تحرّر الإبداع في سوريا الجديدة

تحرّر الإبداع في سوريا الجديدة

حين نعود بالزّمن إلى ما قبل سقوط نظام الأسد في سوريا، نجد أنفسنا أمام مشهدٍ ثقافيٍّ ضعيفٍ يخفي خلفه واقعًا قمعيًّا. كانت الكتب والمجموعات الشّعريّة الصّادرة عن الهيئة السّوريّة للكتاب، إلى جانب الرّوايات والمجلاّت، مجرّد واجهةٍ تروّج للإبداع المزيّف تحت سيطرة السّلطة. منذ أوائل ثمانينيّات القرن الماضي، فرضت القيود القمعيّة على الحرّيّة الثّقافيّة، ما أدّى إلى تدجين الإبداع السّوريّ. تفاقمت هذه الأزمة الفكريّة حتّى بلغت ذروتها مع عجز المؤسّسات الثّقافيّة عن مواكبة صرخات الثّورة السّوريّة في آذار/مارس ٢٠١١.

وعلى مدى عقودٍ من حكم آل الأسد، تحوّلت المؤسّسات الثّقافيّة في سوريا، إلى جانب الجمعيّات والأفراد، إلى أدوات دعايةٍ تخدم السّلطة وتروّج لروايتها الرّسميّة. هذه المؤسّسات شوّهت المشهد الثّقافيّ السّوريّ من خلال تصنيف أيّ معارضةٍ على أنّها “إرهابٌ”، بينما كانت الحقيقة تعكس واقعًا مأساويًّا تجلّى في استهداف المدنيّين، وتهجير العائلات، والزّجّ بالمعارضين في السّجون. بدلًا من أن تكون المؤسّسات الثّقافيّة مناراتٍ للإبداع ومساحاتٍ حرّةً تعبّر عن آلام النّاس وأوجاعهم، أصبحت أداةً لقمع الحقيقة وإقصاء الأصوات المستقلّة.

افتقدت هذه المؤسّسات لأيّ محاولةٍ جادّةٍ لتبنّي قراءةٍ بديلةٍ أو لتوثيق معاناة الضّحايا، ممّا حوّلها إلى وسيلةٍ لطمس الحقائق، بدلًا من أن تكون منبرًا للحرّيّة والدّفاع عن الشّعب.

وفي الوقت الحاليّ، يستمرّ المشهد الثّقافيّ السّوريّ في التّقوقع داخل إطارٍ مهادنٍ يتماهى مع الواقع المفروض، بعيدًا عن الاحتكاك الحقيقيّ مع القضايا الكبرى الّتي أثارتها التّجربة الثّوريّة. هذا التّراجع يعكّس عجز المؤسّسات الثّقافيّة عن مواكبة التّطلّعات الشّعبيّة لإسقاط النّظام وإقامة دولةٍ جديدةٍ تقوم على الكفاءة وتحرير الإبداع من قبضة الولاءات السّياسيّة، كما كان الحال خلال حكم البعث.

بدلًا من أن تصبح الثّقافة منبرًا لإعادة بناء الهويّة السّوريّة وتجديد روح المجتمع، لا تزال محصورةً في أطرٍ مكرّرةٍ، تفتقد للجرأة والانفتاح على التّجارب الثّوريّة الّتي أظهرت قدرة السّوريّين على الحلم بدولةٍ تعكس تنوّعهم وآمالهم.

اليوم، بات من الضّروريّ أن يتحرّر العمل الإبداعيّ في سوريا من القيود القديمة ليجد سياقه الاجتماعيّ والثّقافيّ الّذي يتطلّب تفاعلًا جادًّا وحقيقيًّا. السّينما، الدّراما، الكتابة الإبداعيّة بمختلف أشكالها شعرًا، نثرًا، قصّةً، وروايةً، إلى جانب الفنون التّشكيليّة والمسرح، تمثّل مجالاتٍ أساسيّةً لإعادة بناء الهويّة الثّقافيّة السّوريّة. لتحقيق ذلك، لا بدّ من تفكيك الهياكل الإداريّة والمعنويّة الّتي كرّست التّبعيّة لأجهزة الدّولة، واستبدالها بهياكل مستقلّةٍ تتيح للإبداع حرّيّة التّعبير والانفتاح.

يتطلّب هذا التّحوّل احتكاكًا حقيقيًّا بالثّقافات والتّجارب العالميّة، خاصّةً في البلدان الّتي حقّقت تقدّمًا في حرّيّة الإبداع، مع توجيه الجهود نحو تلبية احتياجات المجتمع السّوريّ وإبراز همومه وتطلّعاته.

يمكن للفنون أن تكون منصاتٍ حقيقيّةً للتّعبير عن الهموم الفرديّة والجماعيّة، تساهم في تخفيف العبث والاضطراب الّذي يعيشه الإنسان السّوريّ نتيجة الظّروف القهريّة. لتحقيق ذلك، يجب أن تتمتّع هذه التّجارب الإبداعيّة بالحرّيّة الكاملة، تحت حماية سلطة القانون الّتي تحترم الثّوابت الوطنيّة، مثل الهويّة ووحدة الأراضي، وتنبذ العنف والانقسامات.

في هذا السّياق، يمكن للفنون بمختلف أشكالها أن تنقل آلام النّاس وقصصهم إلى العالم، ممّا يتيح لهم مشاركة هذه الأوجاع مع الآخرين، ويخفّف من وطأتها على الأفراد. هذا النّهج، إذا استند إلى قيم التّنوّع والتّعدّديّة، يمكن أن يعيد للإبداع دوره الحقيقيّ كمرآةٍ للمجتمع ومصدر أملٍ للتّغيير.

وفي سوريا، تبرز الحاجة الماسّة إلى تحرير مجالات الإبداع من قيود الدّعاية السّطحيّة، وإعادة تفعيلها كأدواتٍ حيويّةٍ تسهم في نشر الوعي، توثيق القصص الإنسانيّة، والتّعبير عن الأفراح والأتراح. يمكن لهذه المجالات أن تكون وسيلةً لجمع السّوريّين على طاولة الحوار الإبداعيّ، وربط المدن والمناطق المختلفة بتجارب مشتركةٍ تسهم في تعزيز التّفاهم المتبادل. لتحقيق ذلك، يجب توجيه هذه الجهود نحو معالجة هموم الأفراد والجماعات، بما يساعد على فهمٍ أعمق لتفاصيل حياتهم اليوميّة ومعاناتهم. الإبداع، في هذا السّياق، يمكن أن يصبح لغةً جامعةً تسلّط الضّوء على التّنوّع والغنى الثّقافيّ، وتعبّر عن تطلّعات المجتمع نحو مستقبلٍ أكثر عدلًا وإنسانيّةً.

إنّ الأعمال الإبداعيّة في سوريا يجب أن تتحرّر من هيمنة السّلطة الّتي تسعى إلى تجهيل الأفراد والتّعتيم على قضاياهم، لتتحوّل إلى مرآةٍ صادقةٍ تعكس تطلّعات النّاس وآمالهم. سوريا اليوم بحاجةٍ ماسّةٍ إلى تجديدٍ فكريٍّ وثقافيٍّ يعبّر عن تنوّع مجتمعاتها وغناها الثّقافيّ، ويعيد بناء النّسيج الثّقافيّ والاجتماعيّ بعيدًا عن القيود التّقليديّة الّتي أعاقت تطوّره لعقودٍ.

وبالتّالي يجب دعم المبادرات المستقلّة الّتي تمنح المبدعين حرّيّة التّعبير، وتشجيع الأنشطة الثّقافيّة الّتي تعبّر عن تنوّع الهويّة السّوريّة.

في سوريا، لدينا وزارةٌ للثّقافة، وعشرات المراكز الثّقافيّة، والمكتبة الوطنيّة في ساحة الأمويّين، ودار الأوبرا بدمشق، وعددٌ من المسارح في بعض المدن. ومع ذلك، تبقى هذه المؤسّسات، بحالتها الرّاهنة، بعيدةً عن تحقيق الهدف الأسمى المتمثّل في تعزيز وعي المجتمع ومخاطبة العقول.

لماذا لا يتمّ إجراء مسحٍ شاملٍ لدور هذه الهيئات وأدائها الحاليّ؟ يمكن لهذه الخطوة أن تكشف عن مواطن القوّة والضّعف، وتساعد في إعادة توجيه هذه المؤسّسات لتكون أكثر ارتباطًا باحتياجات النّاس.

الثّورة، الّتي خاطبت وجدان السّوريّين، أكّدت ضرورة إحداث تغييرٍ جذريٍّ في كلّ مستويات المجتمع، بما فيه القطاع الثّقافيّ.

السّؤال الأكثر إلحاحًا هو: هل تكفي الوجدانيّات والرّوحانيّات وحدها لبناء وعيٍ سياسيٍّ متينٍ وتعزيز الفهم الفكريّ لمسار تطوّر الدّولة الجديدة؟ يجب التّركيز على نوعيّة الأنشطة الثّقافيّة، وتعزيز حضورها في المشهد العامّ، وفتح المجال أمام الحرّيّات الثّقافيّة لتصبح أداةً في الواقع الاجتماعيّ.

يمكن الاستفادة من نماذج ثقافيّةٍ ناجحةٍ داخل سوريا وخارجها، كمصدر إلهامٍ لإعادة بناء المشهد الثّقافيّ. على سبيل المثال، شهدت دولٌ مثل لبنان والعراق مبادراتٍ ثقافيّةً رائدة بعد أزماتٍ حادّةٍ، تمثّلت في مهرجاناتٍ فنّيّةٍ وأدبيّةٍ مستقلّةٍ، ومعارض كتبٍ شاملةٍ، ومراكز ثقافيّةٍ مجتمعيّةٍ أصبحت منصّاتٍ لتبادل الأفكار وتخفيف الاحتقان الاجتماعيّ.

حتّى في سوريا، قبل اندلاع الحرب، ظهرت بعض التّجارب الملهمة، مثل الأنشطة الّتي أقامتها مكتباتٌ محلّيّةٌ أو جمعيّاتٌ مستقلّةٌ، الّتي كانت تسعى رغم القيود المفروضة إلى تعزيز الوعي الثّقافيّ والتّنوّع الفكريّ. إنّ إعادة إحياء مثل هذه المبادرات، مع تطويرها لتكون أكثر شمولًا واستقلاليّةً، قد تسهم في تقديم نموذجٍ ثقافيٍّ مستدامٍ يواكب تطلّعات السّوريّين لمستقبلٍ أكثر إشراقًا.

