عام 2007، كان أبي يردد مفرداته الشهيرة ” كم سنة ورح علق اسمك على العامود بآرمة كبيرة، الدكتورة رنيم غسان خلوف، اختصاصية في كذا“. إلا أنه ترك لي حرية الاختصاص، ومات حلمه عندما قررت الدخول إلى الثاني الثانوي الأدبي.
أذكر تماماً ملامح وجهه” مثل مابدك”، وعندما كتبت أول مادة صحفية وضعت اسمه مع اسمي تقديراً له وليس تحقيقاً لحلمه.
عراك الشهادة والمهنة والمجتمع، يعيش في تفاصيل حياة السوريين/ات، منهم/ن من ينظر للشهادة أنها آمانٌ وحماية، ومنهم/ن من ينظر لها أنها تحصيل حاصل.
وظيفة الحكومة..مازالت مرغوبة
” لا أنكر إني ضغطت على ابني، ومرات أشعر كتير إني زودتها عليه، بس من خوفي، ترجع فيني الذاكرة لخوف أمي”، بهذه الكلمات عبرت ساليت محمد- اسم مستعار- 40 عاماً، عن تعاطيها مع طفلها الأول الذي يقدم الشهادة الإعدادية، تتابع ساليت ”ربما ورثنا من أهالينا طرق التعامل مع أبناءنا أثناء الامتحانات، لكن بكل تأكيد لن أقف بوجه ابني إن أراد أن يدرس مايريد، موسيقى، جغرافية، فنون، وهذا ما نختلف فيه تماماً عن أهلنا، وترى أن الشهادة مهمة له، تشبه جواز السفر الذي ينجو به من البلاد إلى كل العالم“، بينما توافق تهامة العلي من مدينة حمص 40 عاماً، ساليت بضرورة أن يدرس الطالب فرعاً جامعياً يمكن أن يعيش كريماً من خلاله، إلا أنها ترى الشهادة وسيلة لوظيفة حكومية آمنة حتى في ظل تدني الأجور والرواتب، وتشجع ابنتها الوحيدة على ذلك، وتعترف بممارسة الضغط على ابنتها لتشعرها بالمسؤولية!
توافق علياء علي، وهي تدرس الهندسة المدنية وعمرها 25 عاماً، على أن وظيفة الحكومة -رغم ضعف الراتب- هي أمان الفتاة في المستقبل، لكن عندما يصح لها فرصة سفر سوف تذهب، وتنظر للشهادة أنها وثقة حياة ونجاة معاً، وتتحدث عن شرط أبيها الذي أجبرها على دراسة اختصاص تلتزم فيه الدولة بتعيين الخريجين، وتعزو ذلك للفقر!.
إلا أن حازم علي 39 عاماً، وهو خريج لغةٍ عربية ويعمل تاجراً في محلٍ للألبسة النسائية، لا يؤمن من جهته بوظيفة الحكومة التي يعتبرها أنها ”تفقد الشخص احترامه بعد تعب سنين“.
الخوف القاتل!
” ما أحلاها هيك بعد 8 سنين يقولوا عني أم الدكتور والدكتورة، ويا سلام إذا كان الاختصاص شي صعب ونادر قلبية، أورام، جراحة، كتير بكون رافعة راسي“ تقول نهى محمد 47 عاماً، وهي ربة منزل، لجارتها من النافذة في حي المزة 86 غرب العاصمة دمشق، لتعقب الأخرى ”يالله هانت كم يوم وبتطلع النتائج، الله يفرح قلبك“. تتنهد نهى وتودع جارتها لموعد في عصر ذات اليوم.
في مشهد آخر بمدينة حمص، دخلت والدة عمران دياب إلى غرفته قبيل تقديمه للمادة الامتحانية الأولى في الشهادة الثانوية لتجده مستلقيا وهو يحتضن كتابه. حاولت أن توقظه علها غفوةً إلا إنه لم يستجب، مات عمران طفلا، لأنه لم يتحمل ضغط امتحانات تقرر مستقبله.
“فوبيا” الامتحانات الدراسية، تتوارثها الأجيال من صفٍ دراسي لآخر، فالعلامة مقياس حكم اجتماعي وحامل الأحلام الاقتصادية والرخاء أيضاً.
