حين لا يأتي أحدٌ ليضع حداً للمجزرة: قصائد للشاعر الأمريكي كوس كوستماير

حين لا يأتي أحدٌ ليضع حداً للمجزرة: قصائد للشاعر الأمريكي كوس كوستماير

ترجمة عن الإنكليزية: أسامة إسبر

كوس كوستماير شاعرٌ ومسرحيٌّ وروائيٌّ أميركي بدأ حياته الأدبية كاتباً مسرحياً وكاتب سيناريو. صدرت له عدة مسرحيات وثلاث مجموعات شعرية وتُرجمت له رواية إلى العربية بعنوان ”فارغو بيرنز“  صدرت عن دار خطوط وظلال في الأردن في ٢٠٢١. عُرضت مسرحياته في أميركا وفي بلدان غربية أخرى وحصل على العديد من الجوائز بما فيها جائزة دائرة نقاد المسرح في لوس أنجلوس لأفضل مسرحية وجائزة جمعية نقاد المسرح الأميركية.

من أعماله المسرحية ”حول النقود“،  ”تاريخ الخوف“، “المستنقع الغربي الكبير“، و”حلم الحرية المطلقة“، وصدر له في الشعر الدواوين التالية: ”سرير الزواج“، ”العام الذي اختفى فيه المستقبل“، ” بلا عنوان“، أما في الرواية فله ”دين مفقود“، ”سياسة اللامكان“، و“جادة الأيام الحزينة“.

القصائد التالية هي قصائد جديدة كتبها الشاعر عن حرب غزة، وخصَّ بها ”صالون سوريا“.

١- عناد

الرجلُ يستعملُ يديه بدل المطرقة

يركع وحيداً بين الأنقاض

يضربُ الفولاذ

يُدْمي الحجر

يصرخُ منادياً أسماءهم بأعلى صوته

 يصلّي كي ينطق من تبقى

غير أنه لا يخرج أحد.

الرجلُ الذي يستخدم يديه بدل المطرقة

ينبش الأرض بأظافره

يتضرّعُ إلى الموتى

يتوسّل إليهم أن يرجعوا.

حين تكتفي الريح من الإصغاء

تُعْول وتهبّ مبتعدةً

حينها، حتى المطر

يشعر بالعار من بقائه.

٢- الحرب على الأطفال

“هذه حرب على الأطفال”.

جيمس إلدر الناطق باسم الأمم المتحدة متحدثاً من جناح في مستشفى في غزة.

تتقدّم الجيوشُ

فوق الحليب الأسود والدم المسفوح.

يبكي أطفالٌ رضّعٌ

تحت الأنقاض ويفرُّ الناس.

تُعرّى أمهاتٌ

وتُقْحم أصابعُ في أعضائهن.

يُلفُّ آباء بالرايات ويُضْرَبون.

يُجْبرُ أطباء على السير على الماء

يُقتل أطفالٌ في حاضناتهم

يُقتل أشقاءٌ وشقيقات

وتتعفّن جثثهم في ضوء الشمس

حين لا يأتي أحدٌ كي يضع حدّاً للمجزرة.

تتدفق الأسلحةُ من الولايات المتحدة.

سياستنا موادّ لصناعة الأسلحة.

شهدْنا نهاية الأيام

وما من طريقةٍ كي نبعث المستقبل.

الأنهار تتدفّقُ داكنةً وحمراء من الدم

وما من مكانٍ نهرب إليه،

 أو نختبئ فيه

ما من طريقةٍ لإصلاح الريح المتكسرة

أو لإعادة الأطفال

كي نغنّي وندغدغ بشرتهم الناعمة التي كالعسل

حين لا يأتي أحد ليضع حداً للمجزرة.

نرى أجساد الأطفال

تُرْفَع محطّمةً من تحت الأنقاض.

نسمعُ أشخاصاً يتسوّلون شربة الماء

يصلّون للسلام،

لكن لا أحد يأتي كي يخفّف أحزانهم

ويحوّل أمنياتهم إلى خبزٍ

أو يروي ظمأهم الحارق

لإنقاذ أطفالهم من الدفن

لا أحد يتمرد

 ضد العرض المقيت لأكاذيب قديمة

تتقدّم عبر أخبارنا اليومية

وتزحفُ على شاشاتنا في الليل

كي تحتفي بدولارات جُمعت

وأذى أُلحق بالآخرين

حين لا يأتي أحدٌ ويضع حداً للمجزرة.

٣- درس لشرح المفردات

(إلى نعومي شهاب ناي)

نتعلّمُ اللغة في مركز العالم المحترق.

(السياسة، جريمة، صديق، عذاب، شظايا، دولة)

كلّ كلمة لطخةٌ لا نستطيع إزالتها

(بطل، قناص، شهيد، طاغية، سلطة، مصير)

هناك كلمات مجنونة، وأخرى مُهلكة وغادرة

وهناك كلمات كثيرة كاذبة.

(غريب، صاروخ، وطني، خصم، الآخر، نار)

إن نَحْو المأساة عظيمٌ، وإذا ما أصغيتَ

ستسمعه يتكسّر على الجدران

ويعاود ترتيب الجثث في جميع الأمكنة.

دَرْسُنا اليوم هو كلمة ”دبابة“.

 هل تعرفونها؟

Tank: الكلمة ذات المقطع الأحادي الثقيل

تمتلك شهية أسطورية

للموت وتقتلُ كل شيء

يقع في مدى بصرها.

تستهدف الجنود والأطفال والنساء والمعلمين

والطلاب والمزارعين، والأطفال

والناس بشتى أصنافهم.

هذا الاسم الذي لا يعرف الصفح

يتكاثر في جميع الأمكنة

ويفضّل أن يعمل في الشوارع

ليتمكن من استخدام خطمه القاتل والإجهاز على فريسته

دون أن يضطر لالتهام ما تبقى.

وكل ما يتبقى هو الشيء نفسه دوماً:

مرادف للأسى

وكلمة أخرى للكراهية.

٤- فن الحرب

حين جاءت الطائرات

كان قايين يستلقي في فراشه في البنسيون

 شبه نائمٍ ولم يحلق ذقنه بعد.

