by الحسناء عدرا | May 26, 2020 | Cost of War - EN, Roundtables - EN, Uncategorized
* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “الحرب على كورونا: معركة جديدة مصيرية للسوريين\ات“
“عيد بأي حال عدت يا عيد”، هذا مطلع من قصيدة للمتنبي في هجاء أحواله التي تزامنت مع قدوم العيد، ويبدو أن معظم السوريين يتبنون بحسرة هذه المقولة التي تعكس بدقة سوء أوضاعهم في ظروف الحجر الصحي وسط مخاوف من انتشار كورونا الذي اتفق حدوثه مع أهم مناسبة يحتفل بها السوريون في عيد الفطر. وقد غيرت ضرورة اتباع إرشادات السلامة العامة من عاداتهم المحلية وفرضت عليهم واقعاً جديداً وعادات معينة تُغير من طقوس الاحتفال بالأعياد وكل ما اعتادوا عليه خلال عقود، من زيارات أهلية وعناقات بالجملة وقبلات حارة والتنزه في الحدائق، جميعها عادات نسفت من قاموس السوريين هذا العام، ليقتصر الوضع على رسائل معايدات من خلف شاشة الجهاز الخليوي والاستعانة بإيموجي العناق الافتراضي الذي أدرجه مؤخراً الحائط الأزرق كبديل للعناق الحي. ناهيك عن الأعباء المادية لتكبد نفقات الحلوى وملابس العيد، حيث أصبحت هذه الأشياء صعبة المتناول لا يصل إليها إلا بمشقة شديدة قليلٌ من الناس. وأكثر من يعاني العوز والقلة جراء الظروف الحالية هم الشريحة التي تعمل في وظائف مياومة حيث يحصل هؤلاء الناس على قوت عملهم يومياً وانقطع مصدر رزقهم بسبب جائحة كورونا.
اضطرت سماهر التي تعمل سكرتيرة في عيادة الطبيب إلى أخذ سلفة مالية من عملها لكي تتمكن من شراء ملابس جديدة لابنتها الوحيدة فراتبها لا يصمد حتى منتصف الشهر، لكنها لم توفق كثيراً فاضطرت إلى أن تقصد سوق البالة، وتقول عن وضعها: “ذهبت أمس إلى السوق بعد أن أخذت سلفة بقيمة 15 ألفاً على راتبي عند طبيب العيون الذي أعمل لديه واشتريت بها بنطال، جينز بـ 10 آلاف ليرة، أما الباقي فاشتريت به قميصاً قطنياً من سوق الملابس المستعملة لأن ثمنها أرخص”.
أما سلمى فليست بأفضل حال، فقد اشترت ثياب العيد لطفليها بالتقسيط بعد معركة طويلة خاضتها في إقناع البائع الذي استسلم أخيراً ووافق على بيعها رأفة بحالها، وتوضح معاناتها: “لم يتوفر معي المال الكافي لشراء الملابس، إلا أن البائع وافق على بيعي إياها بالتقسيط على دفعتين بعد أن أعطيته مبلغ 10 آلاف ليرة كدفعة أولى، والثانية بعد العيد مباشرة”.
أما رهف فلم تتمكن من اقتناء ثياب جديدة لابنتيها بسبب توقف زوجها عن العمل على خلفية جائحة كورونا، وتُفسر حالها: “لم أشتر لطفلتَي أي ملابس جديدة هذا العيد، واكتفيت بثيابهما القديمة، فلدينا أولويات أخرى كدفع أجرة المنزل ومصاريف الطعام والشراب، لاسيما أن عمل زوجي تراجع كثيراً خلال فترة الحجر الصحي، حيث يعمل خياطاً وبقي محله مغلقاً لمدة شهر ونصف، أما راتبي الذي لا يتجاوز 25 ألف ليرة كسكرتيرة طبيب نسائية لا يكفي لسد نفقات أول أسبوع من الشهر”.
وبالنسبة لفراس الذي يعمل في مكان يحسده عليه الكثيرون، وهو موظف في بنك خاص، فقد اضطر إلى المفاضلة بين صيانة سيارته وشراء الملابس، مرجحاً الكفة الأولى، علاوة على الأسعار الجنونية التي تحتاج إلى راتب بأكمله لشراء بدلة كاملة (بنطال ـ كنزة ـ حذاء)، ويعقب بالقول: “بالرغم من أن راتبي يُعد جيداً، لكنني لا أستطيع تحمل نفقات تصليح السيارة وشراء الملابس في آن معاً، فالأخيرة أصبحت غالية جداً لا تتوافق مع نوعيتها الرديئة التي تهترئ بسرعة، وفي حال قررت شراء ثياب فستكون حتماً من البالة لسعرها المناسب وجودتها المتميزة ناهيك عن التزامات أخرى أكثر أهمية كدفع أجرة المنزل أو توفير بعض النقود للزواج”.
سياسة التقنين لحلوى العيد
اعتاد بعض السوريين على شراء حلويات العيد من المحلات، إلا أن البعض منهم تخلى عن هذا الخيار خوفاً من انتشار فيروس كورونا أولاً، ولغلاء سعرها ثانياً. أما من كان معتاداً على صنع الحلوى في المنزل فاتبع سياسة التقنين في المقادير بسبب كلفتها الباهظة، كسمر التي قلصت كمية الحلوى إلى النصف، حيث تَعَوَّدَت على إعداد كميات كبيرة إلا أن هذا العيد كانت تجربتها مختلفة وعن هذا تقول: “لا قيمة للعيد بدون حلوى، لم أعتد على صنع كميات صغيرة منه، ولكن يبقى أفضل من صنع لا شيء، فأسعار مكونات الحلوى باهظة للغاية لا يمكن تكبدها، أما شراؤها جاهزة فسعرها مضاعف، حيث بلغ سعر كيلو المبرومة 35 ألف ليرة “. في حين استبعدت شيرين مادة الفستق الحلبي من لائحة حلويات هذا العام نظراً لكلفتها العالية التي يصل سعر الكيلو الواحد منها إلى راتب موظف لمدة شهر والاستعاضة عنها بالتمر: “اكتفيت هذا العيد بصنع الحلويات المحشوة بالتمر والجوز فقط وبكميات مقننة على غير العادة، أما تلك المملوءة بالفستق فنسفتها من قائمتي فور علمي بسعر الكيلو الذي بلغ 45 ألف ليرة”.
هذا واتجهت بعض العوائل السورية ممن لا يستطيعون تكبد نفقات الحلويات إلى ابتكار وصفات تقشفية والاستعانة بالمواد الأولية وتقديمها إلى مائدة الضيوف كحلوى تقول لانا وهي أم لثلاثة أطفال: “استعنتُ بوصفة جدتي البدائية وغير المكلفة والتي تُدعى التمرية حلوى الفقراء، وهي عبارة عن كرات من التمر يوضع معها ملعقة من السمن لجعلها متماسكة، ثم دحرجتها بوعاء من السمسم أو جوز الهند، بعد ذلك توضع في الفرن ثم يرش عليه بعض السكر، فالرمد أفضل من العمى”.
مسافة أمان
قررت ميس شراء منامة للمنزل لكونها على يقين بأنها لن تخرج خلال أيام العيد، فساعات حظر التجول تبدأ من الساعة السابعة مساء وهو الوقت الأمثل للخروج، لينحصر الأمر على استقبال الضيوف من المقربين، وهو ما يستدعي شراء منامة بمظهر لائق، بينما تؤيدها نيرمين فتنشر منشور على (الفيسبوك) تسأل فيه بجدية بالغة عن محل لبيع ملابس نوم أنيقة وبأسعار مناسبة واتخاذها كملابس للعيد.
