كبار السن في دمشق… الحياة ثقيلة هنا

كبار السن في دمشق… الحياة ثقيلة هنا

في الحروب، يحصي المتقاتلون عدد القتلى وكأنه الإنجاز الأهم لهم، ويتبادل الصحفيون أرقام الضحايا في جداول تحتل الأهمية الأولى على شاشات الأخبار. أما السياسيون وموظفو المنظمات، فيركزون على مشاهد الدمار والدم، في ظن منهم بأنهم بذلك يدقون ناقوس الخطر.
في الحرب، وما بعدها، وحين يتوقف موسم القتل المباشر بكل صنوف الأسلحة، تبدو الصورة الواضحة للخراب. خلال استعراض هذه الصورة يكون النقص سمة عامة، الغالبية تركز على الأطفال كضحايا، وينفرد الصحفيون الاستقصائيون بذكر عدد الضحايا من النساء على حدة ومن الرجال على حدة، ويصوبون الأنظار إلى فداحة موت الأطفال والأمهات، وكأن كل الرجال مقاتلون! الضحية ضحية، مهما حاولت وسائل الإعلام التمييز بين صريع أو صريعة، بين طفل أو كهل، كل الدراسات الاقتصادية والاجتماعية ترتدي هنا ثوب الإنكار لمعنى موت الأشخاص، أي شخص كان، رجلا، أم امرأة أم طفل، المعنى هنا مجرد رقم.
اللافت في الرؤية العامة للمشهد هو غياب سمة الاستمرارية والمتابعة، المشاريع آنية التخطيط ومتكررة الأهداف، والاستدامة لا تعني البناء على ما تم عمله، بل تعني استمرار التمويل واستمرار النزيف، حتى لو تكررت نفس العناوين بنفس الأساليب ولنفس الأشخاص، لا خبرات متراكمة لمشاريع طويلة الأمد وتشغيلية، تولد من لدنها فرصا متجددة تستقطب أفواجا متتالية من المستفيدين/ات من برامجها وجدواها.
تبدو المقدمة طويلة وتغص بالتفاصيل قبل الوصول للفكرة الرئيسية، لماذا وكيف تُرك كبار السن وحيدين ووحيدات؟ لماذا تضخمت مشاكلهن/م حتى شكلت مشهدا مربكا وخانقا وعاجزا؟ لماذا عجزت كل البرامج عن إدماجهم/ن في الخطط الوطنية والإنمائية بل والتكافلية؟ والمبررات هنا ضحلة وسطحية، ليسوا بذات أهمية؟ أحوالهم / ليست إسعافية، إذن هم خارج الأولويات.
يبدو أن أحدا لم يخطط مشروعا من أجلهم في الأساس، ُتركوا للعناية الإلهية أو للرعاية العائلية الهشة، أو للنسيان والتجاهل، نعم إن توصيف ما جرى ويجري هو تجاهل تام واستنكاف جمعي ومؤسساتي عن تقديم الخدمات المطلوبة لهذه الفئة من السكان.
قد يقول البعض: “الأطفال في المرتبة الأولى من الأهمية لأنهم مستقبل البلاد!” وقد يقول البعض الآخر: “إن عملية التنمية لا تتطلب إدماجهم وتتجاوزهم نحو فئات شابة أكثر حاجة للعمل وللخدمات ولمشاريع التأهيل، وأكثر انتاجا وإبداعا وأقل تكلفة”.
يتعرض كبار السن للإهمال والتهميش، وتصبح حيواتهم ثقيلة يتمنون الموت بدلا عنها، وتبقى أحوالهم أسيرة الكتمان وكأنه هروب إلى الأمام من حقيقة ساطعة وموجعة، وتتحمل النساء العبء الأكبر، مع أن بعض الرجال يقوم بخدمة نفسه وحيدا، وأحيانا يقوم على خدمة زوجته أيضا في آن معا، لغياب الداعمين والمساعدين، بل قد يضطر الرجال للعمل في مهن لا تناسب أعمارهم وأجسادهم المتعبة كشطف الأدراج أو البيع على بسطات بائسة أو التسول، عدا عن غياب الضمان الصحي الذي يؤمن الاستشفاء الكريم للمتقدمين في السن وهو حق وضرورة.
سارة سيدة سبعينية غير متزوجة وبلا عائلة، فقدت كل مدخراتها خلال عشر سنوات من الحرب المكلفة والمرعبة، منحت بيتها لإحدى الجمعيات وهو يساوي الكثير مقابل أن تنتقل إلى دار عجزة عائد لهذه الجمعية، حيث يتم الاعتناء بها و “تطبيبها” وتقديم وجبات الطعام لها، هي الآن مصابة بكسر في عنق الفخذ، لم يجروا لها عملية جراحية تحت ذريعة أن وضعها الصحي لا يحتمل إجراءها، تشعر بالغبن والندم، لا شيء يعود للوراء، بيتها صار ملك للجمعية وهي تنتظر موتها بين ساعة وأخرى، وقلبها وعقلها في مكان مختلف.
طالما تقدمت بعض المنخرطات في قضايا المرأة مقترحات عديدة لبعض الجهات الرسمية أو الأهلية أو المانحة، لتأسيس مأوى للعجزة في بعض المدن، ملجأ للنساء الهاربات من العنف والتهديد بالقتل أو من الإجبار أو الاضطرار على العودة إلى بيئات غير آمنة عائليا ومجتمعيا، مأوى للنساء الوحيدات بلا عائلة أو أقارب، أو ممن سافر أبناؤهن وتركن وحيدات أو تحت اشراف الأقارب، أو المساعدات المرافقات غير الخبيرات، أو النساء المعوزات اللاتي فقدن بيوتهن أو تم طردهن من بيوت العائلة بعد إشغالها من طوابير المهجرين وفاقدي القدرة على شراء بيوت جديدة أو استئجارها، النساء المكتئبات أو فاقدات القدرة على خدمة أنفسهن وإدارة تصاريف حيواتهن اليومية.
تعمل حلا كمرافقة صباحية لسيدة وحيدة، يتكفل ابنها باجر حلا وتتكفل ابنتها بأجر مرافقة أخرى للفترة المسائية. لا مشكلة مادية في حياة السيدة مريم، يصر ولداها على تزويد والدتهما بكل شيء أساسي وكمالي، يدللان المرافقتين ويرسلان الهدايا لهما، كل أدوية الأم مرسلة من كندا حيث يقيم الولدان، لكن السيدة مريم لم تعد قادرة على تحمل وجود أيا من المرافقتين معها، تصرخ بهما، ترفض مساعدتهما، لا تسمح لهما بالأكل ، وقد تعرضتا للطرد من قبلها عدة مرات، شخص الطبيب النفسي إصابة السيدة مريم باكتئاب حاد وحاجة ماسة لمتابعة علاجها في مركز متخصص يضم أقرانا للسيدة مريم، شركاء وشريكات بنشاطات مختبرة وضرورية، باتت السيدة مريم مصدر خطر على نفسها وعلى المرافقتين، مما استدعى قدوم ابنتها من كندا وإغلاق بيت العائلة وإيداع والدتها في مركز غير مؤهل للعلاج والدعم النفسي، تعالج السيدة مريم بالإبر المهدئة والأدوية التي تكبح نشاطها البدني وردود أفعالها الطبيعية، بدلا من النشاطات المعاوضة والدائمة ، علاج متخلف وقاس، ولا يلبي إنسانية العلاج، لكن ما باليد حيلة ، هكذا تقول ابنتها وهي تبكي لأن والدتها لم تتعرف حتى إلى ابنتها.
وماذا عن كبار السن فاقدي الملكية والذين يضطر بعضهم للنوم في الحدائق أو في زوايا الأرصفة أو مداخل الأبنية؟ ماذا عن كبيرات السن اللواتي لم يفكر أحد ذات يوم بدمجهم في نشاط اقتصادي مدر للدخل، ليتم بعده تسويق ما صنعته أيديهم، فيؤمن لهم دخل داعم وإحساس بجدوى العمل وجدوى الحياة.
تعيش سامية وكأن حياتها كلها برنامج من المناوبات الليلية، كل يومين في بيت اخت لها، فقدت بيتها ولا تملك مالا لدفعه بدلا للإيجار، اجتمعت الأخوات الأربع وقررن أن تنام في بيوتهن بالدور، تحاول قضاء يومها في الطرقات أو في الأسواق الشعبية أو في الحدائق الحزينة والمكتظة بالغرباء مثلها، لتخفف من ثقل وجودها، تنسى في أي بيت تركت معطفها البني أو خفها المنزلي المريح، لا تفتح الثلاجة في أي بيت تنام فيه، وثيابها المتسخة يتعذر غسلها حسب الحاجة، عليها انتظار شقيقاتها ليسألنها عما ترغب بغسله. خارج الفهم الحقيقي لعملية التنمية، وتراكما لقاعدة تمييزية تخرج كبار السن من دائرة الأحقية بالرعاية، وبأن هذه الرعاية هي تنمية مجتمعية ترفع مستوى الحياة بشكل عام وتؤسس لتعاقد مجتمعي تشاركي ومؤسساتي، تغدو الحيلة ثقيلة، مرعبة وغادرة، وثقل الحياة غير قابل للتليين أو التخفيف، لأنه يحرم فئة واسعة ومهمة من حقوقها الإنسانية الأساسية.
تكاد أن تخلو البلاد من فئاتها الشابة أثناء الحروب وبعدها، وتبقى فئة المتقدمين/ات بالسن فئة واسعة العدد وخارج المشاركة، وقد يكسبها المجتمع لو استثمرت طاقاتها الحية ولو وظفت خبراتها المتراكمة في إحداث تواصل معرفي ووجداني منتج، لابد من تخفيف وطأة الحياة الثقيلة ودعم كبار السن، ليس من أجل حياة أكثر عدلا وإنسانية، بل من أجل مساواة مواطنية، حقيقية وبناءة.
وإن كانت الحروب هدامة، فالمساواة وحدها الكفيلة بالبناء، التنمية عملية متواصلة وتعنى بالجميع، أطفالا وشبابا وكهولا.

