراته إقليمياً ودولياً.
يختم صبرة حديثه معنا حول أبرز التحديات التي يرى أنه لا بدّ من إيلائها أهمية بالغة، ألا وهي عملية العدالة الانتقالية ورد المظالم إلى أهلها ومحاسبة المرتكبين بالشكل والوقت المناسبين، وعبر مؤسسات قانونية متخصصة ونزيهة. كما شدد على ضرورة عدم وقوع السلطات الجديدة في مطب ممارسة سياسة الاستحواذ أو الانفراد أو الاستنسابية باتخاذ القرارات. كي لا يصبح الوضع بتماس مع نظام اللون الواحد، الذي يعرض البلاد والشعب لمحنة جديدة وامتحان جديد. وأخيراً أشار إلى المخاطر الدائمة والمتصاعدة من “إسرائيل”، التي تتصرف في المنطقة دون رقيب أو حسيب.
صلاح بدرالدين: حل القضية الكردية السورية بشكل ديمقراطي سلمي
من جهته، يرى الكاتب والسياسي الكردي السوري صلاح بدرالدين أنّ سوريا تحوّلت منذ أكثر من نصف قرن في ظل نظام البعث إلى سجن كبير، حُرم فيه السوريون من الحرية، والعيش الكريم، وتعرضوا لمختلف أنواع القهر، والقمع، والاعتقال الكيفي، وعندما انتفضوا بشكل سلمي في سياق ثورات الربيع التي اندلعت في معظم بلدان المنطقة ومن خلال التظاهرات الاحتجاجية من أجل الخلاص، ناشدين الحرية والكرامة، قُمعوا بالحديد والنار، والتدمير، والإبادة، حيث استخدم نظام الأسد كل إمكانيات الدولة العسكرية، والأمنية، ومواردها الاقتصادية ضد الشعب السوري، بالإضافة إلى انتهاكه للسيادة باستقدام جيوش الدول الأجنبية، والميليشيات المذهبية لاستكمال حرب الإبادة والتقتيل، والتهجير.
وبعد نحو أربعة عشر عاماً من اندلاع الثورة السورية، وبعد أن واجهت العديد من التراجعات، والانتكاسات – لسنا بصدد مراجعتها الآن – فقد توجت بإقدام فصائل عسكرية ثورية، وفي ظل ظروف محيطة مواتية بتحرير المدن السورية الرئيسية انتهاء بالعاصمة دمشق في الثامن من كانون الأول/ديسمبر ٢٠٢٤، وسقوط نظام الاستبداد بعد أكثر من نصف قرن، وانبثاق سوريا الجديدة.
يتابع بدرالدين قائلاً: معلوم أنّ هناك جملة من التحديات الحقيقية تواجه العهد الجديد، ومن أبرزها: أولاً: بداية لا بدّ من التأكيد أنّ ما بناه نظام الاستبداد طيلة خمسين عاماً من قواعد بنى تحتية، ومؤسسات في المجالات العسكرية، والأمنية، والاجتماعية، والاقتصادية، والحزبية، والإدارية، لا يمكن تغييرها في غضون أسابيع وأعوام ، ومن جانب فصائل محددة، بل يحتاج الأمر إلى المزيد من الوقت، وإلى التعاون بين مختلف القوى والأطراف، والمكوّنات التي شاركت في الثورة والمعارضة، بل يحتاج أيضاً إلى المشاركة الشعبية العامة التي لها مصلحة في إرساء نظام وطني ديمقراطي يرعى مصالح الغالبية الساحقة من الشعب السوري، ويحقق الأمن والاستقرار والسلام المجتمعي.
ثانياً: قد تكون الإدارة الجديدة محقة بشأن ضرورة توفر الانسجام بين الفريق الحاكم لفترة معينة إلى حين استتباب الأمن، وإنجاز بعض الخطوات ذات الطابع العسكري – الأمني، والإداري الخدماتي، ولكن من الأفضل أن لا تطول هذه المدة أكثر من اللازم.
ثالثاً: لا نكتشف جديداً بخصوص التحديات الماِثلة، فقد كان من صلب أهداف الثورة السورية (المغدورة) إسقاط الاستبداد، وهو ما تحقق كخطوة أساسية مفتاحية أولى.
رابعاً: أما التحديات الأخرى التي تتطلب المواجهة مثل تحقيق الحرية، والكرامة وإجراء التغيير الديمقراطي، وتطبيق العدالة، ومحاسبة من تلوثت أياديهم بدماء السوريين، وإعادة البناء، والإعمار، وعودة المهجرين، والنازحين، ووضع حد لسلطات الأمر الواقع المعلنة هنا وهناك، واستلام جميع أنواع الأسلحة خارج نطاق سلطة الدولة، وضم كل المناطق إلى سلطة الدولة السورية الحرة، بالتوازي مع مغادرة كل الجيوش الأجنبية المحتلة، والسيطرة على جميع المطارات، والمعابر الحدودية، وتوفير مقومات التنفيذ مثل إعادة بناء القوى العسكرية، والأمنية بعقيدة جديدة تنسجم مع مرحلة الحرية والسلم، نقول إنّ إنجاز هذه المهام يحتاج إلى مشاركة كل المكوّنات، وجميع التيارات السياسية الوطنية المناضلة من أجل الحرية والتقدم وبناء سوريا الجديدة.
خامساً: بعد عودة السوريين إلى بلادهم من مواقع الهجرة والشتات، من الضرورة بمكان إجراء إحصاء سكاني عام لمعرفة حقيقة العدد الإجمالي للسوريين، ونسب مكوّناتهم القومية، والاجتماعية، والثقافية، وعلى ضوء ذلك يتم الاستجابة للاستحقاقات الدستورية، والقانونية، والإدارية في سوريا الجديدة.