لقد شاهدت مؤخّرًا تقريرًا على قناة الجزيرة من دمشق، يسلّط الضّوء على انفتاحٍ جزئيٍّ في المكتبات بعد سنواتٍ من القيود الصّارمة على عناوين معيّنةٍ. اللاّفت أنّ هذا الانفتاح اقتصر -بحسب التّقرير- على كتبٍ مثل مؤلّفات ابن تيميّة وأدهم الشّرقاويّ، ممّا يثير تساؤلًا حول طبيعة الأفكار الّتي يجري تحريرها.

تزامن ذلك مع نشاطٍ ثقافيٍّ دينيٍّ أقيم في دار الأوبرا بدمشق، ورغم أهمّيّة هذا النّوع من الأنشطة، إلّا أنّه يعكس انحيازًا ويطرح أسئلةً حول غياب الفعاليّات الثّقافيّة الأخرى الّتي تعبّر عن التّنوّع الحقيقيّ لدمشق وسوريا بأكملها. ورغم الانتقاد الموجّه للنّشاط الثّقافيّ ذي الطّابع الدّينيّ، فإنّه من الضّروريّ الإشارة إلى أنّ الأنشطة الدّينيّة، إذا كانت غير مسيّسةٍ أو موجّهةٍ لخدمة أجنداتٍ محدّدةٍ، يمكن أن تكون جزءًا من التّنوّع الثّقافيّ المنشود.

التّحدّي يكمن في تحقيق التّوازن بين هذا النّوع من الأنشطة وبين الفعاليّات الثّقافيّة الأخرى الّتي تمثّل مختلف التّوجّهات الفكريّة والإبداعيّة، بما يضمن شموليّة المشهد الثّقافيّ وتعدّديّته.

ترى أين معارض الكتب الّتي تقدّم وجباتٍ فكريّةً وثقافيّةً متنوّعةً؟ أين تلك الكتب الّتي قمعت لسنواتٍ لأنّها تتناقض مع أيديولوجيا النّظام السّابق؟

أعتقد أنّ سوريا بحاجةٍ ماسّةٍ إلى أنشطةٍ ثقافيّةٍ، سواءٌ أهليّةٌ أو رسميّةٌ، تكون حقيقيّةً وفعّالةً في تعزيز وعي المجتمع، أنشطة تقرّب النّاس من بعضهم البعض، تعزّز فهمهم المتبادل لأفكارهم وتطلّعاتهم، وتفتح الآفاق أمام العقول لاستكشاف أفكارٍ جديدةٍ. كما يجب أن تفسح هذه الأنشطة المجال لسماع أصواتٍ وطنيّةٍ مستقلّةٍ، بعيدًا عن هيمنة العسكر أو الدّين، مع توجيهها نحو تعزيز التّشارك المجتمعيّ.

هذه الضّرورة تبرز أهمّيّة بناء وعيٍ جديدٍ يتماشى مع تطلّعات السّوريّين لمستقبلٍ يلعب فيه الإبداع والثّقافة دورًا محوريًّا في تعزيز الانتماء الوطنيّ، وترسيخ قيم التّنوّع والتّعدّديّة، وقبول الآخر، والعمل على تحقيق السّلم الأهليّ.

لتحقيق هذا الهدف، لا بدّ من وضع خطّةٍ واضحةٍ تشمل خطواتٍ عمليّةً يمكن تنفيذها على أرض الواقع. من ذلك، إطلاق برامج تدريبيّةٍ تهدف إلى دعم المواهب المحلّيّة وتنميتها، وإنشاء شراكاتٍ ثقافيّةٍ مع مؤسّساتٍ دوليّةٍ تسهم في تبادل الخبرات والاطّلاع على تجارب الدّول الأخرى.

يمكن تعزيز الإنتاج الثّقافيّ من خلال إنشاء منصّاتٍ مستقلّةٍ لدعم الكتّاب والفنّانين والشّباب المبدعين، وتشجيع الفعاليّات الّتي تعبّر عن التّنوّع الثّقافيّ السّوريّ، مثل معارض الكتب المستقلّة، والمهرجانات الفنّيّة متعدّدة الاختصاصات.

إنّ التّحرّر الإبداعيّ يشهد اليوم ازدهارًا استثنائيًّا في تفاعله مع الشّارع السّوريّ، ومع اتّساع دائرة التّواصل بين المدن الّتي كانت فيما مضى مغلقةً على بعضها البعض بفعل الخوف الممنهج من الاختلاف. هذا الواقع الجديد يضع على عاتق الإبداع مسؤوليّةً كبرى في جمع النّاس من مختلف الانتماءات، ليوحّد أصواتهم حول مفهوم الحرّيّة في سياق الإبداع السّوريّ.

يتجلّى ذلك من خلال إنتاجهم الثّوريّ الّذي يواجه كافّة أشكال الطّغيان، والتّبعيّة، والهيمنة السّلطويّة على الأفراد.

الإعلام السوري: لعنة “التوجيه” مستمرة حتى إشعار آخر

الإعلام السوري: لعنة “التوجيه” مستمرة حتى إشعار آخر

توقفت الصحف الرسمية عن طباعة النسخ الورقية مع جائحة كورونا، إلا أن الأمر لم يكن إلا مقدمة لاختفاء هذه النسخ بسبب رغبة وزارة الإعلام في زمن النظام السابق في خفض النفقات، الأمر الذي كان قد سبقه إيقاف قناة “تلاقي”، ومن بعدها إذاعة “صوت الشعب”، ليبقى الإعلام السوري الحكومي في ذلك الوقت محصوراً بقنوات “السورية – دراما – الإخبارية – إذاعة دمشق – إذاعة سوريانا”، علاوة على المواقع الإلكترونية التي تتبع لصحف “البعث – تشرين – الثورة”، وكمصدر أساس للأخبار الرسمية، بقيت “وكالة الأنباء السورية – سانا”، مع وجود مجموعة من الإذاعات المحلية وصحيفة الوطن، فتجربة صحيفة “الأيام”، لم تكن طويلة بسبب الضغوط العالية التي مارستها السلطات آنذاك على الصحيفة، واعتقال مالكها “محمد هرشو”، ما تسبب بهجرته إلى الإمارات العربية المتحدة، ليعمل من هناك في الإعلام من خلال موقع “هاشتاغ سوريا”، وكل محاولات رفع سقف الحرية في التعبير من قبل وسائل محدودة كانت تغامر بالأمر مثل “إذاعة شام آف إم – موقع أثر برس – موقع كيو ميديا”، كانت تصطدم برد فعل عنيف من قبل “المكتب الإعلامي في رئاسة الجمهورية”، والذي تسلمته في أوقات الذروة من الحدث السوري “لونا الشبل”، التي توفيت في حادث سير ما زال ذكره يرتبط بالكثير من التفسيرات التي تشير إلى قيام النظام بتصفيتها، إذ ترافق الأمر حينها مع معلومات عن اعتقال شقيقها من قبل مخابرات النظام، وتأكد الأمر من خلال تغيبه عن الجنازة المتواضعة التي شيعت من خلالها “الشبل”، ومن ثم لم يظهر له أثر بعد سقوط النظام، ما يشير أيضاً إلى تصفيته ربما. ضمن هذا المناخ العام كانت وسائل الإعلام النشطة خلال الفترة الممتدة ما بين العام 2011  وحتى سقوط النظام تعمل ضمن ما يمكن تسميته بـ “الإعلام الموجه”، بعض هذا الإعلام وجه قسراً ودون رغبة القائمين عليه، والبعض الآخر اتخذ اصطفافاً سياسياً واضحاً تبعا لرغبة المالك، مثل “قناة الدنيا”، التي تحولت إلى “سما” بسبب العقوبات الدولية التي تعرضت لها القناة آنذاك، والأمر نفسه ينطبق على صحيفة الوطن التي كانت تتبع لـ “مجموعة راماك”، المملوكة من قبل “رامي مخلوف”، رجل الأعمال الأكثر شهرة. 

مصير الصحف

لا يبدو مصير الصحافة السورية مبشراً خلال الفترة الحالية، فإن كان غياب جريدة البعث عن الساحة طبيعياً بفعل قرار الحزب بتعليق نشاطه إثر سقوط النظام تبعاً للبيان الذي جاء موقعاً من قبل “إبراهيم حديد”، الذي شغل منصب الأمين العام المساعد في الفترة الأخيرة، فإن الإدارة السورية الجديدة لا تبدي أي خطوة في إعادة طبع الصحف، إلا أنها أصدرت تعليمات بتغيير اسم صحيفة “تشرين”، إلى “الحرية”، مع تغيير الهوية البصرية للصحيفة وتغيير ألوان شعارها من الأبيض والأزرق إلى الأبيض والأخضر، فيما بقي اسم صحيفة “الثورة”، على حاله، وسبب التغيير حسب المعلومات التي حصلنا عليها هو ارتباط مسمى “تشرين”، بالنظام السابق، فالاسم من وجهة نظر متخذي قرار التغيير لا يرتبط بحرب تشرين بقدر ما يرتبط بتمجيد الانقلاب الذي نفذه حافظ الأسد للوصول إلى السلطة في تشرين الثاني /نوفمبر من العام 1970، وهو الانقلاب الوحيد في التاريخ السوري المعاصر الذي حمل اسم “الحركة التصحيحية”، وعلى الرغم من إن صحيفة “الثورة”، تحمل اسماً يمجد الانقلاب الذي نفذ في تاريخ “8 آذار / مارس”، من العام 1963 والذي أفضى إلى تسلم حزب البعث السلطة بشكل رسمي في سورية، إلا أنها بقيت حاملة لاسمها فهو يشير إلى مفهوم “الثورة”، من حيث المطلق، ويمكن أن يستخدم لتمجيد ثورة 18 آذار من عام 2011  والتي أفضت إلى إسقاط النظام السابق، وضمن هذه الأجواء لم يزل مصير الصحيفتين على المستوى المهني مجهولا، وغير مبشر بالمطلق.

