يوم في حياة عائلة نازحة في ادلب

يوم في حياة عائلة نازحة في ادلب

كثيراً ما نسمع عن قصص وحكايات وأوجاع لعائلات نازحة، تعيش في المخيمات ومراكز الإيواء، تفتقر لأبسط مقومات الحياة وأشكال الرفاهية في شمال غربي سوريا، معظمها قريبة من الحدود التركية، بعضها يقع في مناطق جبلية وعرة، ولكل عائلة نازحة في هذه المخيمات حكايتها وظروف معيشتها اليومية التي يطغى عليها مشهد الفقر والتقشف والبساطة.
“صالون سوريا” امضى يوماً مع احدى هذه العائلات في مخيم الأمل بالقرب من مدينة الدانا شمال إدلب، وضمن خيمة لا تتجاوز مساحتها الداخلية الكلية 10 أمتار مربعة. هنا يعيش أبو محمد (42 عاما) وزوجته وأولاده الستة الصغار، (نازحون من ريف حلب الجنوبي قبل نحو 5 سنوات)، حياةً بسيطة رغم مرارة العيش، لايملكون فيها أي شيء من تكنولوجيا العصر سوى بطارية صغيرة وسلك كهربائي معلق بلمبة صغيرة بقياس 12 فولتا، مربوطة بلوحة شمسية صغيرة مركونة على جدار الخيمة وموجهة بإتجاه الشمس لتحصل البطارية على الطاقة من أشعة الشمس يومياً.

خيمة… منزل
عملت الزوجة أم محمد ذات الثلاثين عاماً، على تحويل الخيمة إلى أشبه بمنزل صغير متواضع، فوضعت الغاز عند باب الخيمة من الداخل، وإلى جانبه بعضاً من أواني الطبخ البسيطة ضمن صندوق بلاستيكي (سحارة). وفي الجهة الثانية، وضعت قطعة خشبية مخصصة لوضع الأغطية والفرش بعد أن تستفيق أسرتها صباحاً، بينما فرشت أرض الخيمة بقطعة سجاد متهالكة وبعض الاسفنجات والوسائد، ومع كل صباح تبدأ الحكاية
أبو محمد، نزح من قريته بريف حلب الجنوبي قبل نحو 5 أعوام، عقب هجوم بري شنته قوات دمشق وإنتهت بالسيطرة على المنطقة حينئذ، ولجأ مع أقاربه إلى هذا المخيم، بالقرب من مدينة الدانا شمال إدلب، وحصل على فرصة عمل في أحد معامل الطوب (البلوك) في المنطقة.
مع ساعات الصباح الأولى من كل يوم (صيفاً وشتاءً)، يسيتيقظ وزوجته و أولاده (محمد 14 عاماً وحسن 13 عاما). فأبو محمد وأولاده يذهبون إلى وعاء مملوء بالماء عند باب الخيمة الخارجي، ويغسلون وجوههم. أما أم محمد، تُعد وجبة الإفطار مما توفر (صحن من الزيت النباتي وإلى جانبه صحن من الزعتر وبعض الأرغفة من الخبز وإبريق الشاي)، وأثناء تناول وجبة الإفطار يتمازحون ويضحكون ويتحدثون عن ما ينوون القيام به من أعمال خلال اليوم.
ومع إنتهاء تناول الطعام، كل منهم يذهب لإرتداء ملابس العمل والإستعداد للذهاب إلى العمل وسط أجواء من المزاح والضحك. فأبو محمد يسلك طريقه مشياً على الأقدام بإتجاه معمل الطوب. أما محمد وحسن يذهبان سوياً إلى واحدة من المدن القريبة (الدانا وسرمدا) بحثاً بين أكوام القمامة في شوارع المدن عن ما يستحق البيع من (مواد بلاستيكية ونايلون أو نحاس)، طيلة ساعات اليوم وحتى المساء، بينما أم محمد تبقى في الخيمة بإنتظار طفليها الصغيرين أن يستفيقوا من النوم لتعد لهم وجبة الإفطار ذاتها التي تناول منها زوجها وأبنيها، قبل الذهاب للعمل.