دمشق في 30 أيلول 2021

 الصورة: محمد تاج الدين، دمشق

جابرني، الله يجبرك… صرخة في دمشق

جابرني، الله يجبرك… صرخة في دمشق

على استحياء، تمد امرأة ثلاثينية يدها وفيها قطعتان من البسكويت من نوافذ السيارات المتوقفة في ساعة متأخرة من الليل على أحد شاخصات المرور وسط دمشق، وتقول لكل سائق بلهجة مسكورة القلب والخاطر: “جابرني الله يجبرك. جابرني الله يجبر خاطرك. جابرني الله يخلي أولادك”.
المرأة التي تظهر عليها معالم الفقر الذي تعشيه من جسدها النحيل، وشحوب وجهها، وثيابها البالية. وبعد ترديدها لعباراتها السابقة لكل سائق، تمعن النظر بوجهه وملامحه وكلماته، ترقبا لردة فعله. فبعض السائقين ومن دون نبسهم ببنت شفة، يأخذون قطعة من البسكويت ويدفعون ثمنها المحدد من قبل المرأة بـ500 ليرة سورية، وآخرون يأخذوا قطعتين أو ثلاث ويدفعوا ثمنها مع ابتسامة خفيفة، بينما يدفع سائقون ثمن القطعة ضعف، وبعضهم يشتري عدد أكبر من القطع، وهو ما يدخل السرور على قلب المرأة وتظهر علاماته على وجهها، مع ترديدها عبارات الدعاء لهم من قبيل: “الله يجبرك. الله يوفقك. الله يخلي ولادك. الله يحفظك من كل شر”.
بالمقابل، يحجم سائقون عن الشراء، ويوحون بذلك إما برفع الحاجبين، أو رفع كف اليد، أو الرأس، في حين يعبر البعض عن رفضه بترديد عبارة: “الله يبعتلك”. مرة أو أكثر. اخرون يردون بإغلاق نوافذ السيارة والامتناع عن النظر إلى المرأة التي تقابل ذلك بصدر رحب وعدم الإلحاح عليهم والانصراف من أمام سيارتهم.

عزة نفس
وفي دلالة على عزة نفس كبيرة لدى المرأة، رصد “صالون سوريا” امتناعها عن أخذ مبلغ مالي من أحد أصحاب السيارات الفارهة من دون أن يأخذ مقابله البسكويت، ودخولها في جدل معه بسبب إصراره عليها لكي تأخذ المبلغ على حين تشترط هي عليه أخذ البسكويت لكي تأخذ المبلغ، وقولها له مع سيطرة حالة من التوتر عليها “أنا لست شحّاده. أنا قوية. أنا اعمل لأعيش. بتحب تشتري أهلا وسهلا، ما بتحب براحتك”، الأمر الذي رد عليه السائق بشراء علبة بسكويت كاملة منها تحتوي نحو 40 قطعة ودفعه ثمنها رزمة من الأوراق المالية تقدر ما بين 20 – 50 ألفا، والقول لها “الله يقويك اكتر، روحي نامي”.
خلال دردشة قصيرة مع “صالون سوريا” أثناء توقفها على نافذة السيارة وشراء عدد من قطع البسكويت منها، أوضحت المرأة أن الحرب أفقدتها “عمود بيت العيلة” (زوجها)، ودمرت “بيتنا يلي كان ساترنا” بريف دمشق، فوجدت نفسها “مجبرة على العمل لنقضّي بقية هالعيشة المرة أنا والأولاد”. وبعدما توضح أنها تسكن في بيت إيجار في محيط العاصمة، تشير إلى أن عملها في كل يوم يمتد من الساعة السادسة مساء وحتى 12 ليلا، وأنها تختار هذه الفترة كون “الناس بتكون رايقة شوي، على حين في فترة النهار بصير عجقة كتير وكلو بيكون معصّب، وما حدا فاضي لحدا، وما حدا برد على حدا”.
وتذكر المرأة أنها أرباحها في الأيام العادية، تصل “ما بين 5 – 7 آلاف” ليرة في اليوم “عم نستر حالنا فيهون”، في حين يؤكد خبراء اقتصاديين أن الأسرة المؤلفة من ثلاثة أشخاص تحتاج حاليا نحو مليون ليرة سورية في الشهر لتعيش في مستوى متوسط، والمؤلفة من خمسة أشخاص تحتاج نحو مليون ونصف المليون، بينما لا يتجاوز المرتب الشهري للموظف الحكومي 80 ألف ليرة، ووسط استمرار فقدان مداخيل العائلات الشهرية جزءاً كبيراً من قيمتها بسبب الانهيار القياسي لسعر صرف الليرة السورية أمام الدولار الأميركي الذي يساوي نحو 3500 ليرة، بعدما كان قبل سنوات الحرب ما بين 45 – 50 ليرة.