سادساً: حل القضية الكردية السورية بشكل ديمقراطي سلمي من أهم التحديات التي تواجه سوريا الجديدة، مع الأخذ بعين الاعتبار طوي صفحة، بل تجاوز ما حصل بشكل استثنائي منذ أربعة عشر عاماً، من جانب قوى، وأحزاب (كردية!) أيديولوجية، مرتبطة بالخارج، (هناك تجربة مماثلة على الصعيد السوري) أضافت تعقيدات مضاعفة إلى قضايا الكرد السوريين، بل حرفت المسألة عن مسارها الديمقراطي الإنساني الصحيح، فالخارطة السياسية للحالة الكردية السورية الخاصة تؤكد على حقائق جديدة وأهمها عدم مقبولية تحكم الأحزاب، وادعاءاتها الباطلة (بتمثيل شرعي وحيد) للكرد السوريين، وازدياد أعداد الوطنيين المستقلين خارج أطر الأحزاب إلى درجة الغالبية الساحقة، هذه الغالبية تشكّل الآن – الكتلة التاريخية – التي انخرطت بالثورة السورية، وربطت قضاياها بمصير الوطن، بعكس معظم أحزاب طرفي (الاستعصاء) في الساحة الكردية السورية التي حملت ومازالت تحمل الأجندة الخارجية، بل قسم منها يدعو إلى تدخلات خارجية من جانب أطراف لم تكن يوماً صديقة للكرد ولا لعموم السوريين، ومن حق هذه الكتلة التاريخية على الإدارة الجديدة المزيد من الرعاية، وقبولها كطرف كردي سوري وطني محاور، وشريك أساسي في إعادة بناء الوطن، وتحمل المسؤوليات.
وفي ختام حديثه مع “صالون سوريا”، يؤكد بدر الدين أنه على السوريين جميعاً أمام الامتحان، ولا شكّ أنّ اتحادهم كفيل بتحقيق الانتصار النهائي.
عبدالله تركماني: تكريس القواعد الديمقراطية وبناء المؤسسات الدستورية
أما الباحث الأكاديمي والكاتب في الفكر السياسي الدكتور عبدالله تركماني، فيرى أنه بعد أن سالت دماء سوريات وسوريين من أجل التغيير الوطني الديمقراطي أضحى هذا التغيير على جدول الأعمال السوري بعد سقوط سلطة آل الأسد يوم 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، لذلك من المهم محاولة رؤية أهم التحديات السياسية والاجتماعية في سوريا الجديدة. استناداً إلى القياس على مطالب السوريين في التحوّل المؤسسي القائم على مجموعة قيم: الحرية والكرامة والشفافية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
ولا شكّ أنّ تحديد الأولويات ومراجعة الأهداف المزمع تحقيقها ضرورة ملحة في سوريا الجديدة، ليتم التركيز على متطلبات تكريس القواعد الديمقراطية وبناء المؤسسات الدستورية ومعالجة المشاكل المعيشية وتحديث الهياكل والبنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتحقيق التنمية والارتقاء بمستويات القدرات السورية.
تركماني أردف قائلاً: إنّ سوريا أحوج ما تكون إلى دولة كل مواطنيها بلا استثناء ولا تمييز، يشارك فيها الأفراد والمكوّنات الاجتماعية مشاركة فعلية من خلال المؤسسات. والحل المجدي الوحيد يكمن في قيام الدولة، التي عمادها المواطنة الكاملة القائمة على دستور عادل لا يميّز بين المواطنين على أساس ديني أو مذهبي أو قومي. ومن غير الممكن تصوّر سوريا لكل مواطنيها بمعزل عن عودة الروح إلى المجتمع المدني، وضمان مؤسساته المستقلة عن سلطة الدولة، كي يسترد المجتمع حراكه السياسي والثقافي، بما يخدم إعادة بناء الدولة السورية الحديثة.
كما أنّ عملية التحوّل الديمقراطي تقتضي إعادة صياغة القيم السائدة، وتغيير أنماط السلوك من خلال مجموعة كبرى متكاملة من التحوّلات. فحين يصبح هذا التمييز منغرساً في وعينا الجمعي، نستطيع ترتيب ولاءاتنا بشكل عقلاني وسليم، حيث تنتصب الدولة الوطنية، باعتبارها دولة حق وقانون، في المقام الأول، وتتصدر غيرها من الإعاقات، وهي كثيرة في سوريا، وفي مقدمتها حصول مصالحة مزدوجة: مصالحة المجتمع مع الدولة السورية الجديدة، على أنها بيت للجميع، ومصالحة الدولة مع المجتمع، باعتباره محور الدولة. ومما يؤسف له أنّ ما جرى من فصل بين الذكور والإناث في باصات النقل الداخلي العامة والخاصة، وكذلك القلق المسيطر على أبناء الطائفة العلوية بعد الحملة الأمنية للسلطات الجديدة في أحيائهم، إضافة إلى القرارات التي صدرت بشأن التعديلات في البرامج الدراسية، مثل: إلغاء وحذف قصائد الغزل، ومدونة حمورابي، والملكة زنوبيا، وإلغاء الموسيقى والأوبرا أثار جدلاً واسعاً وقلقاً شعبياً واعتراضاً في الشارع السوري، ما يشير إلى صعوبة المصالحة المطلوبة بين الدولة والمجتمع.
أخيراً يؤكد الدكتور عبدالله تركماني، على أنّ الحكم الصالح اليوم يتطلب دستوراً جديداً يؤكد قيم الحرية والعدالة، وينجح في إرساء تقاليد التداول على السلطة في ظل انتخابات حرة وشفافة وضمانات لكل مكوّناتالمجتمع مختتماً حديثه بالتساؤل التالي: هل يكون النظام الانتقالي مفتاحاً لتوافق سوري عام على محتوى التغيير المقبل، وفسحة لانتقال سلمي وهادئ نحو نظام جديد في سوريا؟
محمود الحمزة: الحاجة لهيئة حكم انتقالية تمثل أوسع أطياف المجتمع
بدوره، يبين الأكاديمي والسياسي الدكتور محمود الحمزة، أنّ الشعب السوري استطاع بعد كفاح طويل ومكلف أن يسقط نظام الأسد الاستبدادي الذي ترك وراءه بلداً محطماً ومدمراً في كافة المجالات: الاقتصادية والثقافية والمجتمعية – البنية التحتية- المعيشية – التعليمية- الصحية- المؤسسات. وبالرغم من ذلك علينا اليوم أن ننطلق من كون سوريا بلد الحضارات والثقافات ومهد الديانات، ويجب أن تكون الجمهورية السورية الجديدة نموذجاً عصرياً ديمقراطياً، مع التأكيد على انتمائها التاريخي والحضاري والثقافي للمحيط العربي والإسلامي. وأشار الدكتور الحمزة إلى أنّ ما حدث في سوريا انتصار تاريخي لم يحصل مثله منذ قرون عديدة ويجب على السوريين جميعاً وبلا استثناء الحفاظ عليه وحمايته من قوى الثورة المضادة في الداخل والخارج، على مبدأ “سوريا لكل السوريين”.