تزايدت حالات إصابات الشباب والصبايا في سوريا بجلطات قلبية ودماغية، وخصوصاً في السنة الأخيرة، دون وجود أية أعراض مرضية سابقة، فعزاها الأطباء إلى الضغط النفسي، سواء الناجم عن الوضع العام بالبلاد أو حتى ضغوط الامتحانات، وعن هذه الناحية تتحدث الدكتورة في علم الاجتماع سمر علي ”الأهل اليوم ورثوا جملةً من العادات التربوية الخاطئة، من خلال توجيه أبنائهم في المراحل الدراسية وخاصة التاسع والبكلوريا لضرورة الحصول على أعلى العلامات، دون الانتباه إلى فروق فردية ومستويات ذكاء، وتوجهيهم إلى الفروع الطبية كنوع من البريستيج، مع نسيان أهمية فروع أدبية أخرى“.
وتعزو عبير ياغي 45 عاماً وهي أم لأربعة أطفال وربة منزل، في حديثها لصالون سوريا مشكلة الأهل ”بالتعويض عن نقص لديهم، حيث أنهم عجزوا عن النيل على شهادة الطب أو الهندسة، ويطالبون أولادهم اليوم بالحصول على العلامة العالية، لتحقيق ما لم يستطيعوا تحقيقه.“، وتضيف ياغي ”من الممكن أن يكون الفقر عامل آخر، فعائلة وضعها متوسط يريدون من أولادهم دراسة فرع جيد، ليستطيع الحصول على وظيفة مناسبة تنقذهم من الفقر، في ظل غياب التشجيع على التعليم المهني وأهميته“.
وتتعرض ياغي للانتقاد عندما تقول أن العلامات العالية ليست معيار ذكاء للطالب، إلا أنها احتفلت بنجاح انتبها في الصف التاسع بعلامات عادية جداً!.
ويرى الأهل أن الفروع العلمية ربحها سريع ومستقبلها مضمون، ”وهذا معتقد خاطئ، لكن مازال يعيش في المجتمع“ بحسب الدكتورة سمر، بينما يشير الدكتور مصطفى الشعار الاختصاصي بعلم النفس إلى أن الضغوط الذي يمارسها الأهل على الطالب بحسن نية ”نتيجتها سلبية، ممكن أن توصل الطلبة إلى أمراض نفسية خطيرة، واليوم الضغط مضاعف على الأهل وعلى الطالب بحكم أوضاع البلاد، وكلاهما يرى أن الشهادة هي نجاة لمستقبل مضمون الهوية، رغم احتفاظ الأهل بالكثير من البريستيج لكل علامة يزيد بها الطالب جاره أو ابن خاله وخالته وعمه“.
الأهل يريدون والطلاب والطالبات يريدون شيئاً آخر، لكن وحدها الذاكرة والعلامات النهائية هي من تقول الكلمة النهائية، وإلى أن تأتي هذه العلامة تستمر “فوبيا الامتحانات” وحلم شهادةٍ تنجّي من الجوع أو تقرّب السفر خارج هذه البلاد.
بتصميم وإصرار ، دخلت نورا خير الدين 18 عاما ، وحنين الشعراني 19 عاما ، المصابتان بمتلازمة ”داون“ معترك الحياة، بافتتاحهما صالون نسائي في مدينة السويداء/ 100 كم جنوب دمشق، في مقر “نادي الفرح“.
الصالون هو الأول من نوعه في المحافظة، وقد يكون الأول في سوريا. وجاءت هذه الخطوة، بعد أن اتبعت نورا وحنين دورة تأهيل مكثفة لستة أشهر بالتجميل والحلاقة النسائية، نظمها معهد التأهيل والتدريب التابع لمديرية الشؤون الاجتماعيه والعمل، وهو مؤسسة حكومية سورية.
بكلامات قليلة، والكثير من العواطف، عبرت نورا وحنين عن سعادتهما الكبيرة بهذا العمل، والاهتمام الأهلي والمجتمعي بهما، وابدتا حماسة كبيرة عند الحديث عن الخدمات التي يقدمها صالونهما من ”تمليس الشعر، والسيشوار، والفير، والصبغات، والمكياج، والاظافر“.
وتأمل نورا وحنين أن يتوسع عملهما هذا ليصبح مصدر رزق مستقر ومستمر لهما.
عن صالون الحلاقة قالت اعتماد العقباني مؤسسة ”نادي الفرح“ لـ“صالون سوريا“ إنه ”خطوة تعكس ايمان الكثيرين بقدرة هؤلاء الأطفال على العيش والعمل، وهو ثمرة تعاون وتضافر جهود المؤسسات الاجتماعية والروحية، إضافة لعائلة الناديمن المتطوعين لاكتشاف ميول ومواهب أطفال النادي وتشجيعها“.