يقول أحد الصحافيين العاملين في صحيفة “الثورة”، والذي يفضل عدم ذكر اسمه، أن ممثلي وزارة الإعلام أجروا عملية “إعادة التقييم”، للعاملين في الصحيفة وتم منح 55 من العاملين وغالبيتهم من الصحافيين إجازة مدفوعة الأجر، وتم التواصل مع بعض من منحوا إجازة ليعودوا إلى العمل، ورئيس التحرير المعين من قبل الإدارة الجديدة، “أحمد حمادة”، يعمل على إعادة كامل من تم منحهم إجازات، وتعمل حالياً الصحيفة من خلال الموقع الخاص بها ونسخة إلكترونية من العدد. ولكن على الرغم من إن النظام السابق سقط، إلا أن عقلية إدارة الصحف الرسمية لم تتبدل، فهي موالية لـ “الإدارة السورية الجديدة”، وبحسب الصحافي ذاته فإن الأمر طبيعي، فإن الإعلام الحكومي بطبيعة ملكيته للحكومة فإنه ينطق بلسان حالها، ولا يمكن أن يكون إلا موالياً لها، ويحاول تقديم أفعالها للجمهور بطريقة تروج للحكومة، لا تنتقدها، وهذا الدور يطلب غالباً من وسائل الإعلام الخاصة لا العامة، وبالتالي لا يبدو أن الثورة أو غيرها من الصحف الرسمية ستخرج عن هذا السياق.

أثناء حديث ودي مع أحد أعضاء اتحاد الصحافيين الذي كان موجوداً في زمن النظام السابق كمؤسسة إعلامية من المفترض أنها تعمل كنقابة، يظهر واضحاً أن هذا الاتحاد منذ تأسيسه عام 1974 لم يكن خارج النص البعثي، إذ يتم انتخاب، أو لنقل تعيين من تريده القيادة القطرية في منصب “رئيس الاتحاد”، وأعضاء القيادة المركزية. ولم يكن الاتحاد قادراً في أي يوم على ممارسة دوره في حماية الصحافيين السوريين من الممارسات المخابراتية، ولا من قانون “الجرائم الإلكترونية”، الذي يبدو أن النظام أصدره أساساً للتحكم بـمسار الصحافيين حتى على صفحاتهم الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي. ويقول عضو الاتحاد الذي فضل عدم ذكر اسمه خلال حديثه لـ صالون سوريا: “المؤسسات الصحافية السورية ذات تاريخ عريق في المهنة على الرغم من أنها مملوكة للحكومة، وكان متحكماً  بها.

الهيئة العامة: ما مصيرها؟

يُحكى منذ سقوط النظام عن تطوير منظومة التلفزيون السوري ليكون منافساً للقنوات الخاصة، ويُحكى أيضاً عن عملية إعادة تأهيل للكوادر، وإلى الآن لم يظهر مما يحكى إلا عملية إعادة التقييم، التي تصفها مذيعة تخشى من ذكر اسمها خلال حديثها لـ صالون سوريا بأنها تمت من قبل أشخاص لم يكونوا مهنيين، وتقول: لا يوجد قواعد واضحة لإبعاد مذيع أو محرر من العمل من خلال الإجازات القسرية التي منحت، فإحدى اللواتي تم إبعادهن عن العمل بإجازة ذات صوت معتمد من كبرى شركات الإنتاج لدبلجة البرامج الوثائقية، وكانت تعمل ضمن إحدى الإذاعات التابعة للهيئة، كما أن مذيعة تلفزيونية أجبرت على الإجازة وهي من ذوات الظهور اللائق والأداء المشهود له، ولا يمكن تبني وجهة النظر التي تقول آن الإبعاد تم بسبب الانتماء الطائفي، فكلا الشخصين اللذين ذكرتهما ليسا من الطائفة العلوية، ولم يكن لهما أي مواقف معلنة لتأييد النظام السابق، وبما أن الحديث عن عمل إعلامي فمن المؤكد أنهما لم تكونا كمذيعتين شريكتين في سفك الدم، ولكونها من النماذج النشيطة جداً في عملهما، يتأكد أن إعادة التقييم لم تكن جدية.

ويشير صحافي كان يعمل في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون في سورية، إلى أن الآمال المبنية على التلفزيون السوري مستقبلا بأن يكون تنافسياً وقادراً على الحضور في المجتمع السوري خصوصاً، كوسيلة يمكن تصديقها، تبدو مثل ذر الرماد في العيون، فالوسيلة الإعلامية الحكومية لن تقدر على ممارسة الدور الرقابي المأمول منها، ولن تخرج عن دائرة الإعلام الذي تتحكم به الحكومة لتقدم مقولتها للجمهور، ولهذا الجمهور الحق بتصديقها أو تكذيبها بناءً على معرفته بالحقائق أولا، ومن ثم مراقبة وسائل الإعلام الأخرى وكيفية تعاملها مع أي قضية ستطرح من قبل التلفزيون السوري، وبدرجة ثالثة مصادر المعلومات التي منها “وسائل التواصل الاجتماعي”، وهذه الأشياء كان يمارسها الجمهور قبل سقوط النظام وسيبقى على حاله بعد سقوطها. وإذا كان هناك من يريد للتلفزيون السوري، أو المؤسسات الإعلامية الحكومية، أن تعمل بطريقة صحيحة فإن عليه أولاً أن يحررها من قيود “الإعلام الموجه”، الذي كانت تعيشه أيام النظام السابق، ولكن هل يمكن أن تترك وسائل الإعلام الحكومية لتمارس عملها تحت سقف عال من الحريات؟ هذا السؤال تبدو الإجابة عليه مقرونة بالنفي دائما.

هل تخلصنا من “التوجيه”؟

وسائل إعلامية عدة توقفت في سورية لأسباب تتعلق بغياب التمويل، أو نتيجة لتعرضها للتخريب، أو الخشية من العودة للعمل نتيجة ارتباطها بأحد رجال الأعمال المحسوبين على النظام. البيانان المنفصلان اللذان صدرا عن كل من جريدة الوطن، وإذاعة نينار، صبيحة يوم الثامن من ديسمبر / كانون الأول الماضي، وهما وسيلتان كان يملكهما “رامي مخلوف”، وسيطرت عليهما “أسماء الأسد”، بعد إقصائه من المشهد الاقتصادي، يعلنان التبرؤ من سياستهما الإعلامية الداعمة للنظام بالقول “كنا مجبرين”. وتعتبر مصادر صحفية عدة هذا الأمر مؤشراً على “الخوف”، من المرحلة الجديدة، فالمحاولات المبكرة لما سمي بـ “التكويع”، لم تكن ناجحة بالصورة التي كان يأملها القائمون على هاتين الوسيلتين على المستوى الإداري والصحافي. ويقول صحافي يعمل في صحيفة الوطني، شدد على عدم ذكر اسمه خلال حديثه لـ “صالون سوريا”، إن الأخبار التي تصدر عن جريدة الوطن تشرف عليها وزارة الإعلام من خلال ممثلين انتدبتهم إلى الجريدة منذ أن اعتبرت إن “الإدارة الجديدة”، تمتلك الحصة الأكبر في “جريدة الوطن”، نظراً لأنها باتت تمتلك حصة رجل الأعمال المعروف بولائه وتبعيته للنظام السابق، يسار إبراهيم، وذلك لكون أموال يسار هي من أموال الدولة المنهوبة وبالتالي لا بد من استعادة هذه الأموال. ويضيف الصحافي: على الرغم من أن رئيس التحرير وعد بعودة النسخة الورقية وعمليات الطباعة قريباً إلا أن الأمر لم يحدث نهائيا، علماً أن رئيس التحرير مقيم حالياً في فرنسا، إذ غادر البلاد صبيحة سقوط النظام وفقاً لما يعرفه العاملون.

الأمر نفسه ينطبق على عدد كبير من الإذاعات الخاصة، ولا يقبل أي من القائمين على هذه الإذاعات أو العاملين فيها الحديث عن المشكلة التي عرف “صالون سوريا”، بأنها نسخة طبق الأصل عما تعانيه جريدة الوطن، إذ إن “القصر”، تملك نسباً كبيرة من إذاعات “نينار – فيوز إف أم – ميلودي – شام إف إم” عنوة عن أصحاب التراخيص الرسمية في بعضها، ونتيجة لإقصاء صراع “أسماء – رامي”، في بعضها الآخر فيما بقيت إذاعة مثل “المدينة إف أم”، محمية بقرار من “ماهر الأسد”، شخصياً، لكون مالكها “ميزر نظام الدين”، من “أصدقاء الطفولة”، وأحد أذرعه الاقتصادية، وبعد سقوط النظام قررت الإدارة الجديدة أن “ترث”، هذه الإذاعات باعتبار أن الحصص الأكبر فيها مملوكة لشخصيات مرتبطة بـ “النظام”، وقد أسست من “أموال الشعب”، وهذا الإجراء لم يكن بالصورة القانونية، إذ تشير معلومات حصل عليها “صالون سوريا”، إلى أن الإدارة الجديدة وعبر “المحامي الممثل ليسار إبراهيم”، نقلت الملكية الخاصة بمن استهدفهم قرارها إلى شخصيات مرتبطة بها بشكل مباشر، وهذا الإجراء لم يكن قانونيا، إذ من المفترض أن تتم محاكمة رجال الأعمال، وإدانتهم، ومن ثم إصدار قرار بمصادرة هذه الوسائل الإعلامية وتحويل ملكيتها لـ الدولة (أي تأميمها)، أو عرضها في المزاد العلني واستعادة أموال الدولة، لا أن تصبح “وريثاً”، وتتعامل مع هذه الوسائل وكأنها من “غنائم الحرب”، ولا يمكن الحصول على رد رسمي من “وزارة الإعلام”، بوصفها المسؤولة عن الملف.

