by عمر الشيخ | Jan 17, 2025 | Culture - EN, Roundtables - EN, العربية, بالعربية, Articles - EN
“أكثر قصصي قسوة هي أقل قسوة من الحياة العربية المعاصرة، وأنا لا أستطيع وصف السماء بجمالها الأزرق متناسياً ما يجري تحت تلك السماء من مآس ومجازر ومهازل.. صدّقني الأسطورة أصبحت أكثر تصديقاً من واقعنا المرير” بهذا التوصيف العاصف يلخص الكاتب السوري زكريا تامر (1931) تجربته الإبداعية، وهو واحد من أبرز الكتّاب في سورية والعالم العربي.
يتميز أدب زكريا تامر بأسلوب مكثف ومقاربة لاذعة تضع القارئ في مواجهة مباشرة مع دهشة غير متوقعة تخفيها تفاصيل نصوصه الشهيرة. ويتسم بمزيج متوازن من النقد السياسي والاجتماعي، مع ميل واضح للنقد السياسي باعتباره محوراً أساسياً في العديد من قصصه، كما يتضح في أعماله مثل “ربيع في الرماد”. مع ذلك، لا ينفصل النقد السياسي عن النقد الاجتماعي في أدبه؛ فالسياسة والمجتمع في أعماله متشابكان بشدة.
البدايات الأدبية والانتشار الثقافي
تنبض قصص زكريا تامر بتوتر دائم بين الألم والأمل، مصاغة في حكايات قصيرة مكتظة بالدلالات والرموز، تعالج قضايا جوهرية كالقمع، الفقر، الحرية، والموت. يُطلق على أسلوبه لقب “الضربة القاضية”، حيث تنتهي قصصه فجأة بعبارات قاسية أو مفاجئة تترك القارئ في حالة من التأمل أو الصدمة.
يتسم أسلوب زكريا تامر بالاقتصاد اللغوي والرمزية العميقة، حيث يوجز العالم في عبارات مكثفة تحمل دلالات متعددة. لغته تبدو بسيطة في ظاهرها، لكنها غنية بالإيحاءات، مما يجعل قصصه قابلة للفهم من قبل القارئ العادي، ومؤثرة بعمق لدى القارئ المتمرس.” برع زكريا تامر في خلق عوالم سريالية تعكس قسوة الواقع، حيث وظّف السخرية السوداء لكشف عبثية الحياة تحت وطأة الاستبداد. رموزه المتنوعة-كالحيوانات والأطفال لم تكتفِ بتجسيد القهر، بل عكست توقاً للتمرد. هذا التداخل بين الألم والأمل جعل نصوصه تجسيداً فنياً فريداً. وفي مقال موسعة عن حياة الكاتب أعدها الباحث “عبد المتين” برر كيف أن زكريا تامر “كسر الحواجز في القصة التقليدية السائدة، وفتح آفاقاً جديدة وصوتاً منفرداً في هذا المجال.”
بعد تركه الدراسة عام (1944)، غاص زكريا تامر في ميادين الحياة العملية، حيث شكّلت تجربته كنجار وحداد في دمشق عمقاً إنسانياً انعكس لاحقاً في تصويره لمعاناة الفرد في قصصه. عمل في مصنع للأقفال في حيّ البحصة بدمشق، قضى سنوات هناك يحتك بتلك العوالم القاسية التي أكسبته مرونة وخصوصية في اللغة تحطمت على ضرباتها الفنية تابوهات المجتمع من عادات وتقاليد مغروس في الخوف من الزعيم مهما كان تمثيله المجازي في الحياة، أب، معلم، مدير، رئيس، سلطة، أفكار.. وسواها من التابوهات التي تسعى لقمع الإنسان.
في أواخر الخمسينيات تحديداً عام (1957) من القرن المنصرم، كرّس تامر حياته للقصة القصيرة. بدأ يكتب وينشر في الصحف والدوريات الثقافية، وكان صديقاً مقرّباً من الشاعر السوري الراحل محمد الماغوط، والذي قدمه لمنابر جعلته على السكة الصحيحة للانتشار، فسحر القرّاء بلغته الخاصة منذ تلك اللحظة.
الأسلوب الفني والرمزية في أدب تامر
وفي العام (1960) بدأ زكريا تامر بنشر قصصه في كتب، كانت أول مجموعة له بعنوان “صهيل الجواد الأبيض”، تتألف المجموعة من (11) قصة تسلط الضوء على حياة الإنسان تحت وطأة التعذيب النفسي، وتُعد من أبرز أعمال زكريا تامر في القصة القصيرة. وبحسب بحث نُشر في مجلة “فكر الثقافية” بعنوان “تجليات صراع الإنسان في صهيل الجواد الأبيض”، حلّل هذا البحث صراع الإنسان تجاه الوجود والعدم، والحقيقة والزيف، كما يكشف عن شعور الإنسان بالعدم والزيف في العصر الحديث ومحاولاته لإنقاذ نفسه من هذا الشعور بحسب قصص تامر تلك. من أجواء المجموعة: “الإنسان الكامل مزيج من القذارة والنبل”، و “أتمنى لو أحطم جبهتي وأمحو بدمها الدموع من الأرض.”
بعد مضى ثلاث سنوات على عمله الأول، أصدر زكريا تامر عمله القصصي “ربيع في الرماد” عام 1963. وجاء في دراسة نقدية بعنوان “ربيع في الرماد لزكريا تامر: تحليل نصي” نشرت في مجلة قلمون، العمل يتميز بتصوير مدينة خيالية تمزج بين الأمل واليأس، حيث يعكس العنوان نفسه جدلية الحياة والموت عبر “الربيع” و”الرماد”. يعتمد زكريا تامر على بناء سردي فريد يرتكز على شخصيات بلا أسماء محددة، مما يعزز الشعور باللايقين والتأويل المفتوح. نقتبس من هذا الكتاب “قالت الأميرة: الدموع في العينين أجمل من الوجه الضاحك. قال المهرّج: الفاجع أن يبكي القلب بعينين جافّتين.”
بقي زكريا تامر لسنوات يتابع الحياة المتقلبة سياسياً في بلده سورية حتى نهاية الستينيات، بعد أن وضع حزب البعث في سورية يده على الحكم أصدر عام (1970) مجموعته القصصية “الرعد” وتضم 18 قصة قصيرة تجسد بعمق تعقيدات النفس البشرية وتتناول صراعاتها اليومية، والتي وصفها الناشر بأنها “همسات تدور في أروقة الحياة تحدث بأنها ستغدو صراخاً يعلو كرعد ينبأ بصيحة المظلومين والمقهورين”، ومما جاء في دراسة نقدية استشهدت بقصص هذه المجموعة وكانت بعنوان “تجليات التراث في قصص زكريا تامر” ونشرتها (جامعة تشرين السورية): زكريا تامر يوظف التراث العربي والإسلامي في قصصه، بهدف إعادة صياغة الواقع والتعبير عن قضايا الحاضر من خلال عدسة الماضي. التراث يظهر في قصصه كأداة للمقارنة بين الأمجاد القديمة والانهيارات المعاصرة، مما يبرز التناقضات الحادة بين الماضي والحاضر. مثلاً يظهر طارق بن زياد في قصة “الذي أحرق السفن”، حيث يتحول حرق السفن إلى إدانة ضمنية للبروقراطية والفساد الحديث. فيما يظهر عمر المختار كرمز للبطولة التي اغتيلت في ظل قمع القوى الاستعمارية وظلم الأنظمة. أما الشخصيات الشعبية مثل الشاطر حسن وجحا، توظف لتعكس واقع المجتمع بتعبير ساخر ومؤثر.
في عام (1973) أصدر تامر مجموعته القصصية “دمشق الحرائق” التي كانت امتداداً لخط محاكاته النقدية في التعبير عن الألم الإنساني مسلطاً الضوء على قضايا الظلم الاجتماعي، وقهر المرأة، والفقر، والجوع، والقمع السياسي، عبر سرد خيالي ممزوج بالواقعية من خلال 30 قصة قصيرة، يستعرض الكاتب معاناة الأفراد في ظل التقاليد الصارمة والسلطة القمعية، موضحًا تأثير الخرافات والموروثات الثقافية على المجتمع، مما جاء في تلك القصص “في دمشق، كل شيء يحترق: الأحلام، الحب، الضحكات، حتى الصمت نفسه يشتعل”، و “ليس هناك ألم أقسى من أن ترى العالم من حولك ينهار وأنت عاجز عن الصراخ”.
حضور أدبي عابر للحدود
وفي عام (1978) أصدر زكريا تامر مجموعته “النمور في اليوم العاشر”، والتي تسلط الضوء على الشخصيات التي تعيش تحت وطأة الظلم والخوف، لكنها تسعى دائماً لمقاومة الواقع بأساليبها الخاصة. في قصة “النمور في اليوم العاشر”، يروي عن نمر يتحول تدريجيًا إلى كائن خاضع بعد تعرّضه للترويض. هذه القصة، كغيرها من أعماله، تعكس بوضوح نقده العميق لأنظمة القهر والسيطرة. وفي حوار منشور مع تامر بمناسبة حصوله على جائزة سلطان العويس عام (2001) يقول تعليقاً عن القصة الأشهر في هذا الكتاب: “النمر يا عزيزي هو الحيوان الوحيد الذي يستطيع أن يعود الى طبيعته الحيوانية في أيّة لحظة مهما حاولت أن تدعي ترويضه واستئناسه في السيرك مثلاً.. لذلك فإن قصة النمور في اليوم العاشر تعني في المقام الاول أن الإنسان العربي سيعود إلى طبيعته الإنسانية الحقة ليصلح الأوضاع العائلية، والدليل على ذلك ما يحدث في فلسطين المحتلة الآن”.