أما فيما يتعلق بالزائرين فأعدادهم انخفضت هذا العام، واقتصرت لائحة الضيوف على المقربين جداً ورافقها إرشادات بإطلاق القبلات الهوائية دون لمس الشخص وعدم المصافحة مع الحرص على ترك مسافة أمان بين الضيوف. ويقول غيث عن واقع العيد في زمن الكورونا: “فرض علينا فيروس كورونا عادة جديدة مغايرة لتلك التي اعتدنا عليها وهي المصافحة والتقبيل المبالغ فيه، خاصة وأن هذه العادتين تدلان في مجتمعنا على التعبير عن مشاعر الود والمحبة للآخر، كنا جالسين ومسافة متر تفصل بين أفراد عائلتي، فنحن مجبرون على تفهم الواقع المفروض، لكننا في الوقت ذاته تعودنا عليه”.
by Hasana Saqbani | May 11, 2020 | Roundtables - EN, Uncategorized
* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “الحرب على كورونا: معركة جديدة مصيرية للسوريين\ات“
ابتكر المخترع السوري عصام حمدي نقالة معزولة لنقل المريض المصاب بفيروس كورونا دون إيذاء المحيطين به ونقل العدوى وخاصة للكادر الطبي. وفي حوار مع المخترع حمدي يقول إن الاختراع ليس جديداً وإن الحاجة لهذا الاختراع في ظل الوباء الذي يمر العالم به أصبح حاجة ملحّة بعد ظهور الكثير من الحالات في سورية وضعف الإمكانيات الطبية في البلاد.
وأضاف لكل اختراع حكاية. وحكاية النقالة المعزولة بدأت منذ سنوات عندما كنتُ أشاهد فيلماً يتحدّث عن مدينة يضربها وباء، كانت الأطقم الطبية ترتدي الألبسة العازلة والأقنعة الواقية للحماية من الوباء، وراودني السؤال: ماذا عن الباقين من غير الأطقم الطبية؟ ولأن المشكلة المطروحة واردة الحدوث وسبق أن شهد العالم جوائح متنوّعة؛ فقلبت أفكاري لتنضج فكرة طريقة لنقل المرضى الذين يحملون أمراضاً خطيرة بطريقة تعزلهم بالكامل عن الجو المحيط. وفي الوقت نفسه تؤمن لهم العناية والرعاية ومقوّمات الحياة وأهمها الهواء والسوائل والعلاج.
فكانت الفكرة الأساسية صنع نقالة معزولة على أن يكون هيكلها الخارجي مصنوعاً من مواد شفافة لتحقيق غاية سهولة مراقبة المريض وراحة المريض النفسية، فصمّمتها بشكل متوازٍ من لدائن مستطيلة ونصف دائرية تساعد على بقائها منتصبة في إطارات صلبة، وأن تكون خفيفة الوزن وقليلة الحجم وقابلة للطي ومصنوعة من اللدائن الشفافة ولها أقواس معدنية أو بلاستيكية تبقيها ثابتة، وأداة إغلاق محكم لها لمنع تسرب أي هواء داخلي إلى الخارج.
ويتابع: لتخديم المريض على أكمل وجه زوّدتها بقفازات مطاطية مقلوبة ولتأمين حاجة المريض من الهواء، ولتعقيم الهواء الخارج من داخلها تمّ تزويدها بمضخة هواء ويمر الهواء الداخل والخارج بجهاز تعقيم يضخ الهواء المعقم للداخل ويسحب الهواء الفاسد للخارج، لأن النقالة من وظائفها أيضاً نقل المرضى الذين يخشى عليهم من العدوى مثل المصابين بحروق أو أمراض مناعيّة. لذلك من الضروري تعقيم الهواء الداخل والخارج، كما أنها مزودة بعدة أكف معزولة لخدمة المريض، ومزودة أيضاً بفتحات معزولة من أجل مرور أنابيب السوائل والسيروم وإعطاء الأدوية. وبعد نقل المريض يمكن تعقيمها ويفضل حرقها بعد فصل الأجهزة الإلكترونية عنها نظرا لرخص ثمنها. ويتابع المخترع حمدي وصفه للنقالة مستذكراً لحظات الإنجاز وزمن الابتكار، وبعد أن يأخذ نفساً عميقاً قال: حصلت على براءة اختراع برقم 5029. وبعد عامين تم تطوير هذه النقالة تحت اسم الحاضنة المحمولة التي أصبح بالإمكان استخدامها لعزل المرضى وعلاجهم.
تطوير النقالة المعزولة من أجل علاج المصاب بشكل معزول بالكامل
زوّدت الحاضنة بفراش خاص يضخ تحت المستخدم هواء معقماً ليحافظ على صحة الجلد وتوجد في الفراش أقنية تسحب الهواء الفاسد وأي سوائل لخارج الحاضنة مع تعقيمها قبل أن تصل للجو الخارجي. فالحاضنة المحمولة هي تطوير للنقالة المعزولة، في الحاضنة المحمولة يمكن نقل وعزل المريض المصاب بمرض معدي من أجل علاجه بشكل معزول بالكامل دون أن يحتك بأي وسط خارجي.
وصممت لتكون قابلة للطي وسهلة الاستخدام ومريحة للمستخدم، ويمكن تخزين ونقل كميات كبيرة منها بطريقة سهلة وحجم قليل للاستخدام في الجوائح في حال كان هناك حاجة لدعم للمشافي الميدانية أو دعم المشافي العادية بها.
كما أضاف: تم تطوير جهاز تعقيم ليضخ الهواء المعقم تحت المستخدم ضمن أقنية توزع الهواء المعقم تحت المريض من أجل الحفاظ على صحة الجلد، هذا الهواء أيضا يكون بدرجة حرارة مناسبة للمريض حسب درجة حرارة الجو المحيط، فيمكن أن يكون دافئاً أو عادياً. وزودت أيضاً بأقنية موزعة في فراش الحاضنة تسحب الهواء الفاسد والسوائل من عند المريض ألى خارج الحاضنة بضغط سلبي بعد أن يمر على جهاز التعقيم بشكل تقني وسريع بصورة أكبر.
يوضح حمدي الغاية من ابتكاره: لباس العزل الذي يرتديه الطاقم الطبي يقي مرتديه فقط، لذلك تكمن أهمية النقالة المعزولة في العزل الكامل للمريض عن الوسط المحيط بما فيهم الكادر الطبي وكل من هو قريب من المريض، ويكمل: لاحظنا نسبة الإصابات الكبيرة ما بين الأطباء والممرضين المحتكين بالمصابين رغم إجراءات الوقاية وذلك في البلدان الأكثر تطوراً، فماذا عن بلد مثل سوريا، وهنا تكمن أهمية زيادة الإجراءات الاحترازية التي من شأنها مضاعفة الوقاية والحماية بطرق لا تكلف كثيراً ولكنها تقي الكثير.
ويختم أمين سر جمعية المخترعين في سورية المهندس عصام حمدي بحسرة: تقدّمت بطلب براءة اختراع وحصلت عليها برقم 2012040071، لكن لم تحظَ النقالة بالاهتمام اللازم رغم مشاركتها بأكثر من معرض، لكن تبرز أهميتها الآن لنقل مرضى كورونا بطريقة آمنة وكلفة زهيدة.
وكان “حمدي” قد وضع الأجهزة التي أنجزها من جهاز داعم لعمل المنفسة واختراع النقالة المعزولة بشكل متاح للجميع بغض النظر عن الحماية الملكية التجارية والصناعية، وذلك نظراً للخطورة التي يشكلها فيروس كورونا في حال انتشاره في سوريا، ولكن سرعان ما ختمت شرطة محافظة دمشق المحل الوحيد في سوريا لتطوير أجهزة الكمبيوتر الخاصة بذوي الاحتياجات الخاصة وجرحى الحرب بالشمع الأحمر، كما تحدث مؤسس المركز عصام حمدي: هكذا قطع ختم الشرطة أهم التجارب التي تتم على إنهاء مسطرة الجهاز الداعم لعمل المنافسة والنموذج المصغر للنقالة المعزولة والماوس العاملة بالقدم الواحدة، غير سائلة أو مبالية بحياة الملايين الذين يمكن أن تنقذهم هذه التجهيزات التي أطورها بآخر مركز تجارب لي.