ازمة خانقة
ورغم أن ظاهرة التسول موجودة في سوريا منذ القديم، فإنها ازدادت منذ اندلاع الحرب فيها قبل أكثر من 10 أعوام وما خلفته من أزمة معيشية خانقة يعاني منها أغلبية السوريين وغلاء فاحش وفقر مدقع وجوع ومآس ودمار ونزوح، وتكاثرت الظاهرة جداً مؤخراً وبنسبة أكبر حالياً مع تواصل تردي الأوضاع المعيشية للأغلبية العظمى من الأسر إلى مستويات تفوق قدرتهم على التحمّل (منظمات دولية وتقارير أعلنت أن نسبة من يعيشون تحت خط الفقر في سورية وصلت الى 94 في المئة)، إذ تعج أي سوق من أسواق دمشق وحدائقها وشوارعها بعشرات المتسولين (أطفال، ونساء، ورجال).
وبخلاف عزة النفس الموجودة لدى المرأة بائعة البسكويت، يقوم كثير من المتسولين بالإلحاح بشدة على الناس لكي يعطوهم مالا، ويبادر البعض منهم إلى البكاء من أجل الحصول عليه، بينما بات آخرون يدقون أبواب المنازل ويطلبون “شوية أكل على حب الله” أو “كم رغيف خبر مشان الله” لـ”سد جوعهم”.
ومع تزايد تفاقم مسألة الجوع في دمشق، شهد “صالون سوريا” أكثر من مرة، قيام متسولين في ساعات الصباح الأولى قبل أن تدب الحركة في الطرقات، بالبحث عن بقايا طعام في أكياس القمامة الموضوعة إلى جانب أبواب المنازل، في حين لا يجد بعضهم حرجا بالبحث في ساعات وضح النهار في حاويات القمامة المنتشرة على جوانب الطرق الرئيسية عن بقايا طعام.
وبات مألوفا مشهد افتراش كثير من المتسولين وبعضهم مع أطفالهم لأرصفة شوارع رئيسية في دمشق وأرصفة ساحاتها، ويسألون المارة بصوت عال وبعبارات تثير العواطف، إعطاءهم من «مال الله»، أو مما يوجد في أكياس يحملون (خضار، فاكهة، خبز، مواد غذائية).
والبعض لا يكتفي بافتراش الأرصفة للتسول، وإنما يتخذ منها أيضا مكانا للنوم كما هو الحال على رصيف ساحة تبعد عشرات الأمتار عن الشاخصة المرورية التي تقف عندها بائعة البسكويت، إذ يشاهد بشكل يومي في ساعات المساء والليل منذ فترة طويلة رجل طاعن في السن يرتدي ثيابا ممزقة ومتسخة، إما جالسا أو ممددا على رصيف الساحة وتحت قطعة من حرام قديم جدا، بينما أمامه عدد من أطباق الطعام بعضها مغلق وأخرى مفتوحة وفيها بقايا مأكولات، قد يكون بعض مرتادي محال المأكولات المحيطة بالساحة أو المارة تصدقوا بها عليه.
وعلى حين يبادر بعض المارة، كل حسب إمكانياته، إلى إعطاء متسولين ما تيسر من مال أو مما يحملونه، بعد التدقيق بهم وتولد شعور لديهم بأنهم لا يمتهنون التسول للإثراء وأنهم فعلا محتاجين، يحجم آخرون عن إعطائهم، في حين لا يكتفي مارة بالإحجام عن إعطائهم، بل يتلفظون بعبارات تحمل في طياتها “الشَّمَاتَة” بهم من قبيل “بتستاهلوا.. الله لا يقيمكون” و”بدكون ثورة وحرية.. هي الثورة وهي الحرية انبسطوا وكيفوا”.
ونشرت صحيفة “تشرين” الرسمية في بداية العام الجاري إحصائية من الدراسات الاجتماعية وتقدر عدد المتسولين في سوريا بشكل تقريبي بحوالي 250 ألف متسول في مختلف المحافظات 51،1 منهن إناث و48،9 ذكور، 64،4 منهم يمارسون التسول بشكل احترافي، ويشكل الأطفال 10في المئة أي حوالي25الف طفل، لكن خبراء يقدرون أن الأرقام أكثر من ذلك بكثير مع استمرار تردي الأوضاع المعيشية للأغلبية العظمى من الأسر.

زيارة لأحلام “نساء الشام”… واوجاعهن

زيارة لأحلام “نساء الشام”… واوجاعهن

ماذا لو نزلنا إلى الشارع، وسألنا “نساء بالشام” عن معنى يوم الخامس والعشرين من شهر تشرين الثاني كل عام؟
لن نسألهن عن جدوى تسليط الضوء على العنف القائم على النوع الاجتماعي والمسلط على النساء، ولن ندعوهن لرواية كل أشكال العنف التي يتعرضن لها.
للعنف ألسن طليقة، تعرّف عن نفسها وتتباهى بالأحدث، والأعنف. لسان العنف يروي ويستزيد من قهر “نساء الشام” عنفا مسكوت عنه، مبرر، مقبول، متعدد، مشخص، وعام.
الخامسة والنصف صباحا، موعد بدء توزيع الخبز. على رصيف الفرن طابوران عظيمان: واحد للرجال وآخر للنساء، امرأة اصطحبت معها ابنتها الصغيرة وهي غافية في عربتها، وامرأة في السبعين من عمرها، تتكئ على زند جارتها لأنها مصابة بتصلب لويحي والمشي عملية صعبة جدا في ظل وضع صحي كوضعها.
الفقر مؤنث، وطوابير النساء والطفلات على الخبز ومراكز توزيع الإعانات والمواد المدعومة تؤكد ذلك.
في السوق الملاصق لموقع الفرن، تجلس بائعات الخضار الريفيات، يعرضن بضائعهن التي جلبوها من قراهم القريبة أو من سوق الهال المركزي، في أي وقت استيقظت تلك النسوة؟ كم دفعوا ايجارا للانتقال من ضواحيهم البعيدة في ظل اختناق ونقص حاد في عدد وسائط النقل وحمى ارتفاع أسعار المحروقات.

نوافد ورشاقة
تقف السيدة الخمسينية شبه متيبسة على باب الحافلة، لا مكان لها، تقول: “الشباب يحجزون أمكنة لهم ويدخلون من النوافذ، كيف لنا أن نصل إلى أعمالنا أو بيوتنا؟”
بات شرط توفر لياقة للدخول عبر النوافذ شرطا أساسيا لكسب مقعد في حافلة متهالكة وخانقةِ، ماذا عن ملابسهن المقيِدة؟ وتعذر القيام بذلك لألف سبب؟ إذن تتغير يوميا قواعد تأمين الحاجات الضرورية، وتدفع النساء الأثمان مضاعفة حتى الخروج من المنزل بات عملية عنيفة تستجلب القهر والتعب والتمييز! تتساءل تلك السيدة: هل أصبح دخول الحافلات عبر النوافذ هو القاعدة العامة؟ وتبكي.
وفي ضواحي دمشق صارت الشاحنات الصغيرة واسطة النقل الوحيدة، السيدات واقفات في صندوق الشاحنة، وأطفالهن نيام في أحضانهن، برد وغبار وغياب للأمان الشخصي والكل يردد: “خلوا الحريم بجهة وحدة! لا حدا يقرب ع جهة النسوان!”.
على إحدى القنوات الإذاعية وعبر برنامج طبي، يستضيف أحد الأطباء الاختصاصيين، تقول متصلة: “عندي خمس أطفال يعانون من ضمر في الدماغ، أريد مركزا يستقبلهم، انكسر ظهري من العناية بهم وحيدة!”. يصمت المذيع والطبيب، يتعاطفان ضمن صياغات نمطية وموحدة: ” الله يعينك ويكفي!”. ربما سيطلقها زوجها لأن القرابة بينهما كانت مسؤولة عن حال أطفالها والعلاج مستحيل والبقاء بلا أطفال جدد وأصحاء مستحيل أيضا، لم تكن قادرة يوما على اتخاذ قرار بوقف الحمل، من صلاحيات جميع أفراد العائلة التدخل لوقف قرارها بعدم الإنجاب، سيهددها زوجها بالطلاق، وستقول والدتها ربما ستدلين.

ثقل التعب
صبيا سليما! في كل حمل تستعد مثقلة بالتعب والهموم لمصيبة جديدة، لا أحد يعينها على خدمتهم، لا أقارب ولا أفراد ولا مؤسسات، يكفيها لقب الصابرة ومتى كانت الألقاب تأشيرات لدخول الحياة من أبوابها الطبيعية؟ وكيف ستعيد لحياتها مجراها الطبيعي، أو شعلة العيش الإنساني الكريم؟
يعشش العنف في البيوت، في الشوارع وفي القلوب، تختلف قاعدة الصمت وتتغير من امرأة لأخرى، بات الكلام المهدور والمحكي أكبر من حجم أي موقع صحفي، أو من خطابات المنظمات النسوية.
على الرصيف سيدة ستينية تشكو على الهاتف لابنتها: تخيلي: السيد ابوك بهدلني اليوم بوشاية من زوجته الجديدة لأني لم أقم بتنظيف البراد! أي عنف هذا؟ زوجتان لرجل واحد تعيشان معا تحت سقف واحد، توزع المهام المنزلية بقرار من الرجل، والوشاية سلاح لكسب الرضا أو لسحبه عن الأخرى، تتحول الحياة لصراع مرير، صراع حقوق، كل النساء فيه محقات وكلهن في دائرة الاتهام.
خرجت نساء الشام للعمل، يقلن إنهن خرجن مرغمات على ذلك بفعل غياب الرجال أو عجزهم، أو ارتفاع تكاليف المعيشة التي لم يعد دخل الرجال كافيا لإطعام أفواه تنتظر اللقمة، بعضهن احتفلن بذلك وتغيرت مواقعهن في العائلة، ليس بحكم التقدير بل بحكم ما يجلبنه من دخل، والبعض الآخر أثقلن بمهام إضافية فرضت عليهن النوم وقوفا أو أثناء العمل من شدة التعب، لدرجة أنهن لا يترددن في إخراج أكبر الأبناء من المدرسة لإعالة العائلة.