شغل زكريا تامر مناصب بارزة في المؤسسات الثقافية السورية، منها رئاسة تحرير مجلات “الموقف الأدبي” و”أسامة” و”المعرفة”، بالإضافة إلى عمله كرئيس قسم الدراما في التلفزيون السوري ومساهمته في تأسيس اتحاد الكتاب العرب. أثارت افتتاحياته الجريئة في مجلة “المعرفة” جدلاً واسعاً، خصوصاً تناوله قضايا الحرية والعدالة الاجتماعية، ونشره مقتطفات من كتاب “طبائع الاستبداد” لعبد الرحمن الكواكبي، ما أدى إلى استقالته في (1980) بعد استدعائه للتحقيق. عمل أيضاً في وزارتي الثقافة والإعلام، وترك سوريا في (1981) ليستقر في بريطانيا حيث واصل نشاطه الأدبي والصحفي.
الجوائز والتكريمات
أصدر زكريا تامر العديد من أعماله الأدبية عبر دور نشر مرموقة، حيث نشرت دار رياض الريس كتب “نداء نوح” في لندن عام (1994)، و”سنضحك” في بيروت عام (1998)، و”الحصرم” عام (2000)، و”تكسير ركب” عام (2002)، و”القنفذ” عام (2005). كما صدر كتابه “أرض الويل” عن دار جداول عام (2015)، و”ندم الحصان” عام (2018).
كما أبدع تامر في أدب الأطفال منذ عام (1968)، وقدم مجموعة من الأعمال التي تحمل رسائل تربوية وإنسانية، منها “الحمامة البيضاء” و”لماذا سكت النهر” و”نصائح مهملة: عشرون قصة للأطفال”، وغيرها. امتاز بأسلوب يمزج بين الخيال والواقع بلمسة خاصة لم يسبقه إليها أحد، مما يعزز خيال الأطفال ويثري قدرتهم على التفكير النقدي. تُرجمت قصصه إلى عدة لغات، مما يعكس انتشارها وتقديرها عالمياً، حيث استقى مادتها من الطبيعة وعالم الحيوانات، محوّلاً القصص إلى أدوات تعليمية محببة وقريبة من عالم الطفل.
وجه آخر للإبداع
حصد زكريا تامر العديد من الجوائز والتكريمات تقديراً لإسهاماته الأدبية، منها جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية في القصة والرواية والمسرحية عام (2001)، ووسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة عام (2002). كما نال جائزة بلو ميتروبوليس الماجدي بن ظاهر للأدب العربي عام (2009)، وجائزة ملتقى القاهرة الأول للقصة القصيرة في العام نفسه. وفي (2015)، حصل على جائزة محمود درويش للحرية والإبداع، ما يبرز مكانته كأحد أبرز كتّاب القصة في العالم العربي.
تمكن زكريا تامر من تجاوز الحدود الثقافية ليصبح جسراً أدبياً يربط بين العالم العربي والمشهد الدولي، حيث تُرجمت أعماله إلى لغات عديدة، مقدمةً نموذجاً إنسانياً شاملاً عن الحرية وكرامة الإنسان، فقد تم ترجمة أعماله إلى الإنجليزية والفرنسية والإسبانية، ليصبح صوتاً عربياً عالمياً يعبر عن قضايا الإنسان بجرأة وعمق. لاقت مجموعته “Tigers on the Tenth Day” استقبالاً نقدياً واسعاً في الأوساط الأدبية الغربية، فيما حظيت قصصه باهتمام أكاديمي في جامعات عالمية، حيث اعتُبرت نموذجاً متميزاً يمزج بين الرمزية والواقعية السحرية. لم يقتصر تأثيره على الترجمات، بل امتد إلى ظهوره في أنثولوجيات أدبية مرموقة مثل “Modern Arabic Short Stories”. وُصف تامر بـ”كافكا العرب”، حيث ألهم بأسلوبه المكثف والسريالي كتّاباً عالميين مهتمين بالحرية ومقاومة الظلم. كما عززت مشاركاته في مهرجانات دولية ومقالاته المترجمة حضوره في المشهد الثقافي العالمي، مما أهّله لنيل جوائز مثل جائزة بلو ميتروبوليس للأدب العربي. برموزه الإنسانية الشاملة، مثل النمر والطائر، استطاع تامر تجاوز الحدود الثقافية، ليصبح أدبه رسالة عالمية عن الحرية وكرامة الإنسان.
*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ“
by دعد ديب | Jan 14, 2025 | Culture - EN, Roundtables - EN, العربية, بالعربية, Articles - EN
إحدى وثلاثون سنة من الغياب مضت على انطفاء فارس السرد “هاني الراهب” ومازالت نصوصه تتوهج وتمارس سطوتها وحضورها الآسر على أجيال أتت من بعده تتقرى معانيه وتتلمس خطاه رغم التعتيم والتغييب الذي مورس بحقه على مر الزمن الماضي ومحاصرته في لقمه عيشه بسبب من آرائه ومواقفه، ودائماً كان قلمه سلاحه المسدد بوجه الطغاة والطغم الحاكمة.
شكل إنجاز هاني الراهب انعطافة هامة في مدونة السرد السورية، وكان سباقاً في اجتراحه لآفاق التجريب بالسرد؛ ومقتحماً لعوالم الحداثة مع إيمانه الراسخ بأهمية توظيف الموروث الثقافي العربي وتطويعه لخدمه مشروعه الحداثي. ولقد ابتدأ هذا المشروع مبكراً وأصدر روايته الأولى ” المهزومون” وهو على مقاعد الدراسة الجامعية في الثانية والعشرين من عمره ونالت في ذلك الوقت جائزة دار الآداب كونها لامست وجدان الفرد العربي المهزوم بفعل انكسارات الواقع وخيبة آمال جيل كامل إثر تداعيات السياسة وإخفاق تيارات المد القومي، وفككت وشخصت الهزائم المتتالية التي أحدقت بالفرد العربي وانتكاسات منظومة الشعارات الرنانة ونتائجها الكارثية في هزيمة حزيران والتي كان لها وقع قاس على الوجدان الجمعي وكانت سبباً في تشظي الذات العربية وخرابها النفسي وضياعها. أكملت روايته “شرخ في تاريخ طويل” تعميق أسباب الضياع الذي عانت منه شخصياته وعلاقتها بمحيطها السياسي على خلفية “هزيمة 48 و”67. وتكرر ذلك أيضًا في روايتي “الوباء” و”بلد واحد هو العالم”.
وبين أول رواية ” المهزومون”، وآخر رواية ” خضراء كالبحار” والتي أنجزها قبيل وفاته في عام 2000 مرت مياه كثيرة، ومرت أزمان قاربت أربعة عقود، وفي الوقت التي كانت فيه روايته الأولى المهزومون تنطق بمضمونها وتصوّر واقع الشخصية العربية المهزوم في كل شيء جاءت روايته الثانية “خضراء كالبحار” متوجة مجموعة الروايات التي يبدأ عنوانها ب “خضراء” والتي يرصد فيها الحياة العائلية الرتيبة حيث الأمان والاستقرار يفتقد النبض والعاطفة ويأتي الحب ليقتلع الأعماق ويهز منظومة ثبات الشخصية التقليدي” نورما” في عجزها عن ولوج الحياة الحقيقية ودلالة جفاف النهاية لها، فعقم الزوج مهند يوازيه عقم الأنظمة العسكرية وعقم تجربتها بما أنها لم تلد أي جنين، وشخصية نورما الممزقة بين جبلين أو رجلين، بين خطرين خطر الحرية وتبعاتها مع فراس، أو خطر الجمود والتكلس والحياة الرتيبة الشبيهة بالموت مع مهند، نورما الشخصية الممزقة بين حالين فما أن تصل إلى ضفاف حالة حتى تعاود النكوص إلى نقيضها، فمن الانجراف وراء الحب والحرية إلى الارتداد إلى العائلة والحجاب الذي تصل إليه في نهاية المطاف، وهنا يرصد الراهب تهاوي عالمها الداخلي وخواءه من المعنى في الإطار الخشبي للحياة المطمئنة الراكدة، وكيف تفاجئ نفسها عندما تطلق موجات الحب لآلئ دفينة في أعماقها، وتظهر مواهبها النقدية التي حجبها يباس حياتها الرتيبة التي رسمها لها النظام البطريركي ممثلاً بالأب والزوج وهيمنة التقاليد والاطمئنان الكاذب ليعكس كل ذلك الصورة التي عبر عنها فراس الفنان في التشوه الذي رسمه في ملامحها باعتباره “الجمال المعتدى عليه، الجمال الذي ينقصه حريته”. ويتداخل هنا السرد مع التشكيل والنحت والموسيقا في تجسيد الملامح والتفاصيل لإظهار البعد الداخلي للشخصية الذي أنتج المرأة بتلك الطبيعة المقولبة والخاملة والعاجزة عن العطاء والحب عبر الولوج إلى الطبقات الداخلية لشخصية وازدواجها بين خطابها الواعي لوجودها الحي وخطابها المستند على البرمجة العائلية، وعندما تتمرد عليها تتعثر وتخرج بشكل مشوه وغير مقبول وتبقى تراوح في مكانها رغم استفزازات الشعور والعاطفة ليطرح السؤال: “هل الحب غياب للوعي أم هو وعي آخر؟
كل ذلك يعبر عنه الحوار الداخلي للشخصية وصراعها مع ذاتها بين الصوت العالي للنسق المهيمن وبين رغباتها الذاتية التي تعكس أناها الخاصة، فالمرأة ورغم نزوعها العارم لاقتناص فرصتها بالحياة ترجع بالنهاية للتماهي مع النسق الثقافي السائد في المجتمع، وترجع إلى قيدها رغم كل التناقضات التي عاشتها بسبب من علو ووطأة العرف الاجتماعي وأسواره المكبلة وهذا ما رأيناه في الشخصيات النسائية في مجموعة الروايات التي يبدأ عنوانها ب”خضراء” فهي مهزومة وراجعة إلى الحضن الأبوي المهيمن متناسية أحلامها وجموحها العارم نحو الحرية.