ام ومديرة
تقول أم محمد: “أعيش وأسرتي في المخيم منذ خمس سنوات إلى الآن نمطاً واحداً من الحياة لا غير، (إعداد الطعام والغسيل والجلي)، وغالباً ما أعده من طعام، يكون من المخصصات الإغاثية التي نحصل عليها شهرياً، (إما برغلاً أو عدساً أو معكرونة)، وذلك قبل الظهيرة. أما عند المساء أجلس مع جاراتي ونتبادل الأحاديث بالظروف المعيشية التي نعاني منها يومياً وأحاديث اخرى عامة، وبعدها أعود إلى خيمتي، وأعمل على تسخين الماء، ومع وصول زوجي وأولادي، أنهمك بتحضير الألبسة النظيفة لهم وإستحمامهم، وبعد ذلك نجلس جميعاً ونتاول العشاء، وبذلك يكون الظلام ملئ المكان، ونمضي ساعة أو أكثر نتبادل فيها الأحاديث، عن ما جرى معهم من أحداث أثناء العمل، وبعدها يذهب كل منا إلى النوم”.
وتفخر “أم محمد” بنفسها وترى أنها هي المسؤول الوحيد عن إدارة شؤون أسرتها في المأكل والمشرب والملبس والأشياء الأخرى التي تخص الأسرة، في الوقت الذي يمضي فيه زوجها بالعمل طيلة النهار وعلى مدار العام. وتقول: “عندما يعود زوجي من العمل يقوم بإعطائي ما جمعه من نقود خلال العمل بنقل الطوب في اليوم، وعادة يكون المبلغ بين 30 إلى 40 ليرة تركية، وكذلك أبنائي أيضاً فهم يقومون بشكل يومي بإعطائي ما تم جنيه من مال خلال عملهم في اليوم، بعد بيع ما تمكنوا من جمعه من أشياء (بلاستيكية ونايلون وخردة)، وأكون بذلك المسؤولة عن تدبير وإدارة شؤون الأسرة”.
وتضيف، “المرأة السورية وتحديداً النازحة مع أسرتها، تجد نفسها مسؤولة مباشرة عن أسرتها، فغالباً أرباب الأسر يذهبون للعمل منذ الصباح حتى المساء ليتمكنوا من جني النقود لإعالة أسرهم، وبذلك تلقى كامل المسؤولية في تدبير الأسرة من تربية وخدمات على عاتق المرأة، بينما سابقاً (قبل النزوح) كانت الحياة بالنسبة للمرأة أسهل بكثير، فالرجال يعملون في الزراعة والصناعة والتجارة في القرية التي نعيش فيها، وتكون ساعات العمل أقل بكثير من الآن، وهذا يخفف على المرأة أو ربة الأسرة الكثير من الأعباء في تربية الأطفال وتلبية متطلبات الأسرة اليومية، فمثلاً عندما يشكو أحد الأطفال من عوارض مرضية أو يصاب بضيق تنفس أو أي أذى، أذهب به إلى الطبيب ومن ثم إلى الصيدلية وجلب الأدوية، وأعود إلى الخيمة وأتابع العناية بحالته الصحية، فضلاً عن أنني المسؤولة عن شراء إسطوانة الغاز والأشياء الأخرى كالطعام والملابس، ومع ذلك لا أشعر زوجي بأي ضيق أو ملل، بل على العكس تماماً”.

حياة دون توقف
من جهته، قال أبو محمد: “منذ 5 أعوام وحتى الآن لا أذكر أنني تعطلت عن العمل يوماً واحداً، سوى أيام الأعياد، وبت أشعر مؤخراً بآلام وأوجاع في الظهر والمفاصل، نتيجة عملي المجهد، ولكن بالرغم من ذلك، لا أسمح للرغبة في التعطل عن العمل أن تنال مني، فذلك يعني أنني عرضت أسرتي للجوع والفقر أكثر، فعطلتي ليوم واحد قد يؤدي إلى فقدان إسطوانة الغاز في خيمتنا لأيام، أو لا تجد أسرتي ثمن ربطة الخبز أو ثمن الدواء فيما لو أصاب أحد أبنائي مرضاً، عدا عن متطلبات فصل الشتاء من وسائل تدفئة وغيرها، ومع ذلك أشعر في بعض الأوقات بحزن عميق، كوني لا أرى أولادي وزوجتي سوى ساعة أو ساعتين كل يوم قبل النوم، وفي اليوم التالي أذهب باكراً في الوقت الذي يكون فيها طفلين من أسرتي نائمين”.
ويضيف، “قبل النزوح كنت أملك حوالي 20 دونماً من الأرض الزراعية في بلدي، وأعمل في زراعية القمح والشعير والخضار سنوياً وأحصل في نهاية العام على مبلغ أستطيع من خلاله العيش وأسرتي بحال ميسورة جداً، بينما اليوم وفي ظل النزوح والمعاناة والمصاعب التي نواجهها يومياً من غلاء وغيره، يتطلب منا العمل يومياً دون كلل أو ملل لنؤمن قوت أسرنا ومتطلباتها”.
وأشار” تعرضت منذ عدة أشهر إلى كسور بأصابع قدمي نتيجة سقوط قطعة طوب عليها أثناء العمل، وبالرغم من الألم الشديد الذي أصابني حينها، إلا أنني تابعت العمل حتى نهاية اليوم، وأثناء عودتي إلى أسرتي عملت زوجتي على تضميدها بعد تدليكها بالماء الساخن والصابون، وفي اليوم الثاني عدت إلى العمل، وتحملت الألم لأيام”.
وختم “أحمد الله وأشكره أنه رزقني زوجة صالحة، حملت معي جزءً كبيراً من أعباء الحياة وتربية الأولاد في النزوح”.

خردة ونايلون
أما محمد وحسن، فتحدثا قائلين: ” فضلنا العمل على التعليم، فأحياناً لا يتمكن والدنا من جني نقود كافية لسد حاجتنا وتأمين ما يلزمنا في العيش، وكنا نعيش ظروفاً صعبة للغاية، ولذلك قررنا العمل بجمع الخردة والنايلون والبلاستيك المستعمل من كل مكان في المدن والقرى المجاورة للمخيم، وبيعها للإستفادة من ثمنها ومساعدة والدنا على كفاية الأسرة وتلبية إحتياجاتها اليومية”.
وأضاف محمد، “نذهب كل يوم صباحاً ونتجول في شوارع المدن بين الحاويات وأكوام القمامة بحثاً عن أشياء لها ثمن كـالنايلون والبلاستيك والنحاس والحديد، وفي نهاية اليوم نذهب بالأشياء التي قمنا بجمعها إلى أحد المراكز لشراء الخردة ونبيعها، ونحصل بالمقابل على ثمنها الزهيد الذي لا يتجاوز 20 ليرة تركية، ونعود بعد ذلك إلى المخيم”.
وزاد “هناك كثير من العائلات في المدن والقرى القريبة، لا تقوم برمي الأشياء غير اللازمة أو غير الضرورية في منازلهم بالحاويات إلا في المساء، ولذلك غالباً ما نتأخر بالعمل بحثاً عن تلك الأشياء، ونعود إلى المخيم بعد حلول الظلام”، لافتاً، “كثيراً ما نتعرض للإهانة والتهكم من بعض الأشخاص في الشوارع والأسواق، وآخرون ينظرون لنا بعين الاشمئزاز لمظهرنا وثيابنا المتسخة، فضلاً عن تعرضنا أيضاً لحوادث سير بسيطة، تنتهي بخدش في اليد أو القدم، وكلها تدعو إلى الإحباط والحزن والجلوس إلى جانب الرصيف لبرهة من الزمن ونحن ننظر إلى الناس والمارة، وسرعان ما نتجاوز تلك الحالة ونعود للعمل مجدداً بإصرار”. وأضاف، “أتمنى أنا وأخي أن يتوفر لوالدنا عمل أفضل من عمله الحالي، بأجور أكبر، قادرة على تأمين متطلبات عائلتنا، ونترك هذا العمل ونعود لمقاعد الدراسة في المدارس من جديد”.