عينان تائهتان
متسولة، بصوت حزين وعينان تائهتان، تقول: “من مال الله حسنة لها الأيتام”. وسيدة أخرى تبيع الجوارب تنادي: “اشتروا مني كي أتمكن من دفع ايجار الغرفة، سنصير بالشارع أنا وأولادي!”. ليس مهما أن تصدق الحكايات، المهم أن خوفا حقيقيا من التشرد عانته وتعانيه النساء بسبب فقدانهن للمأوى وتعذر تأمين بديل عنه أو إيجارا له.
في سيارته الفارهة يجلس رجل ستيني، يضغط على بوق السيارة، يبدو انه يقصد سيدة محددة تقف على موقف الباص. لا تتجاوب السيدة. يعيد الضغط ويقترب من السيدة، ترجع خطوة إلى الوراء بوجه غاضب ومتوهج من الخجل، يرميها بشتيمة كبيرة. “عاملة حالك شريفة”، يقولها ويمضي. تترك السيدة الموقف وتمشي على غير هدى، تعلق سيدة واقفة: “يبدو أنه يعرفها جيدا”. تجلدها السيدة مرة أخرى، تتهمها دون أية معرفة وتوحي للمنتظرين والمنتظرات على الموقف بأن المتحرش الوقح على حق!
من يريد أن يجمع حكايات اخرى من النساء، فليذهب إلى قصر العدل، إلى أبواب محاكم الوصاية والولاية والإرث، إلى مؤسسة الرواتب التقاعدية وتعويضات الوفاة لرجال ماتوا ولن يعودوا، صاروا اسما على ورق، وأرقام ضئيلة لرواتب اسمها تقاعدية أو تعويضات لا تشبع ولا تغني من جوع والأعم أنها لا تعيد الرجال أحياء.
في يد سيدة فقدت قدرتها على التواصل صورة لشاب عشريني، تقترب من الجميع وتسألهم بصوت مرتجف: (شفتوا هالشب؟) هذا ابني وتصمت.
في اليوم العالمي لمناهضة كافة أشكال العنف ضد النساء، هل نكتفي بجمع الحكايات؟ هل نرددها سردية من أجل استجرار التعاطف؟ ام نقول للبلاد يكفي عنفا ضد النساء، يكفي عنفا أيتها البلاد التي تحرم أبناءها رجالا ونساء من الحقوق وتهدرها كالمياه.
سلوى زكزك
25 تشرين الثاني 2021

في سوريا…كل شيء للبيع

في سوريا…كل شيء للبيع

من منشور إلى آخر، تتنقل دينا ( 2 عاما) بين مجموعات “فايسبوك”، التي تعرض فساتين الزفاف المستعملة، بحثاً عن فستان لعرسها القريب، بعدما تخلت عن جولات في محلا بيع فساتين الأعراس في اسواق دمشق، لانها شراء احدها يعني التخلي عن راتب شهر أو أكثر.
“أبحث عن فستان زفاف مميز ولا يتجاوز سعره عشرين ألف ليرة”، تضع دينا هذه الجملة على شكل تعليق تحت منشور يتضمن صور فساتين معروضةٍ للإيجار. لكنها تعلم أنها كمن يبحث عن إبرة في كومة قش. والمفاجأة، ان سوق الأزياء صار “سوقا سوداء”، حسب ملاحظة “صالون سوريا” مع الناس وبين التجار الباحثين عن الربح.
تضيف دينا تعليقاً على منشور آخر: “خطيبي يعمل في مخبز ونحن لا نستطيع تحمل تكلفة فستان جديد للزفاف”. وبعدها تنهال عليها التعليقات والمعروضات المرفقة بصور، ذلك ان السوريين باتوا يبيعون شيئاً، أي شيء، وكلّ شيء.
بعضهنّ ممن أجبنّ على تعليق دينا، كنّ يعرضن عليها فساتين مستعملة، للبيع أو الآجار. سيدة اسمها غنى ردت لتقول: “صبايا هاد آجار بـ 25 وللبيع بـ 45 واللي بتنوي تكرم”، مرفقةً صوراً لفستان عرس أبيض، يشي بأنّه يوماً كان فستان فرحها، يوم كان الفرح معقوداً على رؤوس الجبال في بلد لم يعرف يوماً شكل الدماء وصوت الرصاص، قبل أن يصير كل ذلك وفوقه الدمار عناوين ثابتة وراسخة في يوميات أهل البلاد التي مرّ على مخاضها عشرة أعوام.. وما كان ينتهي.
دينا أخيراً حذفت منشوراتها وتعليقاتها بعد أن اهتدت لضالتها. وضالتها جاءت على شكل هدية مؤقتة ستعيرها إياها “صاحبة خير” كما تصفها، لتعيد دينا الفستان إليها لاحقاً. الفستان الأبيض الذي سيمحو يوماً أسود واحداً من يوميات حزنها، يوم الزفاف، ثم يعود بعده كل شيء كما كان، حالها كحالة كل سوري، معظمهم على الأقل، معظم من لا زال يتنفس تحت سماء الشام.

رفاهية لا حاجة لها
بمنشورات عدّة، يعرض “أبو عادل” (اسم مستعار – 49 سنة) على “فايسبوك” صوراً لأثاث منزله بغرض البيع، براد، غاز، مكنة خياطة، تلفاز، كنبايات، سجادة. تواصل “صالون سوريا” مع “أبو عادل” الذي فقد عمله منذ سنة ولم يجد عملاً آخر ليعيل أسرته: “كنت أعمل في مجال البناء كمعلم باطون، لكن تخلى عني صاحب العمل لأني أصبت إصابة عمل، وكسرت رجلي وأضلاعي، ولم يعوضني أحد عن هذا الضرر ولم أتلق أي تعويض!، أكثر من ذلك، رفض زيارتي للاطمئنان عليّ. الناس وحوش، وأمام القانون أنا عامل بلا تأمينات وتسجيل صحي وسواه”. يضيف: ” على شوفة عينك، ما عم لاقي شغل يناسب عمري وحالتي الصحية، لهلأ بعرج ع رجلي، وما في أكل ببيتنا، وبكفينا بيت نسكن فيه والباقي رفاهية زايدة ما في حاجة إلها، لشو الأثاث وبرادنا صار نملية”.
على هذه الحال، يتنقل “أبو عادل” من صفحة لأخرى علّه يجد زبوناً مناسباً لكل معروضاته التي لم يطلب فيها أكثر من ثلاثمئة ألف ليرة سورية (أقل من 100 دولار أميركي).
“أبو عادل” واحد من المئات، وربما الآلاف، أولئك الذين صاروا يعرضون أثاث منازلهم للبيع، زبائن تشتري، وآخرون يطالبون بخفض السعر، وغيرهم يساوم ويفاصل في الأسعار ثم لا يشتري، وعلى هذا المنوال أصبح أثاث منازل السوريين رفاهية لا تغني ولا تفيد.

ارتفاع وبيع
“أم رنا”، عجوز سبعينية تعمل كبائعة للخضار تنقل بضاعتها يومياً من رصيف إلى آخر. ترفض أن نصورها، تخاف من العدسة، يبدو هذا مبرراً لسيدة تتنهد وتتحسر على ما تعانيه هي وابنتها من خوف وجوع وفقر بعد أن فقدت من فقدته من أسرتها قبل أن يتحول بيتها إلى ركام وتصبح نازحة.
استقرت أخيراً بغرفة استأجرتها في حي الحمصي بجرمانا، تقول “أم رنا” وقد عرضت اسطوانة غاز تمتلكها للبيع: “ارتفع سعر الغاز المنزلي بعد أن ارتفعت أسعار الكثير من المواد التموينية، كيف لي أن أطعم ابنتي وألبي لها كل متطلباتها الدراسية في هذا الوضع المزري؟، كل الأسعار ترتفع ولا أملك حيلة إلّا أن أبيع إسطوانة غازنا، وأن اعتمد على الكهرباء في الطبخ، فأنا اشتريت شيئاً نسميه وشيعة ثمنها تسعة آلاف ليرة”.
للمفارقة، فإن سعر إسطوانة الغاز يختلف بحسب حالتها، فإسطوانة الغاز الممتلئة تبدل برقم كاد يلامس مئتي ألف ليرة سورية مع الجرة الفارغة، فيما تباع جرة الغاز الفارغة بأسعار لا يمكن حصرها. فكل بائع في هذه السوق السوداء له تسعيرته التي تتناسب طرداً مع حاجة الزبون للغرض، فضلاً عن أنّ سعة اسطوانة الغاز هذه الأيام قلت بشكل لافت بعد أن أصبحت تباع على البطاقة الذكية، وبدلا من أن تكفي لشهرين باتت تكفي لنصف شهر بأحسن الأحوال!، هذا باعتبار أن استخدامها كان من قبل أسرة مكونة وسطياً من خمسة أفراد، فيما رسائل البطاقة الذكية لتبديل الاسطوانة تصل للمواطن بحدود كل ثلاثة أشهر مرة.