مجموعة الروايات التي يبدأ عنوانها ب”خضراء” باعتبارها أحدث ما كتبه هاني الراهب “خضراء كالحقول”، “خضراء كالمستنقعات”، “خضراء كالبحار”، و”خضراء كالعلقم” عكست تلك المساحة بين اللون والحالة الشعورية وذلك الالتباس بين رمزية الاخضرار وأطيافه في عالم الدلالات الذي يحيل إليه الأخضر ففي ” خضراء كالمستنقعات اشتغل على تعالق السياسي مع الاجتماعي ومعركة البطلة سلمى مع المجتمع المتعصب للالتزام بالحجاب وهي على أهبة الانخراط بكومونة يسارية، إذ يتقدم السرد على لسان امرأة باعتراض على قساوة المثل ضرب العصافير بالحجارة” ضرب عصفورين بحجر واحد” لينتقل إلى تجسيد الخوف الجاثم في الصدور من ألف عام نتيجة الأنظمة القمعية المتتالية “لا يموت الناس من الجوع لكن كرامتهم تموت بسبب الخوف” والسؤال الواقعي عن أولويات المرحلة متسائلاً “ألم يكن بالإمكان أن يتحمل التنظيم الاجتماعي زبداً تفوهت به أفواه حالمة” لينتقل إلى الهم المركب للمرأة علاقتها مع الرجل وعلاقتها مع السلطات القائمة.
” متى نبتت شجرة الملكية في تراب الحياة” فالمستنقع قمة المأساة التي تعيشها النساء خائبة الروح باستقرار عميق في استسلام الأحلام وهدرها لما هو مستقر في ذاكرة الخنوع البشرية، ورغم ذلك كل التنازلات الاجتماعية التي مارستها البطلة سلمى لم تمنحها إحساساً بالأمان المفترض.
المياه الخضراء الداكنة توحي برييع وما من ربيع، توحي باخضرار وليس سوى المياه الآسنة تموت البطلة مئة مرة وتبقى على قيد الحياة وما عداها قصص وروايات وقد أقحم الكاتب اسمه الحقيقي في النص كنوع من صد القارئ من الاسترسال في الخيال ورده إلى الواقع مراقباً ومحايداً.
معاناة هاني الراهب الحياتية من المنع التضييق والاعتقال وسحب جواز سفره من السلطات القائمة آنذاك وفصله من عمله في جامعة دمشق وارتحاله للعمل في دول النفط تلقي ظلالها الكامدة على أغلب أعماله وتظهر متوارية كسيرة ذاتية تظهر فيها ملامح حياته الشخصية ففي رواية “رسمت خطاً على الرمال” كانت رحلته في بلد النفط واغترابه عن مكانه الأول وهو المسكون بمدن الأسئلة مطلقاً إياها على مدنه المتخيلة ” ماذا، متى، كيف”. كما يبرز الغرائبي والعجائبي فيها متكئاً على حياة شخصيات سردية مثل أبي الفتح الإسكندري وعيسى بن هشام وشهريار وشهرزاد ودنيا زاد وأفقر زاد عبر الخيال المجنح الخارق وغير المألوف في تجواله بين تخوم عوالم لامتناهية يرسم فيها تحولات الشخصيات وتهشيمها وإعادة صياغتها من جديد، فقد اشتغل فيها على تقنيات مكثفة في التلاعب بالزمن بين الإبطاء والتسريع بحسب أهمية ودلالة التكثيف والانبساط في الحدث المروى عبر التنقل بالأزمان من ماض سحيق يستلهم حكايات ألف ليلة وليلة ومقامات بديع الزمان الهمذاني في خلطة عجائبية من عالم الخيال واللامعقول متنقلًا بين الأرض والسماء والماضي والحاضر والحياة والموت في تشظي للزمن والتركيز على بؤر فاعلة في استعادته لواقع الفرد المنفي والمبعد الملاحق للقمة العيش التي ماتزال تنأى عنه مفككاً للخطاب الديني الذي يهلل للحاكم في كل زمان لأن “”الرضا والرقاب ملك يديه، أي تاج أعز من تاجيه”، في تحريف واع للعبارة المسكوكة.
كذلك صنفت روايته “الوباء” باعتبارها من أفضل مئة رواية عربية والتي حازت جائزة اتحاد الكتاب ورصد فيها سيرة أسرة عبر ثلاثة أجيال في رحلة أبنائها من الريف إلى المدينة وعلاقتها بالسلطة والعسكرة في بناء سردي متماسك موظفا التراث الشعبي والروحي والديني في أسطرة الشخصيات وتشكيلها ورصده للشخصية العربية في تغيراتها وانعكاس الأزمات السياسية على وعيها ومصائرها.
العتبات النصية كعناوين ملتبسة:
العنوان باعتباره جزءاً من العتبات النصية للعمل يشكل أحد مفاتيح النص المعبرة عنه أو لجزء منه، إذ تثير فهماً مخاتلاً مما يصعد من فعالية التشويق في الوصول لأفكار النص، فالعنوان “رسمت خطاً على الرمال” عنوان مراوغ فهو قد يشير إلى الخطوط الواهية التي تفصل البلدان العربية وقد رسمها الميجر فيكس بقلم رصاص ليشكل دويلات النفط أو بتأويل آخر قد يفسر محاولة من الكاتب في الحفر على وعي لوجود مفقود الأمل من تحققه.
“شرخ في تاريخ طويل”: العنوان نفسه قصة قصيرة تحيل إلى أهمية تفكيك هذا التاريخ المشروخ في بناه الأساسية وخاصة محرماته الثلاثة الدين والجنس والسياسة.
“بلد واحد هو العالم” كعنوان يختزل معنى مقولة كاملة في أن المسائل الصغيرة صورة عن كبريات المسائل وتكثيف لها وإن ما يحصل في مكان ما صدى لواقع وتوجهات مكان آخر.
“ألف ليلة وليلتان” في تناص مع عنوان النص الشهير وانحراف عنه في تجاوزه الإرث الحكائي المعروف ليزيدها ليلة أخرى كناية عن رؤيته الخاصة بتجدد الهزائم واستمراريتها فقد أخذ العنوان من سياقه وأجرى عليه تحويراً ليرده إلى معنى آخر.
“خضراء كالبحار” جسده تعبيره المباشر “الفرح والجمال كنزان صغيران في هذا العالم وأنت الخضراء كالبحار تجعلينهما يكبران”.
ولكن في جانب آخر تظهر دلالة معاكسة للعنوان وهي عكر الأعماق الذي يظهر على السطح نتيجة تقلب أعماقها وتلونها بين ذاتها الحقيقية والذات المتقولبة فيها التي برمجت شخصيتها وفق الأعراف السائدة.
ويكفي عنوان “خضراء كالعلقم” في تبيان المفارقة بالعبارة الواحدة في التعارض بين الاخضرار الذي هو لون النماء والاستمرار والأمل وما يقابلها من طعم الواقع المر.
في كل ما سبق يركز هاني الراهب على الشخصيات المهتزة والمهمشة وصراعها مع نفسها وواقعها. “الأرض الواطئة هو الشعور الذي يخلق مع الكائن” في وصفه الكائنات المهزومة سواء على صعيد القضية الوطنية أو على صعيد القضية الاجتماعية كواقع المرأة في الشرق، وقد لا يفي مقال واحد للإحاطة بتجربة هاني الراهب السردية فكل عمل وكل نص من نصوصه يحتاج دراسات وأبحاث عدة، وتبقى قضية الحرية هي العنوان الأبرز في أعماله نتيجة لإحساسه الوجودي العارم بأهمية الكينونة الإنسانية للفرد وقد توجت باجتراحه عالم التجريب في التعبير عن رؤاه ومواقفه في صيرورتها الإبداعية المتألقة.
*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ“
by د. علي محمد صافي | Nov 12, 2024 | Culture - EN, Roundtables - EN, العربية, بالعربية, Articles - EN
ياسين الحافظ كاتبٌ ومفكر سياسي سوري من الطراز الرفيع، يعدُّ من المؤسسين والمنظرين للتجربة الحزبية العربية. اشترك في العديد من الأحزاب القومية واليسارية، ويعدُّ الحافظ في طليعة المفكرين التقدميين في العالم العربي، اتسم فكره بالواقعية النقدية، تحت تأثير منشأه الجغرافي والاجتماعي. حيث ولد ياسين الحافظ في عام 1930 بدير الزور السورية كما يروي هو في سيرته الذاتية، بل الأيديولوجية والسياسية، التي سطرها في كتابه: الهزيمة والايديولوجيا المهزومة.
عاش الحافظ في بيئة صحراوية عشائرية تقليدية، بقي تأثيرها عليه مدى الحياة، لكن اتصاله عبر والده بالشيخ محمد سعيد العرفي(1896- 1956)، مكَّنه من تجاوز تلك العشائرية، وكان ذلك أيضاً مناسبة للتعرف على إسلام سني نُزعت منه قشرته الصوفية – على حد تعبيره – وطُرِدت منه الخرافات، إسلام متزن، متوازن، بسيط إلى حد البداوة، وعلى استعداد للتصالح مع بعض منجزات العلم، وقد ساعده ذلك على الانعتاق الكلي المبكّر من التقليد العشائري، والانتقال إلى ممارسة سياسية حديثة، تتجاوز الممارسات السياسة القبائلية. وقد كان النضال ضد الاستعمار الفرنسي المدخل الأولي الذي قاده إلى ميدان السياسة، وبالتالي كان شغله وانشغاله منذ صغره يتعدى المصلحة الشخصية أو العائلية أو العشائرية، فكان الحافظ ممن أسهموا في بلورة التجربة الحزبية في دير الزور، بل في سورية والعالم العربي، في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. (الحافظ، 1978، الهزيمة والايديولوجية المهزومة، ص6).