من جنبها تقول أم حنين، خزامى مشهور أبو عسلي:”ابنتي حنين متعاونة، تحب عملها، تواظب عليه، لاحظنا ذلك بوضوح“، مشيرة الى أن حنين مشاركة في الاولمبياد السوري الخاص، وقد نافست في بطولة البولينغ والبوتشي في دولة الامارات، وفازت بالبولينغ على مستوى 48 دولة.
ثقة وعزيمة
تصف مدربة نورا وحنين عزيمتهما خلال الدورة المكثفة التي خضعتا له ”بالقوية“، وعن التدريب تشرح رندا عريج التي تعمل مع مديرية الشؤون الاجتماعية والعمل ”تم قبول نور وحنين بعد اختبار مهني، وتصل مدة التدريب لعام كامل، وقد وجدت أن الشابتين لديهما الرغبة والقدرة، بالتأكيد في البداية وجدنا صعوبة في التدريب، لكن بالصبر والمتابعة، وبمساعدة حبهما للتعلم، تم تجاوز العقبات والوصول إلى اتقانهما لأعمال الحلاقة مثل القص والسشوار والليس والفير والصبغة.”
وثقت عريج بقدرة نورا وحنين على التعلم واتقانهما لعملهما فالنسبة لها ”نجاح هؤلاء الفتيات يجسد ايمان الجميع بضرورة التعاطي مع أصحاب هذه الاحتياجات، بعيدا عن النظرة النمطية القاصرة، فهم قادرات على أن يكن فاعلات، وبقليل من الاهتمام يمكنهن القيام بالكثير من الأعمال، وأن يكن فاعلات في المجتمع.”
متطوعون كثر
لم يتوقع العاملون على المشاريع في ”نادي الفرح“ هذا الإقبال من المتطوعين/ات في مقر النادي أو ”بيت الجميع“ كما يسمّوه.
يقول أحد المتطوعين الذي فضّل عدم ذكر اسمه :” كل منّا يستطيع أن يقدم شيئا، لدينا مدرسي رسم وموسيقا ولغات، وأطباء، فليس كل ما نحتاجه أو يحتاجه الآخرون هو مادي، فهذه المجموعة من الأطفال في هذا الوقت، تُركت مع عائلاتها تعاني الوحدة، إلى جانب الظروف القاسية التي فرضتها الحرب، لذلك تحتاج إلى دعم واهتمام، وهذا مسؤولية الجميع”.
وتشير متطوعة أخرى إلى صعوبة ادماج ذوي الاحتياجات الخاصة في المجتمع في هذه الظروف، وضرورة التعاطي معهم بعيدا عن القيود والعقبات غير المبرره.
من جانبه يشير مالك مكان النادي مروان قاسم أبو خير إلى أهمية إكساب ذوي الاحتياجات الخاصة مختلف المعارف والاتجاهات و المهارات، التي تؤهلهم للمشاركة الإيجابية الفعالة في المجتمع، مؤكدا على ”ضرورة تغيير النظرة نحو هؤلاء، من التهميش إلى التمكين“ بحسب قوله.
وعن نادي الفرح، شرحت العقباني التي أسست بأنه ”انطلق قبل عام، وهو يضم 30 طفلا من متلازمة الحب، يجمعهم النادي عبر أنشطة مختلفة من رسم وموسيقا ونشاطات اجتماعية وترفيهية“.
وأنشأت العقباني مركزها للعناية بالأطفال واليافعين المصابين بمتلازمة ”داون“ بمبادرة ذاتية، وأطلقت عليه “نادي الفرح لمتلازمة الحب“، واستقطب النادي العديد من المتطوعين من المنطقة، مما مكنه من تنظيم نشاطات ورحلات ترفيهية مجانية، اضافة إلى جلسات تعليمية للنطق والقراءة، وأخرى فنية ورياضية و جلسات تأهيل للأمهات حول أساليب وكيفية التعامل مع الأبناء.
في أزقة إدلب الواصلة بين ساعة المدينة و“بستان غنوم“، وفي أحد الزواريب الضيقة التي تتلاصق منازلها، يعيش ميشيل بطرس الجسري في منزله العربي القديم. ميشيل البالغ من العمر 90 عامًا تقريبًا، فضّل البقاء في المدينة وعدم الخروج منها ”إلا إلى القبر“ بحسب قوله، رغم مغادرة باقي المسيحيين منها خلال السنوات الماضية.
يعيش ميشيل الملقب بـ”أبو بطرس“ وحيداً منذ سنوات بعد وفاة شقيقته الذي كان يعيش معها، فهو لم يتزوج وليس لديه أطفال، ويمضي أيامه بممارسة هوايته القديمة في تربية الحمام.