أنتم تعرفون المشهد،

أعرف أنكم تعرفونه،

ومطّلعون على خلفية الفيلم:

الغرفة القذرة بالأسود والأبيض

حيث كلّ الأغطية رطبة من الخبز المتعرّق

التلفاز مُدار، والسيجارة مُشعلة.

وحين بدأت القنابلُ بالسقوط

كان يقف عند النافذة

في الوهج الأحمر للصواريخ

والسماء مذهلة وملتهبة.

تعرفون الأغنية،

 أعرف أنكم تعرفونها:

الأطفال يموتون، هذه الجعجعة الفارغة.

النار تلتهم حقول القمح

الظلال تتقيّح في الشوارع.

لكن هذا هو قابيل، أتفهمون؟

الرجل نفسه الذي يحدّق بالأطفال وهم يحترقون،

ويركضون في عاصفة معدنية

صُنعت بلغةٍ

لم يتعلموها أبداً في المدرسة.

يتذكر فجأة

كيف سقط أخوه الأصغر هابيل تحت الضربات

قرب مذبحٍ دمويٍّ في يوم الأضاحي الكريه ذاك.

السماء فارغةٌ وصامتة الآن

آه، لكنّ جميع الأمهات يعرفْن

أن الموت قادم غداً إلى البلدة.

يقفْن خلف نوافذهن ويحدّقْن في الخارج

إلى الأشلاء وشظايا العظام، والبراز الدموي.

تعرفون المشهد:

 الرئيس، ثم بالطبع فواصل إعلانية

وفجأة ابن الإنسان

بوجهه المنهك منعكساً على لوح زجاج النافذة

يصيح بصوت مرتفع: ما الذي فعلتُه؟

ما الذي فعلته؟ 

ثم يكرر الصياح: ما الذي فعلته؟

٥- النظام العالمي الجديد

يتجلى جمال الأمم حين تكون النكهات كلّها محليةً،

 وتصبح الحياة لذيذة في جميع الأمكنة

إذا تُبّلت بطريقة ملائمة.

في اليونان، مثلاً، يمكن أن تشرب الريتسينا، وتتذوّق على شفتيك

أحجار التاريخ المرّة. يتصلّبُ لسانك كالفولاذ داخل فمك

وتشعر بأنك قادر على ممارسة الحب مع زوجتك

طوال الليل حتى الصباح.

أحجارُ اليونان نظيفةٌ وبيضاء،

لكن النبيذ الأحمر الداكن لبوجليا يجب ألا يُزدرى أبداً. فهو يمنح

فمك طَعْم الطمي

والشذى الأسود للتوت المسحوق.

لكلّ منزل سرّهُ،

 ولكلِّ أمةٍ متعتها:

الجوز الأرضي من السنغال

نبيذُ النخيل من غامبيا.

خيوط المعكرونة الفضية النحيلة والساكي الحارق من اليابان،

الشنكليش والمكدوس من قلب سوريا الجريح،

 أطباق المازة التي تُدْعى التاباس من أسبانيا

وخبز التشاباتي من إسلام آباد.

يجب أن تُزال الحدود اليوم،

على الفور،

وتحلّ محلّها قوائمُ طعامٍ بأطباقٍ محلية.

وفي هذا النظام العالمي الجديد

سنمدّ مائدةً مشتركة تحت قبة السماء

ونتحلّقُ حولها كأصدقاء وجيران

ونعدّ وليمةً عظيمة.

نحتفي بالصداقة أولاً،

نحكي قصصاً مدهشة بكل اللغات

عن أعاجيب عادية رأيناها.

نتقاسم كلّ ما أحضرناه،

 ونعتني بالجميع

مبتدئين بكبار السن ثم بالصغار.   

حينها كم ستبدو الحياة ثمينة لنا!

 كم ستبدو رائعة وعذبة!

وبعد العشاء نتذوّق أباريق متخمّرة

من شاي النعناع القوي،

ثم نجتمع معاً تحت النجوم

ونهدهد أطفالنا إلى أن يناموا. 

النبّاشون.. ضحايا حرب

النبّاشون.. ضحايا حرب

كنت أجمع البلاستيك التي تستغني عنه أمي، وكابلات الكهرباء التي أجدها في طريق عودتي من المدرسة، واراكمها في زاوية فوق سطح منزلنا حتى تصير كميتها جيدة، فأبيعها لـ “أبو عرّوف”، الذي كان يدفع عربته ثلاثية العجلات وهو ينادي على سكان الحارات التي يمر بها، علهم يخرجون ما يملكونه من مواد قابلة للبيع، فيشتريها، فنداء “يلي عندو بلاستيك، نحاس، المنيوم، للبيع” مع مد الكلمة الأخيرة، كان مسموعا في كل سورية. لاحقاً صرت أجد في الشوارع أطفالا من عمري يحملون أكياساً لينبشوا حاويات القمامة بحثا عما يُباع، وكنت أحسب أنهم مثلي يبحثون عن مبلغ ٢٥ ليرة سورية في نهاية المطاف، لكن الفارق أنهم كانوا يجمعون في يوم واحد ضعف ما أجمعه في أسبوع، والحقيقة أن فكرة تقليدهم بالمهنة لم تكن تغريني، وكانت تجارتي الصغيرة والبطيئة تلك، سببا لتوبيخ دائم من والدي الذي كان يعتبر أن تكديس البلاستيك فوق السطح ينتقص من قيمة الأسرة، ثم إني بدأت اكتشف الأمر أكثر بمجرد قدرتي على مغادرة الحي نحو السوق منفرداً، شبان ونساء يحملن أكياساً ليجمعوا ما يقدروا عليه من المواد القابلة للبيع، وآخرين يجمعون “الكرتون”، الفارغ من الأسواق ما إن تغلق المحال أبوابها، فسعر كيلو الكرتون كان بـ ٤ ليرات، وسعر كيلو البلاستيك كان بـ ١.٥ ليرة، وذلك كان في تسعينات القرن الماضي وحسب.

الحرب.. أثر دائم

على يمين الجسر الكائن بالطرف الشرقي من مدينة الكسوة، وتحديدا على كتف اتستراد درعا الجديد، ثمة مخيم يقطنه ما يقارب ٧٠ عائلة نازحة من محافظة الحسكة تحديداً، هو مخيم خارج من حسابات كل المنظمات الإنسانية بما في ذلك “الهلال الأحمر”، والاقتراب من هذا المخيم يحتاج لحذر شديد، فسكانه يخشون النظرة الدونية التي قد يقابلون بها من الغريب، فهم من ابناء عشائر الحسكة الذين تقطعت بهم سبل النزوح إلى خيام مبنية مما تيسر من أقمشة و “شوادر معونة”، اشتروها من حر مالهم بعد أن حصل عليها من لا يستحق.

المهنة الأساسية التي يعمل بها سكان هذا المخيم هي “نبش القمامة”، بحثا عما يباع من “بلاستيك – ألمنيوم – عبوات زجاجية غير مكسورة – كرتون”، وهي المهنة الوحيدة التي قبلت بهم بعد نزوحهم من قراهم بفعل الحرب، حيث تركوا اراض زراعية كانت تستثمر في انتاج القمح والشعير، لكنها اليوم تخضع لسيطرة القوات التركية.

يقول ”حواس” وهو أحد سكان المخيم لـ ”صالون سوريا“: ”اتمنى العودة، على الأقل هناك لدي منزل مبني من طوب لا من خيمة لا ترد برد الشتاء أو خر الصيف، وهناك سيكون لدي القدرة على زراعة أرضي بدلا من أن تتحول لحقول ألغام، هجرت قريتي المبروكة، منذ أن دخلت خارطة الحرب، لدي أطفال أردت لهم العيش خارج المناطق المشتعلة، وهنا بالقرب من الكسوة سكنت مع عائلات أخرى هذا المكان الذي تمر من أمامه قوافل الإغاثة وسيارات المنظمات نحو درعا دون أن تكترث لوجودنا”.

مرافقة حواس إلى مكبات القمامة ستجعل من اليوم يبدو غريباً، يمتلك أدوات للعمل منها القفازات السميكة التي تحميه من الخدوش أو الجروح، وخلال تقليبه للقمامة ونبش أكياسها، يقول: ”من الصعب أن تجد في المكبات ما هو مهم، غالبا ما يكون نباشين آخرين قد مروا بالحاويات في الأحياء، لكن فرصة كسب تبقى قائمة“.

ويستغرب سمير وهو من سكان هذا المخيم أيضاً من الحديث عن وجود زعامات أو تقسيمات لعملية النبش بين المشتغلين فيها، ويقول لـ ”صالون سوريا“: الرزق على الله ونحن نعمل بهذه القاعدة، لا يعرف كل النباشين بعضهم بشكل وثيق، لا يوجد تقسيمات ولا زعامات لهذه المهنة كما يتحدثون عنا في التلفزيون والاعلام، نحن أناس على باب الله وفقط”.

ويسخر سمير من ذكر احتمال تعرضه للمخالفة لأنه يعمل في مهنة غير مرخصة، ويقول: “إذا بدي ارخص نبش القمامة فيجب أن يكون لدي نقابة، وسيكون اسمها نقابة النباشين، وبالتالي حين نتقاعد سيكون لدينا تعويض من صندوق النباشين التعاوني، وربما نستطيع ترخيص جمعية سكنية تحت اسم جمعية النباشين“.

ثم يضيف “كنا نمر بالإحياء فنرى الشفقة في عيون الناس، الأمر مزعج لكنه بات أكثر ازعاجا ونحن نسمع كلام الناس عن ثرواتنا المهولة التي نراكمها من عملية نبش القمامة التي قد لا تصل في النهاية إلى مبلغ يسد الاحتياجات اليومية، ولو كان لدينا الثروات التي يتخيلها بعض الناس، لسكنا في منازل بدلا من خيامنا التي تنهار من ثقل مياه المطر”.

تنميط.. وتهم معلبة 

يخاف سكان الاحياء المجاورة من المخيم، يعتقدون أن سكانه من اللصوص وعصابات الخطف، ويعاني أطفال المخيم من التنميط والتمر، فمن يذهب منهم للمدرسة يعامل على إنه كيس أمراض متنقلة لأن ذويه يعلمون في نبش القمامة، حتى إن سكان الأحياء يمنعون أطفالهم من اللعب مع أطفال المخيم. وتعاني النسوة منهن بشكل دائم من التحرش من قبل اصحاب المحال التجارية القريبة من المخيم باعتبار أنهن “سهلات المنال”، أو يعملن بـ ”الدعارة“.

عن هذا تقول أم مصطفى: ”كلما دخلت لأحد المحال التجارية يبدأ مسلسل التلطيش وتسميع الحكي، الكل يعتقد أن الفقر سيدفعنا للقبول بما يعرض علينا، أو إن مجرد سكننا في الخيام يعني أن النساء منا سيكن جاهزات للعمل في الدعارة، أنهي فعل التحرش بلساني السليط، وإن تمادى المتحرش، صوتي العالي هو سلاحي الوحيد“.

وتخشى النساء من التبليغ عن حالات التحرش أو التعنيف، فمخيمهم الذي يعيشون به غير قانوني وغير مرخص، وكونهم ”الحلقة الأضعف“ بحسب أم مصطفى، سيكون من السهل اتهامهم بالسرقة أو أية جريمة أخرى لإسكاتهن. 

”لهذا نستمر بممارسة حياتنا وعملنا بصمت“ تقول أم مصطفى.

الحياة اليومية في دمشق… دون كهرباء

الحياة اليومية في دمشق… دون كهرباء

أصبحت الكهرباء الشغل الشاغل للناس. تتحكم في أبسط تفاصيل حياتهم، أعمالهم، زياراتهم ومواعيد نومهم واستيقاظهم. يعيشون يومهم وفق مزاجها الذي يتفنَّن في قهرهم وتعذيبهم وهدر وقتهم وطاقاتهم.
أزمة الكهرباء الحاضرة بقوة طيلة السنوات الماضية، تفاقمت في الآونة الأخيرة بشكلٍ كبيرٍ فكانت الأسوء على الإطلاق منذ بداية الحرب، إذ أصبح متوسط ساعات التغذية الكهربائية ساعة أو ساعة ونصف في أحسن الأحوال مقابل خمس ساعات قطع قد تزيد في بعض الأحيان.

مهن شُلَّت
ورشات الخياطة والنجارة والحدادة، المعامل والحرف والورش الصناعية وغيرها الكثير والكثير من المهن والأعمال كانت ضحية الإنقطاع الطويل للكهرباء الذي أدى لشلل بعضها وتوقف بعضها الآخر عن العمل بشكل نهائي، وهو ما أثَّر سلباً على أصحابها وعلى العاملين فيها حيث تراجع إنتاجهم بشكلٍ كبيرٍ أو فقدوا مصدر رزقهم الوحيد.
النجار أبو طارق (54 عاما)، اضطرته أزمة الكهرباء للاستغناء عن ثلاثةٍ من عمال ورشة النجارة الخاصة به، ويحدثنا عن معاناته اليومية في العمل فيها: “طوال فترة العمل نحظى بساعة كهرباء في أحسن الأحوال، وهي لا تكفي للقيام بأي عمل يذكر، لذا تراجع عملنا بنسبة 70 % وبتنا نعتذر عن تلبية الكثير من الطلبات”. ويضيف : “نستعين أحيانا بمولدة كهرباء صناعية، لكنها لا تخدمنا بما يكفي وتحتاج للمازت الذي بات من الصعب تأمينه، وإن وجد في السوق السوداء فسيكلفنا الليتر منه نحو أربعة أو خمسة آلاف ليرة وهو ما يُحملنا نفقاتٍ إضافيةٍ تجعل عملنا غير مُجدٍ”.
الواقع ذاته أجبر الخياط أبو ربيع (47 عاما) على إغلاق ورشة الخياطة التي ورثها عن أبيه بعد انعدام الإنتاج وتفاقم حجم الخسائر، فقام ببيع ماكينات الخياطة وجميع محتويات الورشة التي كانت تؤمن عملاً لنحو سبعة عمال، ليتخلى بذلك عن تلك المهنة بشكل نهائي، ويفتتح دكاناً صغيراً يُجَنبه عناء الانتظار والتعب واللاجدوى.
الشاب سامر (39 عاما) صاحب مصبغة لغسل وكوي الثياب، بدوره حذا حذو أبو ربيع فأغلق المصبغة، التي أصبح العمل بها لا يعود عليه سوى بالتعب والخسائر واستياء الناس من أداء عمله وعجزه عن تلبية طلباتهم، ثم باع بعض محتوياتها ليسافر بثمنها إلى أربيل، علَّه يجد عملاً مجدياً يمكنه من عيش حياةٍ كريمة.

أزمة مياه خانقة
الإنقطاع الطويل للكهرباء أثَّر سلباً على عمل المضخات المركزية التي تضخ المياه من المصادر الرئيسية إلى الشبكات التي تغذي الأحياء والحارات وهو ما خلق أزمة كبيرة في وصول المياه إلى البيوت التي بدورها شُلّ عمل المضخات الخاصة بها، ما أجبر الكثير من الناس على نقل عشرات الغالونات من أماكن مختلفة إلى بيوتهم أو على شراء المياه من سيارات الباعة الجوالين لتعبئة خزاناتهم الفارغة، خاصة في المناطق المحيطة بالعاصمة وذات الكثافة السكانية الكبيرة كمدينة جرمانا، حيث تنتشر سيارات بيع الماء التي تمتد خراطيمها إلى خزانات الطوابق العليا وعليك أن تنتظر لساعات طويلة ليلبي الباعة حاجتك نتيجة الضغط الكبير عليهم، والذي أدى لارتفاع سعر برميل الماء بشكل كبير، وصل إلى نحو خمسة آلاف ليرة، وهو ما شكل عبئاً مالياً إضافياً على الناس الذين بالكاد يتدبرون لقمة عيشهم.
ويحدثنا أبو ريان (58 عاما) أحد سكان مدينة جرمانا عن معانته مع تلك الأزمة، قائلا: ” لنحو عشرين يوماً لم تصل المياه الرئيسية إلى بيتي إلا فيما ندر، ورغم التقنين الكبير في استهلاك الماء نحتاج أسبوعياً لنحو خمسة براميل، وهي سعة خزاننا المنزلي، الذي اضطررنا خلال الأسبوعين الماضيين لتعبئته مرتين عبر شراء الماء من إحدى السيارات بتكلفة 50 ألف ليرة، وإذا ما استمر الحال على ذلك النحو فسنحتاج 100 ألف ليرة شهرياً لشراء الماء، أي ما يعادل نصف دخلي الشهري الذي أدفعه بالكامل إيجاراً للمنزل الذي أسكنه وعائلتي”.

الاستحمام والغسيل
“لكي نستحم علينا أن ننتظر ساعات طويلة وربما أياماً. لم يعد الأمر متاحاً في أي وقت، إذ بات أفراد عائلتنا يتناوبون على الاستحمام على مدار أيام الأسبوع، فساعة واحدة من الكهرباء لا تكفي لتسخين الماء في سخان الحمام، لذا نلجأ أحياناً لتسخين الماء بواسطة وعاء كبير نضعه على النار ونقنن في استهلاكه قدر الإمكان، وكثيراً ما نضطر أنا وبعض أبنائي الخمسة للذهاب إلى بيت أختي لكي نستحم هناك”. هكذا تصف أم فادي (61 عام) معاناتها التي تشبه معاناة معظم الناس الذين باتت الكهرباء تتحكم في أوقات استحمامهم بل وتحرمهم أيضاً من غسل ثيابهم، بعد أن أصبحت الغسالات شبه عاطلة عن العمل، وهو ما أجبر الكثير منهم على العودة إلى الطرق البدائية كحال أم فادي: “منذ شهرين وحتى الآن أغسل الثياب بشكل يدوي، أتذكر جدتي وألعن التطور والتكنولوجيا، فالغسالة الأوتوماتيكية تحتاج لأكثر من ساعة لتنهي غسل وجبة الثياب التي قد تبقى في داخلها لساعات طويلة وأحياناً لأكثر من يوم وهي مغمورة بالماء ومسحوق الغسيل ما قد يؤدي إلى تلفها السريع مع مرور الوقت”.
وإلى جانب ذلك تخلى معظم الناس عن كوي الثياب واستخدام المكنسة الكهربائية والخلاط وغير ذلك من الأدوات، فيما نسوا مشاهدة التلفاز الذي أصبح مجرد ديكور منزلي لا نفع له.

طبق شوربة عدس
نتيجة صعوبة توفير الغاز المنزلي يضطر كثير من الناس، لكي يطهو طعامهم، إلى استخدام الطباخ الكهربائي، ولكن الأخير بات يخذلهم في الآونة الأخيرة، لذا استغنوا عن تحضير كثيرٍ من الأطعمة التي يحتاج طهوها لوقتٍ طويل.
وتروي لنا ربة المنزل أم سعيد (47 عاما) معاناتها في تحضير طبق شوربة العدس: “وضعتُ طنجرة العدس على الطباخ الكهربائي عند الساعة الواحدة ظهراً، وهو موعد التغذية الكهربائية التي يُفترض أن تستمر لساعة ونصف، وقبل أن يسخن ماء الشوربة انقطعت الكهرباء بعد عشر دقائق من مجيئها، ثم مر الموعد دون أن تعود، فكان عليَّ انتظار موعد التغذية المسائية عند الساعة السابعة لأكمل تحضير الشوربة، لكن الكهرباء خذلتني مرة أخرى إذ لم تأتِ سوى عشرين دقيقة”. وتضيف: “بقي العدس في الطنجرة حتى الساعة الواحدة في انتظار موعد التغذية الليلية. وبعد ثلاثة عشرة ساعة من الانتظار المؤلم والتوتر نضجت الشوربة أخيراً عند الساعة الثانية بعد منتصف الليل قبل أن يتكمن أطفالي الصغار، الذين ينامون باكراً، من تذوقها”.
المؤونة تغيب عن الثلاجات
حبوب البازيلاء والفول والحمص والذرة، اللحوم المتنوعة، ورق العنب، الكبب والبُرك، مشتقات الألبان، وغير ذلك من المؤونة التي تعتبر ثقافة سورية متوارثة تميز بها المطبخ السوري، والتي اعتاد الناس على تخزينها في ثلاجات بيوتهم لتوفر عليهم الكثير من الجهد والأعباء الإقتصادية، وتتيح لهم تحضير الأطعمة المتنوعة في أي وقت. تلك المؤونة لم تنجُ بدورها من لعنة الإنقطاع الطويل للكهرباء الذي أدى إلى تلف الكثير منها ليُجبر الناس على رميها في القمامة، بعد أن تعبوا في تحضيرها وأنفقوا الكثير من المال لشراءها. وتحت وطأة تلك الأزمة استغنى معظمهم عن الاعتماد على الثلاجة التي أصبحت شبه خاوية وتحولت لما يشبه الخزانة بعد عجزها عن التبريد، فباتوا يكتفون بشراء كميات قليلة من الأطعمة ليُحرموا بذلك من إحدى العادات التي لطالما كانت تُغني مطابخهم.

معاناة أخرى
يضطر كثير من طلبة الجامعات والمعاهد للذهاب إلى المكتبات والمقاهي، التي يتوفر فيها مولدة كهرباء، ليتمكنوا من الدراسة ومتابعة مشاريعهم التي تحتاج لاستخدام الكومبيوتر والدخول إلى مواقع الإنترنت، وهو ما حمَّلهم أعباءً جسدية ومادية إضافية تفوق طاقتهم. وفي الليل يُجبر بعضهم على الدراسة على ضوء الشموع أو الهواتف المحمولة في كثير من الأحيان، حالهم كحال معظم طلاب المدارس، فوسائل الإنارة البديلة التي تعمل بالشحن، لم تعد تفي بغرضها حيث ينفذ شحن البطاريات في أي لحظة.
وإلى جانب ذلك تحولت أغلب الشوارع إلى مكان للاختناق والتلوث السمعي حيث تكتظ الأرصفة بالمولدات الكهربائية التي يُشغِّلها بعض أصحاب المطاعم والمقاهي والمحلات التجارية وغيرها، والتي تجعجع طوال الوقت لتصدِّع رؤوس المارة ويطغى ضجيجها على أحاديثهم وتخنقهم بدخانها الذي يلوِّث الهواء بكثافته. وفي الليل تغرق معظم الشوارع وخاصة الفرعية، في ظلمة دامسة، تجعلها موحشة ومخيفة في بعض الأحيان، وتجبرك على الإستعانة بضوء هاتفك المحمول أو بضوء القداحة كي لا تتعثر أو تصطدم بشيٍ ما في طريقك.
سنوات مرّت ومازالت أزمة الكهرباء الهاجس الأول لدى الناس الذين يعانون ويتذمرون وينفعلون وهم ينتظرون فرجاً كهربائياً ما، حتى بات أحد أحلامهم أن ينعموا بقسطٍ وفيرٍ من كهرباء مستقرة لا تخذلهم في كل وقت.

رحلة على طريق دمشق-القامشلي… وحواجزها

رحلة على طريق دمشق-القامشلي… وحواجزها

أكثر من 700 كيلو متراً، هي المسافة الفاصلة بين شمال شرق سوريا وجنوبها، لكن تلك المسافة ليست المعاناة الوحيدة لعابري ذاك الطريق الملتصقين بكراسيهم طوال الوقت، بل يضاف بينها ما يعانيه المسافرون براً من صعوبات فرضتها ظروف الحرب السورية وتبدل خرائط السيطرة بين أطراف الصراع.
اضطر علام (45 عاماً) وهو من مدينة القامشلي ومقيم في دمشق منذ حوالي العامين، للسفر إلى قريته في ريف القامشلي، ويقول لــ”صالون سوريا”: “خلال سفري شعرت وكأني غريب عن هذه البلاد بدءً من المعاملة السيئة على الحواجز وليس انتهاء بطرق تفتيش أقل ما يقال عنها تشبيحية” من حواجز المسلحين.

حواجز
تنتشر على طريق دمشق -القامشلي حواجز مهمتها “تشليح الناس وليس حمايتها”، بحسب إفادة علام، ويضيف، “أنَّ كل حاجز يتفنن في طريقة إذلال الناس وقهرها ناهيك عن مشقة الطريق وعناء ساعات السفر التي تصل لحوالي الــ 24 ساعة ذهاباً ومثيلتها إياباً”.
ويعاني مسافرون يسكنون في دمشق في تنقلهم إلى مسقط رأسهم في القامشلي وغيرها من مدن شمال شرق سوريا من -فرض الإتاوات عليهم ومن تعرض أمتعتهم الشخصية وما يحملونه من أغراض -للتفتيش من قبل حواجز الجيش السوري بشكل عشوائي يتلف أغراضهم وفقاً لعدد من المسافرين التقاهم “صالون سوريا”. وذكر الرجل الأربعيني أنَّ من بين أغراضه الشخصية التي تعرضت للتمزيق أثناء التفتيش من قبل أحد الحواجز “لحف وبطانيات” بحجة وجود شيء ما بداخلها. وقال: “لم يكلف العنصر نفسه حتى فتح الكيس وإلقاء نظرة عليه بل مزقه بسكين كانت بيده”. ويفيد بأن هذه الأغراض لها قيمة غاليه عنده كونها من تجهيزات عرسه منذ حوالي الخمسة عشر عاماً. لكن لا حول ولاقوه، وفقاً لتعبيره.

مضايقات
علام ليس حالة فريدة، بل هذا حال أغلب العابرين لهذا الطريق، فمنى ابنة مدينة الحسكة لم تنجُ من أسئلة عناصر حاجز أثريا عن سبب ذهابها لمدينتها، وتقول: “تولدي المسجَّل على هويتي مدينة دمشق” لكنها من سكان الرقة منذُ طفولتها حتى غادرت المدينة في العام 2013. وأضافت منى (33عاماً) وهو موظفة بنك خاص في دمشق لــ “صالون سوريا” بأنَّ “أخوها مسافر في الإمارات منذ العشر سنوات وطلب منها إحضار والدتها المقيمة في الرقة إلى دمشق بهدف ذهابها إلى دبي في زيارة لولدها”. وتقول بإنَّ من بين الأسئلة الموجهة لها تدخل في باب التحرش اللفظي والعنصري كــ “صبية حلوة متلك شو بياخدها على الرقة”.
وتذكر بحرقةً أنها لم ترَ والدتها منذ حوالي الثلاثة سنوات تجنباً للسفر إلى مسقط رأسها والمعاناة التي تحصل معها على طريق الرعب كما تصفه الشابة الثلاثينية.

اتاوات
أما خالد الشعيبي ورغم أنه يعمل قاضي في محاكم ريف دمشق بعد تخرجه من المعهد القضائي التابع لوزارة العدل فأن “حصانته القضائية لم تنجه من التفتيش والتفتيش”. يقول لــ “صالون سوريا”، ويضيف، “قام عنصر بتفتيش شنتاية لابتوبي وطلب مني تشغيله كي يرى ما يوجد بداخله”. وأفاد، بأنَّه شهرياً يسافر إلى الرقة ويتعرض لهذه المضايقات التي تختلف في طريق عودته إلى دمشق، إذ يضطر هنا لدفع (أتاوة) على بعض الأغراض التي بحوزته. ويقول لــ “صالون سوريا” ” في إحدى سفراتي جلبت معي تنكة زيت زيتون”، لكنَ العنصر قال له “الزيت ممنوع نقله بالبولمان”، وهي إشارةً إلى أن العنصر يريد “مصاري” بحسب تعبير القاضي الذي اضطر لدفع مبلغاً من المال 16 ألف ليرة”.
لا يختلف الواقع كثيراً على المقلب الآخر، حيث سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تنتشر حواجزها على طريق مناطق سيطرتها، ويقول الشعيبي لــ “صالون سوريا” “يمر سكان المنطقة الشرقية على حواجز قسد تقريباً بنفس إجراءات التفتيش وبعض المضايقات للشبان الذين هم في سن التجنيد”. ويؤكد، بأنَّ من يسافر من مناطق سيطرة دمشق وقيده المدني غير تابع للمنطقة الشرقية يحتاج إلى إجراءات روتينية وكأنك داخل إلى دولة أخرى، ومنها “الكفيل والشاهد” من أحد أبناء المنطقة.

طريق دمشق -القامشلي
في العام 2017 أُعيد فتح الطريق البري الوحيد الذي يصل مناطق شمال شرقي سوريا بالعاصمة، وذلك بعد سيطرة دمشق على أغلب المناطق الواقعة على طرفي الطريق والتي خسرتها في العام 2013.
ويشكل هذا الطريق البري منفذاً رئيسياً لأهالي الجزيرة للوصول للمحافظات والمناطق السورية الأخرى، إضافة للطريق الجوي عبر مطار القامشلي في الحسكة.
وتنطلق رحلات الحافلات من دمشق باتجاه القامشلي والرقة عبر طريقين لكل منهما، حيث يمر طريق دمشق -القامشلي من نقطة الانطلاق بدمشق عبوراً بحلب ثم القامشلي -قراقوزات، بينما يمر طريق دمشق -الرقة عبر أثريا وصولاً للطبقة ومنها إلى الرقة.

رحلة طويلة وغالية
قد تستغرق الرحلة من دمشق إلى القامشلي وبالعكس براً حوالي الـــ 18 ساعة، وقد تصل إلى 24 ساعة حسب ظروف الطريق وطريقة التفتيش على الحواجز والمعابر الواصلة بين بداية الخط ونهايته، على أنها كانت تستغرق حوالي الــ 9 ساعات قبل الحرب بالعام 2011.
وتبلغ قيمة التذكرة للشخص الواحد حوالي 32 ألف ليرة بحافلات رجال الأعمال و25 ألف ليرة بالحافلات العادية ويجتاز الراكب أكثر من 15 حاجزاً ونقطة تفتيش إضافة للحواجز الطيارة، أي غير الدائمة والتي تظهر فجأة على الطريق في حين كان سعر التذكرة قبل الحرب 500 ليرة.
بالمقابل، هناك من يسافر عبر الطائرة العسكرية التي تنقل بضائع مقابل 50 ألف ليرة وواسطة كي يحجز مكاناً. وهناك من يضطر نظراً لظروفه لدفع مبالغ مالية تتجاوز الـ 350 ألف ليرة للحصول على حجز طيران عبر شركة أجنحة الشام.

يوم في حياة عائلة نازحة في ادلب

يوم في حياة عائلة نازحة في ادلب

كثيراً ما نسمع عن قصص وحكايات وأوجاع لعائلات نازحة، تعيش في المخيمات ومراكز الإيواء، تفتقر لأبسط مقومات الحياة وأشكال الرفاهية في شمال غربي سوريا، معظمها قريبة من الحدود التركية، بعضها يقع في مناطق جبلية وعرة، ولكل عائلة نازحة في هذه المخيمات حكايتها وظروف معيشتها اليومية التي يطغى عليها مشهد الفقر والتقشف والبساطة.
“صالون سوريا” امضى يوماً مع احدى هذه العائلات في مخيم الأمل بالقرب من مدينة الدانا شمال إدلب، وضمن خيمة لا تتجاوز مساحتها الداخلية الكلية 10 أمتار مربعة. هنا يعيش أبو محمد (42 عاما) وزوجته وأولاده الستة الصغار، (نازحون من ريف حلب الجنوبي قبل نحو 5 سنوات)، حياةً بسيطة رغم مرارة العيش، لايملكون فيها أي شيء من تكنولوجيا العصر سوى بطارية صغيرة وسلك كهربائي معلق بلمبة صغيرة بقياس 12 فولتا، مربوطة بلوحة شمسية صغيرة مركونة على جدار الخيمة وموجهة بإتجاه الشمس لتحصل البطارية على الطاقة من أشعة الشمس يومياً.

خيمة… منزل
عملت الزوجة أم محمد ذات الثلاثين عاماً، على تحويل الخيمة إلى أشبه بمنزل صغير متواضع، فوضعت الغاز عند باب الخيمة من الداخل، وإلى جانبه بعضاً من أواني الطبخ البسيطة ضمن صندوق بلاستيكي (سحارة). وفي الجهة الثانية، وضعت قطعة خشبية مخصصة لوضع الأغطية والفرش بعد أن تستفيق أسرتها صباحاً، بينما فرشت أرض الخيمة بقطعة سجاد متهالكة وبعض الاسفنجات والوسائد، ومع كل صباح تبدأ الحكاية
أبو محمد، نزح من قريته بريف حلب الجنوبي قبل نحو 5 أعوام، عقب هجوم بري شنته قوات دمشق وإنتهت بالسيطرة على المنطقة حينئذ، ولجأ مع أقاربه إلى هذا المخيم، بالقرب من مدينة الدانا شمال إدلب، وحصل على فرصة عمل في أحد معامل الطوب (البلوك) في المنطقة.
مع ساعات الصباح الأولى من كل يوم (صيفاً وشتاءً)، يسيتيقظ وزوجته و أولاده (محمد 14 عاماً وحسن 13 عاما). فأبو محمد وأولاده يذهبون إلى وعاء مملوء بالماء عند باب الخيمة الخارجي، ويغسلون وجوههم. أما أم محمد، تُعد وجبة الإفطار مما توفر (صحن من الزيت النباتي وإلى جانبه صحن من الزعتر وبعض الأرغفة من الخبز وإبريق الشاي)، وأثناء تناول وجبة الإفطار يتمازحون ويضحكون ويتحدثون عن ما ينوون القيام به من أعمال خلال اليوم.
ومع إنتهاء تناول الطعام، كل منهم يذهب لإرتداء ملابس العمل والإستعداد للذهاب إلى العمل وسط أجواء من المزاح والضحك. فأبو محمد يسلك طريقه مشياً على الأقدام بإتجاه معمل الطوب. أما محمد وحسن يذهبان سوياً إلى واحدة من المدن القريبة (الدانا وسرمدا) بحثاً بين أكوام القمامة في شوارع المدن عن ما يستحق البيع من (مواد بلاستيكية ونايلون أو نحاس)، طيلة ساعات اليوم وحتى المساء، بينما أم محمد تبقى في الخيمة بإنتظار طفليها الصغيرين أن يستفيقوا من النوم لتعد لهم وجبة الإفطار ذاتها التي تناول منها زوجها وأبنيها، قبل الذهاب للعمل.

ام ومديرة
تقول أم محمد: “أعيش وأسرتي في المخيم منذ خمس سنوات إلى الآن نمطاً واحداً من الحياة لا غير، (إعداد الطعام والغسيل والجلي)، وغالباً ما أعده من طعام، يكون من المخصصات الإغاثية التي نحصل عليها شهرياً، (إما برغلاً أو عدساً أو معكرونة)، وذلك قبل الظهيرة. أما عند المساء أجلس مع جاراتي ونتبادل الأحاديث بالظروف المعيشية التي نعاني منها يومياً وأحاديث اخرى عامة، وبعدها أعود إلى خيمتي، وأعمل على تسخين الماء، ومع وصول زوجي وأولادي، أنهمك بتحضير الألبسة النظيفة لهم وإستحمامهم، وبعد ذلك نجلس جميعاً ونتاول العشاء، وبذلك يكون الظلام ملئ المكان، ونمضي ساعة أو أكثر نتبادل فيها الأحاديث، عن ما جرى معهم من أحداث أثناء العمل، وبعدها يذهب كل منا إلى النوم”.
وتفخر “أم محمد” بنفسها وترى أنها هي المسؤول الوحيد عن إدارة شؤون أسرتها في المأكل والمشرب والملبس والأشياء الأخرى التي تخص الأسرة، في الوقت الذي يمضي فيه زوجها بالعمل طيلة النهار وعلى مدار العام. وتقول: “عندما يعود زوجي من العمل يقوم بإعطائي ما جمعه من نقود خلال العمل بنقل الطوب في اليوم، وعادة يكون المبلغ بين 30 إلى 40 ليرة تركية، وكذلك أبنائي أيضاً فهم يقومون بشكل يومي بإعطائي ما تم جنيه من مال خلال عملهم في اليوم، بعد بيع ما تمكنوا من جمعه من أشياء (بلاستيكية ونايلون وخردة)، وأكون بذلك المسؤولة عن تدبير وإدارة شؤون الأسرة”.
وتضيف، “المرأة السورية وتحديداً النازحة مع أسرتها، تجد نفسها مسؤولة مباشرة عن أسرتها، فغالباً أرباب الأسر يذهبون للعمل منذ الصباح حتى المساء ليتمكنوا من جني النقود لإعالة أسرهم، وبذلك تلقى كامل المسؤولية في تدبير الأسرة من تربية وخدمات على عاتق المرأة، بينما سابقاً (قبل النزوح) كانت الحياة بالنسبة للمرأة أسهل بكثير، فالرجال يعملون في الزراعة والصناعة والتجارة في القرية التي نعيش فيها، وتكون ساعات العمل أقل بكثير من الآن، وهذا يخفف على المرأة أو ربة الأسرة الكثير من الأعباء في تربية الأطفال وتلبية متطلبات الأسرة اليومية، فمثلاً عندما يشكو أحد الأطفال من عوارض مرضية أو يصاب بضيق تنفس أو أي أذى، أذهب به إلى الطبيب ومن ثم إلى الصيدلية وجلب الأدوية، وأعود إلى الخيمة وأتابع العناية بحالته الصحية، فضلاً عن أنني المسؤولة عن شراء إسطوانة الغاز والأشياء الأخرى كالطعام والملابس، ومع ذلك لا أشعر زوجي بأي ضيق أو ملل، بل على العكس تماماً”.

حياة دون توقف
من جهته، قال أبو محمد: “منذ 5 أعوام وحتى الآن لا أذكر أنني تعطلت عن العمل يوماً واحداً، سوى أيام الأعياد، وبت أشعر مؤخراً بآلام وأوجاع في الظهر والمفاصل، نتيجة عملي المجهد، ولكن بالرغم من ذلك، لا أسمح للرغبة في التعطل عن العمل أن تنال مني، فذلك يعني أنني عرضت أسرتي للجوع والفقر أكثر، فعطلتي ليوم واحد قد يؤدي إلى فقدان إسطوانة الغاز في خيمتنا لأيام، أو لا تجد أسرتي ثمن ربطة الخبز أو ثمن الدواء فيما لو أصاب أحد أبنائي مرضاً، عدا عن متطلبات فصل الشتاء من وسائل تدفئة وغيرها، ومع ذلك أشعر في بعض الأوقات بحزن عميق، كوني لا أرى أولادي وزوجتي سوى ساعة أو ساعتين كل يوم قبل النوم، وفي اليوم التالي أذهب باكراً في الوقت الذي يكون فيها طفلين من أسرتي نائمين”.
ويضيف، “قبل النزوح كنت أملك حوالي 20 دونماً من الأرض الزراعية في بلدي، وأعمل في زراعية القمح والشعير والخضار سنوياً وأحصل في نهاية العام على مبلغ أستطيع من خلاله العيش وأسرتي بحال ميسورة جداً، بينما اليوم وفي ظل النزوح والمعاناة والمصاعب التي نواجهها يومياً من غلاء وغيره، يتطلب منا العمل يومياً دون كلل أو ملل لنؤمن قوت أسرنا ومتطلباتها”.
وأشار” تعرضت منذ عدة أشهر إلى كسور بأصابع قدمي نتيجة سقوط قطعة طوب عليها أثناء العمل، وبالرغم من الألم الشديد الذي أصابني حينها، إلا أنني تابعت العمل حتى نهاية اليوم، وأثناء عودتي إلى أسرتي عملت زوجتي على تضميدها بعد تدليكها بالماء الساخن والصابون، وفي اليوم الثاني عدت إلى العمل، وتحملت الألم لأيام”.
وختم “أحمد الله وأشكره أنه رزقني زوجة صالحة، حملت معي جزءً كبيراً من أعباء الحياة وتربية الأولاد في النزوح”.

خردة ونايلون
أما محمد وحسن، فتحدثا قائلين: ” فضلنا العمل على التعليم، فأحياناً لا يتمكن والدنا من جني نقود كافية لسد حاجتنا وتأمين ما يلزمنا في العيش، وكنا نعيش ظروفاً صعبة للغاية، ولذلك قررنا العمل بجمع الخردة والنايلون والبلاستيك المستعمل من كل مكان في المدن والقرى المجاورة للمخيم، وبيعها للإستفادة من ثمنها ومساعدة والدنا على كفاية الأسرة وتلبية إحتياجاتها اليومية”.
وأضاف محمد، “نذهب كل يوم صباحاً ونتجول في شوارع المدن بين الحاويات وأكوام القمامة بحثاً عن أشياء لها ثمن كـالنايلون والبلاستيك والنحاس والحديد، وفي نهاية اليوم نذهب بالأشياء التي قمنا بجمعها إلى أحد المراكز لشراء الخردة ونبيعها، ونحصل بالمقابل على ثمنها الزهيد الذي لا يتجاوز 20 ليرة تركية، ونعود بعد ذلك إلى المخيم”.
وزاد “هناك كثير من العائلات في المدن والقرى القريبة، لا تقوم برمي الأشياء غير اللازمة أو غير الضرورية في منازلهم بالحاويات إلا في المساء، ولذلك غالباً ما نتأخر بالعمل بحثاً عن تلك الأشياء، ونعود إلى المخيم بعد حلول الظلام”، لافتاً، “كثيراً ما نتعرض للإهانة والتهكم من بعض الأشخاص في الشوارع والأسواق، وآخرون ينظرون لنا بعين الاشمئزاز لمظهرنا وثيابنا المتسخة، فضلاً عن تعرضنا أيضاً لحوادث سير بسيطة، تنتهي بخدش في اليد أو القدم، وكلها تدعو إلى الإحباط والحزن والجلوس إلى جانب الرصيف لبرهة من الزمن ونحن ننظر إلى الناس والمارة، وسرعان ما نتجاوز تلك الحالة ونعود للعمل مجدداً بإصرار”. وأضاف، “أتمنى أنا وأخي أن يتوفر لوالدنا عمل أفضل من عمله الحالي، بأجور أكبر، قادرة على تأمين متطلبات عائلتنا، ونترك هذا العمل ونعود لمقاعد الدراسة في المدارس من جديد”.