حالة نقل الملكية التي شملت عدداً كبيراً من وسائل الإعلام الخاصة، وتوقف بعضها الآخر عن العمل بسبب مصادرة المكاتب نتيجة لـ “ارتباطها بإيران”، مثل “قناة العالم سورية”، وقرار البعض التروي، والبعض الآخر نتيجة لـ “انعدام وجود ممول حالياً”، تشير إلى أن الإعلام السوري الذي سينشط حالياً داخل سورية، سيبقى إعلاماً موجها حاله في ذلك حال القنوات التي تقوم باصطفاف سياسي واضح لصالح “الإدارة السورية الجديدة”، مثل “تلفزيون سوريا – التلفزيون العربي”، الممولين من مؤسسة واحدة تتخذ من العاصمة القطرية مقراً لها، إضافة إلى منصة “تأكد”، التي تعمل على تبرير أو نفي الأخبار التي تدين “الإدارة السورية الجديدة”، بدلا من ممارسة دورها الذي تقدم نفسها من خلاله على أنها منصة تهتم بالتأكد من صحة المعلومات المروجة عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، والتحقق من مصادر المعلومة ومحاربة الأخبار المضللة. إلا أن أخطر ما يهدد العمل الصحافي وسلامته حالياً، هو ما ينقله صحافي سوري يعمل حالياً في دمشق بالقول: وزير الإعلام يستقبل ويحتفي ويقدم الفرص لمن يسميهم بـ “الإعلاميين الثوريين”، ويعتبر أن الأفضلية في المرحلة القادمة لهم، على الرغم من إن غالبيتهم مايزالون في خانة الهواة، والإجازة الأكاديمية التي يحملونها هي من جامعات غير معترف بها مقرها في مناطق الشمال السوري مثل جامعة عفرين، كما أن الصحافيين الذين يصنفون أنفسهم على إنهم هواة يطالبون في كل لقاء مع الوزير بإيقاف كل الصحافيين الذين كانوا موجودين في المناطق التي كان النظام يسيطر عليها عن العمل بحجة أنهم موالون للنظام أو كانوا يروجون لدعايته، إلا أن السبب الأساس هو محاولتهم طرد هؤلاء الصحافيين من سوق العمل وترك المجال مفتوحاً فقط لـ “الصحفيين الثوريين”، وذلك لعزوف وسائل الإعلام المرموقة عن التعامل مع هؤلاء “الثوريين”، بسبب قلة خبرتهم وانعدام مهنيتهم في غالب الأحوال.

الخشية من الملاحقة الأمنية تدفع الكثير من الصحافيين، بمن فيهم كاتب هذه المادة إلى إخفاء أسمائهم، ويعكس ذلك حالة الخوف التي مازال الإعلاميون في سورية يعيشونها على الرغم من أن الإدارة الجديدة تشدد على أن زمن الخوف انتهى بسقوط النظام. ويسخر أحد الصحافيين الذين أدلو بشهادتهم ضمن هذه المادة من السؤال عن سبب رفضه ذكر اسمه ليجيب بالقول: “ما بدي كون ضحية حالة فردية”، في إشارة إلى تزايد الانتهاكات التي توضع تحت خانة “حالة فردية – تصرف فردي”، من قبل الحكومة.

  حين تقف عاجزاً عن كتابة الفرح 

  حين تقف عاجزاً عن كتابة الفرح 

منذ نحو سبعة أعوام وأنا أكتب لموقع صالون سوريا، وكانت معظم المواد والتحقيقات التي نشرتها في الموقع وفي مواقع أخرى، طوال أكثر من عشرة أعوام، تدور حول  ظروف الحرب وتبعاتها، الحرب التي فرضها نظام الأسد على الشعب السوري لكي يُجهض ثورته العظيمة التي سيُخلدها التاريخ. كتبتُ عن الشوارع المليئة بمشاهد القهر والألم، والمزدحمة بالمتسولين والمشردين، الذين باتوا جزءاً مألوفاً منها، ونابشي حاويات القمامة التي باتت مصدر رزقهم الوحيد، وباعة الأرصفة الذين يرتجلون من العدم بسطاتٍ تبيع أي شيء يمكن بيعه كي يؤمنوا لقمة عيشهم. كتبتُ عن النازحين والفقراء والمعدمين، وعن المتسربين من التعليم وأطفال الشوارع الذين تربوا وكبروا فيها. كتبتُ عن تدهور الواقع التعليمي والثقافي وعن هجرات الفنانين والمثقفين وأصحاب الشهادات، وعن العقبات والصعوبات التي يواجهها من تبقى منهم في البلاد، كما تحدثت في أكثر من مادةٍ وتحقيقٍ عن أزمات الكهرباء والوقود والمواصلات، وعن تردي الواقع المعيشي والاقتصادي لدى السوريين، الذين أصبح جلهم يعيش تحت خط الفقر، وغير ذلك من الموضوعات التي تناولت معاناة الناس وظروف حياتهم اليومية التي تميتهم كل يومٍ عشرات المرات.   

اليوم، وبعد سقوط نظام الأسد المجرم، الحلم الذي انتظرناه طوال حياتنا، وقفت عاجزاً طيلة الأسابيع الماضية عن الكتابة عن الفرح، رغم أن حدثاً كهذا، لم نكن نتخيله حتى في أحلامنا، يُمكن أن تُفرد لأجله عشرات بل مئات الصفحات، ولكن كيف يمكن للغةٍ من حروفٍ وكلمات أن تُجاري، تعبيرياً أو شعرياً، ما تقوله الشوارع والساحات التي كانت أفراحها أبلغ وأفصح وأشد تعبيراً من أنواع الفنون والأدب والصحافة كلها؟ أفراحٌ شاسعة بحجم وطنٍ يولد من جديد، كان لصوته الاحتفالي قدرة تعبيرية  فاقت جميع محاولاتي التعبيرية التي عجزت عن صياغة مادةٍ ما، أنا الذي اعتادت لغتي لسنواتٍ على صياغة موضوعاتٍ تفوح منها رائحة بلاد مُنهكة، صُنفت كواحدة من أسوأ أماكن العيش في العالم.   

في الساحات كانت وجوه الناس المُشرقة والطافحة بالنبض والفرح  تكتب نيابةً عني، بعد أن زالت من تعابيرها معالم القهر واليأس والوجع. الأطفال المتسولون والمشردون في الشوارع والعاملون في نبش حاويات القمامة، في الصباح الذي تلا سقوط الأسد المجرم، كانوا يفردون صوره الممزقة على الطرقات والأرصفة ويدعون المارة أن يدوسوا عليها وأن يعبروا بسياراتهم من فوقها، وهم يرقصون ويهتفون هتافات الحرية والنصر الذي كان يَشعُّ من وجوههم التي زينوها برسوم علم سوريا الجديد، وجوههم التي لطالما تلونت بالقهر وأوساخ الشوارع والندبات التي حُفرت فيها. لربما كان هذا المشهد من أروع مشاهد انتصار العدالة. 

  بعض النازحين، الذين عاشوا لسنواتٍ في شققٍ غير مكسوة (على العظم) لا تصلح للعيش البشري، تحولت من سكنِ مؤقتٍ إلى شبه دائم، كانوا يحتفلون بكثيرٍ من الفرح والدموع في ذات الساحات والشوارع، التي لطالما جلسوا فيها باحثين عن أي عملٍ يمكن أن يؤمن لقمة عيشهم المريرة. كانوا يقفون فيها، مع أطفالهم، لأول مرة منتصرين على من دمَّر بيوتهم وهجَّرهم من مدنهم وقراهم، التي بات حلمهم بالعودة إليها قابل للتحقيق، وكان أطفالهم، الذين تفيض عيونهم أملاً وتفاؤلاً، يشعرون لأول مرة أن لديهم وطناً حقيقياً وأن بإمكانهم العودة إلى قراهم ومدنهم التي لم يتعرفوا إليها منذ ولادتهم.

في ساحة الحجاز وخلال وجودي في وقفةٍ تضامنية مع المعتقلين المفقودين، كانت قدسية المشهد وعظمته وملحميته تُلهم ذهني بعشرات الأفكار والمواضيع التي يُمكن الكتابة عنها، لكن دموع المرأة التي كانت تقف بجواري، كانت أكثر بلاغة وتعبيراً من أي كلماتٍ يُمكن أن تُكتب، دموعها التي كانت تشبه سوريا المتخبطة بين مشاعر الفرح والأمل والحزن والفقد والحسرة على المعتقلين الذين استشهدوا لكي يرسموا لنا طريق الحرية. 

كانت صور المعتقلين المحمولة في الساحة تحدق بي، وهي تقول الكثير، وكنت أشيح بوجهي عنها، أخجل من عظمتها ومن النظر إليها. كيف يمكنني أن أكتب عنها بضع كلماتٍ مقتضبة، وكل صورة منها تحفل بعشرات القصص والمشاهد والذكريات، ويُمكن أن تُفرد لأجلها عشرات المقالات؟ 

خلال وقوفي في الساحة فكرت للحظة أن أجمع حكايات بعض الناس الذين حضروا إلى الوقفة، حاملين صور أبنائهم وأخوتهم وأقاربهم المفقودين، علهم يحظون بأي خبرٍ عنهم، لكن نظراتهم، الباحثة عن أي أمل، كانت تصفعني وتجعلني مشلول الحركة، غير قادرٍ على القيام بأي فعل، بل كانت تُشعرني بسخافة أن يُكتب عن معاناتهم فيما يقف العالم بأسره عاجزاً عن تقديم أي خبرٍ يُريح قلوبهم المتعبة التي مزقها الفقد. هربت من نظراتهم ورحت استحضر إلى ذهني، مشاهد المعتقلين المحررين من المعتقلات والسجون، والتي أمضيت ساعاتٍ طويلة وأنا أشاهدها خلال الأيام الماضية، بمزيجٍ من الفرح والحزن. شردت معها بعيداً لدقائق، حتى قاطعت شرودي نظرات شابة كنت أعرفها حين كانت طفلةً في إحدى مراكز الايواء قبل نحو ثماني سنوات. من كان يصدق أنها ستقف اليوم في إحدى أهم ساحات دمشق، وهي تودع الخوف والقهر والعجز، وتحمل علم سوريا الجديد، لتقول للعالم إنها انتصرت على من دمَّر بلادها واعتقل عدداً من أقربائها وشردها مع عائلتها لسنوات طويلة؟. 

في السنوات الماضية تحدثت في أكثر من مادة صحفية عن الجيل الجديد، أو ما يُمكن تسميته بجيل الحرب، الذي فقد شعوره بالإنتماء إلى سوريا المُدمرة والممزقة، التي قد لا يعرف منها سوى مدينته أو قريته، هو الذي  تربى على ثقافة الحرب والانقسام السياسي والخوف من الموت، ولم يتبلور لديه أي مفهوم واضح عن الوطن في ظل انحسار دور المرجعيات الوطنية وتمزق معظم الهويات الوطنية الجامعة. ذلك الجيل، الذي كان السفر إلى خارج البلاد، بالنسبة لمعظمه، الحلم الأبرز وطوق النجاة الوحيد، تراه اليوم، بعد سقوط النظام البائد، يتعافى ويُبعث من جديدٍ، ينهض حافلاً بالطاقات والانتماء الوطني، يَنشَط كخلايا النحل، يحضر في الساحات، في الوقفات الاحتجاجية والتضامنية، في حملات تنظيف الشوارع وزراعة الحدائق، وفي مختلف الأنشطة المدنية، ويشارك في التجمعات السياسية والمدنية وفي المبادرات الشبابية، يُعبِّر عن رأيه ، الذي كان مغيباً، وبكثيرٍ من الحماس والمسؤولية يشعر اليوم أنه أمام فرصةٍ ذهبية ليستعيد انتماءه لبلاده وليكون شريكاً فاعلاً ومؤثراً في صناعة تاريخها الجديد والنهوض بها. 