يضيف الحمزة: نلاحظ أن قيادة السلطة الجديدة تتمتع بالنظرة البراغماتية وهي تطوّر خطابها ومواقفها العملية تبعاً للظروف، خاصة زعيمها أحمد الشرع الذي يظهر صورة القائد الحقيقي السياسي والوطني والدبلوماسي، وخطابه متوازن ويتمتع بحكمة ورصانة في الطرح. وواجبنا الوقوف إلى جانبه ودعمه والمساعدة في تجنب الأخطاء قدر الإمكان.
أما أهم التحديات التي يجب على القيادة الجديدة حلها سواء بالموقف السياسي أو الإجراءات العملية، وفقاً للحمزة، هي: الإسراع في اتخاذ إعلان دستوري أو اعتماد دستور 1950 مع بعض التعديلات وهذا أمر ملح لإعطاء صفة قانونية وشرعية للسلطة الجديدة ويسرع بالاعتراف بها بشكل رسمي دولياً. إنّ سوريا بحاجة لهيئة حكم انتقالية تمثل أوسع أطياف المجتمع من الكفاءات لكي تشرف على عقد مؤتمر وطني سوري ولاحقا تشرف على تشكيل حكومة انتقالية وإعداد دستور للبلاد وانتخابات برلمانية ورئاسية. ويجب أن تُصدر هيئة الحكم الانتقالية بياناً موجهاً إلى الشعب السوري يوضح التوجهات السياسية للمرحلة الانتقالية.
يؤكد الأكاديمي والسياسي الدكتور محمود الحمزة، أنّ سوريا بأمس الحاجة لمؤتمر وطني سوري جامع يجب أن يتم التحضير له بشكل جيد من قبل لجنة تحضيرية مكوّنة من شخصيات وطنية وكفاءات سورية مستقلة تمثل أوسع شرائح المجتمع السوري. ومن أهم قرارات المؤتمر التأكيد على هدف بناء دولة سورية واحدة وحكومة وطنية واحدة وجيش سوري واحد، والالتزام بوحدة سوريا أرضاً وشعباً وألا يكون هناك خارج سلطة الدولة أي فصائل مسلحة أو سلطات أمر واقع. كذلك يجب أن يحدد المؤتمر ملامح الدولة السورية الجديدة وخاصة في أن تكون دولة مدنية ودولة المواطنة.
يختتم الحمزة حديثه مع “صالون سوريا” قائلاً: الدستور الجديد من أهم المنجزات التي يجب العمل عليها وذلك يجب أن ينتج عن المؤتمر لجنة من الخبراء المشهود لهم بالكفاءة والاستقلالية لصياغة مسودة دستور عصري يحفظ حقوق الأفراد والجماعات وحقوق المرأة والشباب وحرية الاعتقاد والتعبير عن الرأي. وبعد ذلك يعرض الدستور على الاستفتاء الشعبي بمشاركة مراقبين دوليين. ويجب تحديد المدة اللازمة (على ألا تزيد عن ثلاث سنوات) لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية لكي تنتقل سوريا إلى المرحلة الشرعية الكاملة المنتخبة.
لا أعرف من روى نكتة أنه لو فُرض علينا حظر تجول لخرجنا نتفرج على حظر التجول! هذا ما حدث في الحي عند بدء الحملة الأمنية على بعض أحياء حمص التي وُصمت بالموالاة للتفتيش عن السلاح وفلول النظام كما قيل، إذ خرج سكان الحي ووقفوا “يتشمسون” أمام أبواب البيوت كي يراقبوا السماء حيث كانت الطائرات المسيرة تصور الحركة في الأحياء، محاولين استطلاع تقدم عمليات التفتيش في الشوارع.
ربما كان هـذا فضولاً أو رهاناً على الآخر الجديد والغريب الملثم بقناع ردع العدوان، من البسطاء الذين استغلهم بشار الأسد والذين تمنوا سراً كل يوم سقوطه.
أربعة عشر عاماً من القمع والقصف والتعذيب في السجون وشيطنة الآخر وتجريمه بالخيانة والطائفية على يد النظام الذي زج بالشباب السوري في الدفاع عنه في حربه الطويلة ضد الثائرين عليه، بينما كان على مدى خمسين عاما يعمق الطائفية بين مكونات الشعب السوري فلم يتوقف منذ الثمانينات عن ضخ الماء العكر في القنوات ليسمم مكونات المجتمع. وبدل أن يمد جسور المواطنة كان يقطعها بتغذية الانتماءات الطائفية والعشائرية والعائلية ليحافظ على وجوده أولاً وعلى خزان القوى البشرية لجيشه وعلى دعم فئات لها وزنها خارج البلاد.
إشارة استفهام حول معايير اختلاف التعامل مع السكان
بدأت الحملة الأمنية دون إنذار مسبق، إذ استيقظنا على صوت رشقات الرصاص من عدة أنواع من السلاح، للوهلة الأولى كنا بحاجة لوقت لاستيعاب الحدث وما يمكن أن يليه فكل الاحتمالات ممكنة، والخوف حالة غريزية عند الإنسان يثيره المجهول وغير المجرَّب حتى الآن. كان الوقت يمر ببطء في انتظار وصول الشباب للتفتيش حتى سمعنا صوت يحث الجميع على الدخول إلى المنازل، ولعلها نكتة حمصية أن نقول: إن الذين انصاعوا قلائل.
عرّف شباب الحملة عن أنفسهم بالشرائط الملونة على الكتف وكان بعضهم يضع شرائط حمراء وبعضهم الآخر صفراء وخضراء فهل اختلف السلوك حسب لون الشريطة أم حسب الحي؟
بعضهم دخل المنازل وهو يعتذر قائلاً إنه لا يمتلك وقتاً لخلع الأحذية وعبر عن أسفه للأمهات لأن سجاد المنزل قد يتسخ، وبعضهم الآخر زاد على تهذيبه بعض التلميحات التي تحمل اللوم والتنديد بصمت سكان هذه الأحياء على قصف النظام لهم والمقارنة بين دخولهم إلى بيوتها ودخول شبيحة النظام الساقط إلى بيوتهم في سنوات سابقة وكيف أن الشبيحة لم يتورعوا عن ارتكاب المذابح والمجازر والتقاط الصور مع الضحايا.
بعضهم قام بكسر الآلات الموسيقية والشاشات ربما لأنه يرى الموسيقا حراماً والتلفاز بدعة! وثمة من لم يكتف بالكلام، بل صب جام غضبه المكبوت على بعض الشبان ضارباً ومعنفاً ومهيناً لهم إذ تناقلت الصفحات فيديوهات لإذلال الشباب بعد جمعهم سواء بالضرب أو الطلب منهم القيام بالنباح أو تقليد صوت الحمار.
وهو ما كان يفعله سجانو النظام مع السجناء بإجبارهم على النباح أو تقليد أصوات الحيوانات، فهل فكر هؤلاء الشبان وهم يقومون بذات الفعل الذي قام به سجانو الأسد في النظام السابق بخطورة فعلهم؟ وهليفكرون بتحويل سوريا إلى سجن كبير؟
عدالة أم انتقام؟
كان الخطر يكمن في طبيعة النظرة التي تم إيصالها للآخر فهو حين يجبره على تقليد صوت حيوان عملياً يقول له إنه يراه بهذا المستوى ويحط من كرامته الإنسانية إلى مستوى أقل في التطور، وهذا يعني أنه لا يريده شريكاً، وعلاقته لن تتعدى هذا المستوى. نتذكر كيف كان ينظر البيض إلى الأفارقة على أنهم بمستوى أقل إذ كان في بداية القرن الماضي يتم عرضهم في أقفاص، وهو ما يشابه ما قامت به السلطة النازية بإذلال الشعوب الأخرى على أساس التمييز العرقي.
يرافق الإذلال حين يكون علنياً ومصوراً إحساس بالخزي والعار وهنا يترك الممارس عليه عرضة لحالات مختلطة تتوقف على كونه فردياً أو جماعياً و تتراوح بين الانتحار والانتقام فإن كانت الجهة التي تمارسه لها شكل سلطة واضح ومحدد يزداد الشعور بعدم القدرة على رد الاعتبار وهو ما يمكن أن نراه في حالة البوعزيزي الذي أشعل الربيع العربي، أما إن كان غير ذلك فقد يؤدي إلى محاولة رد فعل عنفي، إذ يسقط الإنسان المقهور ذات الفعل على غيره في محاولة التعويض النفسي للإحساس بالخزي.
هل من عدالة في شعار من يحرر يقرر؟
سُجلت هذه الانتهاكات كحالات فردية وشعر الناس بالراحة بعد انتهاء الحملة الأمنية لكن ما حدث من حالات فردية زرع الخوف من طبيعة المرحلة القادمة في البلاد خصوصاً بعد الرد على كل انتقاد بشعار من يحرر يقرر وهذا تلميح بالسعي للانفراد بالحكم ورغبة ضمنية بإقصاء الآخر وتغيير جوهر الثورة التي قامت على أساس رفض ديكتاتورية الأسد التي انفردت بالحكم وأقصت سائر فئات الشعب الأخرى، الثورة التي نادت بالحرية هدفاً أول.
إن هذه الأفعال الانفعالية والشعارات لا تبني سوريا القادمة التي تحتاج إلى كل الجهود والترفع على الآلام والماضي مع محاسبة المجرمين والقتلة فالعدالة التي تبني سورية ليست الانتقامية والثأرية بل عدالة قانونية تستهدف كل من حمل إثم الدم السوري.
إن اللجوء إلى الفعل الانتقامي دون رقابة أمنية خطير لأنه يهدد الشراكة التي تقوم عليها الدولة والتي قام الأسد ونظامه بتدميرها، ليس فقط كمؤسسات بل أيضاً كقاعدة شعبية، ولنتذكر الآية الكريمة “لا تزر وازرة وزر أخرى” فبعض الشبان الذين تعرضوا للإذلال من أعمار صغيرة ولم يشاركوا بأي فعل عنفي يستحق الانتقام.
تم اعتقال كثير من الشبان أثناء ذلك، ثم تم الإفراج عن 360 شاباً منهم فقط بينما ما زال الأهالي ينتظرون أولادهم على أحر من الجمر.
في هذه الأثناء تتواصل حوادث الاختطاف وتهدد السلم الأهلي في المدينة بينما يعرف الجميع أن التركة التي ورثها الشعب السوري من النظام الساقط ثقيلة كهذه الأيام، والكل يتمنى أن يتجاوز ذلك بأقل الخسائر، فهل ينجح؟
“أكثر قصصي قسوة هي أقل قسوة من الحياة العربية المعاصرة، وأنا لا أستطيع وصف السماء بجمالها الأزرق متناسياً ما يجري تحت تلك السماء من مآس ومجازر ومهازل.. صدّقني الأسطورة أصبحت أكثر تصديقاً من واقعنا المرير” بهذا التوصيف العاصف يلخص الكاتب السوري زكريا تامر (1931) تجربته الإبداعية، وهو واحد من أبرز الكتّاب في سورية والعالم العربي.
يتميز أدب زكريا تامر بأسلوب مكثف ومقاربة لاذعة تضع القارئ في مواجهة مباشرة مع دهشة غير متوقعة تخفيها تفاصيل نصوصه الشهيرة. ويتسم بمزيج متوازن من النقد السياسي والاجتماعي، مع ميل واضح للنقد السياسي باعتباره محوراً أساسياً في العديد من قصصه، كما يتضح في أعماله مثل “ربيع في الرماد”. مع ذلك، لا ينفصل النقد السياسي عن النقد الاجتماعي في أدبه؛ فالسياسة والمجتمع في أعماله متشابكان بشدة.
البدايات الأدبية والانتشار الثقافي
تنبض قصص زكريا تامر بتوتر دائم بين الألم والأمل، مصاغة في حكايات قصيرة مكتظة بالدلالات والرموز، تعالج قضايا جوهرية كالقمع، الفقر، الحرية، والموت. يُطلق على أسلوبه لقب “الضربة القاضية”، حيث تنتهي قصصه فجأة بعبارات قاسية أو مفاجئة تترك القارئ في حالة من التأمل أو الصدمة.