وتابع: حاولنا مقابلة الضابط المسؤول عن القسم في البحصة ولكن لم يتح لنا شرف مقابلته لنشرح له ما نعمل عليه وتم تحويلنا لعناصر. وقال حمدي مستغرباً: في العالم يستنجدون بنا وعندنا يحاصروننا. أفلا يحق للمخترعين أن يعاملوا معاملة مراكز البحوث أو على الأقل معاملة محلات الأجهزة الطبية لنستطيع أن نكمل اختراعاتنا في هذه الأزمة القاتلة.
by طارق علي | May 3, 2020 | Roundtables - EN, Uncategorized
* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “الحرب على كورونا: معركة جديدة مصيرية للسوريين\ات“
خرجت ولم تعد، هذه الجملة ليست محاكاة لفيلم يحيى الفخراني الشهير في ثمانينات القرن الماضي، بل هذا توصيف دقيق لرحلة سراب خارج أبواب منزلها، الأبواب التي لطالما ظلت موصدة في وجه أحلامها الكبرى، أحلام على شاكلة العيش حرة، وحرةُ بالمفهوم المشرقي عامة تعني للمجتمع ضياعاً للأخلاق، أما من وجهة نظرها فتعني امتلاكها لمفاتيح الحياة كما تشاء هي، لا الآخرون.
الفتاة العشرينية ضاقت بها الحياة ذرعاً مع أسرة متحجرة خلف باب بيت لا يعلم حال من بداخله إلا سكانه، سكانه الكثر على قلتهم، وجود ماجد ـالأخ الأكبر لسراب– حول حياتها إلى جحيم، فالأخوة المتباعدون صاروا قريبين من بعضهم كما لم يحدث منذ أيام الطفولة. يوميات الحجر الأولى مرت ثقيلة ومشبعة بالقسوة، تلك القسوة التي يصطلح أنها نوع من التعنيف القائم على النوع الاجتماعي.
القصة بدأت حين استمع ماجد خلسة لمكالمة ليلية عاطفية بين سراب وحبيبها السري (أمام عائلتها على الأقل)؛ فهي تنتمي لبيئة متوسطة الحال والثقافة على حد سواء، مكالمة ما بعد منتصف الليل تركت في وجهها أثر لكمة أحاطت بعينها، لكمة غيرت معها مفاهيمها للحياة الأسرية الخانقة، ولاحقاً، وليومين متتاليين ظلت عرضة للإهانة والتقريع والشتم. تقول سراب عن تجربتها: “لستُ من أولئك الذين يقبلون الإهانة، أنا ممتلئة بالحرية، الحرية التي تجعلني أطابق المثل القائل: تموت الحرة ولا تأكل من ثدييها”. وتضيف: “لم يكن هناك خيار آخر، لا بد من ترك المنزل ولو كان بطريقة الهرب”، كان ذلك في أواخر آذار، وبعد أقل من أسبوعين على بداية الحجر المقيت، على حد وصفها.
الفتاة الشامية الصغيرة تقطن عند صديقتها بعد الحادثة، لا أحد من أهلها يعرف أين هي، وهي ترجح أنهم أبلغوا الشرطة عما يبدو أنه حادثة اختفاء، وهي لا تبالي، فأثر اللكمة آلم روحها، لا جسدها، الحب ليس جريمة واكتشافها لمدى العنف المحتمل لدى ماجد جعلها تُعيد حساباتها بكل ما يتعلق بالأسرة ومفهومها، على حد تعبيرها.
التعارف الأسري
لا يمكن القول أن البيئة السورية الاجتماعية متمازجة ومتصالحة مع نفسها، وليس المكان هنا ملائماً للخوض بما فرضته الحرب من تغيرات اجتماعية طرأت على يوميات الأسر السورية، وليس من اللائق إرجاع الأمر لتبدل الظروف المعيشية عامة، فالأمر برمته يتعلق بالأمزجة التي طفت على السطح بكل وضوح، لتفرض معها تبايناً غير مدروس وأقله غير صحي في بيئة غير سوية.
ليست المشكلة في الأسرة بتكوينها المعرفي كنواة صغرى لبيئة كبرى، إنما المشكلة بالتباين الواقع بين أسرة وأخرى، الأمر الذي زاده الحظر وضوحاً، فبدل أن ينشغل أفراد الأسرة بيومياتهم المتعبة في الخارج، صاروا –حرفياً– منشغلين بيوميات بعضهم داخل المنزل، الأمر لا يبدأ بانتقاد الطعام، ولا ينتهي بمواعيد الاستحمام، مع المرور على الشكل والأسلوب والحديث وساعات النوم؛ فتجد الأب قد اكتشف فجأة أن ابنه ينام كثيراً، ويستيقظ في الظهيرة مثلاً، وهنا أحالت القاعدة كل الموجودين إلى متقاعدين بلا عمل بحكم الضرورة، ما يحيلنا إلى النكتة العربية التي صارت عرفاً، بأن الأب يصعب عليه أن يجد أحداً بلا عمل في المنزل؛ فعلى الجميع أن يعمل كخلية نحل في إصلاح أي شيء معطل، كل شيء، بدءا من الأشياء التي لا تعمل، وانتهاء بالأشياء التي تعمل، على طرافة الموقف، ولكنه ولد ضيقاً، يوماً بعد يوم صار غير محمول، يقول مازن (مهندس زراعي): “لا يعقل أن يوقظني أبي في السادسة صباحاً لأصلح معه سماعة الاستحمام، هي تعمل أصلاً، مشكلته أنها توزع الماء بشكل دائري، وهو يريده مخروطي، يعتقد أنني مصممها الأساسي، حقيقة لا توجد مشكلة في الحمام، المشكلة فقط أنه لم يهن عليه أني نائم بلا عمل”.
اكتشاف الذات
انطلاقاً من المقولة “تسعة أعشار العافية اعتزال الناس”، كان اكتشاف الناس لذواتهم، فالحظر فرصة جدية للغاية لجلوس الناس مع أنفسهم، في محاولة لمراجعة سير حياتهم في سنين مضت، بل وربما التركيز على اتخاذ قرارات لطالما كانت مؤجلة، وربما مستبعدة.
وحتى أنها فرصة جوهرية لاكتشاف الآخرين من أهلهم، الآخرون وهم المبعدون عن بعضهم قسراً بحكم ضراوة ظرف الحياة في الخارج، إذ فجأة تجد نفسك أمام أخ جديد، أخت جديدة، أب وأم غيرتهما سنون الحياة الأخيرة.
وليد أصابه الذهول حين رأى رسومات أخته هبة، لم يكن يعرف مسبقاً أن عاماً واحداً صقل موهبة أخته وجعل منها رسامة جميلة، يقول وليد: “آخر ما توقعته أن أرى رسوماً بهذا الجمال”، ويضيف :”منذ أشهر ربما لم أدخل غرفة هبة، لم نكن نلتقي أساساً، فطبيعة عملي تحتم عليّ العودة متأخراً للمنزل، والمغادرة باكراً، صدمت بحق بما أصبحت تصنعه، صارت غرفتها أقرب لمعرض احترافي”. وعن ذهوله يكمل: “حقيقة صدمني مظهر الغرفة واللوحات المعلقة فيها، أنا فخور جداً بما تعمل، وسعيد أكثر أنه صار هناك متسع من الوقت لأجالسها وأسمع منها عن هواجسها بالفن الذي ظل مستتراً داخل عقلها في كل هذي السنين من الاغتراب الذاتي عن أنفسنا”.
يوميات الحب حازت على نصيبها أيضاً، ليس في السلبية فقط، بل بالجانب الإيجابي أيضاً، لميرا قصتها مع الحب، قصتها التي أرادت بكل ثقة أن تبوح بها، ربما كان وضع الأسرة الاجتماعي لاعباً أساسياً في تكوين فكرة المكاشفة، فهي تريد أن تكون حقيقية مع أهلها، بل أن الحظر واشتياقها لحبيبها الذي لم تعد تراه شجعاها لإخبار أهلها، تقول: “انتظرت اجتماع المساء أمام التلفاز لأظفر باهتمام الجميع، وأخبرتهم عن رائد، حبيبي للعام الثاني على التوالي، صارحتهم بكل شيء، وكنت أثق منذ البداية أنهم أكثر انفتاحاً من رفض الأمر، أخبرتهم عن علاقتنا وعن نيته خطوبتي وعن كل شيء يتعلق به”. ردة فعل العائلة كانت هادئة ومتقبلة للموقف، بل وقرروا التعرف عليه، وأكثر من ذلك، خرقوا الحظر به، فصار زائرهم الوحيد في يوميات الحظر الطويلة، لأكثر من أسبوعين على التوالي، حتى اليوم، وكذا تحول اللقاء من المطاعم والمقاهي إلى داخل المنزل الممتلئ بأهله، وبذا كانت ميرا محظوظة، على خلاف معظم بنات جيلها، البنات المكبلات بأهلهن وأسوار منازلهن، داخل الحظر وخارجه.
اختلافات عقائدية
من الترف في مكان الحديث عن التموضع السياسي بعد عشرة أعوام من الحرب، فالمواقف حقيقة قد حسمت منذ عام الصراع الأول، ولكن الانفتاح السياسي الفردي أقله جعل من السوري أكثر قدرة على الانتقاد وإبداء الرأي، وكما في كل أسرة هناك مواقف عديدة حيال كل الأمور الحياتية، وكذا السياسية، فسمير استفاق فجأة على اعتراضه أن أخاه مؤيد شيوعي، سمير لا يحب الشيوعيين، يقول مؤيد: “أخي لا يحب الشيوعيين، وليس لديه سبب، وربما لا يعرف عنهم شيئاً، لكنه لا يحبهم فقط”. الخلاف سرعان ما تطور بين الشقيقين ليتحول إلى عراك يقض مضجع المنزل بأسره، فسمير الذي لم يحسم موقفه الحزبي رغم بلوغه عامه الثلاثين، إلا أنه صار أكثر امتعاضاً من تقبل آراء أخيه الانتقادية حيال عمل الحكومة السورية، بل راح يخونه غير مرة، موعزاً كثرة الانتقاد لتدبيرات خارجية تلوث عقول الشباب. وهو ما يرفضه مؤيد بالمطلق، والمهم بالأمر أن الشقيقين على شفا حفرة من فراق ايديولوجي غير مفهوم المعالم قد يحيل علاقتهما المبينة على وحدة الدم إلى نزف الدماء، ذلك حقيقةً ما توقف عن الحصول بين السوريين منذ سنوات طويلة.
الطلاق، أبغض الحلال
“لن أكمل معه يوما واحداً، إنه نزق ومتهور وغير محتمل”، تقول هيام عن زوجها، وتكمل: “لولا الحظر ولولا أن المحاكم مغلقة لخلعته حالاً دون تردد، أنا انتظر افتتاح المحاكم أريد الطلاق”. وترفض هيام أن تعلل سلوك زوجها بظرف الحجر الذي يؤثر نفسياً على الجميع، بل ترى أن حياتهما معاً صارت ضرباً من جنون، وتشكر الحجر الذي أتاح لها فرصة التفكير الملي في قرار الابتعاد.
تقول: “كانت حياتنا لا بأس بها، بالكاد نلتقي بالليل بحكم عمله الطويل خارج المنزل، وأنا كنت مشغولة طوال الوقت بحكم عملي كمُدرسة، أما الآن فقد اتضح كل شيء، لا يمكن أن نكمل سوياً في كل هذا التباين اليومي بالتصرفات”. قصة هيام التي تنتظر طلاقها تشبه قصص عشرات السوريين، ولكن الجيد في قصتها أن زوجها مقتنع أيضاً بالطلاق، فهو الآخر اكتشف استحالة استمرار حياتهما الزوجية معاً، رغم أنه لم يمض إلا عام على زواجهما.
الحظر الذي ألزمنا منازلنا جعلنا عراة أمام أنفسنا، جعلنا نعيش في مساحة لولبية تخلق داخلنا أفكاراً لطالما ظلت مستترة خلف حجاب اللاوعي، جعلتنا أكثر قرباً من أرواحنا، أكثر إدراكاً لأحلامنا، أقل تقبلاً لواقعنا، وأكثر تمسكاً بما نريد.
داخل كل أسرة سوريّة هناك حكاية فريدة، لا أحد سعيد بالمطلق، الجميع بدأ يكتئب ولو بدرجات، هذا ما ستلحظه من حديثك مع كثر، إلا أن ما يعول عليه هو القادم بعد الخروج من المنزل والعودة للحياة الطبيعية، فهل ستعود الحياة على شاكلة الفيلم الايطالي “perfect strangers”، الذي يتحدث عن سبعة أصدقاء قدامى متزوجين، يجتمعون ويذهبون لتناول العشاء، وهناك يقررون فجأة بأنهم سيتشاركون جميعاً في محتويات الرسائل البريدية والمكالمات، بحيث تصبح جميعها متاحة أمام بعضهم البعض، لكن هذا يجعل النقاب يسقط عن الكثير من الأسرار، لتتحول الأمسية إلى عراك وخيانات وخلافات وخسارات، لنجد في نهاية الفيلم حين نزول الجميع من منزل المضيف، اقتراب كل زوجين من بعض وسيرهم معاً متناسين كل ما حصل تماماً، مخططين لموعد السهرة القادم.
by Amal Mohsen | Apr 29, 2020 | Cost of War - EN, Roundtables - EN, Uncategorized
* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “الحرب على كورونا: معركة جديدة مصيرية للسوريين\ات“
تبدو التقارير التي تنشرها منظمة الصحة العالمية ووسائل الإعلام حول ندرة إصابة الأطفال بفيروس كورونا مطمئنة وواعدة إلا أنّ ما يحدث لهم من حالاتٍ نفسيةٍ أثناء الحجر قد تكون أشد خطراً وألماً عليهم وخصوصا في بلدٍ كسورية تعاني من صعوبات الحرب التي لم تنته بعد لتأتي جائحة كورونا وتضيف فصلا جديدا من فصول الخراب المستمر.
في الأيام الأولى للحجر كانت ابنتي الوحيدة (8 سنوات) تظنّ أنها عطلة رائعة أشبه بعطلة العيد، كانت سعيدةً لأننا سنجلس طويلاً معاً ولن أضطر لتركها والذهاب للعمل وسيكون هناك متسعٌ من الوقت لفعل أشياء ممتعةٍ ومسلية، ورغم جهودي لابتكار تلك الأشياء المسلية والمفيدة أصبحت جملتها المفضلة بعد مضي أسبوع واحد فقط: ” لقد مللت”!
في البداية حاولتُ استغلال الوقت المتاح لنا وتنظيمه وتوزيعه بين تدريسها لتعويضها عن انقطاع المدرسة، وبين ممارسة هواياتها المفضلة كالعزف والرسم والأشغال اليدوية، كما مارسنا التمارين الرياضية وشاهدنا الرسوم المتحركة وقرأنا جميع القصص في مكتبتها وتشاركنا أعمال المنزل، وعلى الرغم من كل المحاولات لكسر روتين الملل والقيام بأشياء جديدة إلا أنّ طول مدة الحظر جعلت كل ما نقوم به مملاً ومكرراً. من المؤكد أن التواصل الحسي المباشر ضروري ومهم لنمو شخصية الطفل من كل جوانبها، وحرمانه من الحركة والتواصل الاجتماعي مع المحيط سينعكس سلباً على نموه وملكاته، لذا بدأت ابنتي تدريجياً بفقدان اهتمامها بهواياتها وسيطر الملل على حياتها ولم تعد ترغب باللعب وترفض قراءة الدروس أو مطالعة الكتب، وفقدت رغبتها بالرسم وعزف الموسيقى، ومهما يكن الوقت الذي نمضيه معاً، إلا أنها باتت دائمة الشكوى من وحدتها ومن افتقادها الكبير لمدرستها وأصدقائها.
غياب الأب
بعد استشهاد زوجها اعتادت ريم وأطفالها (4 و6 سنوات) تمضية الوقت خارج منزلهم البسيط المؤلف من غرفةٍ واحدةٍ وذلك عبر القيام بزياراتٍ لا تنتهي للأهل ولجميع الجيران والأصدقاء وحتى أصدقاء الأصدقاء أحياناً، هاربةً من وحدتها وواقعها وعاجزةً عن العمل بسبب صغر أعمار أطفالها ومكتفيةً بالراتب المتواضع الذي تتقاضاه كتعويض من الدولة على استشهاد زوجها.
الحجر الصحي الذي فرضته كورونا وضع ريم مباشرةً أمام مرارة واقعها إضافة لصعوبة التعامل مع طفلين اعتادا الخروج واللعب مع الآخرين دون رقيب. بداية الحجر كان نشاطهما الدائم كارثة حقيقية، وصراخاً ولعباً وعنفاً متبادلاً بينهما ما اضطرها لاستخدام العقاب الجسدي لكبحهما ومن ثم إجبارهما على الجلوس أمام التلفاز عندما تكون الكهرباء متوفرة.
العنف المفاجئ الذي أبدته الأم انعكس على الأطفال بشكلٍ مباشرٍ، فقد تحولا إلى طفلين خاملين وبدت علامات الاضطراب في سلوكهما تبدو واضحة، الطفل الكبير كان ينزوي لوحده وكثيراً ما كان يُكلم نفسه أو أحد ألعابه بالإضافة إلى اضطراباتٍ في النوم والأحلام المزعجة، أما الطفل الصغير فلم يكن بأفضل حال من أخيه فقد كانت تأتيه مساءً نوبات هلع ويُمضي ساعةً قبل النوم في الصراخ والبكاء، إضافةً إلى تبوله في فراشه على نحوٍ متكررٍ.
نوال (35 سنة) تعاني هي الأخرى من غياب زوجها في لبنان وقد هرب من الخدمة الاحتياطية وهو الآن عالق هناك دون عمل ولا يستطيع العودة. كانت نوال تعمل في مشغلٍ للخياطة قبل أن يتوقف بسبب الحجر الأمر الذي اضطر ابنها المراهق عُمر (14 عاماً) إلى العمل في توصيل الطلبات لدى أحد المحلات لتأمين دخلٍ للأسرة ريثما ينتهي الحجر وتعود أمه للعمل. تحكي نوال عن مخاوفها الكبيرة على ابنها وهي تذرف دموعها وتقول “يخرج عمر للعمل منذ الصباح وحتى المساء، يؤلمني اضطرارنا لعمله في هذا الوقت بالذات، فالمرض من جهة ودخوله سن المراهقة من جهة أخرى، أخشى عليه من رفاق السوء والاستغلال وأخاف أن يتعلم التدخين أو تعاطي الممنوعات وأشعر بخوفٍ شديدٍ عليه وكأني أرميه بيدي للتهلكة”.
ألعاب الكترونية
سعاد (38 سنة) التي حاولت جاهدة تنظيم وقتها وأوقات أسرتها بصورةٍ دقيقة ومن مختلف الجوانب لتجعل من أطفالها (قيس 12 سنة، وصقر 10 سنوات) نموذجاً مختلفاً عن أطفال الحي الذين يضيعون أوقاتهم بالألعاب الإلكترونية، وكانت تحاول الشرح لأمهاتهن عن سوء تلك الألعاب ومخاطرها الجسدية والنفسية على الأولاد من وجهة نظرها.
كانت تسال نفسها دائماً كيف يمكن لأمٍ أن تسمح لأولادها بالجلوس لساعاتٍ طويلة أمام هذه الألعاب؟ ما الممتع في ألعاب العنف والمعارك؟
لكن بقاء الأطفال كلّ هذه المدة في المنزل وتعطّل كافة الأنشطة والنوادي التي كانت تملأ وقت الأطفال بعد المدرسة أفلت زمام الأمور من يدها بدءاً من مواعيد تناول الأسرة للطعام وانتهاء بمواعيد النوم.
تقول سعاد “حاجة ولديَّ للتواصل مع أصدقائهما في فترة الحجر جعلتني أوافق على استخدامهما للموبايل، وبدأت الأمور بالتطور وصار من الضروري تنزيل الألعاب الالكترونية كي يتشاركا مع أقرانهما اللعب أو على الأقل ليستطيعا إيجاد أحاديث مشتركة فيما بينهم والآن صارت هذه الألعاب تشغلهما طول الوقت. تغيّرت مواعيد نومهما وصارا أكثر بدانةً، وعندما حاولت حرمانهما منها وإعادة التنظيم إلى حياتنا تفاجأتُ بحجم إدمانهما على تلك الألعاب وبالعنف الكبير الذي اكتسباه سواء في التعامل معي أو فيما بينهما، إذ تحول جو الإخاء بينهما إلى أنانية وعداوة وتنافس على فوزٍ افتراضي غالباً ما ينتهي بعراكٍ وصراخ ٍحقيقي.”
علاقات على المحك
تبتسم سميرة بمرارة عندما تستمتع لأغنية فيروز “خليك بالبيت” فلم يعد هناك مكان للاشتياق بينهما، فزوجها الذي كانت تفتقد غيابه وتتمنى حضوره في البيت، أصبح بقاؤه بسبب الحجر الصحي كارثةً حقيقية أدّت لدمار هذا الزواج.
تقول سميرة: “زواجنا كان تقليدياً، كنتُ في العشرين من عمري وكان في الخامسة والعشرين، لم نعش قصة حب قبل الزواج لكن الأيام التي عشناها معاً كانت جملية لا تخلو من الاحترام والألفة، كانت أدوارنا واضحة هو ملتزم بعمله خارج المنزل (موظف صباحاً وسائق بعد الظهر)، وأنا ملتزمة بدوري كربة منزل. لا أنكر مرورنا بخلافاتٍ كأي زوجين أو افتقادي له في كثير من المواقف التي تخص تربية الأطفال كمشاكلهم في المدرسة أو صعوبات مرحلة المراهقة التي عانيت منها مع ابني الأكبر، فظروف الحياة الصعبة وخاصة فترة الحرب، والمشاكل المادية التي تعرضنا لها ككل الناس في بلدنا فرضت عليه العمل المستمر وجعلته بعيداً وغريباً عن تفاصيل المنزل. بعد بقائه في المنزل لوقتٍ طويلٍ، بسبب فترة الحجر، تحوّل إلى شخصٍ مزاجيٍ وعصبيٍ مختلفٍ تماماً عن الشخص الذي كنا نعرفه. أصبح يتدخل بتفاصيل لم يُعرها يوماً أي اهتمام كطريقة تنظيفي للمنزل وطريقة طهي الطعام ثم طريقة تربيتي وتعاملي مع الأطفال، ومَنع الأطفال من اللعب داخل المنزل وصرنا نتحرك على إيقاع مزاجه وأوقات نومه ويقظته وبرامجه المفضلة على التلفاز. كنتُ أبرر له تصرفاته “لم يعتد قضاء كل هذا الوقت في المنزل” لكن المبررات لم تعد مقبولة حين تحولت إلى عنفٍ لفظيٍ وصراخ ومن ثم إلى غضبٍ لا يهدأ إلا بضربهم، لم يبقَ أمامي من حلٍ سوى الهرب بالأطفال إلى منزل والدي الأمر الذي فاقم من المشاكل بيننا إلى حدّ الانفصال.”
من الممكن أن تكون هذه الخلافات فترةً مؤقتةً في حياة هذه الأسرة لكن من المؤكد أن انعكاساتها على الأطفال كفقدان ثقتهم بوالدهم وشعورهم بعدم الأمان لن تمحى بسهولة.
مازلنا نسير في المجهول فأزمة كورونا لم تنته بعد وربما ما هو آت أسوأ في حال تفشي المرض، لقد بات على السوريين توقع الأسوأ دوماً فليست الكورونا إلا تفصيلاً آخر في المأساة السورية، مأساة دفع الأطفال أغلى أثمانها ولا يزالون، قد يسأل طفل عن معنى جملة “خليك بالبيت” وهو بالأساس يعيش في العراء أو في مخيمات بعيدة بعدما تهدّم بيته، وقد يصح القول بأنّ الكورونا لن تصيب رئات الأطفال بالمرض والالتهابات لكنها حتماً ستبقى محفورة في ذاكرتهم ونفوسهم كفصلٍ جديدٍ من فصول مأساتهم الطويلة.
by سلوى زكزك | Apr 28, 2020 | Cost of War - EN, Roundtables - EN, Uncategorized
* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “الحرب على كورونا: معركة جديدة مصيرية للسوريين\ات“
كرّست جائحة فيروس كورونا نمطاً حاداً ومستجداً في شكل الحياة اليومية لأهل الأرض، يوماً بعد يوم تتسع دائرة المواجع الشخصية والعامة، الجسدية والنفسية، لا نجاة من القلق، وزمن تراجع الخوف المشحون بالضعف، زمنٌ ضئيل وضعيف ولا يعوّل عليه.
من مواطن العزاء للبشرية، أنها وقفت معاً في مواجهة تداعيات هذا الفيروس، الذي تحول إلى جائحةٍ عالميةٍ تُسابق الضوء في سرعة انتشارها. لكنّ المواجهة الموحدة لا تعني أبداً وجود أوجهٍ متطابقة من أشكال العنف التي فرضتها هذه الأزمة العالمية، أشكالٍ لا تعدّ ولا تحصى لكنها استحقاقٌ إنسانيٌ وإن تمظهر في حالاتٍ قليلة العدد نسبياً وعلى نطاقٍ ضيقٍ، ثمة مواجع خاصة وخفية، موجعة وتعني أشخاصاً محددين، غير معلنة لأنها خارج سرب المواجع العامة.
ماري سيدة في السبعين من عمرها، أرملة ولم تنجب، تعيش بمفردها في بيتٍ واسعٍ، وهي تتناول طعام إفطارها، سقط جسر الفك العلوي من فمها، باتت بلا أسنان! طبيب الأسنان أغلق عيادته خوفاً على سلامته أولاً ولأنّ المخبر الذي يصنع له الأسنان التركيبية ممنوعٌ من فتح أبوابه، كما أنّ غالبية زبائنه يسكنون في الريف، وإن كان قريباً جغرافياً لكنه مغلق بسبب التوصيف الإداري.
باتت ماري مضطرة لأن تعيش على السوائل، واسطوانة الغاز في ساعاتها الأخيرة، لم تفعل ماري شيئاً، لا أحد يمكنه إعارتها أسنانه! ولا أسنان جاهزة في السوبر ماركت أو في الصيدليات لتطلب إيصالها لها عبر خدمة التوصيل إلى البيوت، اتصلت بطبيبها، قال لها المخبر مغلق وفنيو المخبر يعيشون في الضواحي المغلقة.
لا أحد من المعنيين فكر بعيادةٍ إسعافيةٍ لمعالجة الأسنان مرفقةً بمخبرٍ للتعويضات السنية وجعلها في متناول المحتاجين لخدماتها وخاصةً من كبار السن.
بادرت أغلبية الناس وخاصة من الفئة العمرية الشابة لمدّ يد العون لكبار السن الوحيدين والوحيدات، لكن ثمة مطالب لم تخطر على بال أحد. هيام، سيدة في الثمانين من عمرها، تعيش وحيدةً أيضاً في الطابق الثاني عشر في برجٍ سكني في منطقة راقية، لا تريد شيئاً من الأطعمة أو الأدوية أو المنظفات، فطبيعتها الوسواسية دفعتها ومنذ سماعها لأول خبر عن أول إصابة بالكورونا لملئ خزائنها بالمؤن ولشراء أدويتها الدائمة عن عامٍ كامل. لكنها مشتاقة للحديث مع شخصٍ تعرفه، تثق بأخباره، وتفرح لنبرة صوته ومداعباته اللطيفة، اتصلت بسلمى، ابنة صديقتها، وطلبت منها طلباً عجيباً “أرغب بأن تزوريني اليوم يا سلمى، لكن عبر سماعة الانترفون، فأنا خائفة جدا حتى من استقبالك، فلربما نقلت لي العدوى؟” لبّت سلمى دعوة هيام، استغرقت الزيارة عشرين دقيقة، لكن المصيبة أنّ هيام باتت تطالب سلمى بزيارات مماثلة ومتكررة، وسلمى لا تملك وقتاً كافياً ولا أخباراً مطمئنة.
أشارت بعض الدراسات إلى ارتفاع نسب الإصابة بفيروس الكورونا بين الرجال بنسبة تعادل ضعف نسبة إصابة النساء، وقد اعتبرت بعض النساء الكورونا فرصة لتسخر من اهتزاز ثقة الرجال بقوتهم الجسدية في مواجهة فيروس صغير لا يُرى بالعين المجردة،
قوة يتحكم الرجال عبرها بمصائر النساء وبتفاصيل حيواتهن، ليحققوا الهيمنة بحكم القوة الظاهرة والمنسوبة للرجال حصراً، والسلطة بحكم الغلبة الجسدية والنفسية والمجتمعية، لكن هذه القوة تعرضت لاهتزازاتٍ عديدة، اهتزازاتٍ أظهرت خللا ًفي موازين القوى، مفسحةً المجال أمام تراجع قوة ذكورية تقليدية بظهور نمطٍ معزز ٍمن القوة فرضته كورونا بقوة الخوف وبسطوة الحذر الشديد.
وليد رجل خمسيني، يخافُ على صحته جداً، مهووس بالنظافة الشخصية، يزور الحلاق يوم الثلاثاء فقط، لأنه اليوم الذي يلي عطلة الحلاقين، ويذهب باكراً جداً ليكون أول زبون، ليتنعم بمنشفة تم غسلها في يوم العطلة ولم توضع على رأسٍ غير رأسه أبداً، لكنه في زمن الكورونا التزم الجلوس في المنزل، وطالب زوجته بالتسوق وبشراء الخبز وبالحصول على الأدوية والمواد المعقمة من الصيدلية تحديداً لتثبيت جودتها، وانزوى في غرفته يكاد لا يخرج منها، وكلما عادت زوجته من الخارج يطالبها بتعقيم كل شيء، حتى شعر رأسها، وهي تصرفاتٌ فاقمت من مشكلةٍ قديمة عند وليد، تحملتها زوجته تحت إلحاح الواجب كزوجةٍ مخلصة، رغم رفضه لكل طلباتها بضرورة مراجعته لطبيب نفسي، لكنها الآن باتت ممزقة بين حقها بالحياة الكريمة وبين تطرف مواقفه، مما دفعها للتوقف عن تلبية طلباته وتهديده بالذهاب إلى منزل والدتها المتقدمة في العمر، علّه يخفف من أوهامه المرضية ومن معاملتها بدونية غير مقبولة وكأنه مسموح له التضحية بها من أجل بقائه في حالةٍ من الأنانية والعدوانية لا مبرر لها وغير مقبولة. لكنّ وليد بقي أسير مخاوفه وبات حبيس غرفته وأوهامه وفقد كل إمكانيات التواصل حتى مع زوجته.
في الأزمات الكبرى، تتوجه المبادرات والأفكار والآليات نحو الاحتياجات الأكثر شمولية، نحو الخدمات المركزية ونحو الاحتياجات الأكثر أولوية حسب توصيف مراكز معالجة الأزمات.
يعمل غاندي في بيع الألبسة المستعملة، وله زبائن كثر وخاصة من السيدات، لكن قرار الإغلاق شمله وبات محكوماً بالتوقف عن العمل. أربعون يوماً مرت على إغلاق المحل، وما كان متوفراً من مالٍ نفذ، ولم يتبق منه شيئ. غلاء الأسعار يلتهم كل الموارد، والعائلة بحاجة لطعامٍ وشرابٍ ودواء، وتحت عنوان الحماية والحفاظ على الصحة العامة كان من المبّرر ترك الناس دونما مورد، حتى أصحاب الموارد المتوسطة باتوا بلا أي مدخرات، فحياة الفرد هي الأهم وصاحبة الأولوية المطلقة، لكن كيف وبماذا؟ لا أحد يملك جواباً، لأن السؤال نفسه مؤجل ولا يمتلك الأولوية القصوى.
اتصل غاندي بزبائنه، أبدى استعداده لإيصال قطع الملابس إلى بيوتهن، لكنه كان يحتاج لموافقتهن على الشراء أولاً في ظل شح مالي كبير وواسع وفي ظل المخاوف من رفض الزبائن شراء ألبسة مستعملة ربما يرتع الفيروس على سطوحها وبين طياتها. كما أنّه كان محتاجاً لمبادرةٍ من صديقٍ يملك سيارة خاصة لنقل غاندي مع بضاعته مجاناً إلى بيوت الزبائن، وكان له ما سعى إليه. حمل غاندي معه بضاعة كان قد احتفظ بها في منزله قبل الإغلاق، لكن بعد وصوله إلى أبواب بيوت زبائنه اصطدم بقلة الطلب على بضاعته، قطعة أو قطعتان في أكثر حد، والناس محرجة من المفاصلة، إحراجٌ تلمسه غاندي أيضاً وفرض عليه خفض أسعار بضاعته، لكن الرمد أفضل من العمى كما يقال، وما كسبه غاندي اليوم لن يمكنه من شراء بضاعةٍ جديدةٍ بدلاً من التي باعها، لكنه سيوفر عليه عناء الاستدانة من صديق أو قريب، في زمنٍ بات الاقتراض نادراً بل حتى مستحيلاً.
وكما تُرك العجزة منسيين في دورهم دونما احتسابٍ حتى لأعداد المتوفين منهم، ليشكل موتهم بصمت وإهمالهم وكأنهم أضاحي الفيروس الفتاك وصمة تمييز سلبي ضد فئة من المجتمع، وكما تُركت النساء وحدهن لمتابعة مسلسل المظالم الطويل، وكما تُرك الجوعى غارقين في فاقتهم في محاولاتٍ بائسةٍ منهم لترك الشوارع حيث يعيشون، وكما تُرك اللاجئون والنازحون تائهين في غربةٍ مضاعفةٍ، عُرضة للوعيد والتهديد بالترحيل أو بالموت، وكما سُرّح عشرات الآلاف من العمال، وكما تم ترحيل مخالفي الإقامات من عمالٍ أجانب لكنهم فقراء، كذلك نمت في دائرةٍ ضيقةٍ دائرة متفرعة عنها لكنها غارقة في التجاهل والنسيان وكأنها منفية خارج الزمان والمكان، توضحت في تلك الدوائر الضيقة دروب آلام ٍجديدة، مضفورةٍ بالشوك ومسيجةٍ بالعتمة.
وتجد الإشارة إلى أنّ الأزمات بحدّ ذاتها وفي خضم البحث عن حلولٍ لها أو عن كوابح تقلل من فرط مساوئها ُتنسي أصحاب القرار والمبادرات أو القائمين على حلها مرغمين وتحت وقع الصدمة التوجه نحو فئاتٍ لا تصرخ مطالبةً باحتياجاتها الإنسانية والضرورية، ويقيّم المجتمع ومراكز الخدمات والقرار هذه الاحتياجات على أنها احتياجاتٍ ثانويةٍ، مما يؤجل أو يمنع المساعدات عن أفرادٍ وإمكانية الوصول إليهم، وتتفاقم المشاكل أو مواطن النقص البنيوية لتصبح عنفاً صارخاً لا يمكن إنكاره ولا تجاهله أو الامتناع عن مد يد العون لأصحابه. ربما هنا يبرز دور المبادرات الفردية أو المجتمعية، وربما هنا يتوجب الاهتمام أو لفت النظر للفئات الأكثر هشاشة بالبنية النفسية أو بالفئة العمرية أو بحجم الاحتياج من حيث عدد الأفراد أو طبيعة العمل، أو المكان، خاصة عندما يتحول المكان بحد ذاته كمكان السكن أو العمل إلى مصدرٍ للعنف يساهم في تكثيف تغييب الخدمات أو يفاقم من صعوبات الوصول إلى الاحتياجات مهما بدت ثانوية أو قابلة للتأجيل.
وربما هنا تصبح الأزمات الكبرى مجالاً رحباً للإبداع الإنساني الفريد من نوعه والمتميز في أشكاله، في محاولة نوعية لتلبية المسكوت عنه، المخفي أو غير المعلن، لكنه احتياجٌ صارخٌ ولابدّ من تلبيته.
by Alia Ahmad | Apr 25, 2020 | Roundtables - EN, Uncategorized
* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “الحرب على كورونا: معركة جديدة مصيرية للسوريين\ات“
بعد انتشار فيروس كوفيد-19 (كورونا)، امتد الحظر الصحي ليشمل معظم دول العالم، مخلّفاً آثاراً اجتماعية واقتصادية ونفسية يجهد الأخصائيون للبحث فيها، والعمل على تخفيف التداعيات الناتجة عنها قدر الامكان. ففي ألمانيا التي يبلغ عدد سكانها حوالى 83 مليون نسمة، تستمر القيود المفروضة للحد من انتقال العدوى، إذ بلغ عدد الإصابات وفق البيانات الرسمية المسجّلة حتى يوم 15 نيسان/أبريل 133.154 حالة، تماثل أكثر من نصفهم للشفاء فيما توفّي نحو 3600 شخص، مع ملاحظة تراجع عدد الإصابات المسجّلة يوميا، مما يؤكّد جدوى هذه القيود ودورها في تقليل عدد الإصابات.
يعدّ إغلاق المؤسسات التعليمية المستمرّ في ألمانيا منذ 16 آذار/ مارس إحدى أكبر الخطوات لدرء خطر انتشار الفيروس، باعتبار أن المدارس والجامعات أماكن تجمعات يومية لأعداد كبيرة قد تنتشر فيها العدوى كالنار في الهشيم. لكن لا بد من تبعات لهذا الإجراء، فالأرقام تشير إلى تضرّر ما لايقلّ عن 11 مليون تلميذ وتلميذة في المدارس العامة والمهنية، عدا عن طلاب الجامعات. ويخشى طلاب السنوات الدراسية الأخيرة أن يتسبب إغلاق المدارس في حرمانهم فرص النجاح في امتحاناتهم النهائية. ورغم اللجوء إلى خطة طوارئ عاجلة عملت الكوادر التدريسية عليها بجهد ملفت للنظر، إلا أن اعتمادها على التكنولوجيا والتعليم الرقمي، جعل عيوبها واضحةً للعيان بعد أسابيع قليلة من الحظر، وظهرت تحدّيات كبيرة خلال تنفيذ الخطة التي لم تخضع من قبل للتجربة. فإضافةً لضعف شبكة الإنترنت في مناطق عديدة من ألمانيا، لايتقن كثير من المعلمين آليات التعليم الرقمي، فهم لم يتدربوا عليها وفق ما صرح مختصون بالتعلم الرقمي، عدا أن المواقع التعليمية التابعة لوزارة التعليم تعرّضت لضغط كبير على الشبكة مما أثّر على جودة أدائها المتواضع أصلاً.
في الوقت نفسه يفتقر طلاب كثيرون إلى الأدوات اللازمة لإتمام العملية في المنزل. فإن امتلك غالبية الطلاب- وليس جميعهم – هواتف ذكية، لكنّهاغير كافية ولابد من كمبيوتر لاستخدام برنامج التعلّم الرقمي بالشكل الأمثل، وهو غير متوفر عند الجميع. كما أن كثيراً من أوراق العمل المرسلة بالبريد الالكتروني تحتاج للطباعة من أجل حلّها ثمّ مسحها ضوئياً عبر (سكانر) وإعادة إرسالها للمعلم/ة، ولا يمتلك الجميع كل هذه المعدات في المنزل. المشكلة الأُخرى تسببها الواجبات غير الواضحة التي يجهد الأهل في محاولة فهمها من المعلمين كي يساعدوا أطفالهم فيها، وصعوبات غيرها لاتنتهي، كعدم رغبة الأطفال بالقيام بهذا الكمّ من الواجبات المملة والمكرّرة لمراجعة ما تعلّموه سابقاً، أو تلك الجديدة الصعبة التي ليس من السهل على الأهل شرحها لهم.
الأطفال اللاجئون ونتائج الحجر الصحي:
ماسبق مشكلات يعاني منها الطلاب جميعاً، لكنّها تتضاعف عند الأطفال اللاجئين في نواحٍ مختلفة لعدة أسباب، مسفرةً عن نتائج تزداد سوءاً مع تمديد فترة الحجر الصحي. فالأطفال الذين وصلوا ألمانيا قبل سنوات قليلة ولم تزل ذاكرتهم غضة تغصّ بمعاناة الهروب من الخطر عبر طريق الموت، بدؤوا يعيشون مجتمعاً جديداً مختلفاً بقيمه ومعاييره، ودخلوا المدارس وأجادوا اللغة الألمانية بسرعة قياسية فبدؤوا يفكرون بها ويتواصلون مع محيطهم من خلالها حتى كادت تزيح اللغة الأم من عقولهم تدريجياً، رغم محاولات الأهل الحثيثة التحدث معهم بها. غالبية هؤلاء غدوا الآن مراهقين، واتسعت الفجوة بين الأهالي وأبنائهم، ففقدوا دورهم في العملية التعليمية والتربوية التي تفترض شراكة ثلاثية الأبعاد ما بين الطفل والمدرسة والأهل.
يعمد المهتمون من الأهل للبحث عن وساطة لغوية للاطلاع على أوضاع أطفالهم المدرسية، لكنّ صعوبة وتكلفة ذلك جعلت كثيرين ينكفئون عنه، منصرفين لحل التعقيدات البيروقراطية التي تواجه حياتهم اليومية، في بلد يعتمد على الورقيات المعقدة التي يعجز الألمان أنفسهم أحياناً عن فهمها ومتابعتها، كما يتغيبون حتى عن حضور اجتماعات أولياء الأمور لعدم توفّر الترجمة دوماً، ويبقى الطفل وحيداً مع مدرسته.
في الوضع الراهن تعيّن على الأهل التواصل مع المدرسة من جديد، ومع الفجوة اللغوية القائمة عجز معظمهم عن متابعة العملية التعليمية عن بعد، والتي تحمل صعوباتٍ حتى بالنسبة للأطفال الالمان كما ذكرنا. بينهم من لا يملك حتى بريداً الكترونياً لتلقّي أوراق العمل وتعليمات المعلمين ونصائحهم، فضلاً عن التسجيل في المواقع التعليمية التي تبدو أشبه بالأحجية عند عدد لايستهان به منهم. البرامج التوضيحية والفيديوهات على اليوتيوب ليست كافية لأن غالبيتها تقدم باللغة الألمانية، وبالتالي لايستطيع الأهل فهم الواجب المطلوب وشرحه للطفل. قد يتمكن بعض الأطفال من تدبر أمرهم دون الاستعانة بالأهل، لكن هذا لاينطبق على جميع الأطفال ولا على المراحل التعليمية جميعها، وهكذا يخسر أبناء اللاجئين وقتاً ومعلومات وفرصاً كثيرة، وتُلقى على عاتقهم أعباء وتحديات سيتحتم عليهم مواجهتها والتعامل معها بعد العودة إلى المدارس.
آثار الحجر الصحي لاتقتصر على الجانب التعليمي عند الأطفال اللاجئين، بل تمتد إلى قضية أكثر تعقيداً وعمقاً هي حجرهم مع أسرهم التي أصبحت تمثل لغالبية الأبناء، وخاصة المراهقين، مجتمعاً موازياً مختلفاً عن مجتمع الأقران والمدرسة، فالهوية متعددة الألوان بدأت تتشكل عندهم، وبعض ألوانها لا يلقى القبول نفسه في كلا المجتمعين، مما يؤدّي لاختلال التوازن وفقدان كثير من عناصر استقرارها أثناء الحجر.
البقاء في البيت مع العائلة ضمن مساحات صغيرة معظم أوقات اليوم، ليس سهلاً على أطفال اعتادوا تمضية نحو سبع ساعات وسطياً كل يوم، تتضمّن برنامجاً منظمّا وأنشطة متنوّعة لا تتوفر في الظروف الحالية، مما يشكّل ضغطاً جديداً تسبّبه مقارنات لا تنتهي: فهم مركز مقارنة في المدارس لاختلافهم، كما يقارنون حياتهم مع حياة أقرانهم وقيمهم وعاداتهم، بدءا بالمأكل والمشرب والملبس، وليس انتهاءً بعلاقات السيطرة والعنف بأشكاله وتعارضها مع ما تعلّموه من حقوق. لذا فإن بعض الأطفال والمراهقين/ات، وقد عرفوا جيداً حقوقهم القانونية وأبعادهم في المجتمع الجديد، لا يتردّدون في اللجوء إلى الشرطة أو مكتب الشباب، وهو ما قد يعرضهم لمزيد من العنف يزيد الطين بلة، في عائلات تسعى بكل السبل لحماية صورتها وتقاليدها وهويتها.
إنها حقاً مفارقة كشفت فترة الحجر عن اتساع نطاقها في أوساط اللاجئين. آلاف العائلات اضطرّت إلى هجر موطنها وسلكت طريق اللجوء لتحمي أطفالها، والآن يضطر الأطفال أنفسهم للهجرة عن ذويهم نفسياً نتيجة ضياع اللغة وفقدان التواصل بينهم، ليقضي كثيرون منهم أثناء الحجر حجراً مضاعفاً من نوع خاصّ، لحماية أنفسهم لا من كورونا بل من آثار اغتراب وتصدع نفسي.