يُذكر على هذا الصعيد أن الحافظ انتسب إلى الحزب الشيوعي السوري عام 1955، ثم تم فصله منه بعد عام تقريباً بسبب انتقادات الحافظ للحزب، ثم شارك في صياغة المنطلقات النظرية لحرب البعث في مؤتمره السادس عام 1963، لكنه سرعان ما انشق عن الحزب وشكَّل ما عرف باسم حزب البعث اليساري، وقد انبثق عنه حزب العمال الثوري العربي 1965، وقد كان الحافظ أميناً للحزب حتى وافته المنية عام 1978.
لم تكن التجربة الفكري لدى الحافظ وليدة تأمل فكري بحت، فقد تشكلت بنية الوعي لديه ارتكازاً على تجربة شخصية كانت بمثابة الحاضنة التي عملت على تفتق روائز الوعي التقدمي لديه، فموقفه من المرأة ومن مسألة تحررها التي تعدُّ – حسبما يرى – رائزاً ومحكاً لتحرر المجتمع وتقدمه ككل. هذا الموقف قد ساهم في إبرازه وتأصيله، ما عاناه الحافظ من التمييز بسبب العرق والدين، فوالدته، كانت أرمنية مسيحية، وسط بيئة تقليدية محافظة، فعانت ما عانت من تمييز ورفض مجتمعي، مما انعكس بشكل غير مباشر على الحافظ، فكانت مواقفه الفكرية مبنية على خبرة حياتية مريرة، لاسيما أنه تم سجنه لمدة عام تقريباً غادر على إثر ذلك سورية إلى لبنان ليمضي فيه بقية حياته.
قضية والدته جعلت قضية تحرر المرأة في طليعة الأفكار التقدمية التي تبناها الحافظ، كذلك ساعدته في تجاوز الحدود الفاصلة بين البشر سواء أكانت عرقية أم دينية، الأمر الذي جعله منفتحاً على الآخر الغريب، وبالتالي كانت تجربته الفكرية والسياسية محكومة بهاجسين عميقين، وهما الديمقراطية الغربية والاشتراكية الشرقية.
فالتجربة السياسية للحافظ، كانت ذات طابع قومي فرضته وقائع الاستعمار الأوربي من جهة، وقضية فلسطين من جهة أخرى، ويتحدث هو نفسه عن هذه التجربة التي بدا بها راديكالياً ورومانسياً، وقد تمثلت راديكاليته بموقفه العدائي ممن تسبب في نكبة فلسطين، وهم الحكَّام العرب المتواطئون مع الاستعمار الذي مكن لإسرائيل احتلال فلسطين، أما مثاليته فكانت تتجلى بإيمانه بأن الحل يكمن في الإطاحة بالنخب الحاكمة واستبدالها بحكام أشبه بأنبياء صغار، فكان موقفه وأحكامه السياسية بادئ ذي بدء سطحية أو مسطحة، وقد استغرق هذا التسطيح قرابة عقد ونيف، حتى أدرك الحافظ أن الأزمة الحقيقة تكمن في العمق أو ما قبل أو ما تحت السطح، ويقصد بذاك الشعب؛ القاعدة العريضة لأي نخبة سياسية أو ثقافية. وبالتالي فالعيب ليس محصوراً بالنخب، بل يتسع لشمل المجتمع الذي أفرز هذه النخب، والمجتمع العربي بالذات هو المهزوم الحقيقي، وقد فاته اللحاق بموكب التقدم والحضارة، والفوات التاريخي مصطلح خاص بالحافظ، ويعني عدم اللحاق بالنهضة العصرية.
وقد ترافق هذا الانتقال الفكري السياسي من السطح إلى العمق –عند الحافظ – بانتقال اعتقادي من معتقد لآخر، فمن إسلام صوفي سطحي إلى إسلام عقلاني علماني متزن، ثم انتقال إلى معتقد جديد قوامه القومية العربية التي فرضتها القضية الفلسطينية، مع تلاوين يوتوبية، ما لبث أن انتقل إلى معتقد جديد وهو العقيدة الماركسية، دونما تجاوز كامل للقومية، فقد كانت ماركسيته متصالحة مع قوميته، كما يصرح هو: لم أعد قوماوياً بل قومياً (أو أموياً) وبالتالي لم تعد الأممية دعوة إلى تخل عن القومية، بل دعوة إلى فهم المصلحة القومية في سياق عالمي رحب وأكثر توازناً وواقعية، وأخيراً دعوة إلى تجاوز النرجسية القومية، وإلى تواضع في فهم الذات القومية… من هنا كنت على الدوام، وعلى درجة متفاوتة من الوعي، أضع الثورة القومية الديمقراطية في المكان الأول والأولي في سيرورة المجتمع العربي وتقدمه.” (الحافظ، 1978، الهزيمة والايديولوجية المهزومة، ص11-12).
ومن هنا كان الحافظ يدعو إلى تعريب الماركسية، أو تكييف الماركسية للأوضاع العربية الملموسة، ولم يكن يرى من تناقض بين القومية والماركسية، وأن كل ما يبدو من تناقض بينهما إنما مردَّه إلى الوهم، وما إن تجاوز الحافظ هذا التناقض حتى تفوقت ماركسيته على قوميته، وبدا المنطق الماركسي مُحكماً متسقاً، بينما بدا المنطق القومي العربي مفككاً ساذجاً. والحديث هنا عن الماركسية غير المؤسساتية وغير السوفيتية، التي انتقدها الحافظ على مدار سنوات، لكنه سرعان ما وجد نفسه ضمنها متجاوزاً نقده لها، في تناقض يبدو غريباً إلى حد ما.
وينتقد الحافظ منهج السياسات العربية، ويرى أنها إما سياسيات ثورية رومانسية أو واقعية محافظة. والنتيجة في كلتا الحالتين تكمن في النزوع المحافظ الذي يحكم الرؤية السياسية العربية. فالواقعية المحافظة تتنكر بالنتيجة للقوى الكامنة أو الممكنة لدى الأمة، ولذا تتجه تلقائياً إلى الخنوع والمصالحة، وبالمقابل فإن الثورية الرومانسية تجد نفسها بالنهاية عاجزة عن الفعل السياسي، فتقع إثر سلسلة من الإخفاقات، في نزوع يائس واستسلامي ومحافظ سياسياً. (الحافظ، 1997، التجربة التاريخية الفيتنامية، ص145)
وينتقد الحافظ أيضاً الفكر العربي التقدمي بفرعيه القومي والماركسي، ويرى أنه ” فكر مستريح، بلا إشكاليات ولا هموم، لذا فهو متفائل، وهو متفائل لأنه فكر أيديولوجي، فكراني، يعيش مع نفسه لا مع الحقيقة الواقعية… الفكر القومي العربي الذي ما زال فكراً تقليدوياً في جوهره ( وبالتالي هو قوماوي وليس بالقومي) … وقد اختزل ( وبالتالي سطح) المسألة القومية إلى مسألة الوحدة العربية واستراح، في حين أن مسألة الوحدة العربية رغم أنها التتويج والمآل، تشكل جانباً من جوانب المسألة القومية، وتظاهرة من تظاهراتها.( (الحافظ، 1997، التجربة التاريخية الفيتنامية، ص132-133).
ويرى الحافظ أن ثمة عوامل عدة ساهمت في إفشال كل التجارب النهضوية، في بلادنا العربية، بما فيها التقدمية الماركسية، ومن بين تلك العوامل مثلاً عدم بزوغ ثقافة ليبرالية عربية حديثة، وعدم ولادة أنتلجنتسيا عربية حديثة ثورية، أضف إلى ذك أن الماركسية العربية قَدَّمت نفسها للشارع العربي كطبقة متعالية؛ وهي طبقة خواجات أو متخوِّجة، وهذا ما جعلها معزولة ومنبوذة، خلافاً للماركسية الفيتنامية التي شكلت حركة شعبية واسعة؛ لأن نشوؤها بالأساس كان قومياً لا محلياً. (الحافظ، 1997، التجربة التاريخية الفيتنامية، ص91-92). وليس كما الماركسية العربية، تحمل نفس الشعارات القومية والأممية، لكنها تمثِّل على الأرض نخبة معزولة من الأنتلجنتسيا.
أدرك الحافظ الدور الذي يلعبه العامل الأيديولوجي في نجاح أو فشل أي تجربة ثورية، ومن هنا رأى أن الناصرية قد أخفقت؛ ليس لأنها برجوازية صغيرة، بل لأن أيديولوجيتها متأخرة ومحافظة، وتفتقر إلى وعي كوني تاريخي. لقد كان عبد الناصر فرصة تاريخية ضاعت على الأمة العربية، لأن الأنتلجنتسيا العربية والمصرية خصوصاً لم تكن تملك وعياً مطابقاً لحاجات التقدم العربي، لهذا فشلت التجربة القومية الناصرية.
وفي لبنان حيث كانت محطته النهائية، تعرَّف خلال تواجده هناك على أعمال المفكر المغربي عبد الله العروي (1933-1971)، وقد ساعدته تلك الأعمال على تجاوز الأيديولوجيا بمعناها التقليدي، كما ساعده العروي على وعي البعد التاريخي للواقع العربي، حيث كان العروي ينشد التاريخانية كأساس وحيد للتقدم العربي، وهذا التقدم لا بد أن يتم على خطى أوربية ليبرالية، فحاضر أوربا هو مستقبل الأمة العربية، ومن هنا ندرك كيف أن الحافظ جمع بين القومية والماركسية والليبرالية، برغم كل الواقعية والنقدية التي اتسم بها فكره. وهذا مصير كثير من الكبار الذين انتهوا إلى توليفة تجمع المتناقضات في أطروحة واحدة.