يتسم أسلوب زكريا تامر بالاقتصاد اللغوي والرمزية العميقة، حيث يوجز العالم في عبارات مكثفة تحمل دلالات متعددة. لغته تبدو بسيطة في ظاهرها، لكنها غنية بالإيحاءات، مما يجعل قصصه قابلة للفهم من قبل القارئ العادي، ومؤثرة بعمق لدى القارئ المتمرس.” برع زكريا تامر في خلق عوالم سريالية تعكس قسوة الواقع، حيث وظّف السخرية السوداء لكشف عبثية الحياة تحت وطأة الاستبداد. رموزه المتنوعة-كالحيوانات والأطفال لم تكتفِ بتجسيد القهر، بل عكست توقاً للتمرد. هذا التداخل بين الألم والأمل جعل نصوصه تجسيداً فنياً فريداً. وفي مقال موسعة عن حياة الكاتب أعدها الباحث “عبد المتين” برر كيف أن زكريا تامر “كسر الحواجز في القصة التقليدية السائدة، وفتح آفاقاً جديدة وصوتاً منفرداً في هذا المجال.”
بعد تركه الدراسة عام (1944)، غاص زكريا تامر في ميادين الحياة العملية، حيث شكّلت تجربته كنجار وحداد في دمشق عمقاً إنسانياً انعكس لاحقاً في تصويره لمعاناة الفرد في قصصه. عمل في مصنع للأقفال في حيّ البحصة بدمشق، قضى سنوات هناك يحتك بتلك العوالم القاسية التي أكسبته مرونة وخصوصية في اللغة تحطمت على ضرباتها الفنية تابوهات المجتمع من عادات وتقاليد مغروس في الخوف من الزعيم مهما كان تمثيله المجازي في الحياة، أب، معلم، مدير، رئيس، سلطة، أفكار.. وسواها من التابوهات التي تسعى لقمع الإنسان.
في أواخر الخمسينيات تحديداً عام (1957) من القرن المنصرم، كرّس تامر حياته للقصة القصيرة. بدأ يكتب وينشر في الصحف والدوريات الثقافية، وكان صديقاً مقرّباً من الشاعر السوري الراحل محمد الماغوط، والذي قدمه لمنابر جعلته على السكة الصحيحة للانتشار، فسحر القرّاء بلغته الخاصة منذ تلك اللحظة.
الأسلوب الفني والرمزية في أدب تامر
وفي العام (1960) بدأ زكريا تامر بنشر قصصه في كتب، كانت أول مجموعة له بعنوان “صهيل الجواد الأبيض”، تتألف المجموعة من (11) قصة تسلط الضوء على حياة الإنسان تحت وطأة التعذيب النفسي، وتُعد من أبرز أعمال زكريا تامر في القصة القصيرة. وبحسب بحث نُشر في مجلة “فكر الثقافية” بعنوان “تجليات صراع الإنسان في صهيل الجواد الأبيض”، حلّل هذا البحث صراع الإنسان تجاه الوجود والعدم، والحقيقة والزيف، كما يكشف عن شعور الإنسان بالعدم والزيف في العصر الحديث ومحاولاته لإنقاذ نفسه من هذا الشعور بحسب قصص تامر تلك. من أجواء المجموعة: “الإنسان الكامل مزيج من القذارة والنبل”، و “أتمنى لو أحطم جبهتي وأمحو بدمها الدموع من الأرض.”
بعد مضى ثلاث سنوات على عمله الأول، أصدر زكريا تامر عمله القصصي “ربيع في الرماد” عام 1963. وجاء في دراسة نقدية بعنوان “ربيع في الرماد لزكريا تامر: تحليل نصي” نشرت في مجلة قلمون، العمل يتميز بتصوير مدينة خيالية تمزج بين الأمل واليأس، حيث يعكس العنوان نفسه جدلية الحياة والموت عبر “الربيع” و”الرماد”. يعتمد زكريا تامر على بناء سردي فريد يرتكز على شخصيات بلا أسماء محددة، مما يعزز الشعور باللايقين والتأويل المفتوح. نقتبس من هذا الكتاب “قالت الأميرة: الدموع في العينين أجمل من الوجه الضاحك. قال المهرّج: الفاجع أن يبكي القلب بعينين جافّتين.”
بقي زكريا تامر لسنوات يتابع الحياة المتقلبة سياسياً في بلده سورية حتى نهاية الستينيات، بعد أن وضع حزب البعث في سورية يده على الحكم أصدر عام (1970) مجموعته القصصية “الرعد” وتضم 18 قصة قصيرة تجسد بعمق تعقيدات النفس البشرية وتتناول صراعاتها اليومية، والتي وصفها الناشر بأنها “همسات تدور في أروقة الحياة تحدث بأنها ستغدو صراخاً يعلو كرعد ينبأ بصيحة المظلومين والمقهورين”، ومما جاء في دراسة نقدية استشهدت بقصص هذه المجموعة وكانت بعنوان “تجليات التراث في قصص زكريا تامر” ونشرتها (جامعة تشرين السورية): زكريا تامر يوظف التراث العربي والإسلامي في قصصه، بهدف إعادة صياغة الواقع والتعبير عن قضايا الحاضر من خلال عدسة الماضي. التراث يظهر في قصصه كأداة للمقارنة بين الأمجاد القديمة والانهيارات المعاصرة، مما يبرز التناقضات الحادة بين الماضي والحاضر. مثلاً يظهر طارق بن زياد في قصة “الذي أحرق السفن”، حيث يتحول حرق السفن إلى إدانة ضمنية للبروقراطية والفساد الحديث. فيما يظهر عمر المختار كرمز للبطولة التي اغتيلت في ظل قمع القوى الاستعمارية وظلم الأنظمة. أما الشخصيات الشعبية مثل الشاطر حسن وجحا، توظف لتعكس واقع المجتمع بتعبير ساخر ومؤثر.
في عام (1973) أصدر تامر مجموعته القصصية “دمشق الحرائق” التي كانت امتداداً لخط محاكاته النقدية في التعبير عن الألم الإنساني مسلطاً الضوء على قضايا الظلم الاجتماعي، وقهر المرأة، والفقر، والجوع، والقمع السياسي، عبر سرد خيالي ممزوج بالواقعية من خلال 30 قصة قصيرة، يستعرض الكاتب معاناة الأفراد في ظل التقاليد الصارمة والسلطة القمعية، موضحًا تأثير الخرافات والموروثات الثقافية على المجتمع، مما جاء في تلك القصص “في دمشق، كل شيء يحترق: الأحلام، الحب، الضحكات، حتى الصمت نفسه يشتعل”، و “ليس هناك ألم أقسى من أن ترى العالم من حولك ينهار وأنت عاجز عن الصراخ”.
