القتل في سوريا…كيف أصبح أمراً عادياً

القتل في سوريا…كيف أصبح أمراً عادياً

سبعة أيام تفصل بين تقديم مقترح التحقيق وتسليمه. بالضبط 168 ساعة من عمر سوريا. خلالها، حصلت 8 جرائم قتل هزت البلاد من الساحل إلى السويداء مروراً بدمشق.
أما الضحايا كباراً وصغاراً ذكوراً وإناثاً، تعددت طرق الجريمة مرة بفأس وأخرى بسكين، وثالثة برصاصة وكل هذه الأدوات لم تكن عابرة لأرواحهم/هن، بل كانت نهاية حياة في بداية 2022.
بدأت الحكايا من صبية جريئة تحدثت بصوت مرتفع عن قضية المغدورة آيات الرفاعي، القضية التي وحدت السوريون على اختلاف آرائهم السياسة والاجتماعية، ومنذ مقتلِ آيات تتوالى الجرائم تباعاً، رغم التحرك السريع للجهات المعنية!
لماذا كل هذا العنف؟ وهل جعلت الحرب السوريين عنيفين بالفطرة؟ أم أن العنف نتيجة طبيعة بعد 10 سنوات حرب؟ كيف يتجرأ قاصر على قتل أخته؟ وكيف تكون الرصاصة أسهل من ضربة كف؟ ماذا ينتظر مستقبل البلاد أمام كل هذا العنف؟ هل القانون قاصر؟ هذه هي جمل “مونولج” داخلي يدور في ذهن كل من يفكر قليلاً بما جرى في 7 أيام من تاريخ هذي البلاد، التي مازالت تخسر أرواحاً بشتى الطرق.

الموت واحد
هي شعرةٌ بين رفع اليد للقتل وبين التنفيذ، يُحَمِلُ السوريون/ات الحرب السبب الأول لازدياد الجريمة في البلاد، لكن يصنف عامي 2020 و2021 من أكثر الأعوام ارتكاباً لفعل الجريمة البشرية أي القتل بين المدنيين خارج حدود المعارك والنزاع على الجبهات. تشير الاحصائيات الرسمية السورية الى أن 297 جريمة قتل حصلت عام 2021، وهذه الإحصائية لا تشمل الثلث الأخير من العام الفائت.
تتحدث الاختصاصية في علم النفس هبة موسى لـ “صالون سوريا” عن عدة أسباب باتت تجعل فعل القتل أمراً عادياً: “الحقد، الغيرة البيئات الاجتماعية المختلفة، الألعاب الالكترونية ، البابجي نموذجاً”.
أما الجرائم ودراستها وتحليلاتها، فتشير موسى الى أنها تُدرس حسب أسلوب التعاطي والتربية والعمر لمن قام بالجريمة.
أما الأساليب المتجددة لـ “القتل تحديداً” وخصوصاً ما يفعله به الأطفال، فتتصدر المشاهد العنيفة التي تلاقاها السوريون والسوريات خلال 10 سنوات حرب السبب الأول، فهي كانت خزين الذاكرة لديهم، فأصبح قتل الشخص الذي يسبب الإزعاج لشخص آخر هو الحل الوحيد.
يوافق المحامي رامي جلبوط الاختصاصية النفسية في الجزئية المتعلقة بتأثير الحرب على ارتفاع نسبة الجريم، لكنه يصنف في أنواع الجرائم التي ارتفعت كثيراً في السنوات الأخيرة من تاريخ سوري. ويقول لـ “صالون سوريا”: “الجرائم الواقعة على الأموال تتصدر اليوم المرتبة الأولى”، موضحاً أن “تدهور الأوضاع الاقتصادية العامة، فقدان المواطنين لمدخراتهم على مدار سنوات الحرب، الارتفاع في نسب التضخم أفقدت المدخول الحقيقي للفرد قيمته بالتوازي مع ارتفاع كبير جداً بالاحتياج للنقود لتغطية المصاريف الضرورية”.
هذا ما دفع الكثيرين لارتكاب جريمة السرقة بكافة أشكالها، والنشل على وجه التحديد في محاولة تأمين مصادر دخل إضافية، حسب جلبوط. ويضيف ان هذا الأمر “ترفق مع ظهور فئة جديدة من الأثرياء الذين اغتنوا من الحرب والذين لم يستطيعوا كبح جماح رغبتهم في إظهار ثرائهم الجديد، مما دفع الآخرين لمحاولة تحقيق توازن فيما بينهم وبين الأثرياء الجدد عبر اقتناص أموالهم مبررين ذلك أخلاقياً بالنسبة لهم بأنهم يسرقون من السارق”. ويعطي مثالا على هذه الجرائم ما يتعلق بـ “قيام المحاسبين باختلاس أموال التجار الذين يعملون لحسابهم وذلك بعد رؤيتهم لكمية الأرباح الضخمة التي حققوها من خلال استغلال ظروف الحرب”.
وهذا يرتبط مع تحليل هبة موسى الاختصاصية النفسية، باعتباره “احد أشكال الحقد الطبقي الذي يولد فعل القتل عند البعض”.

حياة روح!
هذا العنوان غير مُعَرَف، ربما يعتبره بعض مختصي اللغة أنه “خطأً قاتل”. يشبه هذا العنوان حياة الطفلة التي وجدت أمام أحد مستشفيات اللاذقية وأسموها الأطباء “روح”، ويشبه أيضاً حياةَ طفل ملفوف بورقة بيضاء في حماه كتب عليها “ابن حلال”.
تعددت أشكال القتل عن سابق إصرار وتصميم في البلاد، ومنها مايشبه القصتين. أبرياء يصبحون بلا نسب بسبب نشوة حب عابرة، أو ربما بسبب عدم القدرة على شراء علبة حليب لهذا الطفل أو الطفلة. وهذه أيضاً يصنفها القانون أنها جرائم. وأشارت إحصائية رسمية في صيف 2021، أن عدد الأطفال المجهولي النسب كان 112 طفلاً وطفلة.
من أنواع الجرائم التي تحدث عنها المحامي رامي جلبوط أيضاً، الانتحار وزدادت نسبته في سوريا، رغم أن العام الماضي أي 2021 انخفضت نسبته حسب تصريحات رئيس الطبابة الشرعية في سوريا الدكتور زاهر حجو للصحافة الرسمية في البلاد. ووصلت إلى 30 حالة انتحار، غالبيتهم من الشباب والشابات.
وتعزو هبة موسى هذا الى “الوضع الاقتصادي للشباب اليوم، والضغوطات النفسية، والشعور باللاجدوى من المستقبل، وحلم الهجرة وعدم القدرة على تنفيذه كلها عوامل محرضة لإنهاء الحياة”.
ومن حالات الجرائم التي انتشرت أو ربما الأدق ظهرت أكثر إلى العلن أثناء الحرب، هي الجرائم بحق النساء، أي جرائم “العنف القائم على النوع الاجتماعي”، بدءاً من قصة الفتاة السورية في مدينة الحسكة التي حاولت رفض الزواج من ابن عمها فقتلها أهلها، والأخرى في مدينة السويداء التي طاعت أهلها ورفضت شخصاً يحبها فقتها، وآيات التي عملت كجارية حسب الروايات الأهلية.
كل هذه الحالات ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي بنشرها، وأقر الاختصاصيون النفسيون والاجتماعيون والحقوقيون وجودها قبل الحرب، لكنها زادت أثناء الحرب، وتفاقمت أثناء فترة وباء”كورونا”، حسب الاختصاصية موسى. أيضاً ليست هناك إحصائيات رسمية سورية، بل تشير الاحصائيات التي وثقتها بعض المنظمات إلى حدوث 24 حالة تم توثيقها، وبالطبع هناك الكثير من الحالات التي لا يمكن توثيقها، ودفنت مع سرها أيضاً.

رأي مدني؟
هل بات المواطنون/ات اليوم لا يهابون القانون؟ هل بات السجن أو الإعدام عادي بمختلف أنواع الجرائم طبعاً، السرقة، القتل، النشل، الشروع بالقتل وغيرها، أم أن القانون يجب أن يكون حازماً أكثر؟ أين دور المجتمع المدني ومؤسساته الناشطة في سوريا؟
تجلب الحرب كل ويلات التمرد، والدمار النفسي الاجتماعي والاقتصادي، تفقد الناس ثقتهم بكل شيء حتى بأنفسهم فينتحر بعضهم أحياناً، ويقتل آخرون. ويلتزم الكثير منهم الصمت، ويذهب آخرون وأخريات للتباهي بكسر القوانين والتحايل أيضاً على القانون، ليشعروا/رن بالنشوة الزائفة والقوى الزائفة حسب الاختصاصية موسى.
وفي حديث عن القانون السوري، يشير جلبوط الى ان القوانين السورية “ممتازة بمعظمها. الطائفة الأوسع من مختلف الجرائم ويتصدى المُشرع السوري للجرائم الجديدة بنسبة مقبولة من سرعة الاستجابة ولا أعتقد أن وضع القوانين الحالي قد أثر في ارتفاع نسبة ارتكاب الجريمة”، منوهاً أن مواجهة الجريمة “لا تكون بقرارات أو عمل جهاز أو شخص أو وزارة واحدة. مواجهة الجريمة تكون باستراتيجية تتبناها الدولة بكافة أجهزتها وبمعاونة مؤسسات المجتمع المدني تبدأ بالدرجة الأولى بنشر الوعي والثقافة العامة ونشر الثقافة القانونية لأن الجريمة ابنة الجهل:.
إذاً أين المجتمع المدني؟ يتحدث الناشط المدني أنس بدوي لـ “صالون سوريا” عن دور المجتمع المدني مقدماً قضية الشابة آيات الرفاعي كمثال، قائلاً: “لا شك أن واحدة من أهم الملاحظات على كيفية التعاطي مع الجريمة هو أهمية الحشد والمناصرة التي قام بها المجتمع المدني والذي حرك فيها الرأي العام من خلال تسليط الضوء على العقوبات وتسليط الضوء على أهمية وجود قانون وتشريعات حساسة للنوع الاجتماعي تحمي المرأة والنساء وتسليط الضوء على المواد الحقوقية من حق والحياة، لكن هنا يجب أن نقف عند التحرك الإيجابي الذي قانت به الحكومة تجاه قضية آيات الرفاعي رغم الكثير من المأخذ هل هي استجابت بالفعل للرأي العام والمجتمع المدني؟ أشك في ذلك”، على حد تعبير بدوي. ويتابع أن الحكومة إما استجابت للرأي العام أم خشيت من تنامي رد الفعل الشعبي؟ أو أنها بالفعل رأت أنها قضية يجيب تسليط الضوء عليها أو لفت النظر عليها.
يقال ان “العبرةَ في الخواتيم”. اختلفت أسماء الضحايا على امتداد مساحة الجغرافية السورية، فهل يعتبر من يفكر بالجريمة أياً كانت اليوم؟ ربما لا تتساوى الجرائم وكذلك لا تتساوى العقوبات، فلكل فعلٍ عقوبة تناسبه في القوم، لكن تبقى “جريمة”، من سوف ينسى كيف تكلم قاتل شقيقته عن جريمته الكاملة بهدوء أمام الكاميرات؟ ومن سينسى مونولجاً دار في رأسه عن طريقة موت آيات ومحمد الذي قتلته خالته امرأة أبيه!

دمشق…الرمق الأخير

دمشق…الرمق الأخير

على باب المنزل امرأة مع طفلتيها، صممت كيسا قماشيا ثنائي الجيوب. في يد كل طفلة كيس، والجيوب مخصصة لمواد محددة، ترجوك المرأة أن تضع ما تيسر لك او ما ترغب في إيداعه في كل جيب.
بوجه يبتسم رغما عنه، وبلغة منكسرة وصوت خافت تقول المرأة: “كل عام وأنتم بخير! ساعدونا لجمع مونة رمضان يا أهل الخير”.
جيب للأرز وآخر للسكر وثالث للبرغل ورابع للبقول. وفي يد الأم، كيس قماشي كبير للمعلبات او للكعك والخبز وسواها. يبدو أن الطفلتين قد تدربتا على مهامهما بشكل جيد، تستلمان ما يعطى حسب محتوى الكيس المحمول بيد كل طفلة، تفرغان المحتويات الممنوحة في الجيب المخصص، لا تبتسمان ولا تنبسان بحرف. هما هنا من أجل مهمة محددة، وإن جرب أحدنا تقديم قطعة بسكويت أو حلوى لهما، تنتظران أمرا من والدتهما لأخذها.
يبدو المشهد وكأنه فيلم قصير مبتكر، دراما تلفزيونية محبوكة بإبداع وحرفية عالية. هل يمكننا التجرد من البؤس الماثل والمكثف أمامنا؟ هل يمكننا الحكم على جودة المشهد وكأننا حكام فنيون متخصصون؟
لن نفاجأ بتلك المخيلة التسولية المرتبة، تنظيم دقيق وفائق لطلب الحاجات الأساسية! ليس مهما أبدا أن تصدق المرأة، تقول في نفسك حتى لو كانت تريد بيع ما تحصل عليه، فلتبعه وتشتري دواء أو تدفع إيجار البيت!!! كل شيء بات معدوما ويتعثر الحصول عليه.

سؤال الفقر
لم يعد سؤال الفقر مؤرقا ولا مدعاة للخجل، يشعر السوريون والسوريات، بل وفي حقيقة الأمر هم لا يشعرون، بل يعانون من فقر شديد ومن حياة أشبه بحياة التسول، وكل الاحتيالات المكشوفة حول تبادل الموجود كل حسب حاجته هو مدعاة للقهر الشديد، لأنه اعتراف صريح وواضح بمدى إلحاح الحاجة وضحك على النفس بأن عين العقل هو تطبيق نظرية التبادل السلعي ولو كانت ممعنة في هشاشتها وقلة فعاليتها.
تتضافر العوامل الداخلية والخارجية لتزيد من استحالة توفير الحدود الدنيا من أساسيات العيش للسوريين والسوريات، بلد منهك وفساد معمم وموارد شحيحة، لا كهرباء ولا دواء إلا لمن يملك مالا وفيرا وغير متعوب فيه كما تصفه الغالبية، أي أنه مال أسود تحصل من تجارة سوداء، بمواد تستجلب القتل والقهر والتجويع وتسرق كل ما هو متاح ولو كان ملكا صريحا وصحيحا للآخر بالقوة والبلطجة في ظل غياب شبه تام للقانون.
كما أن كل الواردات والمساعدات من الأهل والأصدقاء خارج الحدود لم تعد كافية لدفع إيجار البيوت أو تكاليف إقامة لليلة واحدة في أحد المشافي الخاصة.
وهذه المدينة وناسها وأهلها ألا يستحقون الكتابة عنهم خارج عملية الإنكار المزمنة لكل هذا القهر والتجاهل والموت المنظم وكأنه العملية الأكثر انتعاشا، كيف لمدينة بكل هذا الحضور والعوز أن تُشطب من قوائم الأخبار والمتابعات الإعلامية؟

موطئ “دعسة”
على موقف الباصات ينتظر كثيرون موطئا لدعسة قدم في أي حافلة متهالكة أو باص يتدلى الناس منه كأحشاء لفظها بطنها. يأتي مازن حاملا لفافة فلافل بيده. إنها الساعة السادسة مساء والجوع قد استفحل في المعدة الخاوية. يحاول مازن دعوة صديقه لمشاركته الطعام، علامات التردد واضحة عليه، وكلما جدد الدعوة لصديقه، كلما أحكم قبضة يده على اللفافة، لكن صديقه الجائع مثله وربما أكثر، يقترح حلا! يخاطب صديقه قائلا: “اقسم اللفافة بيننا، نسكت جوعنا حتى نصل بيوتنا وأعطيك نصف ثمنها”. يوافق مازن بسرعة، يبدو أن خطة صديقه “الذكية” ستوفر عليه ألفا وخمسمائة ليرة ثمن نصف السندويشة التي شعر وهو يسدد ثمنها بالندم، لكن الجوع أقوى وأشد غلبة من الندم.
وحده الرحيل هو الحلم المشترك للجميع، يسعون إليه حتى في الأحلام. يبيعون البيوت وما تبقى من أراض هي تركة الآباء ووصيتهم الباقية للأبناء، الرحيل لا السفر، فلا أحد يفكر بالعودة، والجميع قد قطع حبل السرة مع هذه البلاد وحان وقت الانفصال النهائي عنها حتى بالذاكرة.
يقول سعيد المقيم في فرنسا، نسيت كل شيء، كل التفاصيل. كان يسخر من عبارة “ريحة البلد غير”، ويضيف: “لولا صوت أمي على الهاتف الجوال لنسيت اسم البلاد واسم شارعنا وعنوان بيتنا”.
في سوق الخجا المشهور ببيع حقائب السفر، ازدحام غير موجود إلا على أفران الخبز ومحطات الوقود. يتذمر الناس من غلاء أسعار الحقائب، بعضهم يرغب بحقيبة صغيرة لكن لا تتضرر بالماء، تعرف أن موسم الرحيل بالبلم قد بدأ، ـتشعر بالغرق بدلا عنه، وآخر يريد حقيبة رخيصة لكنها كبيرة، ويقول: “هي سفرة يتيمة لن أعود بعدها ولن أسافر إلى أي مكان حتى أحصل على الجنسية”.
خبرة السوريين والسوريات بالسفر وطرق اللجوء وكلفة السفر وأرقام المهربين واسعة جدا، أوسع من خبرة مؤسسات سياحية أو أمنية مختصة. والبلد الهدف محدد قبل بداية الرحلة ولا تراجع عنه، لدرجة أن الشخص الحالم الواقف امامك على أرض لا يريدها، يعرف عن وجهته المقصودة أكثر بكثير مما يعرف عن هذا البلد الذي أجبره كما يقول على هجرانه ونسيانه فور مغادرة الحدود.
اللافت أن أساليب جديدة يبتدعها السوريون للجوء الآمن تجد طريقها للتداول خاصة بين الشباب والشابات، كأن تطلب شابة من قريب لها الزواج منه حتى تصل أوروبا وهناك يتم الطلاق مقابل منح أهله قطعة أرض متنازع عليها بينهم وبين أهلها.

الصقيع
فاقمت أزمة الصقيع الأخيرة من شجون وآلام السوريين. تعرفوا فعلا إلى معنى الموت بردا، يكتب أحد الشباب على صفحته: “إذا مت من البرد، لا تدفنوني، أحرقوا جثتي علني أشعر بالدفء قليلا”. وتقول إحدى السيدات متسائلة: “هل سنحاكم عند موتنا كأهل العز والغارقين في نعيم الدفء؟”. وتضيف: “عليهم إرسالنا إلى الجنة فورا للتعويض عن كل القهر الذي عشناه”.
البرد في حضور العتمة يشبه الاستلقاء في قبر مفتوح، يزيد اتساع فتحته من لسعة الصقيع ويفاقم غياب المحروقات من لسعات الشعور الغامر بالظلم والحرمان. السوريون والسوريات على موعد مفتوح مع الصقيع في ظل غياب أي بارقة أمل، أو أي تحسن ملحوظ مرتقب لتحسين فرص نجاتهم من براثن موت يصطادهم يوميا جسديا ونفسيا، لدرجة أنهم يطالبون فصل الصيف بالقدوم فورا، وكأنه الكائن الأكثر عطفا عليهم والأكثر دراية بأحوالهم القاهرة لأنهم لا يملكون من أمرهم شيئا إلا عبر الاستنجاد بالطبيعة العاجزة أصلا عن التحكم في مجريات حياتها.
وهذه المدينة وأهلها ألا يستحقون تدوين تاريخ كل هذه القروح! علّ جرحا منها يشفى أو يبقى الجسد المتقرح عصيا على النكران والهجران؟
سلوى زكزك
دمشق 16 آذار 2022

سوريا… دون عقول

سوريا… دون عقول

يتدفق الاستنزاف السوري للكفاءات والعقول، مع تزايد الطلب للهجرة، حيث باتت البلاد شبه فارغة من طاقاتها التي من الممكن أن يعوَّل عليها مستقبلاً للتعافي من آثار الحرب، في ظل تعامٍ حكومي مريب عن أهمية هذه الموارد البشرية والفكرية؛ بل بالعكس من ذلك، تنتهج الحكومة سياسة “التطفيش” مع عجزها عن تأمين الخدمات الأساسية والوظائف والدخول الكافية، ورعيها لعملية فساد منظم في كل قطاعات البلاد، في ظل أزمتها الاقتصادية الخانقة، خاصة مع الاستنقاع السياسي الحاصل، وغياب الأفق بأي تغيير أفضل في بلاد تحكمها احتلالات متعددة وتداعيات أمنية ومالية وعصاباتية كثيرة، كانت كفيلة بانهيار الأحوال المعيشية للسوريين بشكل دراماتيكي، لتصل نسبة الفقر الى 90%، وليعاني 60% من السوريين من انعدام الأمن الغذائي وفقا لتقرير الأمين العام للأمم المتحدة إلى مجلس الأمن حول تمديد آليات المساعدات الإنسانية العام الماضي، “وحتى هذه اعتادوا أن يصلهم منها الجزء الشحيح والردي بعد دخولها في دوائر الفساد”.
حاملو الشهادات هم أكثر من يفكر بالهجرة، فهم يقارنون أنفسهم بمن هاجر منذ بداية الحرب، أو في الموجة الثانية للهجرة 2015، نادمين على تمسكهم ببلدهم، وقد تحولت حياتهم فيه إلى غربة، واغتراب عن أعمالهم. يقول حسام، وهو مهندس مدني، “بمرور الوقت تحولت إلى كائن غرائزي، همه كيفية تأمين الأكل والشرب في دوامة لا تنتهي على مدار ساعات اليوم، وصرت مجرد رقمٍ في طابور الخبز والمحروقات والسكر والرز والصرافات، وممزقا بين عملي الوظيفي صباحاً وعملي كمحاسب في مطعم مساء لتأمين قوت عائلتي… كيف تدرس ابنتي الجامعية بالبرد والعتم، وماذا ينتظر أولادي بعد تخرجهم؟ فقط أنتظر سعراً معقولاً لمنزلي يكفي تكلفة السفر”.

اكثر تضررا
قطاعا الصحة والتعليم هما الأكثر تأثراً بهجرة الكوادر العلمية؛ فتدني الأجور هو أحد الأسباب التي تدفع الأطباء إلى الهجرة، بحثاً عن مستوى معيشي أفضل يتناسب مع مؤهلاتهم. ووجهتهم الخليج أو أربيل أو الصومال أو الدول الأوربية؛ فالأطباء السوريون في ألمانيا مثلاً، من غير الحاملين للجنسية الألمانية، يزيدون على 5200 طبيبة وطبيب، وهو أكبر عدد بين الأطباء الأجانب، وفقا لإحصائية أجرتها نقابة الأطباء الألمانية عام 2021 .
الكارثة الأكبر على الصعيد الطبي هي النقص الحاد في أطباء التخدير، وقد دقت رئيسة رابطة التخدير في نقابة الأطباء، زبيدة شموط، في تصريح لجريدة “الوطن” أواخر 2021، ناقوس الخطر، حول الاستنزاف الكبير في أعداد أطباء التخدير، فعددهم بات 500 طبيب تخدير، بينما تحتاج البلاد إلى أكثر من 1500. والمتواجدون هم في سن 55الى 65، ولا يوجد سوى ثلاثة أطباء تحت سن الثلاثين. يتم التعويض عن هذا النقص بممرضين، بينما وجود طبيب التخدير أساسي في أي عمل جراحي، ما يزيد الخطورة على حياة المرضى.
70 بالمئة من خريجي طب الأسنان الجدد يهاجرون، حسب تصريح لنقيب أطباء الأسنان في اللاذقية، طارق عبد الله، إلى صحيفة البعث مؤخراً. يقول جورج، وهو طبيب أسنان، “إن الحكومة تفرض الضرائب العالية على مستلزمات المهنة، في ظل تدهور الوضع المعيشي، وصعوبة العمل مع انقطاع الكهرباء وغلاء كلفة البدائل… إنها ترى عملنا مجرد مهنة تجارية، وليس حاجة إنسانية”.
قبل الحرب والأزمة السورية، وعلى مدى عقود، كانت جامعاتنا تعاني من غياب منظومة البحث العلمي والابتكار، وتدني نسبة الإنفاق على التعليم العالي، وعدم تناسب المستوى العلمي والمعرفي للكفاءات مع مستوى التطور التقني والاقتصادي، و تدني الدخل، وتوغل البيروقراطية والمحسوبيات، مما شكل دافعاً لهجرة الكثير من الكفاءات في السابق. وهذا ازداد سوءاً خلال الأزمة السورية، وانعكس على نوعية التعليم بشكل عام. فقد أعلن المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس في عام 2016، خروج سورية من مؤشر جودة التعليم، لعدم التزامها بمعايير الجودة في التعليم، حسب مركز دمشق للدراسات والأبحاث “مداد”.

أسباب نفسية
خسر التعليم العالي حوالي 20 في المئة من أعضاء الهيئة التدريسية في مختلف الجامعات بسبب الهجرة، بحسب تصريحات وزير التعليم العالي السابق، عاطف النداف، عام 2017، وقد عزا هذه الظاهرة إلى “أسباب اقتصادية واجتماعية ونفسية مرتبطة بالظروف الراهنة،” خاصة مع انخفاض الأجور. ووفقاً لأستاذ بجامعة البعث “إذا رغب الأستاذ بشراء مرجع أجنبي لتطوير معارفه فهو يحتاج مبلغاً يعادل راتبه الشهري إضافة إلى القيود البيروقراطية في منح الموافقات وتدني أجور التأليف، هذا اذا لم نتكلم عن أجورنا الشهرية”.
استبدل طلاب الجامعات أحاديثهم عن التنافس والتحصيل العلمي على مقاعد الدراسة، بأحاديث عن الطرق المتاحة للهجرة، في ظل التراجع في جدوى التحصيل العلمي؛ يحلم أحمد، وهو طالب علوم، بالهجرة: “لا أريد أن أمشي على خطا والدي الجامعيين في حساب وتقنين ما تبقى من رواتبهما الشحيحة، منذ الأيام الأولى من الشهر. بينما يقول علاء، خريج معلوماتية في الثلاثين من عمره، “تسرب مستقبلي من بين يدي بعد سنوات الاحتفاظ بالخدمة الإلزامية؛ أنا الآن عامل في مطبعة خاصة، نسيت مصطلحات البرمجة التي كانت فيما مضى تضيف هالة على حضوري، بت أخجل من نفسي ولا بد من الرحيل”.
يعاني كثير من السوريين من مشكلة تأمين تكاليف الهجرة؛ فبعد أن يئست سناء، خريجة الفنون الجميلة، من إيجاد فرصة عمل جيدة، اتبعت دورات مهنية في فن الوشم، وبدأت تعمل في هذا المجال الذي يدر عليها دخلاً يضاعف ما يجنيه والداها الجامعيان، تريد السفر إلى دبي، لتعمل في هذا المجال، وتجمع المال اللازم لإكمال دراستها في إحدى الجامعات الأوربية، حيث تجد احتراماً للفن.
تغيب الأرقام الرسمية لأعداد الشباب المهاجر، لتبقى الإحصاءات محصورة بتقارير المنظمات الدولية ودراسات مستقلة. أكدت دراسة صادرة عن مركز دمشق للأبحاث والدراسات (مداد)، بعنوان “هجرة الكفاءات والعقول السورية نزيف تنموي مستمر”، أن الموجة الكبيرة من الهجرة واللجوء إلى خارج سوريا منذ 2011، شملت لأول مرة شباباً وأطباء ومهندسين وعلماء وفنانين وأساتذة جامعات، وأكثر من 900 ألف سوري استقروا في ألمانيا حتى العام 2017، 40% منهم من أصحاب المؤهلات العلمية العالية، إضافة إلى أعداد أقل اتجهت إلى بقية البلدان الأوربية، والولايات المتحدة، وكندا.