*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ“
by دعد ديب | Jul 22, 2024 | Culture - EN, Roundtables - EN, العربية, بالعربية, Articles - EN
يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن سبقه من جهة وميله للتجديد والحداثة ورغبته بربط البلاد بأواصر التقدم واللحاق بركب الحضارة من جهة أخرى.
فالعجيلي يعد علماً من أعلام الأدب والثقافة، له الريادة في التأسيس والانفتاح على الثقافة العالمية، ولطالما كان التخلف والتأخر الحضاري هاجسه المؤرق لما لهذين الثنائي من نتائج كارثية على مستوى العباد والبلاد، فلا نهضة ولا تحرير ولا عدالة بغياب العلم والثقافة دعامتي الوعي والتقدم الحضاري، لذا تراوح نشاطه بين الرؤى الناقدة للبيئة من عادات وتخلف اجتماعي وبين محاولاته ترسيخ ما يحمله الموروث من قيم إيجابية وعراقة وأصالة فقد عمل على المزاوجة بين العادات الصارمة والأخلاق النبيلة والحذر من رقابة تلك الأعراف بذات الوقت لوعيه بمسؤوليته للنهوض بهذا المجتمع لا أن يكون غريمًا له وهو الطبيب الرقيق والرفيق بالفقراء والمعوزين.
لقد انتمى جيله إلى موجة أحداث سياسية كبرى تميزت بتنامي التيارات الفكرية والسياسية وقد كان بارزاً في معمعة التحولات الجارية وذلك بربط الكلام بالعمل في انسجام أخلاقه وسلوكه مع ما يكتبه ويقتنع به ويمارسه كالتحاقه بجيش الإنقاذ في فلسطين وتخليه عن مناصب هامة لأجل ذلك ومعاناته مثل الجميع من ثقل النكسة على وجدان الفرد العربي.
جمع عاشق الفرات السياسة مع فطرة البداوة مع استيعابه وانسجامه مع نمط الحياة المدينية لكثرة ما ارتحل وسافر وتعرف على الأمكنة والبلدان، هو الهاوي الأبدي للكتابة على الرغم أنه لم يحترفها بمعنى التفرغ ولم يمارسها إلا في أوقات فراغه ومع ذلك اتسع عالمه ليحاور ويجرب أغلب الأشكال الأدبية إلى جانب مهنته الأساسية كطبيب ومهامه الأخرى التي كلف بها مثل إشغاله مناصب في البرلمان والوزارة فقد جرى تكليفه العام ١٩٦٢ بين شهري نيسان “ابريل” وأيلول “سبتمبر” بثلاث وزارات، الثقافة والإعلام والخارجية.
رحلته مع السرد:
عبد السلام العجيلي حكاء من طراز خاص يكتب بعفوية الفنان دون أن يفكر في أي مكان أو مذهب أدبي سيصنف أو يحتسب، فقد بلغ رصيده من الأعمال الأدبية حوالي أربعة وأربعين كتابًا، وقد ترجم البعض منها إلى اللغات العالمية، ومما يلفت الانتباه قدرته على التنقل بين الأجناس الأدبية إذ نرى نتاجه موزعاً بين الشعر والقصة والرواية والمقالات بالإضافة لأدب الرحلات والمذكرات والسير الذاتية، ويرى محمد أبو معتوق أن العجيلي استطاع «أن يؤسس ملامح السّرد التقليدي ودعائمه في سورية، من قصة ورواية…».
عرف عن طبيب الفقراء التزامه العروبي واعتزازه بقوميته وما مشاركته في حكومة الانفصال إلا محاولة منه لرأب الصدع وتلافي العوائق ولكن القوى المهيمنة كانت أقوى منه وقد ضمن مكابداته تلك في أعماله المتعددة، فالأدب لديه انعكاس تلقائي لأحاسيسه وأفكاره وقد صرح بذلك بما معناه ” أنا أكتب كي أنفث عما يعتمل في أعماقي” فقد كان مهموماً بفكرة الوحدة العربية إبان المد القومي بالمنطقة، لذلك حفرت حادثة الانفصال بين سوريا ومصر آثاراً عميقة في وجدانه ظهرت في روايته “باسمة بين الدموع” التي صدرت بفترة الخمسينات تعرض فيها لمافيات الفساد المهيمنة، وقد اعتمد فيها أسلوب الخطف خلفاً المستعار من السينما بأن يبدأ بنهاية العمل ليتدرج بعدها إلى البدايات، وقد رصد فيها النفاق الاجتماعي والسياسي في المجتمع> وكذلك في رواية “قلوب على الأسلاك” التي صنفت من بين أفضل مئة رواية عربية اشتغل فيها على تقنية الترجيع والاستباق وعبر مشهديات منفصلة بدت كلوحات نصية يترك عبء الربط فيما بينها على عاتق القارئ الحصيف، وقد سمح بذلك أسلوب التداعي للأفكار التي يدرجها البطل في مذكراته، فهو يصور الطبقة المخملية في المجتمع التي ولدت من رحم الطبقة الإقطاعية المرتحلة بعيني شاب ريفي يأتي إلى العاصمة وهو يكتشف ناسها وأهلها وينتبه لاهتماماتهم التي تتقنع بالشعر والأدب عبر صالونات الثقافة وعبر إطار علاقات عاطفية لبطله التي يوحي العجيلي أنها هدفه من العمل، ولكن يتبدى في ثناياها مواقف تلك الفئة التي تتبوأ المراكز الهامة والمفصلية بالبلد، وتختار بناء تلفريك يربط ساحة الأمويين بجبل قاسيون في العاصمة دمشق، بذات الفترة التي تحتاج البلاد لخطط تنموية أكثر أهمية وتوطيد بنى تحتية تضمن حاجات الشعب وتدعم الاستقرار وعدم التبعية للخارج، وهنا يصور حالة التوتر الذي ساد عقب الانقلاب السياسي الذي دفع بجمعهم إلى الهروب الكبير، كتعبير عن الفشل والعجز، مما يلخص موقف البرجوازية المحلية غير الحقيقي من مشروع التحديث والتنمية ومن قضية الوحدة كذلك، حيث الهروب من المركب قبل الغرق واللحاق بمصالحها هو هدفها غير المعلن، وترك الجماهير وقاع المجتمع لتقلبات السياسة الهوجاء.
تتميز سردياته بالتنوع وغنى الأمكنة التي يتجاور فيها مجتمعا البداوة والحضر بالإضافة لتجاور الأساليب الفنية المختلفة كما ينوع بين الخيال العلمي والواقعية الصرفة ويزاوج بين التوجه للعلم وبين استثمار الطقوس الروحانية والأعراف المتوارثة مروراً بالعجائبي كما في قصة ” العراف”، أو أسلوب القصة داخل قصة كما في قصة “الأحجية”.
وتميز أيضاً بتشريح علاقة الشرقي بالغرب في روايته الأخيرة “أجملهن ” والتي كانت واضحاً فيها التمييز الدقيق بين مفهومي الآخر المتحضر الذي يجب الاستفادة من تقدمه وتطوره وبين المستعمر الذي يمتص خيرات البلاد ويرسخ الجهل والتخلف فيها.
أما في مجال القصة القصيرة فقد عُد أحد روادها في سورية كما صنفه القاص المصري يوسف إدريس وقد اتسمت مجموعته القصصية الأولى “بنت الساحرة” بالواقعية والمباشرة والبساطة باعتماده صوته الشخصي في سرد الأحداث كما عُدت نموذجاً للوعظ الأخلاقي المحافظ، وقد اعترف الكاتب نبيل سليمان في كتابه النقدي اللاذع” الأدب والأيديولوجيا في سورية” بالمستوى الأدبي الرفيع لعبد السلام العجيلي رغم تصنيفه بخانة شواهد الأدب القديم، وأرى هنا من الضروري أن نفهم ونقيم تجربته الأدبية في سياقها الزمني الذي كتبت فيه والتي كانت في باكورة المنجز العربي عمومًا.
كذلك أفرد العجيلي مساحة لأدب الرحلات لكونه كثير الأسفار والتنقلات بين المدن والعواصم وقد نقل تجربته إلى قراءه وألف عن رحلاته ثلاثة كتب هي: ” دعوة إلى السفر” و ” خـواطر مسافر” و” حكايات من الرحلات.”
وأيضا برع في فن الرسائل الذي كان حاضرًا في قصته (لقاء كـل مساء وثلاث رسائل أدبية) من مجموعة “الخيل والنساء” حين تحدث عن الحب والعلاقات الإنسانية.
حكايته مع المدينة:
المكان الأول ” الرقة” تلك المدينة الواقعة على كتف الفرات التي كانت معلماً حاضراً في وجدانه أينما ارتحل وأينما حل، وهي التي ارتبطت باسم العجيلي بشكل بارز وجلي، حيث أواصر الارتباط العالية للأديب بالمدينة وكأن المدينة هو، وكأنه المدينة.
انحدر عبد السلام العجيلي من بيئة بدوية من عشائر البو بدران التي نزحت من الموصل إلى ضفاف الفرات، وقد تخرج طبيبًا من جامعة دمشق واستقر في مدينته الرقة بعد التخرج وافتتح عيادته بها، وهو الذي عشق السفر والترحال عبر أصقاع الأرض ومع ذلك بقي رجوعه إليها دائماً وظل عاشقاً متيماً لمدينته “الرقة” عروس البادية السورية.
وترجع تسمية الرقة على الغالب بأن الرقة بطائح الماء بعد الفيضان، فيضان النهر أو ما يتبقى منه حين يحل الجزر بعد المد، ومفردها البطيحة أي الرقة، الرقة درة الفرات، والعجيلي الذي سلخ تسعة عقود من الزمن كان جلها فيها لدرجة سميت “رقـة البـدري” وهي كلمة مختصرة من بدوي وحضري، نعم هي الرقة التي لطالما كانت غاوية ومغوية ولطالما قصدها الملوك والشعراء ورجال الفكر والسياسة منذ هارون الرشيد ومن قبله هشام بن عبد الملك وسواهم، وقد قال عنه نزار قباني بأنه: أروع بدوي عرفته المدينة، وأروع حضري عرفته الصحراء.”