يتكون منزل ”أبو بطرس“ من غرفة يعيش فيها، وعليّة يضع بها الحمام الذي يملكه، كما يتقاسم فسحة المنزل ”أرض الديار“ مع حمامه، الذي يعتبره عائلته الثانية. ”أحبها جميعاً ولكن الأورفلي الأسود له مكانة خاصة في قلبي، لأن هذا النوع من الطيور هو من أول الطيور التي امتلكتها“ يقول لـ“صالون سوريا“.
في غرفة أبو بطرس الوحيدة سرير وعدد من الاغطية والاسفنجات، إضافة لبعض أيقونات دينية و صلبان، وعلى جدرانها علّق أيضاً صوراً لأفراد أسرته التي تشتت في العديد من الدول والقارات وانقطع اتصالها به.
من يدخل بيت أبو بطرس لا يمكن أن يخرج دون ان يشرب خلطته الخاصة من “الزهورات” التي يعدها ميشيل على غاز أرضي موجود على أحد أطراف غرفته، واثناء اعداده لها يحدث أبو بطرس ضيوفه عن مكونات الزهورات التي يعدها يدوياً منذ أربعين عاماً، فهو يقطفها يدوياً من مزرعة أحد أصدقائه، ويمزج بدقّة وحرفية كميات معيّنة ومحددة من أنواع الورد والنباتات ليصل إلى الطعم المرجو، وقبل أن يطفئ الغاز يلتفت إلينا قائلا ”بما انه هي الزهورات مقطفينها من أرض بلادنا فستكون طيبة فتراب بلادنا طيب ولا يخرج الا طيب“.
تجمع أبو بطرس علاقات وديّة مع جيرانه، يلقّبه بعضهم بالـ“حجّي“ ويتبادلون معه أطراف الحديث عندما يخرج في مشواره اليومي للتجول في شوارع مدينته إدلب. كما يزور متاجر بعض جيرانه ليتحدثوا سوية عن أحوال المدينة وأخبارها.
أحمد، جار أبو بطرس يروي أن ميشيل اعتاد على زيارة محل والده بعد الظهر يومياً منذ حوالي 25 سنة ليشربا الشاي معاً، ”وبعد وفاة والدي استمر في زيارتنا لليوم“ يقول أحمد.
يعاني أبو بطرس من ضعف حاد في السمع بالإضافة لعّدة أمراض أخرى، وهو لا يملك سوى غرفته التي يقيم بها ولا يستطيع العمل، مما يضطره للاعتماد على المساعدات الإنسانية بشكل كامل، كذلك يقدّم له الجيران ”سكب“ الطعام ويشاركونه بما تنبت لهم أراضيهم الزراعية من منتجات غذائية.
يتمنى أبو بطرس ان تنتهي الحرب، ويعود جميع المهجرين والنازحين إلى بلادهم، أما عن امنيته الخاصة فهي ”أن أموت دون أن أؤذي أحداً، وأن أدفن في مدينتي إدلب“.
يخطف المرور بسوق البزورية في دمشق القديمة الأنفاس، فتغرق في بحر من الروائح المدهشة والألوان الزاهية، السوق التاريخي الشهير ببيع التوابل والعطارة يمتد من قصر العظم وسوق الصاغة القديم، إلى سوق مدحت باشا الذي يحتضن بائعي العطورات وخلطات الزيوت.
بدأ أبو نضال الخمسيني عمله في البزورية منذ السابعة عشر من عمره، حين كان صانعا لدى أهم العطارين في دمشق القديمة، وبعد أن تعلم أسرار المهنة فتح أخيراً محله الخاص في السوق ليُسخر مهاراته في الزيوت الباردة و التوابل، جامعا حصيلته المعرفية لخدمة الناس، يقول أبو نضال لصالون سوريا: “حاسة الشم والتذوق هما أساس عملي، فمن خلالهما أقوم بصنع خلطاتي المميزة، واكتشاف المفقود منها ووضع المقادير المناسبة لها، لذلك أحرص على جعل الشم قوي جدا بالتدريب، وأعمل على تجنب الإصابة بالزكام والحساسية، فالعطار الماهر هو من يمتلك حاسة شم 100% لاتشوبها شائبة، وقادر على تحديد التوابل على بُعد مسافة طويلة “.
يستطيع أبو نضال من مسافة متر تحديد العنصر الناقص في مزيج خلطة الدجاج المشوي على سبيل المثال، هذا حصيلة خبرة راكمها على مدار سنوات طويلة، يضيف أبو نضال متحدياً:”أحضري لي أي نوع بهارات لأعطيك اسمه على الفور، تأتيني الكثير من ربات البيوت حائرات في تحديد اسم التوابل التي يشترونها بعد أن نسي البائع كتابة اسمها أو سقطت سهواً”.
و يبتكر أبو نضال العديد من خلطات التوابل التي تأتي من الهند والصين وسيرلانكا ” في سوريا لدينا انواع قليلة من التوابل كالكمون والزعتر تعد على أصابع اليد الواحد، نستورد البقية من الخارج، أخلط التوابل وأمزجها وفق معايير ومكاييل محددة، ثم أطبقها في طعام منزلي أولاً حتى أتوصل للطعم المميز والكامل، ثم أبدأ بيعها للناس” يشرح لنا. ومن خلطات البهارات الشهيرة “السبع بلدان” أو “السبع دول” أو “البهارات السبعة”، وهي عبارة عن مزيج بين مساحيق مطحونة من الزنجبيل والقرفة والهيل وفلفل أسود وجوز الطيب وبهار حلو والقرنفل.
يعتقد أبو نضال أن مصلحة التوابل تتجاوز عملية بيع الزبون كميات من البهارات مقابل النقود، بل هي فن وتذوق عاليين المستوى يجب أن تتوافر لدى كل من يريد امتهان هذه المهنة.
الزيوت الطبيعية
من المهن التي تعتمد على حاسة الشم أيضاً هي خلطات الزيوت الطبيعية، أبو ريم بدأ بالعمل في هذه المهنة منذ عام 1997، حين كان في الخامسة والعشرين من العمر، يشرح لـ”صالون سوريا” عن أصولها، “استخرج الزيوت الطبيعية وأعصرها على البارد كي تبقى محافظة على خواصها وفوائدها وتفادي خسارة عناصرها وفيتاميناتها، مثلا اسحق بذور الكتان، ثم أعصرها واستخلص منها الزيت مباشرة، كي تظل مفيدة للبشرة والشعر، والأمر كذلك بالنسبة لباقي الزيوت”، يجد أبو ريم أن عمله يتطلب ثقافة واسعة بأنواع الزيوت وخواصها المميزة وفوائدها المتعددة، والحذر من الخلط بين الزيوت كي لا يقع البائع في الخطأ، كأن يعطي زيت شعر بدل البشرة.
والعطور الفوّاحة
يمسك أبو محمد (55 عاماً) بقارورة زجاج فارغة، ليجيب على الفور بدون تردد عن اسم العطر الذي تبحث عنه إحدى الزبونات بعد أن أضاعت الورقة الملصقة عليها، ببراعة اكتسبها الرجل خلال ثلاثين عاماً من مسيرة عمله، يقول :”تعلمت تركيب العطور على يد شيخ قدير لم يبخل عليّ بالعلم، استقيت منه مفاتيح المهنة، ثم انطلقت لوحدي برحلة التعلم الذاتي والاكتشاف والمطالعة، حتى أصبحت خبيراً بها”.
طور أبو محمد من حاسة الشم عنده، فكان يمارس تمارين خاصة تساعده على تقويتها وزيادة رهافتها، كاستنشاق الزعتر والثوم والبصل لقدرتهم على رفع مناعة الجسم، بالإضافة إلى تجنب التدخين للحافظ على رئتيه نظيفتين، وعدم تراجع حاسة الشم، ليتمكن من التقاط الروائح وتمييزها من بين المئات.
وعن العطور يشرح أبو محمد :”هناك بعض العطور المفقودة في البلاد كالأصلية منها، ويرغب صاحبها بالحصول على مثيل لها، فبفضل حاسة الشم القوية أستطيع تحديد تركيبة العطر، وأقوم بصنع عطر مشابه له تماما، لدرجة أن البعض يقولون لي أنني وفرت عليهم عناء الحصول عليه من الخارج وتكبد مصاريف كبيرة، باعتبار أن العطور الأصلية غالية جدا”، ويضيف “كما ينسى بعض الزبائن أسماء عطر أعجبهم فيعرضون الزجاجة الفارغة عليّ لأشمها والتعرف على اسمها الذي يكون بعدة نسخ متطورة، و من هنا تكمن مهارة بائع العطور وأنفه المرهف بالحصول على الرائحة ذاتها وهذه القدرة تأتي بالتقادم، فأنا أحفظ قرابة 150 رائحة خلال السنوات التي راكمتها”.
ويشير أبو محمد إلى أن “الاسانس” هي المادة الزيتية التي نستوردها من الخارج، كفرنسا وسويسرا وألمانيا، قد تكون نخب أول أو ثان وجميعها مواد كيمائية زيتية، وليست طبيعية كما يشاع باستثناء الأصلية المستخلصة من رحيق الورود والحمضيات وهذا ما يفسر ثمنها الغالي، إذ يبدأ سعرها من الـ 100 دولار.