أجساد للبيع
“تجارة الأعضاء. نشاط تجاري تحت غطاء التبرع!”، هذا العنوان نشرته في وقت سابق صحيفة “البعث” الرسمية لمقال لها ضمن قسم التحقيقات، لكنّ الصحيفة حذفته من موقعها الإلكتروني بعد أيام قليلة من نشره من دون أن تقدم أي توضيحات في هذا الشأن.
التحقيق تناول ملف تجارة الأعضاء في ظل سوء الأوضاع الاقتصادية وتفشي الفقر والبطالة. وأشار كاتب التحقيق إلى أنه استمع لأطباء عديدين حول تلك الظاهرة التي أكدوا أنّها باتت تُمارس بشكل علني أو شبه علني، وأنّها تخفي وراءها ما هو أخطر منها، وصولاً إلى شبكات منظمة للتجارة بأعضاء المواطن السوري، في ظل ضعف أو غياب الرقابة عن هذا الملف.
الصحيفة سلطت الضوء في تحقيقها على بيع شخص لكليته بمبلغ ثلاثين مليون ليرة سورية، بهدف إجراء عملية قلب مفتوح لولده الوحيد، ما شجع زوجته التي عرضت كليتها للبيع بمبلغ مماثل، لشراء منزل صغير في ريف العاصمة بعد أن دمر منزلهم في حرستا جراء الإرهاب، بحسب الصحيفة.
والجدير بالذكر أن الكلية تباع في سورية بمبلغ يتراوح ما بين 7 إلى 12 ألف دولار أمريكي، لتباع إلى الخارج لاحقاً برقم يصل إلى 75 ألف دولار أمريكي، عبر شبكات متخصصة بتجارة الأعضاء.

أجساد لاجئة
لم يتوقف ملف تجارة الأعضاء وبيع السوريين لأجسادهم على أولئك الذين نزحوا داخليا خلال الحرب في سوريا، بل امتدت ايضا للذين خرجوا من البلاد واستقرت بهم الأحوال في مخيمات اللاجئين بالدول المجاورة، سيما في تركيا ولبنان.
منذ شهر تقريبا نشرت صحيفة “ذه تايمز البريطانية” تقريرا لها كشفت فيه عن أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين في لبنان قاموا ببيع أعضاء من أجسادهم ببضعة آلاف من الدولارات نظرا لحالة الفقر المدقع التي يعيشونها والأوضاع الاقتصادية الصعبة وقلة فرص العمل.
تحقيق استقصائي لفريق من “القناة الأولى للتلفزيون الألماني” (ARD) بين أن هناك تجارة غير قانونية بالأعضاء البشرية تروج في تركيا وأن “المتبرعين” هم من اللاجئين السوريين بشكل أساسي. كما كشف التحقيق عن أن عرض الأعضاء للبيع يتم عن طريق شبكة الانترنت والفيسبوك.
فيما أشارت تقارير صحافية عدة إلى لجوء الكثير من السوريين لبيع أعضائهم عبر مجموعة سرية على فيسبوك استحدثت لهذا الشأن، وحملت اسم: “إعلانات بيع الأعضاء البشرية”، قبل أن يقفلها القائمون عليها بعدما كان آخر منشوراتها أن العرض قد فاق الطلب.
قبل عقد من الزمن، كانت حالة الاستهجان والاستنكار كبيرة لدى السوريين عند سماعهم بأن أحداً عرض ممتلكاته أو أحد أجزاء جسده للبيع, تغيرت الأحوال كثيراً في البلاد، وبات الفعل الممنوع في هذه الأيام يُشاع علناً بلا رقيب أو أدنى مسؤولية، لم يعد أحد ينتظر القادم المشرق بل يكفيهم أن يضمنوا قوت عيشهم ليوم وآخر، أما الوعود الكبيرة بالاستثمار وإعادة البناء فلها تجارها ومختصوها وهي بعيدة عن الشريحة العظمى في البلاد، الفقراء والمساكين.

حرب الصور في دمشق… هل تموت العصافير؟

حرب الصور في دمشق… هل تموت العصافير؟

هل يمكن اختزال الحرب بصورة واحدة؟ تزدحم الحرب على رقع الشطرنج المعلقة على جدران صالة المعارض. تسلسل يبدو منطقيا من حيث العدد. عصفور واحد ميت على رقعة من الشطرنج، يتزايد عدد العصافير الميتة على الرقع المتتالية.
رقعة أخرى لكنها تزدحم بصور أخرى، صور لأحذية ميتة، هل تموت الأحذية؟ هل يموت الرصاص؟ هل تموت علب السجائر الورقية بعد نفاذ السجائر منها؟
يزدحم الموت، لا شيء سواه. هدأت المعارك في الخارج، والرصاص غادر السماء واستقر في الصور. الموتى تناسوا رائحة المكان واستنشقوا رائحة التراب الجديد، تراب أم رمل يتحرك تحت الأجساد فترتعش، وتصرخ من أحشاء الصور.
صارت الأحذية إشارات استفهام. من هم أصحابها؟ أين هم؟ هل ماتوا؟ متى وكيف ماتوا؟ والسؤال غير القابل للإجابة، لماذا ماتوا؟
في صالة جورج كامل في دمشق، تم افتتاح معرض الفنان التشكيلي نصوح زغلولة الفنان الدمشقي الحائز على شهادة دبلوم الدولة من “المدرسة الوطنية العليا للزخرفة”، قسم الاتصالات الضوئية من جامعة باريس، لكن الفنان زغلولة يعرف عن نفسه بصورة مختلفة وغاية في بساطتها: أنا هاو شبه محترف، مهووس بالتصوير لأحقق متعتي الخاصة ويصمت مستنكفا عن إعلان موقفه من بلاغة الصورة الفوتوغرافية ومهمتها وأهميتها.

سطح منزل
على سطح بيته في حي الدويلعة الشعبي، يمارس الفنان زغلولة هوسه بتربية العصافير. الحي الواقع بين آخر حدود مدينة دمشق وبداية غوطتها التي تحولت إلى كتل اسمنية. وما بين باب توما مرورا بالباب الشرقي لدمشق، بيوت كونت أحياء يسكنها ما يزيد عن مليون نسمة، كان اسمها ومازال على دفاتر المساحة العقارية: بساتين الشاغور.
وصل عدد العصافير على سطح الفنان زغلول إلى ثلاثمائة عصفور. لم يتبقَ منها ولا عصفور! لم يبعهم ولم يقدمهم هدية لأحد! ماتت العصافير كلها.
طالما اقتنص الفنان زغلولة صورا فاقعة في بؤسها وخصوصيتها من على ذات السطح الذي تحول مع الأيام إلى صالة عرض أولية، إلى مصدر لغالبية الصور الفريدة والموجعة في آن معا. أطفال يحولون سطح خزان المياه المعدني لسبورة يكتبون عليها المعادلات الرياضية. بنات يلعبن بـ “المطاطة” الموصولة ما بين خزانين مربوطة بالوصلات المعدنية لأنابيب المياه.
صور التلصص على الشارع وبيوت الجيران لأنها الفرجة الوحيدة في زحمة الإسمنت المبني عشوائيا وبطريقة منفرة. تتداخل الأسطح ببعضها. تتنافر الصور لشدة صعوبة الحصول على صورة منفصلة لجزء محدد، على حروف اسطح البيوت وسطوح الخزانات. تحتشد أواني مربى المشمش ومعجون البندورة، وكأنها خط الأمان للأسر التي اعتادت المونة خوفا من القلة والجوع. تصير المونة جزءا أليفا من الأسرة، وتقضي النسوة معظم أوقاتهن في تحريك المحتويات، في التعرف إلى الضيوف الجد في خزائن مطابخ مازالت تعاني شح المياه وانقطاع الكهرباء وازدحام المخزونات من عبوات بلاستيكية بدافع الحاجة الماسة.