السوري ومعركة العيش

السوري ومعركة العيش

لا يذكر كامل المرة الأخيرة التي جالس فيها أطفاله الثلاثة خلال أيام الأسبوع. فهو بالكاد يلتقي بهم يوم الجمعة. كأنه مغترب داخل وطنه، يمضي كامل نهاره وجزءاً من ليله متنقلاً بين عمل وآخر، عله يتمكن من توفير المال لتأمين احتياجات عائلته.
يغادر منزله في منطقة معضمية الشام بريف دمشق السادسة والنصف صباحاً، ليتسنّى له الوصول إلى عمله بوزارة التربية في الثامنة وسط أزمة نقل خانقة.
ويعاني السويون في مناطق الحكومة السورية من تدهور الوضع الاقتصادي بشكل حاد، ما دفعهم إلى العمل في أكثر من مكان على فترات مختلفة من أجل تأمين الحاجات الأساسية للعيش.
يمضي كامل عدة ساعات في الوزارة ثم يتسلّل إلى سيارة الأجرة التي يجول فيها شوارع دمشق بحثاً عن الزبائن. يأكل السندويشة التي أعدّتها زوجته وأحياناً تفاحة إن توفرت في المنزل، قبل أن يصل إلى المطعم الذي يعمل فيه “جرسون” حتى الواحدة بعد منتصف الليل. يعود بعدها لمنزله ليجد زوجته في انتظاره بينما يكون أطفاله نائمين. يغط كامل بالنوم ويستيقظ صباحاً ليبدأ دورة حياته المرسومة بالقلم والمسطرة بعيداً عن أي راحة.
ارتفعت تكاليف المعيشة في مناطق الحكومة السورية إلى حدّ لا يطاق، حيث تحتاج أسرة من خمسة أشخاص لمليون و800 ألف ليرة سورية شهرياً كحدّ أدنى، لتأمين ثماني احتياجات أساسية: الغذاء والسكن والنقل والصحة، واللباس والتعليم والأثاث والاتصالات، يضاف إليها نسبة 8% لحالات الطوارئ الأخرى، حسب تقرير لصحيفة “قاسيون” المحلية.  وأكدت الصحيفة أن هذه التكاليف عن شهر أيلول الماضي، بعد أن كانت مليون و240 ألف ليرة في حزيران، مما يعني أن هذه التكاليف قد تغيرت حالياً ووصلت لرقم أكبر، في ظل ارتفاع الأسعار المستمر.
هذا ما دفع السوريين للعمل في أكثر من مكان في سبيل تأمين لقمة العيش. ويوضح كامل أنه برغم عمله في أكثر من مكان إلا أن ما يحصل عليه آخر كل شهر يصل إلى قرابة الـ 350 ألف ليرة سورية أي 100 دولار، وهو غير كافٍ لتأمين احتياجات أطفاله وزوجته من طعام وشراب، كما يضطر إلى الاستدانة من بعض أصدقائه ليتمكن من إكمال مصروفه الشهري، والذي يتجاوز ما يحصل عليه بضعف أو أكثر حسب كل شهر.
“ما عم نصرف إلا للشغلات الأساسية والأسعار كل يوم بترتفع، ومن 5 شهور ما أكلنا لحمة.. ما عاد أعرف شو اشتغل أكتر من هيك”. ويذكر كامل أن الجهات التي يعمل لديها استغلالية ولا تراعي أحوال الناس، مضيفاً: “السوري عم يستغل السوري بيربحوا كتير وبيعطونا الفتات وإذا تركنا نفس الحالة.. كل الناس عم تدور على شغل، بيعرفوا رح يجي غيرنا فوراً”.
وكان وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية مارتن غريفيث، قدر أعداد السوريين الذين يعيشون تحت خط الفقر بأكثر من 90%، وأن كثيراً منهم يضطر إلى اتخاذ خيارات صعبة للغاية لتغطية نفقاتهم.
كامل ليس حالة استثنائية بل حاله يشبه حال الكثير من السوريين في بلاد تعاني حرباً، ومنهم رغدة أستاذة المدرسة التي قررت ترك وظيفتها بمدرسة حكومية، والانتقال إلى أخرى خاصة كونها أفضل من ناحية الراتب.
تنهي رغدة دروسها في المدرسة وتصل إلى بيتها لتأكل على عجلة، ثم تتنقل بين منازل الطلاب لتعطي دروساً بالفيزياء والكيمياء، حيث يتراوح سعر الدرس في دمشق بين 15 و20 ألف ليرة.
وتبين رغدة أنها تحصل على مبلغ جيد، ولكنها تكاد تخسر صحتها نتيجة العمل المجهد، الذي يصل إلى أكثر من 15 ساعة يومياً حتى يوم العطلة. وتضيف “برجع على البيت بأقصى درجات التعب، ولازم اطبخ ونضف واعتني بأهلي لأنهن كبار بالعمر.. ما عاد طلعت مشوار أو زرت أي شخص.. حياتي شغل بشغل”.
أما سائق السرفيس أبو محمد فيخرج من بيته السابعة صباحاً ولا يرجع إليه حتى التاسعة والنصف، ويوضح أن لديه ولدان بالجامعة وثالث في المدرسة ويحتاجون إلى 150 ألف ليرة كمصروف شهري، إضافة إلى تأمين الأكل والحاجات الأخرى للمنزل. ويقول: “إذا ما عملت هيك منموت من الجوع.. عم اشتغل أكتر من 12 ساعة وعمري 50 سنة وصحتي على قدي”.  وذكر أبو محمد أن ولديه بدآ البحث عن عمل لمساعدته، وعرضا عليه ترك الجامعة لكنه رفض رغم إلحاح زوجته.
ووفقاً لتقديرات برنامج الأغذية العالمي يعاني حالياً نحو 12.4 مليون سوري من انعدام الأمن الغذائي، بزيادة قدرها 4.5 مليون شخص خلال العام الماضي وحده.
ويقول برنامج الأغذية العالمي “يكافح الآباء أكثر من أي وقت مضى لإطعام أطفالهم، بعدما أصبح سعر المواد الغذائية الأساسية الآن أعلى بـ 29 مرة من متوسط أسعارها قبل الأزمة”.
ولم ينجُ طلاب المدارس من حتمية العمل لتأمين لقمة العيش، فطالب المدرسة بالمرحلة الثانوية توفيق، ينهي دوامه ثم يعمل على بسطة بمنطقة قريبة من منزله، حيث ساعده أحد أصدقائه بالمدرسة على تأمين هذا العمل.
يعود توفيق إلى بيته في التاسعة والنصف مساء، ثم يبدأ بتحضير دروسه لليوم التالي، رافضاً ترك مدرسته مثل بعض أصدقائه رغم طلب والده منه ذلك بحجة أن “العلم ما بطعمي خبز ببلدنا”. ويقول: “لازم ساعد أهلي شايفين الحياة صارت صعبة.. وكتار من رفقاتي عم يشتغلوا لهيك تشجعت”.
وجميع الحالات التي تحدثنا إليها كان خوفها الوحيد هو ما يمكن أن تتعرّض له من مشاكل صحية، وهنا يؤكد الطبيب هيثم حنا أن خطر الإصابة بالمشاكل الصحية وخاصة أمراض القلب والجلطات الدماغية، يزداد بنسبة 10% لمن يعمل بحدود 40 ساعة أسبوعياً، و30 % في حال العمل لـ 54 ساعة، و60% في حال العمل 100 ساعة في الأسبوع.
وكانت منظمة الصحة العالمية قد أعلنت أن العمل لساعات طويلة يقتل مئات الألوف من الأشخاص سنوياً.
في الوقت الذي تسعى فيه دول العالم لتقليل ساعات العمل واستقطاع يوم راحة إضافي أسبوعياً، يجد السوري نفسه أمام خيار وحيد وهو العمل والعمل دون أن يعرف سبيلاً للراحة، ليس حباً بالحياة وبحثاً عن الطموح، وإنما لتأمين لقمة عيشه التي أصبحت عبئاً كبيراً في دوامة النزاع الحاصل بالبلاد منذ أكثر من عشر سنوات.

هل تتغير حياتك بـ 5 دولارات؟

هل تتغير حياتك بـ 5 دولارات؟

“هل تغير خمسة دولارات من الواقع المرير شيئاً؟”، بهذا السؤال يعلّق علي (موظف حكومي وأب لطفلين) على أنباء زيادة الرواتب والأجور الحكومية في البلاد، ويعرب عن حزنه العميق لما آلت إليه أحوال الموظفين الحكوميين، حيث لا يشتري راتبه الشهري كاملاً سوى “زوج من الأحذية”! ويعتمد علي في تحمل تكاليف المعيشة على حوالة شهرية يرسلها أخوه المقيم في الإمارات.
صدر في 15 كانون الأول/ديسمبر 2021 مرسوم يقضي بزيادة قدرها 30% على الرواتب والأجور لكل من العاملين المدنيين والعسكريين، وفي الوقت ذاته صدر مرسوم آخر بزيادة المعاشات التقاعدية للعسكريين والمدنيين بنسبة 25%.
إلا أن هذه الزيادة أثارت زوبعة من الانتقادات بين السوريين؛ إذ لم تلبِّ الحد الأدنى من المتطلبات الأساسية للعيش وسط ارتفاع هائل في الأسعار لم تشهده البلاد من قبل.
ويرى علي أن الزيادة الأخيرة المقدرة بـ 20 ألف ل.س (5 دولارات) امتصتها الحكومة مسبقاً عبر رفع أسعار البنزين والمازوت والغاز المنزلي؛ فضلاً عن سعر المواد الأساسية المدعومة عبر البطاقة الإلكترونية مثل السكر والأرز.
وتأتي الزيادة الأخيرة للمرة الثانية خلال العام الجاري 2021؛ إذ صدر مرسومان تشريعيان في تموز/يوليو الماضي، بموجبهما زادت رواتب العاملين في الدولة بنسبة 50%، كما زادت معاشات المتقاعدين بنسبة 40%.
وبصدور المرسوم التشريعي رقم 29 لعام 2021، ارتفع الحد الأدنى العام للأجور في سورية إلى 92 ألف ل.س (26 دولاراً) بدلاً من 71 ألف ل.س سابقاً.
ومع نهاية 2021 تراجع سعر صرف الليرة السورية إلى أكثر من 3400 ل.س مقابل كل دولار أمريكي في السوق السوداء، في حين حافظ السعر في “مصرف سورية المركزي” على 1256 ل.س وفق نشرة الأسعار الرسمية، كما يقترب من 2500 ل.س لكل دولار أمريكي للحوالات الواردة من الخارج، بحسب نشرة المصارف والصرافة الصادرة عن “المركزي” أيضاً.
تقول المدرسة المتقاعدة هيفاء (اسم مستعار) لـ “صالون سوريا”، إن الزيادة التي حصلت عليها لن تحقق لها أي فائدة شخصية، الأمر لا يتعلق بالراتب الشهري مهما بلغ؛ بل بالقدرة الشرائية، ففي عام 2011 كان راتب المعلمين في المدراس الحكومية يقترب أو يزيد عن 20 ألف ل.س؛ أي ما يعادل 400 دولار أمريكي، أما اليوم فلا يعادل 29 دولاراً رغم تضاعفه 5 مرات تقريباً.
وتضيف هيفاء: “سيرفع التجار أسعار منتجاتهم بعد هذه الزيادة وسنتحمل أعباء إضافية، هذا ما اعتدنا حصوله غالباً”.
وانتقد صحفيون وناشطون سوريون على وسائل التواصل الاجتماعي قيمة الزيادة المتدنية في الرواتب بالمقارنة مع الزيادات المماثلة التي حصلت في دول الجوار.
وفي وقت سابق طالب عدد من أعضاء “مجلس الشعب” في جلسة 12 كانون الاول، برفع مستوى الرواتب والأجور بنسبة 300% لتقليص الفجوة بين الدخل والإنفاق، بخاصة بعد رفع الحكومة أسعار البنزين والغاز المنزلي والمازوت، كما نقلت وكالة “سانا” الحكومية للأنباء.
واعترف وزير المالية كنان ياغي في وقت سابق -قبل صدور المراسيم الأخيرة- أن الزيادة المرتقبة للرواتب والأجور لن تلغي الفارق الكبير بين الرواتب ونسب التضخم الحالية.
ولم تتوقف زيادة الأسعار على المواد والأغذية التي تدعمها الحكومة، إذ طالت أسعار المواد والمنتجات لدى التجار في الأسواق، وشملت كذلك زيادة أسعار النقل الخاص مثل سيارات الأجرة وغيرها، واستجابت “وزارة الصحة” حديثاً لمطالب أصحاب معامل الأدوية في البلاد عبر رفع أسعار 12 ألف صنف دوائي بنسبة 30%.

تجار الحرب يخوضون «معركة العقارات» في دمشق

تجار الحرب يخوضون «معركة العقارات» في دمشق

“على فرض أنّ المنزل الفلاني في تراسات مشروع دمر سعره مليار ليرة سورية، وهو كذلك فعلاً. سمعت ورأيت أكثر من عرض قريب من هذا السعر، في المشروع، اوتوستراد المزة، الروضة، المالكي، وأحياء أخرى. لنجري حسبة اقتصادية بسيطة، أنا موظف، راتبي الحكومي تقريباً مئة ألف ليرة سورية شهرياً، في حال أردت شراء هذا المنزل، سأحتاج لتوفير كامل راتبي، دون أن أصرف منه ليرة واحدة، سنوياً أجني مليون، كل عشر سنوات 10 ملايين، إذاَ في مئة عام سأجني مئة مليون، وسينقصني فوقها 900 مليون، وعمري 35 الآن، سأحتاج أن أعيش مئات السنين لأشتريه، تخيل!”، يقول الموظف شامل حنور الذي تحدث لـ “صالون سوريا” عن معاناة السوريين مع السكن، واصفاً الأمر بانه غير المعقول ولا المنطقي.
“حسناً، يسأل سائل لماذا لا تنخفض أسعار العقارات طالما أنّها وصلت أرقاماً غير طبيعية. الجواب بسيط: الزبائن كثر، تجار الحرب لم يتركوا لنا مكاناً لنسكنه، بل ان بيتا بجرمانا صار بـ 500 مليون؟”، يسأل شامل مستغرباً من جديد، ويبدو أنّ مئات وربما ألوف السوريين يشاركونه استغرابه، فعلاً، كيف وصل سعر العقار في جرمانا المدينة الواقعة في ريف دمشق إلى نصف مليار؟.

فوائد قوم عند قوم
وسيم الجحا تاجر عقارات في دمشق، يجلس في مكتبه في حي المزرعة الشامي يقلب في دفتره ليعثر على تفاصيل عقار معروض للبيع لديه. كان سجل بياناته سابقاً، وهو بحاجتها الآن ليلبي طلب زبون تواصل معه عبر التلفون، “المنزل المعروض ثمنه 850 مليون ليرة سورية، والزبون موافق على السعر، لكنه يريد معلومات تفصيلية أكثر، عن الاتجاه مثلاً، المساحة الكلية، الإطلالة، مساحة الشرفة، وهكذا، بالعادة هذه الأمور يعاينها المشتري على أرض الواقع، لكن الزبون هذه المرة سيشتري المنزل عبر أخيه الذي يملك وكالة عنه، فهو خارج البلد، ولكن مع ذلك لا أصفه بالزبون المتطلب، فهذا حق طبيعي طالما هو خارج البلد”.
يشرح جحا لـ “صالون سوريا” أن المتعارف عليه أنّ المكتب ينال نسبة واحد بالمئة من ثمن العقار عند إتمام المبيع، النسبة ذاتها من البائع والشاري، أي ثمانية مليون ونصف من كل طرف، في حالة هذا العقار، وبمجموع 16 مليون ليرة سورية من الطرفين، مقابل بيع عقار واحد، “إذا بعت عقاراً مشابهاً مرة واحدة كل شهر سأصير مليونير بسرعة، لكن أحياناً يجمد السوق وتتوقف حركة البيع والشراء، لذا عملنا هو مثل الضربات، والأهم هو المضاربات فيما بين التجار، ولجوء الزبون لعرض عقاره عبر الكثير من المكاتب، وأخيراً صار كثر من الزبائن يعرضون عقاراتهم بأنفسهم على صفحات الفيس بوك، وهو ما يؤدي أحياناً لتراجع نشاط عملنا”.
وبحسب التاجر، فإنّ النصف الثاني من هذا العام هو الأكثر قوةً ونشاطاً قياساً بالفترات السابقة، “وصلت العقارات أسعاراً فلكية وغير مسبوقة، وهذه الفترة هي الأفضل منذ بداية الحرب”. ويعزو جحا السبب إلى “الارتفاع الواضح في نسبة الأمان بصورة عامة”.يضيف، “الناس صارت تتجرأ الآن على الدفع والشراء طالما أنّ الخطر انحسر بصورة شبه كاملة، فضلاً عن التهاوي المستمر في قيمة ليرتنا، لذا يبحث الجميع عن (تركين) أمواله في أشياء ثابتة كالسيارات والعقارات”.
“ليست كل الأسعار تصل إلى مليار وتتخطاه، هناك منازل أسعارها 300 و400 مليون في قلب دمشق”. يقول ثائر حديد وهو تاجر عقارات آخر في دمشق، يضيف لـ “صالون سوريا”، “صحيح أنّ الأرقام كبيرة، ولكن حتى في هذه فليس الجميع سواسية، هناك أناس يملكون أموالاً ويدفعون مئات الملايين دون نقاش لشراء عقار في أبو رمانة أو كفرسوسة مثلاً، وهناك أناس نميزهم جيداً يبحثون عن منزل بمئتي مليون مثلاً، ونعرف من حديثهم أنّ هذا المبلغ هو (تحويشة) عمرهم، هناك طبقات متعددة حولنا، والغالب بينهم إما ساحق أو مسحوق”، لا ينسى حديد الإشارة أنّ ارتفاع الأسعار مرتبط أيضاً بالتكلفة الباهظة لمواد البناء وارتفاعاتها المتتالية خلال الفترات الماضية.

“امبراطورية” المزة 86
“أنا الآن مستأجر لمنزل، اسكنه أنا وزوجتي وطفلي في منطقة المزة 86، أي في عمق مخالفات بلدنا، حتى أنّه لتصل لمنزلي، أنا لا اسميه طريقاً، بل عليك أن تتسلق أدراجاً طلوعاً ونزولاً، بالمختصر بتطلع روحك لتوصل لعندي، وفوق ذلك أجار منزلي 400 ألف شهرياً، وندفع كل ستة أشهر سلف، ومع نهاية كل نصف عام يتوقع المستأجر من صاحب العقار أن يزيد سعر الإيجار، المهم، تخيل أنّك في ال86 تستأجر ب400 ألف، كيف هذا؟، لا أحد يعرف، الطامة ليست هنا، تخيل أنّ أسعار بعض المنازل حولنا لامست حدود مئة مليون ليرة سورية، ومنطقتنا كلها مخالفات، شيء لا يصدق ولا يعقل”، يقول المهندس منصور سليمان في حديثه ل “صالون سوري” مبدياً استغرابه من تركز الأموال بيد فئة محددة من المجتمع.
“تجار الحرب هم من رفعوا أسعار العقارات وقضوا علينا”، يقول سليمان، ويضيف: “ما جمعه أحدهم بعام واحد في الحرب، سأحتاج أن أعيش مئتي عام لأجنيه من وظيفتي”. وعن حلمه بامتلاك عقار، يقول: “ما عدت أفكر بالأمر منذ زمن، قدرنا في بلدنا أن نظل مشردين بين منازله المستأجرة، وأن تشتري أرضاً وتعمر منزلاً عليها، أنا مهندس وأعرف أنّ الأمر جنوني، فمثلاً، سعر طن الحديد أكثر من مليوني ليرة سورية وسعر كيس الإسمنت أكثر من 15 ألف وسعر المتر من البتون المجبول بحدود مئة ألف ليرة، لذا فهذا الخيار مستحيل أيضاً”.

الاقتصاد العجيب
يبدي الاقتصادي كمال حميرا استغرابه الشديد من ارتفاع أسعار المنازل للضعف فجأة، يقول في حديثه مع “صالون سوريا”: “ما يحصل لا يصدق، لم ندرسه بالاقتصاد، الوضع في سوريا جنوني، ترتفع ضرائب البيوع العقارية، تزداد أسعار العقارات، تتوازن الليرة قليلاً، ترتفع أسعار العقارات، تزداد المخاطر الأمنية، تزداد أسعار العقارات، تنخفض المخاطر الأمنية ترتفع الأسعار، العقارات لدينا لا تعرف شيئاً سوى الارتفاع، في الاقتصاد هذا غير مفهوم عموماً، نعم من المفهوم تأثير السوق السوداء وهرب الناس للتملك في محاولة للحفاظ على مدخراتهم بالعملية المحلية، ولكن حين وصل الدولار قبل أشهر حدود 5 آلاف ليرة سورية مقابل الدولار، ارتفعت العقارات، الآن ارتفعت قيمة الليرة ليصبح كل دولار يساوي حوالي 3500 ليرة في السوق السوداء، ارتفعت العقارات من جديد، هذا غريب حقاً!”.

لو كان سعيد عقل حياً
كانت دمشق المدينة الحلم لكل باحث عن فرصة عمل، حياة جديدة، إبداع مختلف، ولاحقاً صارت مقصداً للنازحين والهاربين من ويلات الحرب، ولكن سرعان ما لفظتهم عاصمة بلادهم، عودوا من حيث جئتم، أو ارحلوا لمخيمات في الجوار، وفي أحسن الأحوال افترشوا الأرصفة والحدائق، وحقيقة كل ذلك يحصل، نسبة الفقر والتسول في دمشق وصلت مستويات ما عهدتها البلاد يوماً، البلاد التي كانت مقصداً لمواطني جوارها لانخفاض أسعار كل شيء فيها، ليس بدءاً من الثياب ولا الطبابة ولا وصولاً إلى العقارات، اليوم، تغيّر كل شيء، من يعرف دمشق قبل 2011، لن يعرفها اليوم.
إذن، هي الحرب مرتان: مرة على أرواح السوريين، ومرةً على جيوبهم، وفي المرتين لا ينفك الناس يقدمون الأضاحي والنذور على نية خلاص بلادهم، أو خلاصهم من بلادهم، حدود بولندا تشهد على نظرية الخلاص بأكبر الأثمان، يقول عجوز قارئ نهم لـ “صالون سوري”، “لو كان سعيد عقل حياً، لقال لدمشق: شآم ما الوجع؟، أنت الوجع لم يغب. انت القسوة والقهر”.

رأس السنة في دمشق… حفلة على الناشف

رأس السنة في دمشق… حفلة على الناشف

“أحلى السهرات مع الفنان الكبير والراقصة جيجي”، “المقاعد محدودة وأيام قليلة تفصلنا عن بداية الـ ٢٠٢٢”،  “ما بقي إلا القليل لتخلص 2021 خلصها بفرح، للحجز والاستفسار الاتصال على الأرقام التالية”،   “أحلى السهرات بالميلاد ورأس السنة مع الصوت العذب واللحن الجميل”.
هذه جملة اقتباسات بدأت تنتشر في شوارع كل المدن السورية التي تعيش تقنينَ كل شيء. كم مواطن ومواطنة مرّوا من أمام هذه اللافتات والإعلانات دون أن ينتبهوا لها ومشاغلهم تقتصر على توفير الغاز والكهرباء؟ وكم مواطن ومواطنة تساءلوا في سرّهم عمّن سيحضر الطبل والزمر في بلاد ترقص بلا دف؟ وكم مواطن ومواطنة همّوا في مراسلة الجهة المنظّمة للسؤال عن مقعد بالقرب من “البيست”؟ هل على المواطن أن يعيش فقط هموم وقود التدفئة والحرب؟ ما المشكلة لو رقصت الطالبات وتمايل الطلاب لليلة واحدة فقط دون التفكير بالغد المجهول؟ في البلاد التي تعيش كل أشكال التناقض كل شيء ممكن.

فوق 200 ألف
بداية كانون الأول (ديسبمر)، ارتفع سعر كل شيء إلا المواطن/ة، بدأ يخفّ سعره ووزنه وتنقص فيتاميناته بسبب قلة الغذاء والخضار والفواكه التي تبشر الجهات المعنية في تصريحاتها للإعلام أن أسعارها سترتفع 15% في المحال التجارية وبيع المفرق. كيف ستكون حاضرة على موائد رأس السنة هذا العام؟.
يتحدث جورج البالغ من العمر 40 عاماً وهو واحد من منظّمي الحفلات في مطاعم دمشق القديمة لـ “صالون سوريا”: “تسعيرة الدخول إلى حفل رأس السنة هذا العام تبدأ من 60 ألف ليرة سورية وتصل إلى الـ 200 ألف”. وهو يتحدث عن الحفلات التي ينظّمها والتي تتضمن وجبة دجاج ومشروب روحي ونرجيلة ومطرب من الدرجة الثانية أو الثالثة، أي أنه غير معروف. ويشير جورج إلى أن الأسعار ارتفعت عن العام الماضي ما يقارب 100% وأكثر، حيث بلغ سعر أعلى بطاقة 75 ألف ليرة سورية. في أحد المطاعم الفخمة في العاصمة دمشق، تبدأ أسعار البطاقات بـ 200 ألف ليرة سورية للشخص الواحد، وتصل لل300 ألف ليرة للطاولات القريبة من المطرب. وتتضمن وجبة عشاء كاملة وكل أنواع المشروبات، ومع ذلك يشير أحد العمال في المطعم إلى أن هامش الربح قليل جداً، لكن لا توجد خسارة بالطبع لأصحاب المنشأت.
وبين الـ60 ألف وال200 ألف ليرة سورية، هنا في شرق العاصمة دمشق أماكن للرقص والكأس فقط. وتعتبر اليوم للشباب والشابات الفقراء، أي ذوي الدخل المحدود والعازبين/ات، ممن يريدون أن يودعوا عامهم برقصة مع الحبيب/ة ع الناشف “أي دون عشاء وبكأس واحد”، على حد تعبير علي 30 عاماً وهو مستثمر أحد البارات في باب توما، “40 ألف ليرة سورية” أي حوالي نصف راتب موظف/ة بعد الزيادة الأخيرة، هي ثمن دخول أرخص البارات بمشروب واحد لليلة رأس السنة، لكن هنا الرقص ببلاش، يمكن للشباب والشابات الرقص حتى الصباح ولا أجور على كل هزة خصر يميناً ويساراً.

سهار بعد سهار!
كيف سيقضي بعض السوريين والسوريات رأس السنة هذا العام؟ ومن سيطرق باب أماكن السهر؟ وكيف سترقص الناس هذا العام في بلاد التقنين؟ لا يقتصر الاحتفال برأس السنة الجديدة على طائفة معينة فقط، فالجميع يشارك في الاحتفال على طريقته.
تنوعت الإجابات واختلفت الأسباب بين من سيرقص على أمنية أن تكون هذه الرقصة الأخيرة له في البلاد، ويودع 2022 تحت برج خليفة أو في أحد الدول الأوربية. أحمد 23 سنة طالب في كلية طب الأسنان بجامعة دمشق، قام هو وأصدقاؤه بحجز أماكن في أحد بارات باب توما بتكلفة 40 ألف للشخص، ومع أن أحمد لم يبدأ العمل ومازال يدرس فقط، إلا أنه قرر وزملاؤه منذ شهرين أن يلملموا بعض النقود من مصروفهم الشخصي ليحتفلوا في هذا اليوم مع بعضهم البعض. سيسهر أحمد ويشرب نخب البلاد المتعبة ويقرع الكأس مع الرفاق على أمل ولادة جديدة خارج حدود الوطن. حال أحمد كحال الكثير من الشباب والشابات الذين اقتصدوا بمصاريفهم مدة أشهر ليستطيعوا الاحتفال بنهاية العام. أما نهى 33 عاماً وهي موظفة حكومية فستخرج مع زميلتها في السكن للسير في شوارع دمشق بعد منتصف الليل ومراقبة الناس لأن وضعها المادي لا يسمح لها بأن تسهر خارج منزلها. و ككل عام ستقوم مع شريكتها في السكن بتحضير بعض المأكولات المتعارف عليها “تبولة، سلطات، دجاج مشوي”. إذ أن إعداد الدجاج بات يتطلّب مناسبة واحتفالاً ولم يعد شراؤه في الأيام العادية ممكناً.
هذه الحالات هي نماذج قليلة من شريحة باتت تتجاوز ربما الـ 70% من تعداد السوريين. لكن رغم كل وجع دمشق هناك وجه آخر للحياة، حيث يتسابق فيه الناس للحصول على مقعد في حفلات “الكلاس” ومحلات الخمس نجوم. إبراهيم، أحد التجار في دمشق سيدفع مليوني ليرة سورية مقابل أن يحضر حفلاً مع عائلته في مطعم خمس نجوم ليلة رأس السنة. ويرى أن هذا الرقم منطقي في ظل تدهور الليرة السورية الحالي أمام سعر الصرف وأن أي مواطن سيدخل إلى بيته عشاء عادياً لا تتخلّله لحوم حمراء، سيدفع 150 ألف ليرة سورية تغطّي عشاء شخصين فقط.
الدكتورة سحر 32 عاماً تعتقد أن الأوضاع تتيح للجميع أن يحتفلوا كلّ على طريقته وبحسب دخله ومستواه المعيشي، وهي ستسطيع بدخلها وبمستوى معيشتها مع زوجها أن تحتفل في أغلى مطاعم دمشق وستستمتع بنتاج عمل وجهد بذلته طوال العام. كما أنها تحب أن تستقبل العام الجديد في أفخم الأماكن وتتمنى لو كان بإمكان كل السوريين أن يحتفلوا في أماكن فاخرة. ستدفع سحر ما يقارب 4 ملايين ليرة سورية هي وعائلتها وعائلة زوجها أيضاً، وتقول “عادي”!

أطلال الماضي!
كل سنة، وعند الساعة الثانية عشر يقبّل الجميع بعضهم البعض على أمل الخير والقادم الأفضل. في سوريا وقبل الحرب تحديداً منذ 11 عام ، كان الكل يحتفل على طريقته ولا رائحة تعلو على رائحة الشواء والبطاطا المقلية وغيرها. تقف أم غسان 55 عاماً على أطلال الماضي وتتذكر “جمعة” عائلتها وأبنائها وكيف أن عشاء رأس السنة مما لذّ وطاب في العام 2010 بلغت تكلفته 10000 آلاف ليرة في قريتها غرب حمص. وعند الساعة 12 تماماً يدخل الجيران إلى بيوت بعضهم البعض للمعايدة “ع الحارك” ويرقص الشباب والشابات في الشارع. لا ممنوع أو عيب أو حتى غالي. أما هذا العام فيقتصر عشاء رأس السنة على البرتقال والقليل من الموالح العادية وكأس مشروب من صنع يديها ويدي زوجها، أما الأولاد فكلّهم خارج البلاد يحتفلون على طريقتهم وستنتظر مكالمة جماعية عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
“من زمان، كيف كنا، ووين صرنا، بتتذكروا” جميعها مفردات يتعكز عليها السوريون والسوريات للبقاء على قيد الحياة كل عام، وعلى أبواب 2022 أمنيات السلام للشام.