وللحصول على عطر مميز جاهز، يستخدم الرجل مواد قليلة كالاسانس ومثبت العطر وكحول خالي من الرائحة وماء مقطر، يوضح أبو محمد “إذا كنت أنوي تحضير كمية من العطر تقرب من 100 غرام، فبحاجة إلى 20 غرام من الأسانس و75 غرام من الكحول و1 غرام من المثبت الكافي الذي يحافظ على ثبات الرائحة”.
قد تبدو مهنة بائع العطور براقة ولا تخلو من المشاكل والآثار الجانبية، لكن على العكس من ذلك، تحيق بصاحبها العديد من وتأثر عمل أبو محمد كما أغلب بائعي العطور وأصحاب المهن خلال سنوات الحرب في سورية بسبب ضعف الطلب وغلاء المواد وانقطاع الكهرباء، حيث تراجعت جودة الإنتاج وارتفع سعره أضعاف عدة.
“يا قلب جدك هذا مفتاح البيت الذي ربيّتُ فيه أباك وعماتك، وكنت أتمنى أن تتربي فيه مع أخوتك ولكن حدث التهجير وشاء الله أن تولدي هنا في إدلب ” يقول أبو عبد الوهاب لحفيدته الأولى وهو يهديها عقداً ذهبياً كهدية لمولدها (النقوط) كما جرت العادة لديهم، مستبدلاً تعليق حرف اسمها بمفتاح منزله.
ترك أبو عبد الوهاب منزله بريف دمشق منذ تهجيره مع عائلته نحو الشمال السوري منذ عدّة سنوات.
المفتاح الذي يمثل الأرض والوطن في عاطفة أبو عبد الوهاب هو ذاته مصدر لرزق عدد من الناس الذين يعملون في مهنة صناعة المفاتيح في إدلب.
محمد العلي (60 سنة) أحد الذين يعملون بمهنة المفاتيح اليوم، صبّ أول مفتاح داخل دكان والده قبل سبعة وأربعون عاما قبل أن يفتح دكانه المستقلّ بالقرب من دوار المتنبي، يقول لـ “صالون سوريا”: “دخلت العديد من التغييرات على مهنة صناعة المفاتيح”، كما تغيرّت معها مدينته إدلب كثيراً خاصة خلال العشر سنوات المنصرمة، إلا أن محمد استطاع مواكبة تلك التطورات رغم كل الظروف التي مرت بها مدينته ومهنته ليستمر في المدينة والمهنة التي هي آخر ما تبقى له من الزمن الجميل بعد وفاة زوجته كما يقول.
يشرح محمد لـ “صالون سوريا” أسرار صناعة المفاتيح قائلا: “تحتاج المهنة للكثير من الدقة والتركيز والتدريب، بالإضافة إلى الرغبة في تعلمها”، وتعلّم محمد هذه الصناعة من مراقبة حركات يد والده وهي تفرط الأقفال، أو تصب المفاتيح، ليبدأ بعدها بتقليده إلى أن اكتسب السرعة والحرفية في استخدام المفكات وإعادة تجميع الأقفال.
وعلى مقربة من دكان محمد باتجاه حي الناعورة، أحد احياء إدلب القديمة، كشك صغير على حافة الطريق يعمل به منصور (32 سنة) المهجّر من مدينة حمص، بعد أن حمل منصور معه سرّ مهنته المتوارثة في نسخ المفاتيح في قوافل التهجير نحو الشمال، فكانت مهنته صمام أمانه الاقتصادي رغم قلة مردودها، فهي على الأقل تمكّنه من دفع آجار الغرفة التي يقطنها مع عائلته.
زيّن منصور جدران هذه الغرفة بعدد من مفاتيح متنوعة الأحجام والأشكال جمعها خلال عمله، يتوسطهم مفتاح منزله الذي يحلم بالعودة إليه، رغم معرفته بأن منزله قد تدّمر.
مفاتيح دون أصحاب
قرب ساعة مدينة إدلب يجلس عبد القادر في مكتبه العقاري يومياً، بجوار لوحة تحوي مفاتيحا لبيوت ومتاجر عدد من أبناء المدينة الذين غادروها نحو تركيا أو أوربا.
يروي عبد القادر لـ “صالون سوريا” كيف ترك أصحاب تلك المفاتيح ممتلكاتهم بحوزته بغية تأجيرها والحفاظ عليها بعد سفرهم نحو تركيا أو أوربا منذ سنين.
ويضيف عبد القادر ” هذه المفاتيح غالية على قلبي، أحبها بقدر حبي لأصحابها، معارفي وجيراني، وأعامل بيوتهم كما أعامل بيتي، هذه المفاتيح أمانة والأمانة صعبة”.
وأخرى عابرة للحدود
على أطراف مدينة أطمة شمالاً، تعيش هند في إحدى المخيمات العشوائية برفقة ابنها وعائلته، تجلس يومياً على باب خيمتها ويتحلق حولها أطفال المخيم بفضول لتريهم مجموعة مفاتيحها المتنوعة، وهي “أغلى مقتنيات خيمتها” على حد وصفها.
هند فلسطينية سورية (45 سنة) كانت تقيم في مخيم الرمل الجنوبي باللاذقية قبل نزوحها منها لمدينة درعا ثم لمخيم أطمة، وهي ماتزال تحتفظ بمفاتيح كل البيوت التي سكنتها سابقاً، بالإضافة لمفاتيح منزل أهلها وبيت جدها في فلسطين قبل نزوحهم منها إلى سوريا.
تقول هند “لكلّ مفتاح قصة من الوجع والنزوح، ومع كل مفتاح مجموعة من الذكريات الجميلة التي قضيتها بتلك المنطقة مع أهلي”، ولهذا ورغم معرفتها ان أبواب كل تلك البيوت لم تعد موجود بفعل الزمن والحرب، ولكنها مصرّة على توريث تلك المفاتيح لأولادها وأحفادها من بعدها.
أما جارتها فاطمة الخليف (50سنة) النازحة من ريف حماة فهي ترى في تلك المفاتيح “بصيص ضوء بأمل الرجوع لمنازلهم عما قريب” بحسب قولها.
بعد أحد عشراً عاماً عن بدء الانتفاضة السورية وما عاشه السوريين فيها من خسارات متتالية تغيرت علاقة السوريين بتفاصيل لم تكن تعني لهم الكثير من قبل، ومنها المفاتيح فخلال العقود الماضية كان المفتاح مجرد أداة يحمون به أملاكهم أو يبعدون المتطفلين عن حياتهم الشخصية، ولكن هذا الأمر تغير في العقد الأخير حيث أضحى المفتاح نافذة لأزقة الذاكرة وعتبات الروح.
“عم حلل تعبي ورزقي، جهد أكبر بس مصاري أكتر” يقول خالد عساف مدرس اللغة العربية عندما سأله “صالون سوريا” عن توجهه لإعطاء الدروس الخصوصية لطلاب المرحلتين الإعدادية والثانوية، مضيفاً بأن راتب الدولة الذي يتلقاه نظير عمله الحكومي في إحدى مدارس منطقة دويلعة في دمشق “غير عادل ولا يوازن بين تعب المدرس ووقوفه لست ساعات متواصلة على مدار خمسة أيام لإعطاء الدروس للطلاب” بحسب قوله. ويعمل المدرسون/ات في المدارس المتهالكة التي باتت فضلاً عن سوء بنيتها العمرانية، تكتظ بالطلاب، نتيجة حالة نزوح السكان من منطقة لأخرى خلال الحرب التي شهدتها البلاد.
يضحك المدرس عادل جبر حين يشبه نفسه “بالنحلة” التي تنتقل من بيت إلى آخر طيلة اليوم وبدون استراحة، لإعطاء دروس خصوصية بمادة الرياضيات والفيزياء والكيمياء، ” كله فدى العلم والتعليم!”، يقول ممازحاً.
حصل خالد على إجازة جامعية بالرياضيات لكن بحسب شرحه لـ “صالون سوريا” فإن مادتي الفيزياء والكيمياء تتداخلان مع الرياضيات، ويضيف “أهل الطلاب يفضلون الأستاذ الذي يستطيع أن يدّرس أكثر من مادة، ومن جهة أخرى أقل جهداً على المدرس واختصاراً للوقت بالنسبة للتنقل من بيت إلى آخر، غالباً سيراً على الأقدام”.
وعن ارتفاع أجور الدروس الخصوصية يقول خالد “نعم، ومع ذلك لا يمكنه أن يواكب جنون الأسعار في الخارج، حتى أن كل شخص في سوريا أصبح يتمنى عدم الخروج من بيته كي لا يواجه الواقع القاسي الذي يحيط به أينما تلفت.. واقع يفرض معاناة إنسانية ومعيشية ضاغطة ويسعى كل يوم لتدمير شخصية وكرامة من بقي في هذه البلاد وعاش حرباً لعقد من الزمن!”.