كان العجيلي صاحب نكتة ونوادر ساخرة وقد انضم إلى “عصبة الساخرين” قديماً، مع المرحـومين عبـاس الحامض، وممتاز الركابي وعبد الغني العطري وسعيد الجزائري. ومع نشأت التغلبي وآخرين، وقد قال في إحدى الكلمات التي ألقاها:” أن الله في الدار الأخرى، لن يحاسب الكتّاب على ما كتبوه وهم أحياء على ظهر البسيطة، بل إنه سوف يحاسبهم على ما لم يكتبوه” في تورية عميقة للرقيب الاجتماعي والسياسي في حجب المخزون الثقافي المختبئ في داخله وكثافة ما يود قوله لو منح مزيداً من العمر فقد عاش حياة مفعمة بالعمل والإبداع، كان مع الناس وللناس في زمن مبكر اتسمت المنطقة بالتخلف وسيطرة الرجعية غداة تحررها من ربقة الاستعمار ولطالما عُد رائداً من رواد النهضة في سورية والوطن العربي فهو الطبيب والأديب والسياسي المفوه الذي اجتمعت القلوب على محبته.
وقد وصف أهل الرقة جنازته “بأنه مات على سروج الخيل” أي كان يعمل ويكتب ويسافر حتى آخر أيامه بكل روح العطاء والإقبال على الحياة ورحل في صحبة الضوء مشعاً وخالداً.
*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ“
by عامر فياض | Jun 24, 2024 | Culture - EN, Roundtables - EN, العربية, Articles - EN
إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في إبداع الموشح الحلبي المعاصر ذي الهوية السورية والعربية الأصيلة، وجَعَله يرتقي إلى مرتبة الموشح الأندلسي ويكون امتداداً له، ليُشكل بذلك مدرسة فنية متفردة ومتكاملة في فنون الموشحات ورقص السماح المرافق لغنائها. مدرسةٌ أغنت مكتبة الموسيقى العربية ونشرت إرثها الفني المتنوع في مختلف بلدان الوطن العربي.
ولد البطش في حي الكلاسة/ حلب عام 1885، درس القراءة والكتابة في الكتاتيب، إلى جانب علم الحساب والتجويد، وقد ظهر ميله إلى الفن منذ طفولته، حيث تمكن من حفظ عشرات الموشحات القديمة، وكان يرافق والده وخاله لحضور حلقات الأذكار وسهرات البيوت، التي تُنشد فيها الموشحات والأغاني الصوفية والطربية، ويتردد على الزوايا والتكايا الصوفية ليستمع لعمالقة الطرب وكبار المنشدين، الذين تتلمذ على يدهم، ومن بينهم: الشيخ بكري القصير وأحمد عقيل وصالح الجذبة وأحمد الشعار، وقد تعلم منهم فنون الموشحات وطرق غنائها وعلوم المقامات والإيقاعات والأوزان، بالإضافة لفن رقص السماح.
في عام 1905 التحق البطش في الخدمة العسكرية ضمن الجيش العثماني، ولأنه كان يمتلك موهبة وخبرة موسيقية مميزة ضَمَّه الوالي العثماني إلى الفرقة الموسيقية العسكرية، كعازف ترومبيت وآلات إيقاعية، وقد تعلم خلال ذلك قراءة النوتة الموسيقية ليصبح، في تلك المرحلة، واحداً من الموسيقيين القلائل الذين يجيدون تدوين مؤلفاتهم. وبعد إنهائه للخدمة العسكرية عمل البطش كعازف إيقاع مع الكثير من الفرق الموسيقية والإنشادية في عدد من مسارح حلب وزواياها، ثم بدأ أولى مراحل التلحين ليبرز كواحدٍ من أهم المراجع الموسيقية في حلب، إذ كان يحفظ مئات الموشحات القديمة، ويلمّ بأغلب المقامات والإيقاعات والأوزان الموسيقية الخاصة بالموشحات.
في عام 1910 إنضم البطش لفرقة الشيخ الحلبي الشهير علي الدرويش كمنشد وعازف إيقاع، ثم سافر بصحبته في عام 1912 إلى العراق في رحلة موسيقية استمرت لعامين، أسسا خلالها بعض الفرق الموسيقية واطلعا على الإرث الموسيقي في المنطقة ونشرا جانباً من التراث الحلبي هناك. وبعد عودته إلى حلب تابع عمله الفني كمنشد وعازف إيقاع مع العديد من الفرق الموسيقية وفرق الإنشاد، إلى جانب عمله في التلحين وفي توثيق التراث الموسيقي الغنائي، حيث ساهم في حفظ وإحياء الكثير من كنوز التراث الحلبي.
وبالإضافة لتلحين الموشحات كرس البطش حياته في تدريس فنون الموشحات ورقص السماح، سواء في منزله أو في معاهد حلب ومن ثم دمشق، وقد تتلمذ على يده كبار مطربي ومنشدي حلب، الذين أصبحوا من أعلام الفن وعمالقة الطرب، ومن بينهم: صباح فخري وصبري مدلل ومحمد خيري وزهير منيني وبهجت حسان وحسن بصال وغيرهم. وإلى جانب ذلك، تأثَّر العديد من الملحنين والوشاحين العرب بمدرسة البطش ونهلوا من فنونها الكثير من أساليب وطرق تلحين الموشحات واستخدام أوزانها وإيقاعاتها، وخاصة فنون الموشح الحلبي، ومن بينهم فنان الشعب سيد درويش، الذي يعد من كبار الوشاحين المصريين، كما ساهم البطش أيضاً في تطوير وإغناء عددٍ من موشحات درويش، وذلك من خلال تلحين خانات إضافية لها لتنويع لحنها الأساسي وفق قالب الموشح الحلبي الحديث، فعلى سبيل المثال أضاف البطش لموشح يا شادي الألحان الخانة التي تقول: “هات يا فتان أسمعنا.. نغمة الكردان”، وإلى موشح يا بهجة الروح أضاف خانة: “هات كاس الراح وأسقيني الأقداح”، وإلى موشح العذارى المائسات أضاف خانة: “من ثغورٍ لاعسات ذاق طعم العسل”.
في منتصف الأربعينيات ومع افتتاح معهد الموسيقى الشرقية في دمشق، على يد الزعيم الوطني فخري البارودي، الذي كان وراء النهضة الموسيقية الكبيرة التي شهدتها دمشق في الأربعينيات والخمسينيات، انتقل البطش إلى العاصمة، بدعوة من البارودي، ليدرِّس في المعهد فنون الموشحات والمقامات والأوزان ورقص السماح، كما قام بتأسيس فرقة موسيقية وغنائية وفرقة راقصة خاصة برقص السماح، وقد تتلمذ على يده مجموعة من الطلاب الذين أصبحوا فيما بعد من أبرز ملحني الموشحات ومدربي رقص السماح في سورية، ومنهم: صباح فخري، عدنان منيني، سعيد فرحات، بهجت حسان، عبد القادر حجار، وعمر العقاد.
مع افتتاح إذاعة حلب عام 1949، استعان القائمون عليها بالشيخ البطش ليقوم بتدريب الفرقة الغنائية التابعة للإذاعة على غناء الموشحات والأدوار وغيرها، وقد ضمت الفرقة، التي سجلت العديد من أعمال البطش، كبار المنشدين والمطربين الحلبيين، مثل: صبري مدلل ومحمد خيري وصباح فخري وعبد القادر حجار ومصطفى ماهر وحسن بصّال.
انتهج البطش بموهبته المتفردة والمبدعة أسلوباً جديداً ومبتكراً في تلحين الموشحات، وذلك عبر الخروج من وحدة الإيقاع ورتابة اللحن، اللتين كانتا تُثقلا القوالب الموسيقية الغنائية التقليدية، فأغنى قالب الموشح بالكثير من الإضافات والتنويعات الفنية على بنيته اللحنية والشعرية، ليعمل على تطويره وعصرنته كي يتلاءم مع ذائقة العصر الحديث، وليدخل بيوت جميع الناس، وتعشقه أذن المستمع العادي وأذن الموسيقي المحترف على حدٍ سواء. وإلى جانب ذلك ساهم البطش في إحياء الكثير من الموشحات القديمة والتي كانت مهددة بالاندثار، وعمل على تطويرها ومنحها روحاً جديدة بإضافة خانات لحنية عليها، لتغيير مسار ورتابة اللحن الواحد الذي كان يقتصر فقط على الدور.
تميز البطش بكونه مرجعاً هاماً في علم المقامات الموسيقية وفي التعريف بالمقامات النادرة منها، والتي تتطلب مسارات لحنية خاصة لكي تبرز شخصيتها الموسيقية، لذا كان يلجأ لتلحين موشحاتٍ على تلك المقامات لتكون بمثابة وسيلة شرح وإيضاح لها. ومن إحدى الطرائف الشهيرة التي تروى عن البطش عندما التقى بالموسيقار محمد عبد الوهاب الذي زار مدينة حلب في الثلاثينيات، أن عبد الوهاب أراد أن يمتحن البطش بطلبه سماع موشحات على مقام السيكاه الصافي، وهو مقام يناسب الألحان الشعبية، لذا لم يكن مستخدماً في تلحين الموشحات. أخبر البطش عبد الوهاب أنه سيسمعه ما يريد في سهرة اليوم التالي، ولأنه لم يكن يتوفر أي موشح على ذلك المقام، أمضى البطش ليلته في التلحين، فلحن ثلاثة موشحات على مقام السيكاه، وقام في اليوم التالي بتدريب فرقة تخت شرقي وعدد من المغنيين على عزفها وغنائها ليسمعها للموسيقار عبد الوهاب في الموعد المحدد، على أنها موشحات قديمة، وبذلك فتح البطش الباب أمام الملحنين لتلحين موشحات على ذلك المقام.