حضور أدبي عابر للحدود
وفي عام (1978) أصدر زكريا تامر مجموعته “النمور في اليوم العاشر”، والتي تسلط الضوء على الشخصيات التي تعيش تحت وطأة الظلم والخوف، لكنها تسعى دائماً لمقاومة الواقع بأساليبها الخاصة. في قصة “النمور في اليوم العاشر”، يروي عن نمر يتحول تدريجيًا إلى كائن خاضع بعد تعرّضه للترويض. هذه القصة، كغيرها من أعماله، تعكس بوضوح نقده العميق لأنظمة القهر والسيطرة. وفي حوار منشور مع تامر بمناسبة حصوله على جائزة سلطان العويس عام (2001) يقول تعليقاً عن القصة الأشهر في هذا الكتاب: “النمر يا عزيزي هو الحيوان الوحيد الذي يستطيع أن يعود الى طبيعته الحيوانية في أيّة لحظة مهما حاولت أن تدعي ترويضه واستئناسه في السيرك مثلاً.. لذلك فإن قصة النمور في اليوم العاشر تعني في المقام الاول أن الإنسان العربي سيعود إلى طبيعته الإنسانية الحقة ليصلح الأوضاع العائلية، والدليل على ذلك ما يحدث في فلسطين المحتلة الآن”.
شغل زكريا تامر مناصب بارزة في المؤسسات الثقافية السورية، منها رئاسة تحرير مجلات “الموقف الأدبي” و”أسامة” و”المعرفة”، بالإضافة إلى عمله كرئيس قسم الدراما في التلفزيون السوري ومساهمته في تأسيس اتحاد الكتاب العرب. أثارت افتتاحياته الجريئة في مجلة “المعرفة” جدلاً واسعاً، خصوصاً تناوله قضايا الحرية والعدالة الاجتماعية، ونشره مقتطفات من كتاب “طبائع الاستبداد” لعبد الرحمن الكواكبي، ما أدى إلى استقالته في (1980) بعد استدعائه للتحقيق. عمل أيضاً في وزارتي الثقافة والإعلام، وترك سوريا في (1981) ليستقر في بريطانيا حيث واصل نشاطه الأدبي والصحفي.
الجوائز والتكريمات
أصدر زكريا تامر العديد من أعماله الأدبية عبر دور نشر مرموقة، حيث نشرت دار رياض الريس كتب “نداء نوح” في لندن عام (1994)، و”سنضحك” في بيروت عام (1998)، و”الحصرم” عام (2000)، و”تكسير ركب” عام (2002)، و”القنفذ” عام (2005). كما صدر كتابه “أرض الويل” عن دار جداول عام (2015)، و”ندم الحصان” عام (2018).
كما أبدع تامر في أدب الأطفال منذ عام (1968)، وقدم مجموعة من الأعمال التي تحمل رسائل تربوية وإنسانية، منها “الحمامة البيضاء” و”لماذا سكت النهر” و”نصائح مهملة: عشرون قصة للأطفال”، وغيرها. امتاز بأسلوب يمزج بين الخيال والواقع بلمسة خاصة لم يسبقه إليها أحد، مما يعزز خيال الأطفال ويثري قدرتهم على التفكير النقدي. تُرجمت قصصه إلى عدة لغات، مما يعكس انتشارها وتقديرها عالمياً، حيث استقى مادتها من الطبيعة وعالم الحيوانات، محوّلاً القصص إلى أدوات تعليمية محببة وقريبة من عالم الطفل.
وجه آخر للإبداع
حصد زكريا تامر العديد من الجوائز والتكريمات تقديراً لإسهاماته الأدبية، منها جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية في القصة والرواية والمسرحية عام (2001)، ووسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة عام (2002). كما نال جائزة بلو ميتروبوليس الماجدي بن ظاهر للأدب العربي عام (2009)، وجائزة ملتقى القاهرة الأول للقصة القصيرة في العام نفسه. وفي (2015)، حصل على جائزة محمود درويش للحرية والإبداع، ما يبرز مكانته كأحد أبرز كتّاب القصة في العالم العربي.
تمكن زكريا تامر من تجاوز الحدود الثقافية ليصبح جسراً أدبياً يربط بين العالم العربي والمشهد الدولي، حيث تُرجمت أعماله إلى لغات عديدة، مقدمةً نموذجاً إنسانياً شاملاً عن الحرية وكرامة الإنسان، فقد تم ترجمة أعماله إلى الإنجليزية والفرنسية والإسبانية، ليصبح صوتاً عربياً عالمياً يعبر عن قضايا الإنسان بجرأة وعمق. لاقت مجموعته “Tigers on the Tenth Day” استقبالاً نقدياً واسعاً في الأوساط الأدبية الغربية، فيما حظيت قصصه باهتمام أكاديمي في جامعات عالمية، حيث اعتُبرت نموذجاً متميزاً يمزج بين الرمزية والواقعية السحرية. لم يقتصر تأثيره على الترجمات، بل امتد إلى ظهوره في أنثولوجيات أدبية مرموقة مثل “Modern Arabic Short Stories”. وُصف تامر بـ”كافكا العرب”، حيث ألهم بأسلوبه المكثف والسريالي كتّاباً عالميين مهتمين بالحرية ومقاومة الظلم. كما عززت مشاركاته في مهرجانات دولية ومقالاته المترجمة حضوره في المشهد الثقافي العالمي، مما أهّله لنيل جوائز مثل جائزة بلو ميتروبوليس للأدب العربي. برموزه الإنسانية الشاملة، مثل النمر والطائر، استطاع تامر تجاوز الحدود الثقافية، ليصبح أدبه رسالة عالمية عن الحرية وكرامة الإنسان.
إحدى وثلاثون سنة من الغياب مضت على انطفاء فارس السرد “هاني الراهب” ومازالت نصوصه تتوهج وتمارس سطوتها وحضورها الآسر على أجيال أتت من بعده تتقرى معانيه وتتلمس خطاه رغم التعتيم والتغييب الذي مورس بحقه على مر الزمن الماضي ومحاصرته في لقمه عيشه بسبب من آرائه ومواقفه، ودائماً كان قلمه سلاحه المسدد بوجه الطغاة والطغم الحاكمة.
شكل إنجاز هاني الراهب انعطافة هامة في مدونة السرد السورية، وكان سباقاً في اجتراحه لآفاق التجريب بالسرد؛ ومقتحماً لعوالم الحداثة مع إيمانه الراسخ بأهمية توظيف الموروث الثقافي العربي وتطويعه لخدمه مشروعه الحداثي. ولقد ابتدأ هذا المشروع مبكراً وأصدر روايته الأولى ” المهزومون” وهو على مقاعد الدراسة الجامعية في الثانية والعشرين من عمره ونالت في ذلك الوقت جائزة دار الآداب كونها لامست وجدان الفرد العربي المهزوم بفعل انكسارات الواقع وخيبة آمال جيل كامل إثر تداعيات السياسة وإخفاق تيارات المد القومي، وفككت وشخصت الهزائم المتتالية التي أحدقت بالفرد العربي وانتكاسات منظومة الشعارات الرنانة ونتائجها الكارثية في هزيمة حزيران والتي كان لها وقع قاس على الوجدان الجمعي وكانت سبباً في تشظي الذات العربية وخرابها النفسي وضياعها. أكملت روايته “شرخ في تاريخ طويل” تعميق أسباب الضياع الذي عانت منه شخصياته وعلاقتها بمحيطها السياسي على خلفية “هزيمة 48 و”67. وتكرر ذلك أيضًا في روايتي “الوباء” و”بلد واحد هو العالم”.
وبين أول رواية ” المهزومون”، وآخر رواية ” خضراء كالبحار” والتي أنجزها قبيل وفاته في عام 2000 مرت مياه كثيرة، ومرت أزمان قاربت أربعة عقود، وفي الوقت التي كانت فيه روايته الأولى المهزومون تنطق بمضمونها وتصوّر واقع الشخصية العربية المهزوم في كل شيء جاءت روايته الثانية “خضراء كالبحار” متوجة مجموعة الروايات التي يبدأ عنوانها ب “خضراء” والتي يرصد فيها الحياة العائلية الرتيبة حيث الأمان والاستقرار يفتقد النبض والعاطفة ويأتي الحب ليقتلع الأعماق ويهز منظومة ثبات الشخصية التقليدي” نورما” في عجزها عن ولوج الحياة الحقيقية ودلالة جفاف النهاية لها، فعقم الزوج مهند يوازيه عقم الأنظمة العسكرية وعقم تجربتها بما أنها لم تلد أي جنين، وشخصية نورما الممزقة بين جبلين أو رجلين، بين خطرين خطر الحرية وتبعاتها مع فراس، أو خطر الجمود والتكلس والحياة الرتيبة الشبيهة بالموت مع مهند، نورما الشخصية الممزقة بين حالين فما أن تصل إلى ضفاف حالة حتى تعاود النكوص إلى نقيضها، فمن الانجراف وراء الحب والحرية إلى الارتداد إلى العائلة والحجاب الذي تصل إليه في نهاية المطاف، وهنا يرصد الراهب تهاوي عالمها الداخلي وخواءه من المعنى في الإطار الخشبي للحياة المطمئنة الراكدة، وكيف تفاجئ نفسها عندما تطلق موجات الحب لآلئ دفينة في أعماقها، وتظهر مواهبها النقدية التي حجبها يباس حياتها الرتيبة التي رسمها لها النظام البطريركي ممثلاً بالأب والزوج وهيمنة التقاليد والاطمئنان الكاذب ليعكس كل ذلك الصورة التي عبر عنها فراس الفنان في التشوه الذي رسمه في ملامحها باعتباره “الجمال المعتدى عليه، الجمال الذي ينقصه حريته”. ويتداخل هنا السرد مع التشكيل والنحت والموسيقا في تجسيد الملامح والتفاصيل لإظهار البعد الداخلي للشخصية الذي أنتج المرأة بتلك الطبيعة المقولبة والخاملة والعاجزة عن العطاء والحب عبر الولوج إلى الطبقات الداخلية لشخصية وازدواجها بين خطابها الواعي لوجودها الحي وخطابها المستند على البرمجة العائلية، وعندما تتمرد عليها تتعثر وتخرج بشكل مشوه وغير مقبول وتبقى تراوح في مكانها رغم استفزازات الشعور والعاطفة ليطرح السؤال: “هل الحب غياب للوعي أم هو وعي آخر؟
كل ذلك يعبر عنه الحوار الداخلي للشخصية وصراعها مع ذاتها بين الصوت العالي للنسق المهيمن وبين رغباتها الذاتية التي تعكس أناها الخاصة، فالمرأة ورغم نزوعها العارم لاقتناص فرصتها بالحياة ترجع بالنهاية للتماهي مع النسق الثقافي السائد في المجتمع، وترجع إلى قيدها رغم كل التناقضات التي عاشتها بسبب من علو ووطأة العرف الاجتماعي وأسواره المكبلة وهذا ما رأيناه في الشخصيات النسائية في مجموعة الروايات التي يبدأ عنوانها ب”خضراء” فهي مهزومة وراجعة إلى الحضن الأبوي المهيمن متناسية أحلامها وجموحها العارم نحو الحرية.
مجموعة الروايات التي يبدأ عنوانها ب”خضراء” باعتبارها أحدث ما كتبه هاني الراهب “خضراء كالحقول”، “خضراء كالمستنقعات”، “خضراء كالبحار”، و”خضراء كالعلقم” عكست تلك المساحة بين اللون والحالة الشعورية وذلك الالتباس بين رمزية الاخضرار وأطيافه في عالم الدلالات الذي يحيل إليه الأخضر ففي ” خضراء كالمستنقعات اشتغل على تعالق السياسي مع الاجتماعي ومعركة البطلة سلمى مع المجتمع المتعصب للالتزام بالحجاب وهي على أهبة الانخراط بكومونة يسارية، إذ يتقدم السرد على لسان امرأة باعتراض على قساوة المثل ضرب العصافير بالحجارة” ضرب عصفورين بحجر واحد” لينتقل إلى تجسيد الخوف الجاثم في الصدور من ألف عام نتيجة الأنظمة القمعية المتتالية “لا يموت الناس من الجوع لكن كرامتهم تموت بسبب الخوف” والسؤال الواقعي عن أولويات المرحلة متسائلاً “ألم يكن بالإمكان أن يتحمل التنظيم الاجتماعي زبداً تفوهت به أفواه حالمة” لينتقل إلى الهم المركب للمرأة علاقتها مع الرجل وعلاقتها مع السلطات القائمة.
” متى نبتت شجرة الملكية في تراب الحياة” فالمستنقع قمة المأساة التي تعيشها النساء خائبة الروح باستقرار عميق في استسلام الأحلام وهدرها لما هو مستقر في ذاكرة الخنوع البشرية، ورغم ذلك كل التنازلات الاجتماعية التي مارستها البطلة سلمى لم تمنحها إحساساً بالأمان المفترض.
المياه الخضراء الداكنة توحي برييع وما من ربيع، توحي باخضرار وليس سوى المياه الآسنة تموت البطلة مئة مرة وتبقى على قيد الحياة وما عداها قصص وروايات وقد أقحم الكاتب اسمه الحقيقي في النص كنوع من صد القارئ من الاسترسال في الخيال ورده إلى الواقع مراقباً ومحايداً.
معاناة هاني الراهب الحياتية من المنع التضييق والاعتقال وسحب جواز سفره من السلطات القائمة آنذاك وفصله من عمله في جامعة دمشق وارتحاله للعمل في دول النفط تلقي ظلالها الكامدة على أغلب أعماله وتظهر متوارية كسيرة ذاتية تظهر فيها ملامح حياته الشخصية ففي رواية “رسمت خطاً على الرمال” كانت رحلته في بلد النفط واغترابه عن مكانه الأول وهو المسكون بمدن الأسئلة مطلقاً إياها على مدنه المتخيلة ” ماذا، متى، كيف”. كما يبرز الغرائبي والعجائبي فيها متكئاً على حياة شخصيات سردية مثل أبي الفتح الإسكندري وعيسى بن هشام وشهريار وشهرزاد ودنيا زاد وأفقر زاد عبر الخيال المجنح الخارق وغير المألوف في تجواله بين تخوم عوالم لامتناهية يرسم فيها تحولات الشخصيات وتهشيمها وإعادة صياغتها من جديد، فقد اشتغل فيها على تقنيات مكثفة في التلاعب بالزمن بين الإبطاء والتسريع بحسب أهمية ودلالة التكثيف والانبساط في الحدث المروى عبر التنقل بالأزمان من ماض سحيق يستلهم حكايات ألف ليلة وليلة ومقامات بديع الزمان الهمذاني في خلطة عجائبية من عالم الخيال واللامعقول متنقلًا بين الأرض والسماء والماضي والحاضر والحياة والموت في تشظي للزمن والتركيز على بؤر فاعلة في استعادته لواقع الفرد المنفي والمبعد الملاحق للقمة العيش التي ماتزال تنأى عنه مفككاً للخطاب الديني الذي يهلل للحاكم في كل زمان لأن “”الرضا والرقاب ملك يديه، أي تاج أعز من تاجيه”، في تحريف واع للعبارة المسكوكة.
كذلك صنفت روايته “الوباء” باعتبارها من أفضل مئة رواية عربية والتي حازت جائزة اتحاد الكتاب ورصد فيها سيرة أسرة عبر ثلاثة أجيال في رحلة أبنائها من الريف إلى المدينة وعلاقتها بالسلطة والعسكرة في بناء سردي متماسك موظفا التراث الشعبي والروحي والديني في أسطرة الشخصيات وتشكيلها ورصده للشخصية العربية في تغيراتها وانعكاس الأزمات السياسية على وعيها ومصائرها.
العتبات النصية كعناوين ملتبسة:
العنوان باعتباره جزءاً من العتبات النصية للعمل يشكل أحد مفاتيح النص المعبرة عنه أو لجزء منه، إذ تثير فهماً مخاتلاً مما يصعد من فعالية التشويق في الوصول لأفكار النص، فالعنوان “رسمت خطاً على الرمال” عنوان مراوغ فهو قد يشير إلى الخطوط الواهية التي تفصل البلدان العربية وقد رسمها الميجر فيكس بقلم رصاص ليشكل دويلات النفط أو بتأويل آخر قد يفسر محاولة من الكاتب في الحفر على وعي لوجود مفقود الأمل من تحققه.
“شرخ في تاريخ طويل”: العنوان نفسه قصة قصيرة تحيل إلى أهمية تفكيك هذا التاريخ المشروخ في بناه الأساسية وخاصة محرماته الثلاثة الدين والجنس والسياسة.
“بلد واحد هو العالم” كعنوان يختزل معنى مقولة كاملة في أن المسائل الصغيرة صورة عن كبريات المسائل وتكثيف لها وإن ما يحصل في مكان ما صدى لواقع وتوجهات مكان آخر.
“ألف ليلة وليلتان” في تناص مع عنوان النص الشهير وانحراف عنه في تجاوزه الإرث الحكائي المعروف ليزيدها ليلة أخرى كناية عن رؤيته الخاصة بتجدد الهزائم واستمراريتها فقد أخذ العنوان من سياقه وأجرى عليه تحويراً ليرده إلى معنى آخر.
“خضراء كالبحار” جسده تعبيره المباشر “الفرح والجمال كنزان صغيران في هذا العالم وأنت الخضراء كالبحار تجعلينهما يكبران”.
ولكن في جانب آخر تظهر دلالة معاكسة للعنوان وهي عكر الأعماق الذي يظهر على السطح نتيجة تقلب أعماقها وتلونها بين ذاتها الحقيقية والذات المتقولبة فيها التي برمجت شخصيتها وفق الأعراف السائدة.
ويكفي عنوان “خضراء كالعلقم” في تبيان المفارقة بالعبارة الواحدة في التعارض بين الاخضرار الذي هو لون النماء والاستمرار والأمل وما يقابلها من طعم الواقع المر.
في كل ما سبق يركز هاني الراهب على الشخصيات المهتزة والمهمشة وصراعها مع نفسها وواقعها. “الأرض الواطئة هو الشعور الذي يخلق مع الكائن” في وصفه الكائنات المهزومة سواء على صعيد القضية الوطنية أو على صعيد القضية الاجتماعية كواقع المرأة في الشرق، وقد لا يفي مقال واحد للإحاطة بتجربة هاني الراهب السردية فكل عمل وكل نص من نصوصه يحتاج دراسات وأبحاث عدة، وتبقى قضية الحرية هي العنوان الأبرز في أعماله نتيجة لإحساسه الوجودي العارم بأهمية الكينونة الإنسانية للفرد وقد توجت باجتراحه عالم التجريب في التعبير عن رؤاه ومواقفه في صيرورتها الإبداعية المتألقة.