الهجرة محرك تعلم اللغة
شذى محمد طالبة ماجستير لغة انكليزية في جامعة دمشق تقول لـ “صالون سوريا” إن اللغة الأجنبية باتت الأكثر رواجاً بين الدروس الخصوصية، نظراً لأن الكثير يفكرون في السفر والهجرة إلى الخارج مما يتطلب في المقام الأول تعلمهم للغة الإنكليزية، هذا إن توفر المال لهم، توضح شذى “الوضع في البلاد بات لا يطاق، لا ظروف معيشية لائقة للبشر ولم يعد هناك أدنى احترام للدرجات العلمية، أنا أيضا أخطط للهجرة إلى الخارج وهذا ما دفعني لإعطاء دروس خصوصية كي أجمع المال استعداداً لذلك”.
تجارة رابحة
وأضحت الدروس الخصوصية في سوريا تجارة وسوق لها أسعارها بحسب جودة إعطاء الدرس، وضمان الأهل لحصول أبنائهم على معدلات عالية. كمال عفيف والد رامي الطالب في المرحلة الثانوية بالفرع العلمي شرح لـ”صالون سوريا” الفارق بين مستوى مدرس وآخر “هناك أسماء صار لها وزنها في سوق الدروس الخصوصية نظرا لخبرتهم، و دفعهم الطالب للتركيز على الأسئلة المهمة، لكن المشكلة أن هؤلاء الأستاذة غير متوفرين في غالب الأوقات نظراً لكثرة مشاغلهم العملية، ولذا لم يتسنى لنا فرصة حجز موعد عند بعض الأسماء من الأساتذة المشهورين” يستدرك كمال “بكل الأحوال حتى لو استطعنا أخذ موعد فسعر الدرس الخصوصي عند مشاهير المعلمين غير معقولة!”.
وعن الأسعار يوضح كمال: “ساعة الدرس الخصوصيّ تبدأ بعشرة آلاف ليرة للدرس في الأيام العادية، ويمكن لها أن تصل إلى 50 ألف ليرة وربما إلى مئة ألف لجلسة واحدة جماعية لعدة طلاب، قبل ليلة الامتحان”.
فالدروس الخصوصية تحولت مثل أي تجارة في السوق السوداء لها ميزان تجاري بحسب المادة وشهرة الأستاذ ومنطقة السكن وأيضاً المستوى المعيشي لأهل الطالب، هذا طبعاً بالنسبة لشريحة الطلاب الذين حالفهم الحظ واستمروا في تلقي تعليمهم.
“الدروس الخصوصية موضة” يختصر وزير التربية دارم طباع في تصريحات سابقة بهذه العبارة عن رأيه فيها مؤكداً أن الضابطة العدلية في مديريات التربية تقوم بملاحقة كل من يقوم بإعطاء دروس خصوصية في منزله، مبيناً أنه: “يتم التغاضي عن بعض الحالات في حال اقتصر الإعطاء على طالب واحد، من منحى إنساني، ولكن في حال كان هناك عدد من الطلاب يتم اتخاذ إجراءات بحقه وفرض غرامة كبيرة بحقه”.
ترف المدارس الخاصة
” تراجع مستوى ابني تيم التعليمي بسبب النزوح الكبير إلى منطقتنا وما سببه من ازدحام لأعداد الطلاب في المدراس وفي الصف الواحد” تقول هيفاء سبيع صاحبة مركز تجميل في منطقة المزة لـ “صالون سوريا” واصفة الحال السيء الذي وصلت إليه المدارس الحكومية، وتضيف “كان الحد الأعلى لعدد الطلاب في الصف الواحد لا يتعدى 35 طالب، اليوم وصلت المدارس الواقعة في المناطق المكتظة بالسكان أن تضع في الصف الواحد 50 طالب، وأحياناً أكثر، هل هذا معقول؟!”.
دفعت تلك الأسباب هيفاء لنقل ابنها من مدرسة حكومية إلى مدرسة خاصة، فهيفاء تريد أن تضمن مستقبل ابنها في مدرسة خاصة حيث المستوى العلمي أفضل لقاصدي هذه المدارس بحسب قولها.
أما من تبقى من الطلاب وهم السواد الأعظم في البلاد فبقيوا في المدارس الحكومية. و رغم مناشدات أهاليهم الكثيرة للحكومة لتحسين واقع المدراس العامة وافتتاح مدارس كبيرة، فإن استجابة الدولة كانت خجولة بتوزيع صابون لعدد من المدارس، وعقد ندوات للطلاب للتعريف بالصحة العامة.