كبير الوشاحين العرب
لحَّن البطش خلال مسيرته الفنية نحو 135 موشحاً من عيون الموشحات العربية، تضمنت مختلف أنواع المقامات الموسيقية والإيقاعات والأوزان المركبة، وقد سجل أغلبها لصالح إذاعة حلب بعد افتتاحها، وغناها كبار المطربين والمنشدين السوريين والعرب مثل: محمد خيري، صباح فخري، ومصطفى طاهر، صبري مدلل، حسن الحفار وغيرهم، إلى جانب العديد من الفرق الموسقية السورية والعربية. ومازال المطربون والمغنون يتغنون بموشحاته جيلاً بعد جيل، كونها تضفي قيمة فنية كبيرة لمسيرتهم الفنية، إذ كانت ومازلت تشكل مرجعاً موسيقياً للباحثين في علوم المقامات والإيقاعات، وتُدرَّس في كثير من المعاهد الموسيقية كوسائل إيضاح للتعريف بأنواع المقامات والإيقاعات والأوزان المركبة.
ومن أشهر موشحات البطش: موشح يمر عجباً وهو على مقام الحجاز كار كرد، وإيقاع المخمس التركي، في الروض أنا شفت الجميل على مقام الحجاز كار كرد، وإيقاع الثريا، هذي المنازل على مقام الراست وإيقاع المخمس المصري، قم يا نديم على مقام النوا أثر وإيقاع الدارج/ يورك، مُنيتي من رُمتُ قربه على مقام الراست وإيقاع العويص، داعي الهوى على مقام العجم عشيران وإيقاع الشنبر الحلبي، وموشح يا مالكاً مني فؤادي على مقام العجم عشيران وإيقاع السماعي الثقيل والرقصان.
ومن أبرز موشحاته على مقام اليكاه: موشح صاحِ قُم لِلحان هيا الإيقاع: فرنكجين تركي، موشح مُفرِدُ الحُسن المُبين الإيقاع: الطرّة، موشح حُسنك النشوان والكأس الروية الإيقاع: سماعي ثقيل، موشح مُبرقع الجمال الإيقاع: دارج يورك، وموشح بلبلٌ في الروض غنى الإيقاع: المُحجر.
ومن موشحاته على مقام النهاوند: موشح سُبحان من صور الإيقاع: سماعي ثقيل، يا ناعس الأجفان الإيقاع: أوفر مصري، خدك النَدي بوجه أنور الإيقاع: قتاقفتي، بدر حسنٌ زار الإيقاع: الشنبر الحلبي، يا مُنى القلب الإيقاع: أقصاق، وموشح ذا الأهيف المُعجب الإيقاع: مدور رباعي.
ومن الموشحات التي لحنها على مقام النكريز: موشح يا من رماني بالسهام، الإيقاع: الأوفر المصري، يا قوام البان الإيقاع: سماعي ثقيل، زارني تحت الغياهب الإيقاع: الفاخت، بين قاسيون وربوة الإيقاع: دارج يورك. وعلى مقام الزنجران : موشح طلعة البدر المنير الإيقاع: النيم دور، رقوا لمجروح الهوى الإيقاع: سماعي دارج، طاب يا محبوب شُربي الإيقاع: سماعي ثقيل، إذا دعانا الصبا هَبَبنا الإيقاع: الفاخت، وموشح يا جناني أقم الإيقاع: سماعي ثقيل. كما لحن على مقام الحجاز كار كرد: موشح طال عمر الليل عندي الإيقاع: نواخت، عذبوني ما استطعتم الإيقاع: أقصاق، يا عيوناً راميات الإيقاع: نواخت هندي، يا ذا القوام الإيقاع: مقسوم ووحدة كبيرة، وموشح فتاكة اللحظ الإيقاع: أقصاق تركي.
ويعد البطش من الوشاحين القلائل الذين لحنوا موشحات على مقام السيكاه ومن أبرزها: موشح صاحِ حان الروض باكر، الإيقاع: نواخت، يا مُعير الغصن الإيقاع: المُربع، وموشح رمى قلبي رشا أحور الإيقاع: المُربع.
وإلى جانب ذلك لحن البطش عدداً من الموشحات الدينية والصوفية، ومن أبرزها: موشح يا مادحاً خير الأنام على مقام العجم عشيران، موشح لُذ في حمى خير الأنام على مقام النهاوند. موشح هام قلبي على مقام البيات. وموشح يا خير خلق الله على مقام الهزام. والموشحات الأربعة على إيقاع الوحدة الكبيرة.
تطوير رقص السماح
بحسب كثير من المؤرخين والباحثين تعود أصول رقص السماح إلى مدينة منبج في حلب وتحديداً إلى الشيخ عقيل المنبجي الذي عاش في القرن السابع الميلادي، وهو من أبرز شيوخ الطريقة الصوفية. ويُعرف رقص السماح بشكله التقليدي بأنه فن يقوم على تجاوب حركة القدمين مع إيقاع الموشح، وتمايل حركة الأيدي والجسد مع اللحن والكلمات، ويمكن أن يرافقه العزف على الدفوف. وقد بقي هذا الفن محصوراً بمدينة حلب حتى نقله الشيخ عمر البطش منها إلى دمشق، لينتقل بعد ذلك إلى عدد من الدول المجاورة. ويعود الفضل للشيخ البطش في تطوير رقص السماح وتقديمه بالصورة المعاصرة التي استمرت حتى يومنا هذا، حيث قام بتطبيق حركات الأيدي والأرجل على إيقاعات الموشحات، وجعل كل إيقاع من الموشح يختص بحركات للأيدي أو للأرجل أو لكليهما معا، ليتكامل التعبير الفني بين السمع والبصر، وليتجلى التجسيد الحركي للإيقاع ونبضاته بأبهى صوره، ولتبرز العلاقة المتناغمة والعميقة بين أداء المغني وحركة جسد الراقص الذي يمثل الحس الحركي للإيقاع في كافة تنويعاته. وبغرض إغناء وتلوين رقص السماح وإبراز جمالياته بأفضل شكل تعبيري ممكن قام البطش بتطوير آلية تلحين الموشحات، التي تُغنى مع الرقص، بإدخاله التنويعات الإيقاعية واللحنية المقامية على الموشح ومنح المغني مساحاتٍ للارتجال والتفريد بصوته. ومثالنا على ذلك موشح قلت لما غاب عني ، الذي يتضمن ثلاثة إيقاعات. يبدأ بإيقاع النواخت، وهو سُباعي بطيء، ثم ينتقل إلى إيقاع السربند، وهو إيقاع ثلاثي معتدل السرعة، ومن ثم ينتقل إلى إيقاع الدور الهندي، وهو سُباعي سريع، ليعود بعد ذلك إلى الإيقاع الأول.
أدخل عمر البطش الكثير من التغييرات والتنويعات على رقص السماح، الذي كان في الأصل رقصاً صوفياً، بغرض إخراجه من قالب “السماح الديني”، الذي كان يؤدى في الزوايا والتكايا الصوفية، إلى “ السماح المسرحي” الذي يؤدى على المسارح من قبل الفرق الفنية. ويعود له الفضل في إشراك النساء في رقص السماح، الذي كان في الأصل حكراً على الرجال، وفي جعله أكثر تعبيرية ومواكبة للعصر، وذلك من خلال تحديث الفضاء العام للعرض الراقص وتحديث أزياء وألبسة الراقصين، بإدخال بعض التطاريز والزخارف عليها لكي تعطي طابعاً أندلسياً.
في نهاية الأربعنييات وبرغبة من الزعيم الوطني فخري البارودي قام الشيخ عمر البطش، الذي كان يُدرِّس فنون الموشحات وعلوم المقامات ورقص السماح في المعهد، بإدخال رقص السماح إلى مناهج التدريس بعد أن طوَّره بشكل منهجي، كما قام أيضاً بتعليمه لطالبات مدرسة دوحة الأدب للبنات، وقد قدمت طالبات المدرسة عرض رقص السماح لأول مرة على مسرح مدرج جامعة دمشق، في الحفل السنوي للمدرسة، لتصبح عروض رقص السماح بعد ذلك جزءاً أساسياً من عروض حفلها السنوي على مدى سنوات.
وقد استمر تقديم عروض رقص السماح، من قبل العديد من الفرق السورية والعربية الراقصة، حتى يومنا هذا، وذلك استناداً إلى الأسلوب المُطور الذي ابتدعه البطش، ومن بينها فرقة أمية للفنون الشعبية، التي قدمت عشرات العروض ضمن أداء استعراضي مشترك بين الراقصين والراقصات، وتحت إشراف أبرز تلامذة البطش: الأستاذان عمر العقاد وبهجت حسان.
في أواخر حياته مرض البطش وضعف بصره حتى كاد أن يفقده، ثم تدهورت حالته الصحية وأصيب بالشلل قبل أن يفارق الحياة في نهاية العام 1950 عن عمر ناهز الخامسة والستين عاماً، أمضاه حارساً للتراث ومخلصاً لرسالة الفن والإبداع، ليُخلد كواحدٍ من عظماء الفن في القرن العشرين، ويُمنح العديد من الألقاب، ومن أبرزها: كبير الوشاحين العرب، عميد الوشاحين، شيخ الكار، عبقري الموشح، سيد درويش سوريا، مؤسس الموشح الحديث، ورائد الموشح في سوريا والعالم العربي.