خراب
وذكرت الدراسة أن التقديرات الصادرة عن النقابات المعنية تشير إلى هجرة نحو ثلث الأطباء وخمس الصيادلة (أي 33% و 20% على التوالي)، اما اساتذة الجامعات ومن مختلف الكليات فقد بلغ 1220 أستاذا ، ويقدر عدد المهندسين بـ 8521 مهندسا على تنوع تخصصاتهم، وحملة الإجازة الجامعية (المجاز) تجاوز 21480، وهناك أعداد كبيرة جدا من الوافدين السوريين الى الجامعات العالمية للحصول على درجات الماحستير والدكتوراه وتقول الإحصاءات ان 70% منهم لن يعودوا الى سوريا.
كما استطلعت دراسة لمعهد بحوث العمالة (IAB)، والمكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين (BAMF)، والمعهد الألماني للبحوث الاقتصادية (DIW برلين) الكفاءة العلمية للاجئين السوريين الذين تقدموا بطلبات للحصول على اللجوء في ألمانيا ما بين 2013-2016، وخلصت إلى أن 40% حاصلون على الشهادة الثانوية فما فوق، و22% حاصلون على الشهادة المتوسطة.
ليست الحرب وما تبعها من خراب هي الدافع الوحيد لهجرة العقول السورية، أورد الباحث السوري، محمد جمال باروت، أن سوريا تصنف من البلدان الطاردة للكفاءات العلمية، وتحتل المرتبة الأولى بين الدول العربية حسب مؤشر هجرة الأدمغة المعتمد ضمن منهجية قياس المعرفة للبنك الدولي بنسبة 2.3% للمؤشر المتدرج من 1 حتى 7 حسب التقرير العربي عن المعرفة لعام 2009. وقدرت دراسة لخبراء الهجرة والتنمية في الأمم المتحدة نسبة هجرة الكفاءات ومن هم في طور الكفاءات وفق مؤشر مستوى التعليم بأكثر من ثلاثة أخماس المهاجرين السوريين الى دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD لعام 2000
وحسب مصادر الجمعية الطبية العربية الأميركية، إن عدد الأطباء السوريين في الولايات المتحدة الامريكية يفوق 6000 طبيبا من أصل 15 الف طبيب عربي، و 18 ألف طبيب مقيم في ألمانيا من أصل عدد الجالية السورية المقدرة ب 59 ألفا عام 2008. ولا تشمل الاحصائيات السابقة الكفاءات العلمية التي هاجرت إلى دول مجلس التعاون الخليجي، حيث كانت تحدث هجرات نوعية للنخب العلمية بعضها لبضع سنوات.
لن تتوقف هجرات العقول السورية، ليضاف “طابور” الانتظار على أبواب دوائر الهجرة والجوازات إلى “طوابير” اعتادوها مكرهين عله يكون الطابور الأخير قبل الخلاص. لكن، رغم الأمان الذي يتحدث عنه اللاجئون و “العيش الكريم” خاصة في الدول الأوروبية، فإن اختلاف الثقافة واللغة والنظام بين البلدين، إضافة إلى جائحة كورونا، أثرت على اندماج اللاجئين في المجتمع و سوق العمل، ما يعني ضياع سنوات من حياتهم دون العمل في اختصاصاتهم، لضرورة تعديل مستوى التعليم. يضاف إلى ذلك فترة زمنية ليست بالقصيرة للتدريب على العمل، مع تأخر سوريا في هذا المجال، وهذا يضيف صعوبات أخرى وخاصة للاجئين من الفئات العمرية الكبيرة.
تحاول الحكومة الاستثمار في ملف اللاجئين، بعقد “مؤتمرات لعودة اللاجئين ” بدعم وتنظيم روسي، لترسيخ قناعة أن “سوريا آمنة”، الأمر الذي تنتج عنه مكاسب سياسية، للشروع بعملية إعادة الإعمار، في قطاعاته الريعية، واستغلال عقودها المربحة عبر شبكاته وأذرعه الاقتصادية داخل وخارج سوريا، متجاهلة أهمية الكوادر البشرية المدرّية والكفؤة، في ظل تعاميها عن موجات الهجرة التي حدثت وستحدث، والتي ربّما تحول سورية إلى دولة كهلة سكانياً. وبالتالي مواجهة نقص الكفاءات والإفادة منها عن طريق استيراد الكفاءات الغربية بتكلفة كبيرة؛ في دراسة للباحث الاقتصادي الدكتور عمار يوسف، أكد أن هجرة الكوادر تعدّ الخسارة الأكبر، لكونها شكلت نزفاً مركباً للاقتصاد الوطني يصعب تعويضه قريباً، إضافة إلى الوقت والمبالغ الهائلة التي تحتاج إليها لإعادة تأهيل كوادر جديدة. وتقدر الدراسة تلك الخسائر لنهاية 2016، بـ40 مليار دولار.

اللاجئ
صرح مسؤول هولندي مؤخرا ان “اللاجئ السوري أفضل استثمار حصلنا عليه خلال هذه المرحلة “؛ فحوالي ٢٥٠٠ طالب سوري في الجامعات الهولندية خلال السنوات الثلاث الأخيرة، من عدد أبناء الجالية، والذي يقارب المئة ألف، ونصف الجالية هم تحت الثامنة عشرة. أما الطلاب الذين سجلوا في المعاهد التطبيقية فيكاد يصل إلى ضعف هدا العدد. وقد دخل مجال العمل الأكاديمي نحو أربعين شخصا ما بين باحث وأستاذ جامعي وطالب ماجستير، وأطباء الأسنان بدؤوا بفتح عياداتهم، وأكثر من ١٠ بدؤوا العمل من بين ٧٠ طبيبا…وحصل عدد من الأطباء على فرص عمل في أهم المشافي، أو هم في طور التعديل، وكذلك عدد من الصحفيين.
فيما تسعى بلدان و مجتمعات إلى التسابق في حيازة المعرفة وتوظيفها، وصولاً إلى القيمة المضافة العالية الناتجة عن الاستثمار في الذكاء الإنساني ومناجم العقول، بوصفهما ثروة لا تنضب، وأن يكون الإنسان وسيلة للتنمية وغاية لها في آنٍ معاً؛ فإن الحكومة السوريّة تسابق الزمن في هدر الطاقات الإنسانية وشل عقولها، ليصبح حال السوريين في الداخل أشبه بتعليق للكاتب السوري محمد الماغوط على المجموعة القصصية “النمور في اليوم العاشر” لزكريا تامر: “كنا ندرس يا أولادي من قبل، كيف يتطور المخلوق البشري في مناطق كثيرة من قرد إلى إنسان. والآن سندرس كيف يتطور المخلوق البشري في هذه المنطقة من إنسان إلى قرد. وأهله وحكامه يتفرجون عليه من النافذة وهم يضحكون”.

قانون قاتل للنساء… هل ينتهي؟

قانون قاتل للنساء… هل ينتهي؟

منذ مقتل آيات على يد زوجها وعائلته وتصدّر أسمائهم على ورقة نعوتها، وظهور تلك القضية للعلن بصدفةٍ أن صديقةٍ لها أخبرت عن شبهة جريمة، والمسؤولين/ات في سوريا يتخبّطون متفاجئين/ ات من تلك الجريمة الغريبة عن المجتمع السوري، فالمجتمع السوري محافظ ولديه من القيم ما يمنع من ارتكاب جرائم بحق النساء!.
وتعالت صيحات مطالبة بأشد العقوبات على من يقتل النساء، وبدأت الحملات تنادي بقانون خاص ضد العنف الأسري وقانون ضد العنف القائم على النوع الإجتماعي وحملات تطالب بحماية النساء تحديداً من العنف الأسري.
والصحف تتصدّرها أرقام عن قضايا قتل النساء بحجة “الشرف”، غير دقيقة بل مستخدمة منذ خمسة عشر عاماً، تقول ان سوريا الثالثة عربياُ والخامسة عالمياً في قتل النساء، منذ أن كان معتمداً في حملة “لا لجرائم الشرف” التي بدأها “مرصد نساء سوريا” في العام 2005 التي على أثرها تمت الموافقة على إلغاء “العذر المحل” في جريمة الشرف، وفيما بعد إلغاء “العذر المخفف” (المادة 548) عام 2020، لتبقى النصوص القانونية “القاتلة” كما هي دون الإقتراب منها، وهي القتل بحسب “الدافع الشريف” و “القوة القاهرة”، ما يعني غياب الإحصائيات الحقيقية الحكومية وغير الحكومية.

شراكة في القتل
” بالرغم من أن المشرع ألغى المادة 548 التي تخفف أو تحلّ من العقوبة على القاتل دفاعا عن شرفه لكنه أبقى على عدّة مواد تخفف من العقوبة بسبب “الدافع الشريف وفورة الغضب”، وهي المواد 192/240/241/242. من قانون العقوبات السوري، بالإضافة إلى أنّ الإجتهاد القضائي يوسّع بمفهوم “الدافع الشريف” و “سورة الغضب”، ويعطي الأسباب التي تأتي معظمها بجسد وسلوك المرأة، من ذلك:
-“الدافع الشريف” يعتبر سببًا مخففًا قانونيًا، لا بد من تطبيقه متى توافرت أسبابه، ولا يؤثر في قيامه بُعد المدة على وقوع الحادث، وان استطالت عدة أشهر، مادام المتهم قد علم بوقوعه للتو، ولم تهدأ عاطفته النفسية من أثر علمه بما وقع وأثارها”.
-“العذر المخفف يحول العقوبة من وصف جنائي إلى وصف جنحي”. و”يشترط لتطبيق أحكام المادة 242 عقوبات المتعلقة بالعذر المخفف، أن يكون الفاعل قد أقدم على الفعل بسورة غضب شديد ناجم عن عمل غير محق وعلى جانب من الخطورة أتاه المجني عليه”.
-“استمرار العلاقة غير المشروعة بين المغدورة وعشيقها يجعل أخاها في حالة العذر المخفف إذا قتلها وهي في دار العشق”
وقوانين تمييزية تعاقب النساء بعقوبات مضاعفة أكثر من الرجل على الفعل نفسه كـ “الزنى” أو بوصف مختلف كـ “الدعارة”، أو تعطي حقوقاً للرجل وحده كمنح الجنسية والطلاق بالإرادة المنفردة والحرمان من الحضانة في حال زواج الأم فقط، والولاية والوصاية القوامة التي تحصر الحق بالرجل فقط، والتغاضي عن جريمة التحرّش بحد ذاتها في العمل أو الشارع أو البيوت.وكذلك عدم المساواة في الإرث والحرمان منه أيضاً،وكذلك الإغتصاب الزوجي الغير معترف به في القانون كما عدم الإعتراف بأنواع العنف الممارس ضد النساء كالعنف النفسي أو الجنسي أو الجسدي.

شركاء مع القانون
الحقيقة أن الجريمة المرتكبة لم تكن لأجل الشرف المزعوم الملتصق بجسد النساء وليست ضمن الدافع الشريف ولا فورة الغضب، إنما هي جريمة قتل النساء كونهن جزء من موروث ثقافي يعتبر النساء قوارير بحماية الرجل الصنديد يتوجّب تأديبهن وعليهنّ الطاعة، فالرجل رأس المرأة في الدين المسيحي، ولولا أنّ السجود للالله لأمرت النساء أن تسجد لأزواجهن في الدين الإسلامي بمختلف طوائفه ومذاهبه وباختلاف صحة الحديث أوعدمه لكنه متداول، وتعتبر ناشزاً إن لم تتطع زوجها وعليه الإنفاق عليها ودفع مهرها لقاء الطاعة، ومن البيت للقبر بحسب الموروثات التقافية السورية، ولا تستحق سوى بيت المقاطيع في المذهب الدرزي.

السالب والموجب
جرائم تعذيب وقتل النساء ليست جديدة في سوريا، فعندما عرض الإعلامي توفيق حلًاق في برنامجه “السالب والموجب” بداية الثمانينات عن نساء وفتيات يحبسهنّ أباوهن وأزواجهن دون طعام وشراب، كان دافعاً لدخول راهبات الراعي الصالح لحماية النساء من العنف إلى سوريا ليكون الدير المكان الوحيد الي يأوي النساء المهددات بالقتل أو الموت بسبب العنف الأسري.
مكان صغير في باب توما في دمشق لا يمكن أن يتسع لأكثر من خمسين امرأة في بلد وصل عدد سكانه مطلع 2011 إلى خمسة وعشرين مليون نسمه، تلاه مركز هاتف “الثقة لضحايا العنف الأسري” في 2007، الذي أسسته الراهبة ماري كلود نداف، مركز متكامل مخصص لحماية النساء من العنف يقدم خدمات قانونية ونفسية واجتماعية عبر الهاتف والمقابلات الشخصية والمتابعة القانونية في المحاكم. تقوقع عام 2019 ، وتراجع بدل أن ينتشر في المدن السورية.
،تم انشاء “مركز واحة الأمل” في 2009 “جمعية تطوير دور المرأة” التي بدأت بداية جيدة لكنه توقف عن العمل خلال النزاع في سورية.
واليوم، “الهيئة السورية لشؤون الأسرة” التي فشلت في ايجاد مكان لحماية النساء من العنف وكذلك في إخراج قانون حماية المرأة من العنف الذي عملت عليه العديد من الفعاليات في سورية 2007، تجتمع مع عدد من الجمعيات المعترف بها من وزارة الشؤون الإجتماعية، وفي مكان آخر تجتمع مجموعات من المجتمع المدني كلّ على حدى للعمل على مشروع قانون يحمي النساء من العنف في الأسرة أو النطاق الأوسع في كل المجالات.

فهل يتحقق الحلم أم يبقى قيد المحاولة؟

مراجع: من بحث بعنوان “الاجتهادات القضائية المتعلقة بالنساء في قانون العقوبات السوري” ومدى تعارضها مع إتفاقية “سيداو” والإعلان العالمي بشأن القضاء على العنف ضد النساء منشور في قلمون 2021.

سوريا “المخدرة” دون أطباء تخدير

سوريا “المخدرة” دون أطباء تخدير

كثيرةٌ هي المرات التي يحتار فيها الصحافي/ة: كيف ستكون بداية مادته/ها؟ هل يبدأ/ تبدأ بقصةٍ إنسانية لبطل/ة في تلك المادة يكون النجاح، الخوف، الفشل، اللاجدوى عنواناً لحبكة صحافية؟ أم سيواجه الجمهور برقم صادم عن قضية فساد، هجرة، خسارة، أو رقم صدرته قضية حرب؟
أسئلة تفرض نفسها عند التفكير بقضية آلام أطباء التخدير في سوريا، أو الأصح حول قضية الهروب من اختصاص التخدير في سوريا وهجرة من اختص فيه عن سابق إصرارٍ وتصميم.
15 طالب طب اختصاص تخدير فقط في جامعة دمشق هذا العام. انخفض العدد 35 طبيباً خلال عام، ومن سجل هذا الاختصاص ينتظر فرج بطاقة طيران خارج الحدود، بين سطور هذا التقرير آلام لأطباء يُخدرون آلام الجروح.

صرخة
في العام 2017، أطلق الدكتور فواز هلال المسؤول العلمي لـ “رابطة أطباء التخدير وتسكين الآلم” صرخة، عبر الإعلام الرسمي والخاص وصفحته على السوشال ميديا، يُحذر من يومٍ “ستتجمد فيه المشافي” اذا استمر وضع التعامل مع أطباء التخدير بطريقة عدم التقدير المادي والمعنوي، في القطاعين العام والخاص.
وفي بدايات 2022، تحديداً يوم 9 كانون الثاني، أوقف “مشفى التوليد الجامعي” قبولات المرضى والإسعاف لعدم وجود كادر من أطباء التخدير، في وقت كان ولا يزال “مشفى الزهراوي” بمدينة حلب يعمل بطبيب تخدير واحد فقط بمساعدة فنين. وفي ذات السياق، تحدثت الدكتورة زبيدة شموط أن “رابطة أطباء التخدير” أجرت دراسات متتالية حول عدد وواقع أطباء التخدير في سوريا في اعوام 2000 و2016 و2020، منوهةً أن الوضع اليوم “أسوء بكثير من عام 2020، حيث يفقد هذا القطاع الأطباء الشباب من تتراوح أعمارهم تحت 30 عاماً، وفي كل سوريا 4 أطباء فقط من هم تحت سن الثلاثين عاماً”.
بعد الصرخة الأولى، أعطت الحكومة السورية مكافأة شهرية لأطباء التخدير 100 ألف ليرة سورية، يومَ كان سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار لا يصل إلى 1500 ليرة سورية، خُصم منها 18% ضريبة أيضاً، في الوقت الذي لا يجوز أن يخصم من المكافأة أي ليرة سورية، لم تنجح محاولات المعنين بمحاولة “تثبيت أطباء التخدير بأرض الوطن”.

صراع أطباء
بعد سنوات على محاولة الجهات المعنية في سوريا، “إنقاذ كوادر أطباء التخدير”، تحاول ذات الجهات محاولة إنعاش أخرى، بضخ زيادات على الرواتب والتعويضات الخاصة بأطباء وطبيبات التخدير، حيث كشفت دراسة سربها الإعلام السوري الخاص أن اللجنة الاقتصادية في رئاسة الحكومة رفعت توصية لتكون مكافأة كل طبيب تخدير 200 ألف ليرة سورية شهرياً أي مايعادل 56 دولارا اميركيا تقريباً حسب سعر الصرف الحالي في السوق السوداء، و 80 دولارا حسب سعر صرف المركزي، واشترطت أن تصل عدد أيام دوام طبيب/ة التخدير إلى 6 أيام أسبوعياً.
صب هذا التسريب الزيت على نار القضية، ولم يكن بعد ما تم تداوله نفعاً لـ “الملح على الجرح”، كما يقال باللهجة العامية السورية. يعقب الدكتور ” ع. م” الذي رفض ذكر اسمه كاملاً على القضية قائلاً: ” تحتاج قضيتنا صفحات في جرائد”. ويتحدث لـ “صالون سوريا” عن جوهر المشكلة المتمثل في العلاقة مع طبيب التخدير ضمن المشافي العامة والخاصة، موضحاً أن المشفى والجراح هما من يقرران أجور طبيب التخدير، الذي يبقى له الفتات من الأجور، بعد نقاشات طويلة من سيدفع الأجور له المشفى أم طبيب الجراحة، و”بالتالي يغيب الضامن للعلاقة بين طبيب التخدير والمشفى، وبين طبيب الجراحة وطبيب التخدير هذا على صعيد المشافي الخاصة، أما على صعيد المشافي التعامل مع التأمين الصحي في المشافي الخاصة، يدفع التأمين الصحي تسعيرة وزارة الصحة وهي لا بأس بها، لكن يدفعها للمشفى الذي يقتطع منها ما يريد”.
وفي أحد الردود على الحلول التي قدموها أطباء التخدير لوزارة الصحة، أن فني التخدير يمكنه القيام بمهام الطبيب، حسب قوله. لكن أي خلل في العمل الجراحي فان “الملام الأول هو طبيبة/ة التخدير”. سلسلة تناقضات يدخل بدوامتها كل من يدخل اختصاص تخدير قبل أن يسافر خارج البلاد.
وتتحدث الدكتورة “ش .ع” عن جملة مشاكلَ أخرى تبدأ بالأجور لطلاب الدراسات العليا التي تصل إلى 90 ألف ليرة سورية، وتقارنها بطلبة من حملة شهادات الطب العام في جامعات ألمانيا تصل لحوالى 2800 يورو. وطبيب التخدير هو الوحيد الذي أجوره قليلة مقارنة بباقي الاختصاصات وخصوصاً الجراح، وتضيف أن المشكلة أيضاً في قلة الأساتذة والمشرفين بسبب الأجور الزهيدة، حيث يصل أجر الطبيب المشرف بعد دوام 5 أيام في “مشفى المواساة الجامعي” إلى 180 ألف ليرة سورية، حيث لا يوجد أيضاً أي أجور على العمليات في المشافي الحكومية، وهذا يجعلهم/هن يتخلفون عن الحضور إلى المناوبات في المشافي الحكومية.
لم تكن الأجور وحدها هي ما تلخص عمل وهجرة أطباء وطبيبات التخدير، بل عدم وجود منظومة كاملة اسمها “تسكين الألم”، بحيث يصبح في مقدور الطالب عمل اختصاص لمدة سنتين أو ثلاث بعد الانتهاء من التخدير، إضافة إلى استغناء المشافي عن الطبيب بالفني وهذا استخفاف كبير بالطبيب على حد تعبيرها.

خارج الحدود!
حاول كثيرون من أطباء وطبيبات التخدير المطالبة بمساواتهم بزملائهم من ذات الاختصاص في دول الجوار على الأقل. كل هذه المطالب باءت بالفشل، فكان البقاء صعباً. تتفق الدكتورة “ش، ع” والدكتور “ع .م” أن كل من يدخل الاختصاص في عينيه السفر فقط، ليس بدافع التخلف عن الخدمة الإلزامية فحسب، بل بدافع وجود إغراءات مادية ومعنوية حقيقية. ويشرح ” م. ع” طبيب تخدير سافر إلى ألمانيا عام 2019، عن تجربته في المشافي الألمانية التي تبدأ بالأجور الشهرية، ومساواة طبيب التخدير من حيث القيمة المعنوية بأي طبيب آخر، حيث لا يمكن أن يحل أن فني تخدير مكان الطبيب في غرف العمليات، بينما يشير “م.ر” وهو طبيب تخدير سافر إلى العراق عام 2020، ويعمل في أحد المشافي الخاصة بالعاصمة بغداد، أن أجره بدأ بـ 2000 دولار، لو بقي في سوريا، كان يحتاج سنة ونصف ليجمع هذا المبلغ، ويتحدث عن عدم دخول أي طبيب إلى غرفة العمليات بدون طبيب تخدير، مع وجود فنين تخدير أيضاً، لكن الأدوية ومعايرتها ونوعيتها هي من اختصاص الطبيب فقط، ولا يشعر أي طبيب تخدير بأنه قلة قيمة طبية من غيره من الأطباء، وله نسبته وأجره الذي يختلف من مشفى إلى آخر ويتساوى مع اختصاصات أخرى.
في 2022 توقف “مشفى التوليد الجامعي” عن العمل بسبب عدم وجود طبيب تخدير، ماذا ينتظر البلاد بعد 5 سنوات إذاً؟ وفي سوريا التي تصدر أطباء إلى العالم منذ زمن وليس أثناء الحرب فقط، هل سيقف المرضى طوابير بانتظار طبيب تخدير؟ هل تنفع الإغراءات المادية التي لا تكفِ نصف شهر للعيش في بلد يعاني من الغلاء والتضخم؟

دمشق…الرمق الأخير

العنف في تلفزيون دمشق… وشوارعها

يربط المتابعون للمشهد السوري العنف بسنوات الحرب الطويلة. والمؤسف بهذا الربط هو تبسيط المشهد العنيف، كأنه نتيجة طبيعية للحرب التي تقوم أساسا على فكرة إهلاك الآخر، وتغدو كل الوسائل لتثبيت حلقة العنف من الأقوى نحو الأضعف مبررة.
لكن لهذا العنف جذور تمييزية مغرقة في القدم، يتم التعمية عنها، وتحميل مسؤوليتها للحرب فقط دون الإشارة إلى البنية الهيكلية المتجذرة للعنف من الأقوى نحو الأضعف ومن المتحكم نحو المحكوم.

الخطاب الرسمي
على شاشات التلفزة مقابلات مع أشخاص بؤساء فعلا، يبدو أن اختيار بؤسهم مقصود مع أنهم عادة يعانون من إهمال بل من نكران مديد، لكن هذه المرة ثمة حاجة ماسة لظهورهم بكل بؤسهم، الاحتفال بالبؤس لمصادرة حق الآخر! تم توجيه سؤال واحد لجماهير البؤساء: “من لا يستحق الدعم؟” تخيلوا لم يسألهم أحد من يستحق الدعم؟ لقد حرموهم حتى من فرصة التعبير عن أحوالهم، لكن المطلوب لا يخصهم، هم مجرد أدوات، والأدق هم مجرد ديكور ارجي، وكانت الأجوبة التي بدا واضحا أنها ملقنة إجابات حاسمة موجهة بيقين قطعي غريب لكل من تم رفع الدعم عنه، وكأن المطلوب أن تقول الحكومة: “هل سمعتم سبب حرمانكم؟”. نحن لا دخل لنا! شركاؤكم البؤساء في الوطن هم من قرروا أنكم لا تستحقون الدعم. ضرب النار بالنار وعلاج الحرمان بالحرمان.
أي عنف هذا؟ عنف مؤدلج، متلفز، ملعوب به وعليه، والهدف هو أن يقف الناس في مواجهة بعضهم البعض! ويا دار ما دخلك شر، ونحن الحكومة العادلة ننفذ رغبات البؤساء! وتكاد الرسالة أن تقول نحن في خدمة البؤساء ونعمل من أجلهم فقط، وقد تصل الرسالة للبعض بعمقها الحقيقي حين يشير أو يلمح بعض البؤساء الشركاء في الوطن على حين غرة: بأن المحرومين من الدعم هم سراق وطماعون وينهبون مقدراتنا.
قمة العنف أن تضرب الحكومة السلم الأهلي والتشاركية بسلاح الأخوة الأعداء.

الخطاب الشعبي
على كوة صراف قبض الرواتب الشهرية، يحتشد عدد كبير من الأشخاص للحصول على أموالهم الشحيحة. يتدافع المجموع ويشتمون بعضهم بعضا. تطالب سيدة بطابور خاص بالنساء وطابور خاص بالرجال، يسخر منها رجل، يقول لها: “خايفة على جمالك”. وتقول لها سيدة بتأفف وضجر: “الناس ميتة من الهم، ما حدا ألو نفس يغتصبك”. تصمت المرأة، تفكر بالانسحاب، لكنها دورها بات قريبا، ولن تفرط بالوقت الذي قضته واقفة على كوة الصراف، رغبت بالرد، لكنها شعرت بأنها ضعيفة جدا، أحست برغبة عارمة بالبكاء، طلبت من الرجل الذي يقف خلفها ان يحفظ لها دورها بذريعة اضطرارها لإجراء مكالمة هاتفية مع ابنها لتوقظه كي يذهب إلى عمله، تدخل إحدى البنايات تبكي بشدة ، تمسح دموعها وتعود، كل ما كان بوسعها فعله حينها تجاه الحجم المذل من العنف هو ان تبكي في الخفاء، إعلان الشكوى يطعن الروح بعد أن طعن القلب مرات ومرات، عادت إلى مكانها في الطابور وكأنها قد تخففت من الغضب الذي تخشى استعاره، بات لجم الغضب وابتلاع الألسنة والتحايل بالهمسات الساخرة أسلوبا وقائيا، قد يرضي أصحابه ظاهريا، لكن في العمق كل شيء بات بلا جدوى.
لم يفكر أحد من الواقفين في الطابور الطويل الذي بات يعيق حركة المشاة على الرصيف بسؤال الموظفين عن سبب التأخر بتوطين الرواتب في كوات صرف الرواتب، لم يسأل أحدهم المسؤولين عن سبب خروج عدد كبير من الصرافات عن الخدمة بسبب اعطال فنية أو بسبب الغائها وبعضها قد تم نزعه وتسوية الجدار الذي كان يحمله، دونما أي تعويض بجهاز آخر ولو في مكان آخر، وحديث الصرافات حديث ذو شجون خاصة في الأرياف بحيث يضطر الموظفون للذهاب عدة مرات إلى أماكن وجود الصرافات القليلة جدا وبسيارات أجرة لتحصيل رواتبهم القليلة والتي تفقد أجزاء منها كبدل للتنقل.
الجميع مستاء، لكنه يختار الصمت، ويحاول لوم الآخرين، لا بل الانتقاص منهم وربما إهانتهم، لكسب شعور واهم بأنه أرفع منهم مستوى والحقيقة هي عملية هروب كي لا يعترف بأن الذل يجمع بينهم بوثاق متين.

معارك الشارع
لا وسائط نقل يوم الجمعة، يمر الوقت بطيئا. سميحة وأطفالها الثلاثة على موقف الحافلات، اتصلت أمها لتستعلم عن سبب تأخرها، تجيب سميحة ما في باصات! يرد والدها يوم الجمعة هو يوم عطلة للباصات الكبيرة، تصمت سميحة سأنتظر سرفيس إذن، يبكي ابنها الصغير ويصرخ: جوعان، تحاول تهدئته وتعده بفطور طيب عند جديه، من بعيد يلوح بالأفق ظل سرفيس، تحمل سميحة ابنها الصغير، تصرخ بابنتها الكبرى وتقول لها: “دغري طلعي واحجزي مقعدين”. يصل السرفيس، يفتح رجل الباب ويرمي الطفلة على الأرض بجسده الضخم، يدخل شاب إلى السرفيس عبر النافذة، تبكي سميحة، تشتم الرجل الذي كان سببا في وقوع ابنتها، يتعاطف معها أحد الركاب، يحاول مساعدتها في دخول السرفيس، يصاب رأس ابنها بباب السرفيس وهي تصعد، يبكي الطفل بشدة، لا مقاعد في السرفيس، البنت تبكي والطفل الصغير يبكي والطفل الأوسط يبكي بعد أن ملأه الخوف وشعر بالضياع. امرأة تشتم سميحة وتقول لها: “ليش عم تخلفوا ولاد يا مجرمين”. رجل يقول لسميحة: “معك 3 ولاد وطالعة لحالك تتبهدلي بالسرفيس. خذي تكسي أو انضبي ببيتك”.
الشاب الذي حجز مقعدا لصديقتيه عبر دخوله من النافذة، يشتم سميحة قائلا: “روحتي علينا السيران ورفيقاتي ضلوا تحت”. ويأمرها بمغادرة السرفيس بعد أن رفض جلوسها على المقعد المحجوز من قبله.
ترفض سميحة المغادرة، تجلس وأطفالها الثلاثة على أرضية السرفيس المعدنية، وتبكي، ليس بوسعها سوى توجيه مزيد من الشتائم للجميع، ودعوات بالموت لها ولهم، تنطق بالعبارة الشعبوية المشهورة: “منستاهل كل شي عم يصير معنا! لأنو ما منحب الخير لبعض”.
الكل وجه الاتهامات للكل، لا أحد سأل عن سبب قلة السرافيس بسبب نقص المازوت، أو طول انتظار السائقين على محطات الوقود، أو اهتراء الحافلات والباصات وتعذر تأمين السيولة الخاصة للتصليح، لا أحد سأل سميحة عن رغبتها أصلا بإنجاب ثلاثة أطفال خلال ست سنوات زواج.
فقط وبسبب الحاجة لوسيلة نقل تحولت سميحة وأطفالها إلى عدوة للجميع، الكل أدانها والكل حملها وحدها مسؤولية تأخره أو عدم راحته، وقد يحملونها المسؤولية الحصرية عن أزمة المواصلات برمتها.
يتصاعد خطاب العنف المقنّع وكأنه غير مرأي وغير ملموس وغير ذي أثر، تتوه بوصلة المسؤولية، ويتحول المجني عليه إلى جاني ومذنب، تتضخم الرغبة في معاقبة الأضعف لأنه لا يمتلك أية وسيلة للدفاع، والأهم أن خطوط التوصيف واهية وباهتة، يغرق الجميع في دائرة عنف معمم ومقبول وموجه، بل ومطلوب منه أن يتعاظم حتى الإهلاك المعنوي والجسدي والمعيشي والقيمي.