قبل أيام من سقوط نظام الطاغية المجرم، كنت أفكر بالكتابة عن تلوث الهواء في بعض المناطق المحيطة بدمشق، وخاصة مدينة جرمانا، والتي يضطر الكثير من سكانها، في ظل أزمتي الوقود والكهرباء، لإشعال النايلون والبلاستيك والخشب والكراتين في مدافئهم، وكل ما توفر من موادٍ تساعدهم على استحضار بعض الدفء إلى بيوتهم الباردة. ويؤدي احتراق تلك المواد إلى انبعاث دخان كثيفٍ يلوث الهواء ويبعث على الاختناق. لكن هواء المكان تغير فجأة، بعد سقوط النظام البائد، وليس في الأمر حالة شاعرية ورومانسية، فقد لمس معظم الناس هذا التغيير وأصبحوا يتنفسون هواء مريحاً وخفيفاً وغنياً بالأوكسجين، بعد أن زالت رائحة الخوف واليأس والعجز من الشوارع التي أصبحت مُشرقة ورحبة، وتفوح منها رائحة الفرج والأمل. 

آخر المواد التي كتبتها كانت تتحدث عن انعدام مساحات التنفس عند الناس في سوريا، نتيجة ما أفرزته ظروف الحرب التي التهمت الكثير من المساحات الخضراء وحرمت معظم الناس من طقوس النزهة والسيران  وزيارة البحر، في ظل تدهور الواقع الاقتصادي وتفاقم أزمات الوقود والمواصلات، وهو ما جعلهم يلجؤون إلى أي مساحةٍ زراعيةٍ أو حتى ترابية تذكرهم بالطبيعة. اليوم، بعد سقوط نظام الطاغية، يُمكن القول أن كثير من  الناس وجدوا مساحات تنفسهم في الساحات والشوارع التي بات السير فيها، بالنسبة لهم، نوعاً من النزهة والسيران، بل أن عشرات الآلاف باتوا يأتون كل يوم لزيارة دمشق من مختلف المحافظات، وبعضهم كان يتعرف إليها لأول مرة. الشباب الذين كانوا محاصرين في أحيائهم وحاراتهم وبيوتهم لسنوات، كونهم مطلوبين للخدمة العسكرية، تحرروا أخيراً من سجنهم وتعافوا من رُهاب الحواجز، وباتوا يتنقلون بين الأحياء ويجوبون الشوارع والساحات بكامل حريتهم، وتعلو أصواتهم  في المقاهي وهم يخوضون النقاشات السياسة حول مستقبل سوريا، وكأنهم يولدون من جديد. 

لقد كنت واحداً من أولئك الشباب، وبقيت مشلول الحركة لنحو سبعة أعوام، خشية اقتيادي للخدمة العسكرية الاحتياطية، كنت خلالها أتنقل، عند الضرورة، بحذرٍ شديد، سيراً على الأقدام، وأحياناً كنت أستعين بهوية أخي، وها أنا اليوم أمضي كثيراً من الوقت متجولاً في أحياء دمشق، التي كتبت كثيراً عن تعبها ومرضها وعتمتها، أتسكع في شوارعها بخفة ورشاقة من يمتلك جناحين، وأنا أودع الخوف الذي كان يتربص بخطاي كلما رأيت حاجزاً أو دورية عسكرية. أحاول استعادة علاقتي الحميمية الأثيرة مع المدينة، أُمعن النظر في كل تفصيلٍ صغيرٍ في شوارعها وأبنيتها، أُدرِّب عيني، التي اعتادت لسنواتٍ على رصد مشاهد الفقد والألم والقهر، أُدرّبها على إبصار التفاؤل والأمل والفرح الذي بات يرتسم على كل تفاصيل المدينة ويطل من وجوه الناس. لقد كنت أشتكي خلال السنوات الماضية من نقص الأصدقاء الذين غادر معظمهم إلى خارج البلاد، وها أنا اليوم أكتشف أنه مازال هناك الكثير منهم في دمشق، بعد أن خرجوا من حصارهم وعزلتهم ليبصروا النور، أصادفهم في الشوارع والمقاهي والساحات، التي بت أستعيد من خلالها ذكريات أصدقائي المسافرين، الذين عادت ذكرياتهم وضحكاتهم وأحاديثهم وخطاهم لتطل من كل شارعٍ أسير به، بعد أن باتت عودتهم، التي كانت شبه مستحيلة، إلى سوريا أمراً ممكناً.  

فنانون تشكيليون سوريون يتحدثون عن وضع الفن في ضوء التحولات السياسية 

فنانون تشكيليون سوريون يتحدثون عن وضع الفن في ضوء التحولات السياسية 

تُعَدّ سوريا من البلدان الغنية بتنوعها الثقافي والفني، وبعد سقوط نظام الأسد، تبرز الحاجة إلى مناقشة مستقبل الفن التشكيلي في سوريا وتحدياته وآماله في ظل المتغيرات السياسية المرتقبة.

الادعاء بأن نظام الأسد كان راعياً للفن والفنون بمعزل عن الرقابة هو جزء من زيف النظام الذي تمحور حول تقديم نفسه كمجسد للصورة العلمانية والديمقراطية. وفي حين أنه كان يزعم أنه يدعم الفنون، كان الواقع عكس ذلك. فقد خنقت الرقابة الحريات العامة وحرية التعبير، ما أسهم في خلق مناخات خنقت الإبداع وحدت من تطلعات الفنانين. وأحدثت هذه التناقضات بين الادعاءات والواقع الكئيب تأثيراتها السلبية على الحركة الفنية.

سألنا الفنانة رولا بريجاوي عن الرقابة التي فُرضت على الفن التشكيلي خلال فترة حكم النظام السابق، فقالت إنه لم تكن هناك رقابة مباشرة على الأعمال الفنية، ولكن كان هناك منع لوجود موديلات إنسانية عارية. وترى بريجاوي أن أي نظام قادم يمكن أن يفرض رقابة، إلا أنها تعتقد بأن الفن يمكنه تحقيق التواصل مع المحيط الاجتماعي بطرق متعددة وبأدوات متنوعة، ما يجعل الرقابة غير فعالة في النهاية.

قدم النحات سهيل ذبيان رأياً مخالفاً وأكد أن الرقابة كانت قائمة وصارمة، مشيراً إلى أن الفنانين كانوا يواجهون رقابة أمنية مشددة، حيث كانت صالات العرض تحتاج إلى موافقات أمنية قبل إقامة المعارض، بل وقد مُنع عدد من الفنانين من عرض أعمالهم. يبرز هنا الاختلاف في الرأي بين بريجاوي وذبيان، إذ تعبر بريجاوي عن تفاؤل أكبر بشأن قدرة الفن على التكيف، بينما يؤكد ذبيان على الصعوبات الكبيرة التي واجهت الفنانين في ظل النظام القمعي.

يدور نقاش مشروع حول مستقبل الفنون البصرية في سوريا، وخاصة النحت والرسم، حيث يتبنى البعض آراء شرعية تحذر من وجود التماثيل وتصوير المخلوقات الحية. فالرأي الشرعي الذي يعتبر الأصنام محرمة، وجد صداه في تحطيم عدد من تماثيل شخصيات تاريخية في عدة محافظات سورية بعد سقوط نظام الأسد. علاوة على ذلك، يُعد تصوير الإنسان والمخلوقات الحية موضوعًا مثيرًا للجدل يستوجب النظر إليه بعناية في السياق الثقافي والديني.

في هذا الإطار، من المهم فتح الحوار بين الفنون والتفكير الشرعي، ما قد يسهم في إيجاد توافق يسمح بتطور الفنون ضمن المعايير الثقافية والدينية المقبولة. وأوضح الفنان سهيل أن الفن لا يمكن أن يزدهر في بيئة فكرية تضيق عليها الحدود، مع التأكيد على أن الثقافة الفنية تتعرض للتقليص في ظل تلك التيارات. 

علاوة على ذلك، عبر ذبيان بثقة عن رأيه بأن التطرف ليس له مستقبل في سوريا، وهو ما يعكس قناعته بأن المجتمع السوري يتجه نحو تغييرات إيجابية تفتح آفاقاً جديدة للفن والثقافة.

تعتبر رؤية بريجاوي لمستقبل الفن التشكيلي إيجابية، حيث تتطلع إلى أن يلعب الفن دوراً هاماً في بناء ثقافة حيوية ومجتمع إنساني خالٍ من آثار العنف والقمع. بينما أعرب الفنان محمد أبو زينة عن قلقه من أن الظروف الاجتماعية والاقتصادية الحالية قد تجعل الفن التشكيلي يبدو كترف بعيد المنال بالنسبة للعديد من الناس.

لكن سهيل ذبيان يعتقد أن التحولات السياسية المقبلة قد توفر فرصة أكبر لحرية التعبير، ما يعزز من مستقبل الفنون البصرية في سوريا. التاريخ يؤكد أن الفنون تتأثر بالتغيرات السياسية، ووجود مناخ حر للتعبير الفني سيساهم في تطوير التجربة الفنية.

تناول الفنانون الثلاثة تأثير المناخ السياسي على الفن التشكيلي، وأشار محمد أبو زينة إلى أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي السيء، مثل الفقر والافتقار إلى الدعم، قد يحدان بشكل كبير من تطلعات الفنانين وقدرتهم على الإنتاج الفني، فالفنان وفقًا له، يحتاج إلى بيئة مُشجعة وتوافر الموارد لإبداع أعمال جديدة .

وفي هذا السياق، أعربت رولا بريجاوي عن قلقها حيال تأثير التغيرات السياسية على فرص الفنانين في التجريب والإبداع. إذ قد يؤدي عدم الاستقرار السياسي إلى عرقلة حركة الفنون، حيث يواجه الفنانون صعوبة في تنظيم المعارض أو الوصول إلى جمهور أوسع. ورغم الظروف الصعبة، ترى بريجاوي أن هناك دائمًا إمكانية للإبداع ، حيث يمكن أن تجد الفنون طرقًا جديدة للتعبير عن نفسها حتى في الأزمات.

أما سهيل ذبيان، فقد أعرب عن تفاؤله بأن الفترات الانتقالية يمكن أن تساعد في إحياء الفن، مشيرًا إلى أن التاريخ يبرهن على أن الفنون عادة ما تزدهر في أوقات التحولات الكبرى. وأكد أنه مع وجود تغييرات سياسية إيجابية، يمكن للفنانين استغلال الفرص لبناء مشهد فني أكثر حيوية وتنوعًا، ما يُعتبر مؤشرًا على انتعاش الثقافة الفنية في البلاد.

في المجمل، يُظهر الفن التشكيلي في سوريا أنه يظل مرآة للمجتمع، تتأثر بتغيراته السياسية والاجتماعية، بينما تبقى الآمال قائمة في أن تعود هذه الفنون لتغذي المشهد الثقافي وتساهم في التغيير الاجتماعي المنشود.

يبقى مستقبل الفن التشكيلي في سوريا مرتبطًا بشكل وثيق بمسعى المجتمع نحو الحرية والتغيير. فبينما قد تواجه الفنون تحديات كبيرة، فإن لديها القدرة على التأقلم والنمو في ظل أي ظروف، ما يجعلها عنصرًا حيويًا في عملية إعادة بناء الهوية الثقافية للمجتمع السوري. يترقب الفنانون عهداً جديداً من الإبداع والتعبير الفني، ويأملون في أن يصبح الفن رافداً حيوياً لبناء سوريا المستقبل.

سوريا الجديدة وتحدياتها المقبلة كما يراها كتاب وسياسيون وأكاديميون سوريون

سوريا الجديدة وتحدياتها المقبلة كما يراها كتاب وسياسيون وأكاديميون سوريون

بعد انهيار نظام الأسد الاستبدادي، تمر سوريا اليوم في مرحلة دقيقة وحاسمة من تاريخها، جراء الفراغ السياسي والدستوري الذي حصل في البلاد بعد أن فرّ بشار الأسد في الثامن من كانون الأول/ديسمبر الماضي، وظهرت أمام السوريين تحديات كبيرة غير مسبوقة، تتداخل فيها معطيات الداخل والخارج في لوحة شديدة التعقيد، لكن الأمل في بناء مستقبل سوريا جديدة يبقى مستمراً، والطريق إلى هذا المستقبل يحتاج بكل تأكيد إلى حوار سوري سوري حقيقي، يعتمد على الشراكة والعدالة، ويقطع الطريق على التفرد بالقرار أو الهيمنة الخارجية.

لقد شكّل فرار الأسد إلى روسيا برفقة عائلته، نقطة تحوّل مفصلية في تاريخ سوريا الحديث، من المفترض أن تقدم للشعب السوري فرصة للخروج من عقود من الاستبداد والقهر والقمع، ولكنها في الوقت نفسه تفرض تحديات عميقة على كافة الصعد داخلياً وخارجياً، وهو ما دعانا في “صالون سوريا” لسبر آراء عدد من السياسيين السوريين للوقوف على أبرز التحديات المقبلة التي تواجه سوريا على كافة الصعد سواء السياسة أو الأمنية أو الاقتصادية والاجتماعية... بالنظر لما يحدث اليوم في عموم الجغرافية السورية، فكان هذا الاستطلاع الذي يسبق عقد مؤتمر الحوار الوطني الشامل المفتر ض، الذي سيضم مجمل أطياف ومكوّنات الشعب السوري، والذي ستتم الدعوة إليه خلال الفترة القريبة المقبلة…

جورج صبرة: إعادة بناء الدولة ومؤسساتها

بداية حديثنا كانت مع الكاتب والسياسي جورج صبرة (الرئيس السابق للمجلس الوطني السوري، وعضو سابق في الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وقيادي في حزب الشعب الديمقراطي)، الذي قال: حقيقة هي أكثر من تحديات، لأنها قد تلامس أحياناً حافة الخطر. لأنّ المهام المطلوبة على قاعدة التنفيذ كبيرة وعديدة، تلامس إعادة بناء الدولة ومؤسساتها ومعالجة التخريب والعطب على المستوى الاجتماعي الذي سببه نظام التسلط الراحل، فارتكابات النظام الأسدي وجرائمه وأعماله التخريبية طالت كلاً من الدولة والمجتمع، وتمادت عمقاً واتساعاً على امتداد البلاد خلال أكثر من نصف قرن. أول هذه التحديات هي الأمنية وعدم الاستقرار: مخاطر إيران عبر ميليشياتها وعملائها. فانتصار الثورة السورية أكبر هزيمة لمشروعها في المنطقة. ويصعب على نظام الملالي ابتلاعها والانكفاء داخل إيران بانتظار هزيمة أخرى أو الانهيار الداخلي. وكذلك هناك المخاطر المحتملة من أزلام النظام البائد وزبانيته من مرتكبي الجرائم والمهددين بالملاحقة الأمنية. الذين يحملون السلاح ولديهم وفرة من الأموال المسروقة. وقد تتوفر لهم مساعدة خارجية. أضف إلى ذلك الصدامات المحلية مع قوى الأمر الواقع وفيما بينها، وخاصة بعد حل المنظمات المسلحة وجمع السلاح. ناهيك عن أعمال الانتقام المحتملة الفردية والجماعية، إذا تأخرت عملية العدالة الانتقالية، أو لم تحقق المطلوب.

ثانياً، التحديات الممكنة خلال مرحلة تسيير الأعمال، وأجملها بالنقاط التالية:

  – توفير الحاجات الضرورية للحياة اليومية للمواطنين. 

– تأمين عمل المؤسسات الرسمية في الداخل والسفارات في الخارج بما يلبي حاجة السوريين وتوقعاتهم.

– حماية الاقتصاد الوطني من التضخم النقدي المحتمل، وحماية السوق والمواطنين من غلاء الأسعار.

– مخاطر القلق الشعبي وردود الفعل الجماعية المعاكسة والرافضة، التي تسببها التجريبية والقرارات والإجراءات الاستنسابية، التي تتخذ دون دراسة كافية وخارج المألوف في الحياة الشعبية الراسخة.

– عدم توفر الملاءة المالية الكافية لتلبية متطلبات عمل ماكينة الدولة والنفقات الجارية بالوقت المناسب.

يضيف صبرة: هناك تحديات تشكيل مؤسسات الحكم ومنظمات العمل المطلوبة خلال المرحلة الانتقالية، بداية من المؤتمر الوطني العام، الذي يتطلب إعداداً متأنياً وشاملاً. بحيث يوفر الحضور الحقيقي والفاعل لمكوّنات الشعب السوري، مع الحرص على صحة التمثيل والخبرة الكافية وحسن الأداء. ومن ثم تشكيل هيئة حكم انتقالي كسلطة جماعية مؤقتة، تدير المرحلة الانتقالية. تقوم بمهمة التشريع ومراقبة عمل المؤسسات التنفيذية للدولة، وتوفير البيئة الوطنية والمناخات المناسبة لعملية الانتقال السياسي. إضافة إلى تشكيل المجلس العسكري لإعادة بناء الجيش والقوات المسلحة والأجهزة الأمنية، واستيعاب الفصائل والمنشقين من الضباط وصف الضباط والأفراد اختيارياً. بموازاة ذلك جمع السلاح وضمان حصرية حيازته بيد الدولة، وتشكيل مجلس القضاء الأعلى والمحكمة الدستورية العليا، وضمان استقلالهما وحرية عملهما للتدقيق بدستورية القوانين والإجراءات المتخذة من قبل كافة السلطات في المرحلة الانتقالية. ومعالجة الوضع في شمالي شرق البلاد (قسد) مع ذيوله واستطالات مؤثراته إقليمياً ودولياً.

يختم صبرة حديثه معنا حول أبرز التحديات التي يرى أنه لا بدّ من إيلائها أهمية بالغة، ألا وهي عملية العدالة الانتقالية ورد المظالم إلى أهلها ومحاسبة المرتكبين بالشكل والوقت المناسبين، وعبر مؤسسات قانونية متخصصة ونزيهة. كما شدد على ضرورة عدم وقوع السلطات الجديدة في مطب ممارسة سياسة الاستحواذ أو الانفراد أو الاستنسابية باتخاذ القرارات. كي لا يصبح الوضع بتماس مع نظام اللون الواحد، الذي يعرض البلاد والشعب لمحنة جديدة وامتحان جديد. وأخيراً أشار إلى المخاطر الدائمة والمتصاعدة من “إسرائيل”، التي تتصرف في المنطقة دون رقيب أو حسيب.

صلاح بدرالدين: حل القضية الكردية السورية بشكل ديمقراطي سلمي

من جهته، يرى الكاتب والسياسي الكردي السوري صلاح بدرالدين أنّ سوريا تحوّلت منذ أكثر من نصف قرن في ظل نظام البعث إلى سجن كبير، حُرم فيه السوريون من الحرية، والعيش الكريم، وتعرضوا لمختلف أنواع القهر، والقمع، والاعتقال الكيفي، وعندما انتفضوا بشكل سلمي في سياق ثورات الربيع التي اندلعت في معظم بلدان المنطقة ومن خلال التظاهرات الاحتجاجية من أجل الخلاص، ناشدين الحرية والكرامة، قُمعوا بالحديد والنار، والتدمير، والإبادة، حيث استخدم نظام الأسد كل إمكانيات الدولة العسكرية، والأمنية، ومواردها الاقتصادية ضد الشعب السوري، بالإضافة إلى انتهاكه للسيادة باستقدام جيوش الدول الأجنبية، والميليشيات المذهبية لاستكمال حرب الإبادة والتقتيل، والتهجير.

وبعد نحو أربعة عشر عاماً من اندلاع الثورة السورية، وبعد أن واجهت العديد من التراجعات، والانتكاسات – لسنا بصدد مراجعتها الآن – فقد توجت بإقدام فصائل عسكرية ثورية، وفي ظل ظروف محيطة مواتية بتحرير المدن السورية الرئيسية انتهاء بالعاصمة دمشق في الثامن من كانون الأول/ديسمبر ٢٠٢٤، وسقوط نظام الاستبداد بعد أكثر من نصف قرن، وانبثاق سوريا الجديدة.

يتابع بدرالدين قائلاً: معلوم أنّ هناك جملة من التحديات الحقيقية تواجه العهد الجديد، ومن أبرزها: أولاً: بداية لا بدّ من التأكيد أنّ ما بناه نظام الاستبداد طيلة خمسين عاماً من قواعد بنى تحتية، ومؤسسات في المجالات العسكرية، والأمنية، والاجتماعية، والاقتصادية، والحزبية، والإدارية، لا يمكن تغييرها في غضون أسابيع وأعوام ، ومن جانب فصائل محددة، بل يحتاج الأمر إلى المزيد من الوقت، وإلى التعاون بين مختلف القوى والأطراف، والمكوّنات التي شاركت في الثورة والمعارضة، بل يحتاج أيضاً إلى المشاركة الشعبية العامة التي لها مصلحة في إرساء نظام وطني ديمقراطي يرعى مصالح الغالبية الساحقة من الشعب السوري، ويحقق الأمن والاستقرار والسلام المجتمعي.

ثانياً: قد تكون الإدارة الجديدة محقة بشأن ضرورة توفر الانسجام بين الفريق الحاكم لفترة معينة إلى حين استتباب الأمن، وإنجاز بعض الخطوات ذات الطابع العسكري – الأمني، والإداري الخدماتي، ولكن من الأفضل أن لا تطول هذه المدة أكثر من اللازم.

ثالثاً: لا نكتشف جديداً بخصوص التحديات الماِثلة، فقد كان من صلب أهداف الثورة السورية (المغدورة) إسقاط الاستبداد، وهو ما تحقق كخطوة أساسية مفتاحية أولى.

رابعاً: أما التحديات الأخرى التي تتطلب المواجهة مثل تحقيق الحرية، والكرامة وإجراء التغيير الديمقراطي، وتطبيق العدالة، ومحاسبة من تلوثت أياديهم بدماء السوريين، وإعادة البناء، والإعمار، وعودة المهجرين، والنازحين، ووضع حد لسلطات الأمر الواقع المعلنة هنا وهناك، واستلام جميع أنواع الأسلحة خارج نطاق سلطة الدولة، وضم كل المناطق إلى سلطة الدولة السورية الحرة، بالتوازي مع مغادرة كل الجيوش الأجنبية المحتلة، والسيطرة على جميع المطارات، والمعابر الحدودية، وتوفير مقومات التنفيذ مثل إعادة بناء القوى العسكرية، والأمنية بعقيدة جديدة تنسجم مع مرحلة الحرية والسلم، نقول إنّ إنجاز هذه المهام يحتاج إلى مشاركة كل المكوّنات، وجميع التيارات السياسية الوطنية المناضلة من أجل الحرية والتقدم وبناء سوريا الجديدة.

خامساً: بعد عودة السوريين إلى بلادهم من مواقع الهجرة والشتات، من الضرورة بمكان إجراء إحصاء سكاني عام لمعرفة حقيقة العدد الإجمالي للسوريين، ونسب مكوّناتهم القومية، والاجتماعية، والثقافية، وعلى ضوء ذلك يتم الاستجابة للاستحقاقات الدستورية، والقانونية، والإدارية في سوريا الجديدة.

سادساً: حل القضية الكردية السورية بشكل ديمقراطي سلمي من أهم التحديات التي تواجه سوريا الجديدة، مع الأخذ بعين الاعتبار طوي صفحة، بل تجاوز ما حصل بشكل استثنائي منذ أربعة عشر عاماً، من جانب قوى، وأحزاب (كردية!) أيديولوجية، مرتبطة بالخارج، (هناك تجربة مماثلة على الصعيد السوري) أضافت تعقيدات مضاعفة إلى قضايا الكرد السوريين، بل حرفت المسألة عن مسارها الديمقراطي الإنساني الصحيح، فالخارطة السياسية للحالة الكردية السورية الخاصة تؤكد على حقائق جديدة وأهمها عدم مقبولية تحكم الأحزاب، وادعاءاتها الباطلة (بتمثيل شرعي وحيد) للكرد السوريين، وازدياد أعداد الوطنيين المستقلين خارج أطر الأحزاب إلى درجة الغالبية الساحقة، هذه الغالبية تشكّل الآن – الكتلة التاريخية – التي انخرطت بالثورة السورية، وربطت قضاياها بمصير الوطن، بعكس معظم أحزاب طرفي (الاستعصاء) في الساحة الكردية السورية التي حملت ومازالت تحمل الأجندة الخارجية، بل قسم منها يدعو إلى تدخلات خارجية من جانب أطراف لم تكن يوماً صديقة للكرد ولا لعموم السوريين، ومن حق هذه الكتلة التاريخية على الإدارة الجديدة المزيد من الرعاية، وقبولها كطرف كردي سوري وطني محاور، وشريك أساسي في إعادة بناء الوطن، وتحمل المسؤوليات.

وفي ختام حديثه مع “صالون سوريا”، يؤكد بدر الدين أنه على السوريين جميعاً أمام الامتحان، ولا شكّ أنّ اتحادهم كفيل بتحقيق الانتصار النهائي.  

عبدالله تركماني: تكريس القواعد الديمقراطية وبناء المؤسسات الدستورية

أما الباحث الأكاديمي والكاتب في الفكر السياسي الدكتور عبدالله تركماني، فيرى أنه بعد أن سالت دماء سوريات وسوريين من أجل التغيير الوطني الديمقراطي أضحى هذا التغيير على جدول الأعمال السوري بعد سقوط سلطة آل الأسد يوم 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، لذلك من المهم محاولة رؤية أهم التحديات السياسية والاجتماعية في سوريا الجديدة. استناداً إلى القياس على مطالب السوريين في التحوّل المؤسسي القائم على مجموعة قيم: الحرية والكرامة والشفافية والديمقراطية وحقوق الإنسان. 

ولا شكّ أنّ تحديد الأولويات ومراجعة الأهداف المزمع تحقيقها ضرورة ملحة في سوريا الجديدة، ليتم التركيز على متطلبات تكريس القواعد الديمقراطية وبناء المؤسسات الدستورية ومعالجة المشاكل المعيشية وتحديث الهياكل والبنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتحقيق التنمية والارتقاء بمستويات القدرات السورية.

تركماني أردف قائلاً: إنّ سوريا أحوج ما تكون إلى دولة كل مواطنيها بلا استثناء ولا تمييز، يشارك فيها الأفراد والمكوّنات الاجتماعية مشاركة فعلية من خلال المؤسسات. والحل المجدي الوحيد يكمن في قيام الدولة، التي عمادها المواطنة الكاملة القائمة على دستور عادل لا يميّز بين المواطنين على أساس ديني أو مذهبي أو قومي. ومن غير الممكن تصوّر سوريا لكل مواطنيها بمعزل عن عودة الروح إلى المجتمع المدني، وضمان مؤسساته المستقلة عن سلطة الدولة، كي يسترد المجتمع حراكه السياسي والثقافي، بما يخدم إعادة بناء الدولة السورية الحديثة. 

كما أنّ عملية التحوّل الديمقراطي تقتضي إعادة صياغة القيم السائدة، وتغيير أنماط السلوك من خلال مجموعة كبرى متكاملة من التحوّلات. فحين يصبح هذا التمييز منغرساً في وعينا الجمعي، نستطيع ترتيب ولاءاتنا بشكل عقلاني وسليم، حيث تنتصب الدولة الوطنية، باعتبارها دولة حق وقانون، في المقام الأول، وتتصدر غيرها من الإعاقات، وهي كثيرة في سوريا، وفي مقدمتها حصول مصالحة مزدوجة: مصالحة المجتمع مع الدولة السورية الجديدة، على أنها بيت للجميع، ومصالحة الدولة مع المجتمع، باعتباره محور الدولة. ومما يؤسف له أنّ ما جرى من فصل بين الذكور والإناث في باصات النقل الداخلي العامة والخاصة، وكذلك القلق المسيطر على أبناء الطائفة العلوية بعد الحملة الأمنية للسلطات الجديدة في أحيائهم، إضافة إلى القرارات التي صدرت بشأن التعديلات في البرامج الدراسية، مثل: إلغاء وحذف قصائد الغزل، ومدونة حمورابي، والملكة زنوبيا، وإلغاء الموسيقى والأوبرا أثار جدلاً واسعاً وقلقاً شعبياً واعتراضاً في الشارع السوري، ما يشير إلى صعوبة المصالحة المطلوبة بين الدولة والمجتمع.

أخيراً يؤكد الدكتور عبدالله تركماني، على أنّ الحكم الصالح اليوم يتطلب دستوراً جديداً يؤكد قيم الحرية والعدالة، وينجح في إرساء تقاليد التداول على السلطة في ظل انتخابات حرة وشفافة وضمانات لكل مكوّناتالمجتمع مختتماً حديثه بالتساؤل التالي: هل يكون النظام الانتقالي مفتاحاً لتوافق سوري عام على محتوى التغيير المقبل، وفسحة لانتقال سلمي وهادئ نحو نظام جديد في سوريا؟  

محمود الحمزة: الحاجة لهيئة حكم انتقالية تمثل أوسع أطياف المجتمع

بدوره، يبين الأكاديمي والسياسي الدكتور محمود الحمزة، أنّ الشعب السوري استطاع بعد كفاح طويل ومكلف أن يسقط نظام الأسد الاستبدادي الذي ترك وراءه بلداً محطماً ومدمراً في كافة المجالات: الاقتصادية والثقافية والمجتمعية – البنية التحتية- المعيشية – التعليمية- الصحية- المؤسسات. وبالرغم من ذلك علينا اليوم أن ننطلق من كون سوريا بلد الحضارات والثقافات ومهد الديانات، ويجب أن تكون الجمهورية السورية الجديدة نموذجاً عصرياً ديمقراطياً، مع التأكيد على انتمائها التاريخي والحضاري والثقافي للمحيط العربي والإسلامي. وأشار الدكتور الحمزة إلى أنّ ما حدث في سوريا انتصار تاريخي لم يحصل مثله منذ قرون عديدة ويجب على السوريين جميعاً وبلا استثناء الحفاظ عليه وحمايته من قوى الثورة المضادة في الداخل والخارج، على مبدأ “سوريا لكل السوريين”.

يضيف الحمزة: نلاحظ أن قيادة السلطة الجديدة تتمتع بالنظرة البراغماتية وهي تطوّر خطابها ومواقفها العملية تبعاً للظروف، خاصة زعيمها أحمد الشرع الذي يظهر صورة القائد الحقيقي السياسي والوطني والدبلوماسي، وخطابه متوازن ويتمتع بحكمة ورصانة في الطرح. وواجبنا الوقوف إلى جانبه ودعمه والمساعدة في تجنب الأخطاء قدر الإمكان.

أما أهم التحديات التي يجب على القيادة الجديدة حلها سواء بالموقف السياسي أو الإجراءات العملية، وفقاً للحمزة، هي: الإسراع في اتخاذ إعلان دستوري أو اعتماد دستور 1950 مع بعض التعديلات وهذا أمر ملح لإعطاء صفة قانونية وشرعية للسلطة الجديدة ويسرع بالاعتراف بها بشكل رسمي دولياً. إنّ سوريا بحاجة لهيئة حكم انتقالية تمثل أوسع أطياف المجتمع من الكفاءات لكي تشرف على عقد مؤتمر وطني سوري ولاحقا تشرف على تشكيل حكومة انتقالية وإعداد دستور للبلاد وانتخابات برلمانية ورئاسية. ويجب أن تُصدر هيئة الحكم الانتقالية بياناً موجهاً إلى الشعب السوري يوضح التوجهات السياسية للمرحلة الانتقالية.

يؤكد الأكاديمي والسياسي الدكتور محمود الحمزة، أنّ سوريا بأمس الحاجة لمؤتمر وطني سوري جامع يجب أن يتم التحضير له بشكل جيد من قبل لجنة تحضيرية مكوّنة من شخصيات وطنية وكفاءات سورية مستقلة تمثل أوسع شرائح المجتمع السوري. ومن أهم قرارات المؤتمر التأكيد على هدف بناء دولة سورية واحدة وحكومة وطنية واحدة وجيش سوري واحد، والالتزام بوحدة سوريا أرضاً وشعباً وألا يكون هناك خارج سلطة الدولة أي فصائل مسلحة أو سلطات أمر واقع. كذلك يجب أن يحدد المؤتمر ملامح الدولة السورية الجديدة وخاصة في أن تكون دولة مدنية ودولة المواطنة. 

يختتم الحمزة حديثه مع “صالون سوريا” قائلاً: الدستور الجديد من أهم المنجزات التي يجب العمل عليها وذلك يجب أن ينتج عن المؤتمر لجنة من الخبراء المشهود لهم بالكفاءة والاستقلالية لصياغة مسودة دستور عصري يحفظ حقوق الأفراد والجماعات وحقوق المرأة والشباب وحرية الاعتقاد والتعبير عن الرأي. وبعد ذلك يعرض الدستور على الاستفتاء الشعبي بمشاركة مراقبين دوليين. ويجب تحديد المدة اللازمة (على ألا تزيد عن ثلاث سنوات) لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية لكي تنتقل سوريا إلى المرحلة الشرعية الكاملة المنتخبة.

انتهت الحملة الأمنية في مدينة حمص ولم ينته الخوف

انتهت الحملة الأمنية في مدينة حمص ولم ينته الخوف

لا أعرف من روى نكتة أنه لو فُرض علينا حظر تجول لخرجنا نتفرج على حظر التجول! هذا ما حدث في الحي عند بدء الحملة الأمنية على بعض أحياء حمص التي وُصمت بالموالاة للتفتيش عن السلاح وفلول النظام كما قيل، إذ خرج سكان الحي ووقفوا “يتشمسون” أمام أبواب البيوت كي يراقبوا السماء حيث كانت الطائرات المسيرة تصور الحركة في الأحياء، محاولين استطلاع تقدم عمليات التفتيش في الشوارع.

ربما كان هـذا فضولاً أو رهاناً على الآخر الجديد والغريب الملثم بقناع ردع العدوان، من البسطاء الذين استغلهم بشار الأسد والذين تمنوا سراً كل يوم سقوطه. 

أربعة عشر عاماً من القمع والقصف والتعذيب في السجون وشيطنة الآخر وتجريمه بالخيانة والطائفية على يد النظام الذي زج بالشباب السوري في الدفاع عنه في حربه الطويلة ضد الثائرين عليه، بينما كان على مدى خمسين عاما يعمق الطائفية بين مكونات الشعب السوري فلم يتوقف منذ الثمانينات عن ضخ الماء العكر في القنوات ليسمم مكونات المجتمع. وبدل أن يمد جسور المواطنة كان يقطعها بتغذية الانتماءات الطائفية  والعشائرية والعائلية ليحافظ على وجوده أولاً وعلى خزان القوى البشرية لجيشه وعلى دعم فئات لها وزنها خارج البلاد.

إشارة استفهام حول معايير اختلاف التعامل مع السكان  

بدأت الحملة الأمنية دون إنذار مسبق، إذ استيقظنا على صوت رشقات  الرصاص من عدة أنواع من السلاح، للوهلة الأولى كنا بحاجة لوقت لاستيعاب الحدث وما يمكن أن يليه فكل الاحتمالات ممكنة، والخوف حالة غريزية عند الإنسان يثيره المجهول وغير المجرَّب حتى الآن. كان الوقت يمر ببطء في انتظار وصول الشباب للتفتيش حتى سمعنا صوت يحث الجميع على الدخول إلى المنازل، ولعلها نكتة حمصية أن نقول: إن الذين انصاعوا قلائل. 

عرّف شباب الحملة عن أنفسهم بالشرائط الملونة على الكتف وكان بعضهم يضع شرائط حمراء وبعضهم الآخر صفراء وخضراء فهل اختلف السلوك حسب لون الشريطة أم حسب الحي؟

بعضهم دخل المنازل وهو يعتذر قائلاً إنه لا يمتلك وقتاً لخلع الأحذية وعبر عن أسفه للأمهات لأن سجاد المنزل قد يتسخ، وبعضهم الآخر زاد على تهذيبه بعض التلميحات التي تحمل اللوم والتنديد بصمت سكان هذه الأحياء على قصف النظام لهم والمقارنة بين دخولهم إلى بيوتها ودخول شبيحة النظام الساقط إلى بيوتهم في سنوات سابقة وكيف أن الشبيحة لم يتورعوا عن ارتكاب المذابح والمجازر والتقاط الصور مع الضحايا.

بعضهم قام بكسر الآلات الموسيقية والشاشات ربما لأنه يرى الموسيقا حراماً والتلفاز بدعة! وثمة من لم يكتف بالكلام، بل صب جام غضبه المكبوت على بعض الشبان ضارباً ومعنفاً ومهيناً لهم إذ تناقلت الصفحات فيديوهات لإذلال الشباب بعد جمعهم سواء بالضرب أو الطلب منهم القيام بالنباح أو تقليد صوت الحمار. 

وهو ما كان يفعله سجانو النظام  مع السجناء بإجبارهم على النباح أو تقليد أصوات الحيوانات،  فهل فكر هؤلاء الشبان وهم  يقومون بذات الفعل الذي قام به سجانو الأسد في النظام السابق بخطورة فعلهم؟ وهليفكرون بتحويل سوريا إلى سجن كبير؟ 

عدالة أم انتقام؟

كان الخطر يكمن في طبيعة النظرة التي تم إيصالها للآخر فهو حين يجبره على تقليد صوت حيوان عملياً يقول له إنه يراه بهذا المستوى ويحط من  كرامته الإنسانية إلى مستوى أقل في التطور، وهذا يعني أنه لا يريده شريكاً، وعلاقته لن تتعدى هذا المستوى. نتذكر كيف كان ينظر البيض إلى الأفارقة على أنهم بمستوى أقل إذ كان في بداية القرن الماضي يتم عرضهم في أقفاص، وهو ما يشابه ما قامت به السلطة النازية بإذلال الشعوب الأخرى على أساس التمييز العرقي.

يرافق الإذلال حين يكون علنياً ومصوراً إحساس بالخزي والعار وهنا يترك الممارس عليه عرضة لحالات مختلطة تتوقف على كونه فردياً أو جماعياً و تتراوح بين الانتحار والانتقام فإن كانت الجهة التي تمارسه لها شكل سلطة واضح ومحدد يزداد الشعور بعدم القدرة على رد الاعتبار وهو ما يمكن أن نراه في حالة البوعزيزي الذي أشعل الربيع العربي، أما إن كان غير ذلك فقد يؤدي إلى محاولة رد فعل عنفي، إذ يسقط الإنسان المقهور ذات الفعل على غيره في محاولة التعويض النفسي للإحساس بالخزي.

هل من عدالة في شعار من يحرر يقرر؟

سُجلت هذه الانتهاكات كحالات فردية وشعر الناس بالراحة بعد انتهاء الحملة الأمنية لكن ما حدث من حالات فردية زرع الخوف من طبيعة المرحلة القادمة في البلاد خصوصاً بعد الرد على كل انتقاد بشعار من يحرر يقرر وهذا تلميح بالسعي للانفراد بالحكم ورغبة ضمنية بإقصاء الآخر وتغيير جوهر الثورة التي قامت على أساس رفض ديكتاتورية الأسد التي انفردت بالحكم وأقصت سائر فئات الشعب الأخرى، الثورة التي نادت بالحرية هدفاً أول.

 إن هذه الأفعال الانفعالية والشعارات لا تبني سوريا القادمة التي تحتاج  إلى كل الجهود والترفع على الآلام والماضي مع محاسبة المجرمين والقتلة فالعدالة التي تبني سورية ليست الانتقامية والثأرية بل عدالة قانونية تستهدف كل من حمل إثم الدم السوري.

إن اللجوء إلى الفعل الانتقامي دون رقابة أمنية خطير لأنه يهدد الشراكة التي تقوم عليها الدولة والتي قام الأسد ونظامه بتدميرها، ليس فقط كمؤسسات بل أيضاً كقاعدة شعبية، ولنتذكر الآية الكريمة “لا تزر وازرة وزر أخرى” فبعض الشبان الذين تعرضوا للإذلال من أعمار صغيرة ولم يشاركوا بأي فعل عنفي  يستحق الانتقام. 

تم اعتقال كثير من الشبان أثناء ذلك، ثم تم الإفراج عن 360 شاباً منهم فقط بينما ما زال الأهالي ينتظرون أولادهم على أحر من الجمر. 

في هذه الأثناء تتواصل حوادث الاختطاف وتهدد السلم الأهلي في المدينة بينما يعرف الجميع أن التركة التي ورثها الشعب السوري من النظام الساقط ثقيلة كهذه الأيام، والكل يتمنى أن يتجاوز ذلك بأقل الخسائر، فهل ينجح؟