صفعة الموت
في معرض الفنان زغلولة، ألف ومائة واثنان وخمسون صورة. لا يفاجئك العدد رغم الحجم المصغر للصور، لكن الموت، يصفعك منذ أولى الصور. صور العصافير الموتى غير مكررة. ثلاثمائة عصفور ماتوا من شدة الخوف بعد القصف. ماتوا بتوقف قلب من شدة الضغط الذي تولده القذائف، في حي اعتاد أهله سقوطها يوميا وبأعداد كبيرة وبضحايا أكثر عددا. وبعد هذا الموت، الحربي، في زمن أعلنوا فيه أن زمن الرصاص قد توقف، جاء موت آخر ليكمل مسيرة الموت، مرض غامض قضى على كل ما تبقى من العصافير.
وفي رده على سؤال كيف جمع هذه العصافير في حالاتها المتعددة، صورة لعصفور كامل، صورة لريشة طائر، صورة لرأس عصفور، لساق وحيدة؟ يقول: “كنت اجمع جثامين العصافير بعد موتها، حسب حالتها الراهنة على سطح بيته أو في أقفاصها”. يضيف: “أنا لا أتدخل، لكني قمت بحفظهم في علب كرتونية لمدة ثلاثة سنين”.
يطرح سؤال العاطفة نفسه هنا، يكرر والأسى الذي يحاول إخفاؤه ينتقل إلينا، “نعم: لقد تحولوا إلى مجرد هياكل عظمية”. وماذا عن قلبك؟ كيف حاله وأنت تجمع طيورك موتى؟ يجيب الفنان: “الموت حالة عامة، المهم كشف الصورة الحقيقية للحرب”.
الموت مؤلم، والفن عمل شاق في زحمة الموت، والفنان يقرر تحضير معرض عن الموت؟ أي قسوة؟ وأية مشاعر تعرش على قلبك وانت تواصل التعرف إلى الموت الذي لا يموت، يتشخص حيا أمامك.

رقعة شطرنج
على قاعدة رقعة الشطرنج، رمل يغطي المربعات. رمل ينتمي للبحر الذي ابتلع آلاف السوريين، بحر كان ومازال أحد الجناة المشاركين في مقتلة السوريين. ابتلع بعضهم ولفظهم نحو الرمال، وهنا أيضا وعلى جدران المعرض عصافير ميتة على رمل بحري نهم ومتوحش، يبتلع العصافير وأحذية الأطفال وأجسادهم، وعلب السجائر التي تكاد أن تكون الأنفاس الحرة الوحيدة التي ينفخها السوريون باختيارهم، علب مرمية وملوثة بالدم، مسحوقة، مجعلكة، تبقّى في أحدها سيجارة لسوري لم يسعفه وقته لينجو ويدخنها، تخيلوا عقب سيجارة ملتصق بإصبع رجل مات وهو يدخن!
يقول: “بدأت بجمع أحذية الأطفال من سوق الحرامية، اشتريت أو ل دفعة بمائتي ليرة للحذاء الواحد، بعدها رفع الباعة سعر الأحذية، باتت سلعة رائجة، أحذية لأطفال مجهولين، هل ماتوا؟ هل هاجروا؟ هل سرق أحد أحذيتهم؟ كل الإجابات غير مهمة، لأن كل الخطوات تشد سيرها على أرضية من رمل وسماء ملوثة بالدم. ولتأكيد الموت نثر الفنان لون الدم على لوحاته بطريقة غرافيكية اختصاصية”.
أحضر الفنان رملا بحريا حقيقيا ليستكمل تصميم صوره، واستخدم ورق القطن النقي والموصوف بالنبيل. مصدر الورق من اليابان، يبقى مكتملا ومحافظا على قوامه ولونه وجماله لمئة عام, الطباعة مكلفة جدا لأنها ذات مستوى حرفي وفني عال ومكتمل، الإطارات صنعها الفنان بنفسه ودهنها بتقنية عالية، يقول: “أنا أحب النجارة، ويعتبر أن إنجاز العمل المتكامل يخلق متعة خاصة ويمنح شعورا بالرضا”.

قساوة الصور
عبر غالبية زوار المعرض عن قساوة الصور. بعضهم زار المعرض أكثر من مرة، وأحد الفنانين الكبار عانق الفنان صاحب المعرض وبكى بشدة. موضوع الصور قاس وعنيف، وتصميمها أنيق وملفت وجميل. “كيف يترافق كل هذا الجمال بكل هذا الموت؟”، إنه ليس سؤالا. الجواب: “هل ثمة مانع فني من تقديم صور الموت بفنية عالية؟ إنه سؤال جدلي مشبع بالرهبة ومدعوم بالإحساس والتقنية”.
توقفت إحدى الزائرات أما صورة عصفور بدا وكأنه عصفورة فتية ترتدي ريشها كفستان أصفر زاه ومنعش. بدا الفستان قصيرا ووجهة قدمي العصفورة تبدوان وكأنهما تتجهان لموعد حب. برزت الصورة الموجعة في قلب الزائرة. العصفورة تشبه الموتى من الشباب والشابات حين نلبسهم بدلات الزفاف في توابيتهم. سألت الفنان عن توافقه مع رؤيتها، ارتعش وقال: “لم أفكر بذلك، لكن ما يحضر على الصورة الآن هو الحالة الفعلية والجسدية للعصفور الميت”. هنا المشكلة إذن، من يعيش الموت كتجربة يومية ومجانية يشغل خياله في تجميل الراحلين ليقول “كم أن الموت غاشم ومتوحش”. يبالغ في تضخيم عبثية الموت، وكأنما يعاتبه قائلا: “ألم تجد غير حياة العرسان لتقصفها أيها الموت الوغد”.

رضا بعد تردد
عبر الفنان زغلولة عن رضاه عن المعرض مع أنه كان مترددا في البدلية, يرى أن التصوير ليس مجرد لوحة، بل تكوين، ويضيف: “بأننا نعيش في العصر الرقمي والتقنيات هي المستقبل، لذلك من الطبيعي استخدام أحدث التقنيات وبنفس الوقت التركيز على تفاعل المتلقي والمتابع، وانتزاع إعجاب أو دمعة، أو شهقة”.
يسعى زغلولة لتشكيل موسوعة فوتوغرافية تؤسس لبصيرة فوتوغرافية حسب قوله، ويعتبر أن كل معرض هو “مسؤولية كبيرة وعمل شاق وصعب”، ويختم قائلا: “لا مزح مع العين، بمعنى أننا لا نستطيع خداع العيون أو الاستخفاف بها”.
في مواجهتنا المباشرة مع صور الموت، تدور حرب جديدة، طازجة وحية، تحترب الصور وينفعل المتفرج. يخاف من علامة طلقة على جسد، يبتعد وكأنما الطلقة موجهة نحوه. تشتعل حرب الصور، رغم أنها ثابتة في أمكنتها على الجدران. يهتز الرمل وينحسر البحر وتشخر قذيفة، تفوح رائحة نسيس سيجارة أطفئت لتوها ورغما عنها، يتعثر طفل مصاب أو تائه بحذاء مشترى من سوق الحرامية لضيق ذات اليد، لكننا نعجز عن وصف صورة مليئة بالموت بالجميلة، الحرب حاضرة وحرب الصور لغتنا البليغة.

دمشق
18 تشرين الثاني 2021

الفيلق الخامس بدرعا… سلاح روسيا المدلل

الفيلق الخامس بدرعا… سلاح روسيا المدلل

ركزت روسيا منذ إعلان “اتفاقات التسوية” جنوب سوريا في عام ٢٠١٨ على كسب فصائل المعارضة التي كانت تنتشر في المنطقة، كقوة عسكرية لها في المنطقة حتى لو كانت على حساب رغبات دمشق، باعتبار أنها تعهدت أمام دول إقليمية ودولية بالحفاظ على ابتعاد إيران وميليشياتها عن مناطق الجنوب، وخاصة أن معظم عناصر وقادة المعارضة في جنوب سوريا فضلت البقاء في المنطقة وعدم تركها.
ولان روسيا كانت قلقة من استغلال وجود هذه القادة والعناصر والملاحقات الأمنية المترتبة عليهم وجرهم إلى الانضمام إلى تشكيلات محسوبة على إيران وان يصبحون قوة عسكرية وجسما عسكريا في الجنوب، سرعان ما أسست روسيا في جنوب سوريا بعد اتفاق التسوية بأسبوعين مجموعات تابعة لـ “الفيلق الخامس” المدعوم من قاعدة “حميميم” الروسية في سوريا، واتخذت من احمد العودة القيادي السابق في المعارضة الذي كان مسؤولا عن فرقة “شباب السنة” وسيلة لتأسيس مجموعاتها في جنوب سوريا، فانظم إلى قوات اللواء الثامن التابع لـ “الفيلق الخامس” في جنوب سوريا معظم قادة وعناصر فرقة “شباب السنة”، وأخرون من كتائب معارضة أخرى كانت في المنطقة الجنوبية، واتخذوا من مدينة بصرى الشام المعقل الرئيسي لقوات اللواء الثامن، وهي المدينة التي ينحدر منها أحمد العودة، وبلغ قوام العناصر التي تأسس فيها اللواء الثامن في الفيلق الخامس جنوب سوريا حوالى الفي مقاتل.

مدرج روماني
وبحسب ناشطين معارضين، فإن روسيا فضلت العودة عن بقية القيادات التي كانت جنوب سوريا باعتباره القيادي الأول الذي أجرى عمليات التسوية وقبل التفاوض والاتفاق مع الروسي واجتمع معهم في مدينة بصرى الشام في بناء “المدرج الروماني” الشهير للمرة الأولى في نهاية شهر حزيران 2018، وقاد اتفاقيات وتسويات عن معظم مناطق ريف درعا الشرقي وهيئ لجلسات تفاوضية حينها مع قيادات المعارضة في درعا البلد ومناطق الريف الغربي.
في مقابل ذلك، تمتع “الفيلق الخامس” في درعا بحرية امتلاك السلاح وبقاء سلاحه الثقيل والمتوسط، الذي كانت تفرض روسيا تسليمه لإجراء اتفاق التسوية حينها في مناطق درعا، وحافظ العودة على سلاح فرقة “شباب السنة” وتحولت تبعيته من غرفة عمليات العسكرية التي قادتها وكالة الاستخبارات الاميركية (سي اي ايه) في الاردن وعرفت بـ “الموك”، إلى قيادة القوات الروسية في سوريا في قاعدة حميميم، كما أن مجموعات “الفيلق” في جنوب سوريا كانت بعيدة عن تشكيلات الأجهزة الأمنية في درعا، ولا تتلقى أوامر سورية، وكانت تتلقى دعماً مادياً ولوجستياً وعسكرياً من حميميم الروسية فقط.
وانتشرت مجموعات “الفيلق الخامس” في معظم مناطق ريف درعا الشرقي والشمالي الشرقي في بلدات (معربة، جمرين، صماد، السهوة، الجيزة، صيدا، الحراك، والصورة، وخربة غزالة، محجة، بصرالحرير، ومنطقة اللجاة). وأكبر هذه المجموعات تركز شرقي درعا في القرى والبلدات المحيطة بمدينة بصرى الشام التي اعتُبرت معقل قوات للواء الثامن في “الفيلق الخامس” ومركز القيادة، بينما تواجدت قوات لـ “الفيلق الخامس” في ريف درعا الغربي والشمالي الغربي في بلدات (انخل، جاسم، الشجرة، المزيريب).
وقال مصدر في درعا، أن “الاتفاق الأول الذي عقده قادة التسويات مع روسيا الذين قبلوا الانضمام لقوات الفيلق الخامس في الجنوب أن يقفوا بوجه خروقات القوات السورية الحكومية اذا ارتكبت أي خروقات باتفاق التسوية في المناطق المنضمة جنوب سوريا إلى اتفاق التسوية، وأن تحسب مدة انضمامهم إلى الفيلق من مدة الخدمة العسكرية والاحتياطية المترتبة عليهم في الجيش السوري، وعدم اعتراضهم أو ايقافهم من قبل حواجز النظام السوري، وتسوية أوضاعهم سواء كانوا منشقين عن الجيش السوري أو مدنيين منظمين للفيلق أو متخلفين عن الخدمة، وإزالة المطالب الأمنية التي فرضتها الأجهزة الأمنية عليهم سابقا باعتبارهم من قادة وعناصر المعارضة، وأن تبقى خدمتهم ضمن الفيلق الخامس في المنطقة الجنوبية في درعا، وألا يشاركوا مع الجيش السوري في أي أعمال عسكرية إلا اذا كانت ضد التنظيمات الإرهابية المتشددة، ايجبهة النصرة وتنظيم داعش”.

خروج محسوب
وكان أول خروج رسمي لفصائل “التسويات” من محافظة درعا باسم “الفيلق الخامس” إلى منطقة تلول الصفا في بادية السويداء وشاركت في المعارك ضد تنظيم “داعش” الذي كان ينتشر هناك في شهر تموز عام 2018، وبقي تواجد عناصر “الفيلق الخامس” في تلك المنطقة 3 أشهر وخسروا عدد من مقاتلي الفيلق خلال المعارك. وكانت نقاطهم منفصلة عن نقاط الجيش السوري، وبإشراف الشرطة العسكرية الروسية ورفقة طائرات حربية واستطلاعية روسية تساندهم في المعارك هناك ضد التنظيم.
ثم أصبح يرسل اللواء الثامن في درعا قواته إلى ريف سلمى شمال اللاذقية تلقى هناك العناصر دورات تدريبية وشاركوا بمعارك ضد “جبهة النصرة” المتواجدة في تلك المنطقة تحت إشراف ضباط روس، ورفضوا المشاركة في معارك ضد مناطق الشمال السوري في إدلب وريف حلب، بحسب الاتفاق بينهم وبين الجانب الروسي.
وشارك “الفيلق الخامس” في درعا بالوقوف ضد أفعال تقوم بها قوات النظام السوري في مناطق التسويات في جنوب سوريا، حيث منعت في عدة مواقف قوات حكومية من اقتحام منازل لمطلوبين للنظام، وإبعاد الحملات العسكرية عن المناطق من خلال دخول قوات الفيلق بدل من قوات النظام السوري إلى المنطقة التي كانت تنوي قوات النظام السوري دخولها واقتحامها بعد اتفاق التسوية ٢٠١٨، وكان الجانب الروسي يقف مع رغبات قيادة الفيلق الخامس في تلك الفترة وخاصة السنة الأولى والثانية من إبرام اتفاق التسوية جنوب سوريا ٢٠١٨-٢٠١٩.

تأييد شعبي
وحظي تشكيل “الفيلق الخامس” جنوب سوريا بتأييد شعبي باعتبار أنه مشكل من أبناء المنطقة ووقف ضد عمليات الاقتحام والاعتقال والسحب الإجباري للخدمة العسكرية، وحتى كانت بعض المناطق تحتكم في مشكلاتها وقضاياها لدى “الفيلق” في بصرى الشام. ورغم ذلك يتعرض قادة وعناصر “الفيلق” لعمليات استهداف واغتيال خاصة للمجموعات المشكلة خارج مدينة بصرى الشام.
وكانت ابرز حادثة استهدفت لقوات الفيلق الخامس في درعا هي استهداف حافلة مبيت لقوات “الفيلق الخامس” من أبناء درعا بين بلدات كحيل والمسيفرة بريف درعا الشرقي بعد وصولهم من معسكر تدريب للفيلق الخامس في منطقة سلمى التابعة لمحافظة اللاذقية، أسفر حينها الاستهداف عن مقتل تسعة من عناصر الفيلق، وأكثر من 25 جريحاً، بتاريخ 20 حزيران 2021، بعدها امتنعت قادة الفيلق عن ارسال العناصر إلى معسكرات التدريب في اللاذقية وقررت عدم الخروج من محافظة درعا.
وأقام قادة في بصرى الشام دورة تدريبية لضم عناصر جدد إلى قوات اللواء الثامن من مختلف مناطق حوران بتوافق مع الروس، وأعلن اللواء الثامن في تموز 2020 عن تخريج أول دورة عسكرية في ساحة قلعة بصرى الشام، بحضور شعبي وشخصيات عشائرية ووجهاء من درعا، حيث تم تنفيذ عرض عسكري، ورُفعت لافتات تطالب بالمعتقلين من سجون الأجهزة الأمنية التابعة للنظام، بينما رُفع العلم السوري “الأحمر” وراية مكتوب عليها “الجيش السوري”، ثم تبع ذلك مظاهرة، هتف فيها عناصر اللواء بسقوط نظام الحكم في سوريا.
وبعد حفل التخريج عادت الأمور كما كانت، فقد استمر اللواء الثامن بإرسال قواته إلى معسكرات سلمى في اللاذقية، وإلى البادية السورية لأكثر من مرة، وكانت عبارة عن نوبات عسكرية لأيام قليلة، ثم يتم إعادة العناصر إلى درعا.

خلاف روسي
وحصل خلاف في أيار الماضي بين قادة مجموعات محلية تابعة للواء الثامن والقوات الروسية، بعد أن طلبت الأخيرة من مجموعات اللواء إرسال مزيد من النوبات العسكرية لقتال “داعش” وإنشاء معسكر للواء هناك، الأمر الذي تم رفضه من قبل اللواء الثامن، لـ “كونه مخالفا لما تم الاتفاق عليه في عام ٢٠١٨، وهو القيام بعمليات تمشيط، وليس إنشاء معسكرات”.
وعلى أثرها علّق الجانب الروسي دعمه المالي لمدة ثلاث أشهر للواء الثامن في جنوب سوريا، وبعدها أعادت القوات الروسية تسليم جزء من الكتلة المالية للواء الثامن وتقدر ب 100 دولار أميركي لكل عنصر بينما كان راتب العنصر في اللواء 200 دولار. واشترط الجانب الروسي تسليم بقية الكتلة المالية بعد إرسال قوات من الفيلق إلى البادية السورية لقتال تنظيم “داعش” وتحرك رتل عسكري من قوات اللواء الثامن في 23 نيسان الماضي، يتألف من 300 عنصر بعتادهم العسكري ورفقة الشرطة العسكرية الروسية، وقيادة العقيد نسيم أبو عرة. ويُعتبر ”أبو عرة“ القائد العسكري للواء الثامن جنوب سوريا، وهو ضابط منشق عن الجيش. وتبعها ارسال ارتال إضافية استمر وجودهم لمدة شهر شرق السويداء في المنطقة الواقعة بين تدمر ودير الزور، ثم عادت قوات اللواء الثامن ولم يسجل لها خروج من محافظة درعا منذ ذلك الحين، مع استمرار الدعم المقدم من حميميم للواء.

السويداء
ومن أبرز الخلافات التي شهدها “الفيلق الخامس” منذ تأسيسه في درعا هي الاشتباكات والمواجهات عند الأراضي الواقعة بين بلدة القريا في السويداء وبصرى الشام في درعا، وسقط نتيجة ذلك عشرات القتلى والجرحى من أبناء المحافظتين.
وكان الخلاف قد بدأ في شهر اذار العام الماضي، وتجدد في 29 أيلول، وقد بدأ الهجوم الثاني من فصائل محلية مسلحة من السويداء تعمل مع “قوات الدفاع الوطني”، و “حركة رجال الكرامة”، على نقاط عسكرية تابعة لمجموعات اللواء الثامن، وقد راح ضحية تلك المواجهات عنصر من اللواء الثامن من بصرى الشام، وأكثر من عشرة عناصر مسلحة من السويداء، وسقط عشرات الجرحى من الطرفين.
وجاءت هذه الاشتباكات بعد عدة مواجهات سابقة في تلك المنطقة بين اللواء الثامن وفصائل مسلحة من السويداء وسط اتهامات بين الطرفين على تقدم قوات “الفيلق الخامس” إلى أراضي بلدة القريا في السويداء، وانشاء نقاط عسكرية فيها، بينما الرواية الثانية كانت بتقديم الفيلق لنقاط تفتيش ومراقبة له في الأراضي التابعة لمنطقة بصرى الشام باعتبارها معقل لقوات “الفيلق الخامس” وأن المنطقة التي تقدموا إليها تكثر فيها عمليات الخطف والقتل.
وانتهى الخلاف حينها بعد أن تشكلت لجان صلح من المحافظتين، وتمثلت لجنة السويداء بالأمير لؤي الأطرش وشيخ العقل حمود الحناوي، ولجنة درعا تمثلت بوجهاء من مدينة بصرى الشام وعموم محافظة درعا، وممثلين عن “الفيلق الخامس”، وبعد مفاوضات ولقاءات عديدة بين الطرفين توصلوا إلى اتفاق يقضي بانسحاب قوات اللواء الثامن التابع لـ “الفيلق الخامس” من أراضي قرية القريا بريف السويداء وتسليمها لأبناء المنطقة لتشرف قوات من الحكومة السورية مع عناصر من الفيلق على حمياتها بعد إزالة السواتر الترابية ومنع التعرض للمزارعين من كلا الطرفين، كخطوة أولى للصلح وأن يتم ترتيب صلح عشائري على مستوى المحافظتين وإعادة العلاقة إلى سابق عهدها.
وأصدر الأمير لؤي الأطرش أمير دار عرى لدى الطائفة الدرزية بيانا حول مجريات الاتفاق والصلح الذي أنهى الخلاف بين السويداء ودرعا، واعتبر من خلال البيان أن مصير السهل والجبل واحد، وأكد على ضرورة التلاحم ومنع الخلاف، واصفاً إيها المؤامرات على المنطقة الجنوبية وعلى سوريا بشكل عام.

صنادق الاقتراع
ومع استمرار رفض قادة اللواء الثامن في “الفيلق الخامس” الخروج بأعمال عسكرية خارج محافظة درعا، ورفض مجموعات الفيلق وجود صناديق اقتراع للانتخابات الرئاسية في سوريا في مناطق نفوذه، والخلافات الأخيرة مع الجانب الروسي على ارسال قوات اللواء الثامن في البادية، أوضحت روسيا مؤخراً من خلال طرحها الأخير لخارطة حل واتفاق تسوية جديد في المنطقة الجنوبية، لتغير سياستها مع مناطق التسويات جنوب سوريا، وحتى أحمد العودة، قائد اللواء الثامن ورجل روسيا الأول في درعا، لم يستطع أن ينأى بنفسه وبعناصره عن المشهد الجديد في المحافظة، رغم أن أنها استثنيت من تطبيق الاتفاق الجديد معقل قوات اللواء الثامن في “الفيلق الخامس” جنوب سوريا مدينة بصرى الشام والقرى والبلدات التي حولها.
تردد اسم العودة كثيرا خلال المرحلة الماضية، وكان غياب وجود قوات “الفيلق الخامس” في الأشهر الأربعة الماضية خلال اتفاقيات التسوية الجديدة وحتى جلسات واجتماعات التفاوض لافتا، بعد أن كانت خلال السنوات الماضية أبرز الحاضرين والمشاركين في المنطقة في جلسات التفاوض التي يعقدها ضباط روس مع ممثلي اللجان المركزية ولجنة النظام الأمنية، وكان دائماً له دور في عملية الانتشار العسكري، باعتباره بديلا محليا “مقبولا شعبيا”، قياسا بالقوات الحكومية.
ومع خرج العودة قائد التشكيل جنوب سوريا إلى الأردن قبل شهر من معبر نصيب الحدودي مع الأردن الذي تشرف عليه الحكومة السورية بعد اقتراب التسويات الجديدة من معقل قواته، انتشرت أنباء عن تحويل تبعية تشكيل اللواء الثامن من الجيش السوري و “الفيلق الخامس” إلى إدارة المخابرات العسكرية، مع المحافظة على الهيكلية العسكرية والدعم الروسي وإزاحة صفة “الفيلق الخامس” عن هذا التشكيل، مقابل قبول الروس والنظام عدم مشاركتهم بالقتال خارج محافظة درعا، تحت اعتبار أن أي فرقة عسكرية في الجيش مطالبة بمساندة ودعم قوات الجيش الأخرى، بينما الأجهزة الأمنية ومنها شعبة المخابرات العسكرية يقتصر عملها ضمن منطقة المحافظة.
واعتبرها الناشط مهند العبدالله من درعا ذلك بمثابة الخطة الروسية، بهدف المحافظة على هذه العناصر وعلى قوة عسكرية موالية لروسيا في المنطقة، وتحقق رغبتهم بعدم الخروج والمشاركة بمعارك مع قوات الحكومة خوفاً من ترك المنطقة الجنوبية وهذه العناصر عرضة لرغبات وتطلعات دول حليفة للنظام السوري غير روسيا، وتفرض هيمنتها على المنطقة التي تعهدت روسيا في عدة مرات المحافظة عليها وإبعاد مليشيات إيران عنها.