*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ“
by د. علاء مسعود | Jun 3, 2024 | Culture - EN, Roundtables - EN, العربية, بالعربية, Articles - EN
في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره وتحديداً في الرسم والأدب، درس نصير شورى المرحلة الابتدائية في مدرسة التجهيز في دمشق، أكمل المرحلة الثانوية في ثانوية جودت الهاشمي في دمشق، والتحق بمعهد الفنون الجميلة في دمشق، نتيجة هذه المرحلة كانت مرحلة الواقعية الانطباعية. حيث أبدع في مزج واستنباط الألوان التي عالج فيها مواضيع ملتصقة بالبيئة والطبيعة من عمارة قديمة وقرى ومناظر طبيعية وورود وأمومة ووجوه إنسانية وموضوعات إنسانية متنوعة. أخذه الشغف باللون والرسم في رحلةٍ إلى مصر ليكمل دراسته في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة، والتي تخرج منها عام ١٩٤٧، تعلم نصير على يد كبار الفنانين المصريين، مثل محمد ناجي، وراغب عياد، ومحمود مختار، وتميزت دراسته بتنوعها، حيث درس الرسم والتصوير والنحت، وتأثر بالعديد من التيارات الفنية، مثل الواقعية والتجريد، وخلال فترة دراسته، شارك نصير شورى في العديد من المعارض الفنية، ونال إعجاب الفنانين والنقاد، وبدأ بتكوين أسلوبه الخاص، مستوحياً من التراث العربي والإسلامي، وظهرت موهبة نصير شورى الفنية بشكل لافت خلال هذه المرحلة. ويشير عدد من الباحثين إلى أن دراسته في مصر لم تؤثر به بعمق حيث كانت الواقعية والسوريالية هما الاتجاهان السائدان هناك، يرجع ذلك إلى بدايات شورى حيث تعلّم الرسم على يد الرسام عبد الحميد عبد ربه ثم الفنان جورج بولص خوري؛ خريج المدرسة الوطنية العليا للفنون الزخرفية في باريس.
ساعدت دراسة نصير شورى في القاهرة على تطور أسلوبه الفني، فقد بدأ بتجربة تقنيات جديدة، وظهرت في أعماله تأثيرات من التراث العربي والإسلامي وإثر تخرج نصير شورى من كلية الفنون الجميلة بالقاهرة عاد إلى دمشق وبدأ مسيرته الفنية المهنية، برفقة نضوج معارفه العلمية من خلال دراسته الأكاديمية التي بدأها في مصر، وأكملها في أكاديمية الفنون الجميلة في روما- إيطاليا، والتي تخرج منها عام ١٩٥١ م، وقد كان أول من حصل على درجة الأستاذية (بروفيسور) بين أعضاء الهيئة التدريسية في كلية الفنون بجامعة دمشق، لذلك يعتبر نصير شورى من أهم المؤسسين لكلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق، ويمكن القول إنه درّس وأثر قي كل من تعلم وتخرج من هذه الجامعة فقد عمل فيها مدرساً لمادة الرسم والتصوير، وشغل منصب وكيل علمي لعدة سنوات، ساهم مع حمّاد وعبد النشواتي وجلال قصيباتي وأدهم إسماعيل في تأسيس “مرسم فيرونيز” سنة ١٩٤١، معبّرين عن قطيعة فنية مع التيارات التقليدية في الفن، كما ساهم في تأسيس “جمعية أصدقاء الفن” في دمشق عام ١٩٥٠ ، وأصدر كتابًا بعنوان “الفن التشكيلي في سورية”.
كان لنصير شورى حب كبير للطبيعة، تجلى ذلك في العديد من أعماله الفنية، فقد رسم المناظر الطبيعية الخلابة، مثل الجبال والوديان والأنهار، واستخدم الألوان الزاهية لتصوير جمالها، إثر هذه المرحلة جاءت مرحلة الواقعية ومن ثم الانطباعية على الرغم من الفروق بين الواقعية التي هي رسم الواقع، والانطباعية أي الرسم من الطبيعة، والتي تأثرت بعوامل عدة وهي مرحلة السفر وتأثره باتجاهات الفن التشكيلي الجديد، وتعمقه بشكل كبير بمعطيات التراث العربي، إضافةً إلى تأثير صديقه المقرب جداً الفنان محمود حمّاد (الذي غادر الحياة قبله بأربع سنوات في عام 1988) والذي كان قد سبقه في الفن التجريدي الحروفي الذي يقصد به استخدام الحرف بتكوينات فنية مجردة، بالاعتماد على الإحساس واللون والانفعالات، وبعد ذلك اتجه نصير شورى إلى الفن الرومنسي الجميل، وإلى نوع من التلخيص الحذر للشكل المشخص، والاختصارات المدروسة للون، وقد انتقل شورى إلى التجريد في منتصف الستينيات مع ظهور مساحات مستطيلة بالألوان والخطوط في لوحاته، قبل أن يزاوج بين التشخيص والتجريد في مرحلة لاحقة ضمن ابداعه الخاص الذي كان يخضع لقواعده أو قيوده الذي يختارها بنفسه. وقبل رحيله بنحو سنتين، اتجه إلى رسم لوحات بلون واحد ومشتقاته، وكانت لوحات كبيرة لها مواصفات خاصة مبرزاً التدرجات الضوئية التي أصبحت تعكس الحالة الداخلية الوجدانية معبّراً عنها بدينامكية وحركة لونية تشير إلى حساسيته الشديدة تجاه مفهوم التناغم.
أقام العديد من المعارض الفردية في سوريا والعالم العربي، وشارك في معارض جماعية دولية، كما أنه أصدر كتاباً بعنوان “الفن التشكيلي في سوريا” ١٩٨٠ ونال العديد من الجوائز، أهمها جائزة “بينالي الإسكندرية” عام ١٩٦١.من أهم أعماله الفنية: لوحة “الريف السوري” (1950)، لوحة “القدس” (1970)، لوحة “الأشجار” (1980)
يمكن القول هنا: إن نصير شورى جمع بين العفوية الانطباعية والعقلانية في التجارب المخبرية المجردة وشبه الزخرفية، وما دفعه لذلك كان محاولة التوفيق بين الحب القديم للتعبير الحر، وبين التجارب المأخوذة من قبل المختبر، وهذا ما أدى به الوصول إلى الاغتراب الشكلاني المجرد أي الابتعاد عن الشكل باتجاه التجريد. تجلّت غنائيته اللونية في تلك المرحلة قبل أن يذهب في تحوّلات عميقة في مشواره، والتي يلخّصها في مقابلة صحافية بقوله إنه “مرّ بثلاث مراحل. كان في الأولى انطباعياً وفي الثانية تجريدياً، ويومها بدأ ولعه بمادة الإكريليك، أما في المرحلة الثالثة فإنه عاد إلى الطبيعة، بعدما علمته المرحلة التجريدية خصائص جديدة في اللون، سماها الواقعية الجديدة، قدم نظاماً شكلياً ولونياً جمع بين التناغم أحياناً والتضاد أحياناً أخرى، وبين الهندسة والطبيعة، وبين الألوان الحارة والباردة، للوصول إلى تكوين له أصالته مستخدماً الدمج والابتكار وخلق تناغمات وتدرجات لونية، لتقديم لوحة فنية مستقلة.
ومع اتقاد لونه، وحضور ابداعه شحب شعاع روحه وانطفأ سمة ١٩٩٢ تاركاً خلفه إرثاً فنياً متميزاً بأصالته وابداعه.
يعتبر نصير شورى من رواد الحركة الفنية التشكيلية في المشهد الثقافي السوري، قد كان لفاعليته الأكاديمية والإبداعية الأثر الحاضر واقعاً وإن كان ذكره غير متناسب مع منجزه.
للاستزادة:
- بطرس المعري، شورى وحماد: سورية في لوحة صديقين، صحيفة العرب الجديد، 2017م.
- سعد القاسم، مئوية شورى 1920-2020م، وزارة الثقافة، الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، 2021م.
- طارق الشريف، الفنان الراحل نصير شورى، مجلة الحياة التشكيلة، 1992م.
- طارق الشريف، نصير شورى سيمفونية الألوان، وزارة الثقافة، الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، 2021م.
- غازي الخالدي، نصير شورى والتجريد الملحمي المُغني، مجلة الحياة التشكيلية، 1993م.
- عفيف البهنسي، الفنون التشكيلية في الإقليم السوري، 1960.
- فاروق يوسف، نصير شورى الذي رأى العالم بعيني طفل يتعلم المشي، صحيفة العرب، 2016.
- محمود حماد، نصير شورى، وزارة الثقافة، دمشق، 1992م.
وفي دراسة مصدر واكب الفنان نصير شورى وعاصره، لا بدَّ من البحث في كتاب عنوانه (نصير شورى…سيمفونية اللون) الذي صدر عن الهيئة العامة السورية للكتاب بتوقيع طارق الشريف وهو ناقد، وكان قد ألفهُ قبل وفاته عام 2013 وبقي مخطوطاً عند عائلته إلى أن تم نشره بخمس وتسعين صفحة مقسمة إلى ثلاثة فصول، وملحق صور يضم صور 38 لوحة من المراحل المختلفة لتجربة نصير شورى الثرية، وصدر كتاب يحمل عنوان (مئوية شورى) تضمن، مجموعة من شهادات الفنانين والمثقفين والنقاد بينهم الناقد طارق الشريف الذي وصف نصير شورى بأنه «علم بارز من أعلام الفن التشكيلي في سورية، ورائد من رواد الحركة الفنية، ومعلّم له دوره الكبير في توطيد هذه الحركة ورفدها بالأعمال الفنية المتنوعة، التي أسهمت في تطوير الرؤية الفنية وتجديدها، ووضع الأسس والمقومات لانطلاقة الفن التشكيلي وتحديثه، وتقديم الفن الأصيل المعبر عن الواقع، وما فيه من موضوعات وأشكال».
*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ“