كيف يدير السوريون نفقاتهم اليومية

كيف يدير السوريون نفقاتهم اليومية

كشفتْ دراسة نشرتْها مُؤخَّراً صحيفة “قاسيون” التّابعة لـ “حزب الإرادة الشعبية في سورية” أنَّه مع انقضاءالعام 2021، وصل وسطي تكاليف المعيشة لأسرة مكونة من خمسة أفراد إلى أكثر من مليوني ليرة ، أي مايعادل600 دولار أميركي، وهو مايزيد عمق الفجوة بين التكاليف المعيشيَّة والحد الأدنى لأجر العامل الذي “ارتفع ” بموجب المرسوم الأخير ليصل إلى مايقارب /93/ ألف ليرة ، أي أقل من 30 دولاراً.
أمام هذه الوقائع يتبادر إلى الذّهن سؤال عن الطريقة التي يدير فيها المواطن السوري نفقاته لردم هذه الفجوة ، الإجابة على هذا السؤال تكشف الحالة المزرية من الجوع والفقر والحرمان التي وصل إليها السواد الأعظم من الناس.

مشاهداتٌ مؤلمة
من المشاهد التي صادفتنا، امرأة تقف أمام بائع الخضار تتوسّل إليه ليعطيها حبة ليمون واحدة لتكمل طبخة “الملوخية ” لكنَّه يرفض ، بينما “ينتخي ” زبون أخر يقف في نفس المكان مُطالِباً البائع إعطاءها ما تريد وأنَّه سيتكفَّل بالحساب .
وبجانب إحدى الصيدليات، تقف فتاة صغيرة لاتتجاوز 12 عاماً تتوسل إلى رجل كبير أنْ يعطيها مبلغ خمسة الاف ليرة لتشتري لوالدتها المريضة الدواء، وعندما يعطف الشخص على الفتاة ويلبي طلبها يقوم الصيدلاني بتمزيق كرتونة الدواء حتى لاتفكر الفتاة ببيع الدواء لصيدلية أخرى وتقبض ثمنها.
اللافت في الأمر ، أنَّ البعض لا يبدو عليهم هيئة التسوُّل ، وربما لاتكون حرفتهم الأساسية، لكن الحاجة دفعتهم لطلب المساعدة. تقترب امرأة في عقدها الأربعين ثيابها نظيفة ومرتبة وبشرتها مرتاحة على عكس الصورة النمطية لغالبية المتسولات. تهمس في أذن أحد المارَّة تطلب مساعدة مالية لشراء طعام لعائلتها ، والبعض الآخر يستوقفك ليطلب منك ثمن “سندويشة فلافل” أو مبلغ 200 ليرة لأنه لايملك ثمن تذكرة للصعود في النقل الداخلي الذي يشبِّه أغلب السوريين الصعود فيه “بقطرميز المكدوس”، نظراً للكم الهائل من الازدحام في هذه الوسائل .
في دمشق كما في باقي المحافظات، ليس مستغربا ، أن تركب سيارة أجرة وتكتشف أن السائق خرّيج جامعي، أو موظف في جهةٍ حكومية، فرواتب الحكومة لا تكفي لسد نفقاتك ليومين.
“وما حدا عايش على راتبه اليوم”، هذا ما يؤكده طارق خرِّيج علم الاجتماع، فهو يعمل يوميا حوالي8 ساعات بعد الانتهاء من عمله في إحدى المؤسسات الحكومية لتأمين متطلبات عائلته، بينما لارا طالبة الهندسة المدنية ، تعلمت فن الوشم وهي تعمل في مركز تجميل تقول :”هذا العمل يؤمّن لي دخلاً مقبولاً لتغطية نفقات دراستي ومساعدة عائلتي” .
ارتفاع تكاليف المعيشة ، دفعت بعض العائلات لتوجه كامل أفرادها إلى العمل ، كما هو الحال مع عائلة أبو فراس الذي يعمل في أحد المطاعم بدمشق القديمة، بينما وجد عمل لابنه القاصر الذي لايتجاوز 15 عاماً عملاً في ورشة لتصليح السيارات. أما الزوجة فتعمل في تنظيف المنازل ، يقول لـ “صالون سوريا” : نزحتُ مع عائلتي خلال الأحداث من إدلب إلى دمشق واستأجرتُ منزلاً في ضواحي دمشق ، رغم كل ذلك فدخلُنا بالكاد يكفي تغطية نفقات الإيجار والدواء والطعام ،ومع أننا نتبع سياسة التقشّف فهناك الكثير من المواد الغذائية اُلغيَت من قائمة المشتريات كاللحوم والفاكهة وحتى منتجات الحليب والبيض.

“طوقُ النَّجاة ”
يساهم المغتربون وخاصة مَنْ هاجروا خلال الحرب بإيقاف نزيف أسرهم المالي في الداخل. وبحسب مصدر رسمي فإن نسبة كبيرة من المواطنين يعتمدون على ما يرسله أقاربهم المتواجدين في الخارج لتحسين أوضاعهم المعيشية. ورجَّح المصدر أنَّ مبلغ الحوالات التي تدخل سوريا خلال اليوم الواحد يصل لما يقارب5 ملايين دولار. كما أنَّ الفارق بين سعر صرف الدولار الرسمي الذي يصل لـ2500 ليرة والسوق السوداء الذي تجاوز عتبة الـ/2500 / ليرة شجَّع على تسليم الحوالات خارج القنوات الرسمية ، وتحاول الحكومة باستمرار ضبط هذه الظاهرة وملاحقة المتعاملين بها نظراً لما يضيع على الخزينة العامة من القطع الأجنبي بهذه العملية.
أمَّا حسام، فلديه ابن في أوروبا يرسل له أموالا عن طريق أحد الوسطاء، يرفض استلامها عبر شركة الصرافة بسبب الفارق بين سعر السوداء والسعر الرسمي، مُعتَبِراً أنَّ هذا الفارق يساعده كثيراً في تغطية نفقات المعيشة المرتفعة، وهذه الأموال هو الأحقُّ بها من غيره .
“أم سعيد”، لديها أخٌ مُقيمٌ في بلجيكا يرسل لها بشكل شهري مبلغ/ 300 / دولار يساعدها في تسديد إيجار المنزل الذي تسكنه ونفقات لعلاج ابنها الذي يحتاج إلى غسل كلى. تقول :”أدعو لأخي بالتوفيق ليل نهار. لولاه كنت تبهدلت وعم أشحد بالشوارع وأمام باب الجامع”.

شرعنة الفساد
الهوَّة الكبيرة بين الإيرادات والنفقات شجَّعتْ موظَّفي القطاع العام وخاصة الخدمية على “الرشوة ” فيكفي أن يدفع طالب الخدمة مبلغاً من المال لموظف حكومي ليمُنَح استثناءً ويحصل على الخدمة التي يريدها بزمن قياسي.
أحد الموظفين فضَّل عدم الكشف عن اسمه قال: “الراتب لايكفي، نعمل حوالي 8 ساعات مقابل أجر زهيد ،الزيادة الأخيرة على الرواتب لا تكفي لشراء فروج وصحن بيض ،لذلك أقوم بتسهيل معاملة البعض مِمَّن يطلبون السرعة في الإنجاز ولا يريدون الانتظار لوقت طويل ، ويصل ما أتقاضاه من المتعاملين 5 أضعاف دخلي الشهري ،ربما لاتكون هذه الطريقة سويَّة ومُوافِقة للقوانين والأخلاق ولكن لدي أطفال أريد تربيتهم”.
شهدتْ في الآونة الأخيرة أغلب المناطق السورية ازدياداً في جرائم سرقة المنازل والدَّراجات النارية وإطارات السيارات والأجهزة الخليوية ، إضافة إلى جرائم القتل بدافع السرقة ، إذ أعلنتْ وزارة الداخلية السورية مؤخرا ، تفاصيل جريمة قتل أب على يد ابنه المُدمِن، بدافع سرقة مبلغ زهيد يبلغ أقل من 100 دولار أميركي.
كما سجل قسم الإحصاء في إدارة الأمن الجنائي منذ بداية العام الحالي وحتى شهر آب (اغسطس) الماضي 366 جريمة قتل و3663 حالة سرقة، وبعض الجرائم بقيادة نساء .
بعض السوريات لم يجدن سبيلاً للعيش سوى بيع أجسادهن مقابل المال، وتتحدث وسائل إعلام محلية باستمرار عن تفشّي ظاهرة الدعارة، كما أعلنت وزارة الداخلية أكثر من مرة إلقاء القبض على شبكات دعارة.
باحث اجتماعي أشار أنَّ انخفاض مستوى المعيشة وارتفاع نسبة البطالة دفع البعض للبحث عن مصادر غير مشروعة لتأمين دخلهم، لافتاً أنَّ غياب الرقابة الأسرية والتنشئة الاجتماعية الخاطئة للأبناء والتفكك الأسري وارتفاع حالات الطلاق دفع الأبناء للوقوع فريسة الجريمة والدعارة ، مُشدِّداً على ضرورة تطبيق أحكام القوانين الرادعة تجاه كل فعل جرمي يمس الحق العام للمجتمع وأفراده ومكافحة الفساد وتحسين الوضع الاقتصادي وزرع القيم الأخلاقية والدينية والاجتماعية منذ مرحلة الطفولة المبكرة .
تؤكد الجهات الحكومية أن تداعيات الحرب والحصار الاقتصادي المفروض على البلاد، إضافة إلى سيطرة القوى المدعومة من الخارج على الثروات الزراعية والنفطية في شرقي الفرات وشمال إدلب ساهمت في تدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي على حد كبير. وبحسب المعلومات، كانت سورية في تصدِّر القمح الفائض بإنتاج /4 /ملايين طن وتستهلك مليونين ونصف طن، وتنتج زيت الزيتون والخضار والحمضيات ،والتي كانت تمثِّل 10% من صادراتها. أما القطن والصناعة النسيجية فكانت تشكل نسبة 20% من الصادرات. ويشير خبراء الاقتصاد إلى أنَّ تدهور سعر صرف الليرة وارتفاع الأسعار الجنوني ، وهجرة الكوادر العاملة في القطاع الزراعي والصناعي زاد من ارتفاع كلف الإنتاج ،مما ساهم إلى حد كبير بتدني الإنتاج والأجور .

تجار الحرب يخوضون «معركة العقارات» في دمشق

تجار الحرب يخوضون «معركة العقارات» في دمشق

“على فرض أنّ المنزل الفلاني في تراسات مشروع دمر سعره مليار ليرة سورية، وهو كذلك فعلاً. سمعت ورأيت أكثر من عرض قريب من هذا السعر، في المشروع، اوتوستراد المزة، الروضة، المالكي، وأحياء أخرى. لنجري حسبة اقتصادية بسيطة، أنا موظف، راتبي الحكومي تقريباً مئة ألف ليرة سورية شهرياً، في حال أردت شراء هذا المنزل، سأحتاج لتوفير كامل راتبي، دون أن أصرف منه ليرة واحدة، سنوياً أجني مليون، كل عشر سنوات 10 ملايين، إذاَ في مئة عام سأجني مئة مليون، وسينقصني فوقها 900 مليون، وعمري 35 الآن، سأحتاج أن أعيش مئات السنين لأشتريه، تخيل!”، يقول الموظف شامل حنور الذي تحدث لـ “صالون سوريا” عن معاناة السوريين مع السكن، واصفاً الأمر بانه غير المعقول ولا المنطقي.
“حسناً، يسأل سائل لماذا لا تنخفض أسعار العقارات طالما أنّها وصلت أرقاماً غير طبيعية. الجواب بسيط: الزبائن كثر، تجار الحرب لم يتركوا لنا مكاناً لنسكنه، بل ان بيتا بجرمانا صار بـ 500 مليون؟”، يسأل شامل مستغرباً من جديد، ويبدو أنّ مئات وربما ألوف السوريين يشاركونه استغرابه، فعلاً، كيف وصل سعر العقار في جرمانا المدينة الواقعة في ريف دمشق إلى نصف مليار؟.

فوائد قوم عند قوم
وسيم الجحا تاجر عقارات في دمشق، يجلس في مكتبه في حي المزرعة الشامي يقلب في دفتره ليعثر على تفاصيل عقار معروض للبيع لديه. كان سجل بياناته سابقاً، وهو بحاجتها الآن ليلبي طلب زبون تواصل معه عبر التلفون، “المنزل المعروض ثمنه 850 مليون ليرة سورية، والزبون موافق على السعر، لكنه يريد معلومات تفصيلية أكثر، عن الاتجاه مثلاً، المساحة الكلية، الإطلالة، مساحة الشرفة، وهكذا، بالعادة هذه الأمور يعاينها المشتري على أرض الواقع، لكن الزبون هذه المرة سيشتري المنزل عبر أخيه الذي يملك وكالة عنه، فهو خارج البلد، ولكن مع ذلك لا أصفه بالزبون المتطلب، فهذا حق طبيعي طالما هو خارج البلد”.
يشرح جحا لـ “صالون سوريا” أن المتعارف عليه أنّ المكتب ينال نسبة واحد بالمئة من ثمن العقار عند إتمام المبيع، النسبة ذاتها من البائع والشاري، أي ثمانية مليون ونصف من كل طرف، في حالة هذا العقار، وبمجموع 16 مليون ليرة سورية من الطرفين، مقابل بيع عقار واحد، “إذا بعت عقاراً مشابهاً مرة واحدة كل شهر سأصير مليونير بسرعة، لكن أحياناً يجمد السوق وتتوقف حركة البيع والشراء، لذا عملنا هو مثل الضربات، والأهم هو المضاربات فيما بين التجار، ولجوء الزبون لعرض عقاره عبر الكثير من المكاتب، وأخيراً صار كثر من الزبائن يعرضون عقاراتهم بأنفسهم على صفحات الفيس بوك، وهو ما يؤدي أحياناً لتراجع نشاط عملنا”.
وبحسب التاجر، فإنّ النصف الثاني من هذا العام هو الأكثر قوةً ونشاطاً قياساً بالفترات السابقة، “وصلت العقارات أسعاراً فلكية وغير مسبوقة، وهذه الفترة هي الأفضل منذ بداية الحرب”. ويعزو جحا السبب إلى “الارتفاع الواضح في نسبة الأمان بصورة عامة”.يضيف، “الناس صارت تتجرأ الآن على الدفع والشراء طالما أنّ الخطر انحسر بصورة شبه كاملة، فضلاً عن التهاوي المستمر في قيمة ليرتنا، لذا يبحث الجميع عن (تركين) أمواله في أشياء ثابتة كالسيارات والعقارات”.
“ليست كل الأسعار تصل إلى مليار وتتخطاه، هناك منازل أسعارها 300 و400 مليون في قلب دمشق”. يقول ثائر حديد وهو تاجر عقارات آخر في دمشق، يضيف لـ “صالون سوريا”، “صحيح أنّ الأرقام كبيرة، ولكن حتى في هذه فليس الجميع سواسية، هناك أناس يملكون أموالاً ويدفعون مئات الملايين دون نقاش لشراء عقار في أبو رمانة أو كفرسوسة مثلاً، وهناك أناس نميزهم جيداً يبحثون عن منزل بمئتي مليون مثلاً، ونعرف من حديثهم أنّ هذا المبلغ هو (تحويشة) عمرهم، هناك طبقات متعددة حولنا، والغالب بينهم إما ساحق أو مسحوق”، لا ينسى حديد الإشارة أنّ ارتفاع الأسعار مرتبط أيضاً بالتكلفة الباهظة لمواد البناء وارتفاعاتها المتتالية خلال الفترات الماضية.

“امبراطورية” المزة 86
“أنا الآن مستأجر لمنزل، اسكنه أنا وزوجتي وطفلي في منطقة المزة 86، أي في عمق مخالفات بلدنا، حتى أنّه لتصل لمنزلي، أنا لا اسميه طريقاً، بل عليك أن تتسلق أدراجاً طلوعاً ونزولاً، بالمختصر بتطلع روحك لتوصل لعندي، وفوق ذلك أجار منزلي 400 ألف شهرياً، وندفع كل ستة أشهر سلف، ومع نهاية كل نصف عام يتوقع المستأجر من صاحب العقار أن يزيد سعر الإيجار، المهم، تخيل أنّك في ال86 تستأجر ب400 ألف، كيف هذا؟، لا أحد يعرف، الطامة ليست هنا، تخيل أنّ أسعار بعض المنازل حولنا لامست حدود مئة مليون ليرة سورية، ومنطقتنا كلها مخالفات، شيء لا يصدق ولا يعقل”، يقول المهندس منصور سليمان في حديثه ل “صالون سوري” مبدياً استغرابه من تركز الأموال بيد فئة محددة من المجتمع.
“تجار الحرب هم من رفعوا أسعار العقارات وقضوا علينا”، يقول سليمان، ويضيف: “ما جمعه أحدهم بعام واحد في الحرب، سأحتاج أن أعيش مئتي عام لأجنيه من وظيفتي”. وعن حلمه بامتلاك عقار، يقول: “ما عدت أفكر بالأمر منذ زمن، قدرنا في بلدنا أن نظل مشردين بين منازله المستأجرة، وأن تشتري أرضاً وتعمر منزلاً عليها، أنا مهندس وأعرف أنّ الأمر جنوني، فمثلاً، سعر طن الحديد أكثر من مليوني ليرة سورية وسعر كيس الإسمنت أكثر من 15 ألف وسعر المتر من البتون المجبول بحدود مئة ألف ليرة، لذا فهذا الخيار مستحيل أيضاً”.

الاقتصاد العجيب
يبدي الاقتصادي كمال حميرا استغرابه الشديد من ارتفاع أسعار المنازل للضعف فجأة، يقول في حديثه مع “صالون سوريا”: “ما يحصل لا يصدق، لم ندرسه بالاقتصاد، الوضع في سوريا جنوني، ترتفع ضرائب البيوع العقارية، تزداد أسعار العقارات، تتوازن الليرة قليلاً، ترتفع أسعار العقارات، تزداد المخاطر الأمنية، تزداد أسعار العقارات، تنخفض المخاطر الأمنية ترتفع الأسعار، العقارات لدينا لا تعرف شيئاً سوى الارتفاع، في الاقتصاد هذا غير مفهوم عموماً، نعم من المفهوم تأثير السوق السوداء وهرب الناس للتملك في محاولة للحفاظ على مدخراتهم بالعملية المحلية، ولكن حين وصل الدولار قبل أشهر حدود 5 آلاف ليرة سورية مقابل الدولار، ارتفعت العقارات، الآن ارتفعت قيمة الليرة ليصبح كل دولار يساوي حوالي 3500 ليرة في السوق السوداء، ارتفعت العقارات من جديد، هذا غريب حقاً!”.

لو كان سعيد عقل حياً
كانت دمشق المدينة الحلم لكل باحث عن فرصة عمل، حياة جديدة، إبداع مختلف، ولاحقاً صارت مقصداً للنازحين والهاربين من ويلات الحرب، ولكن سرعان ما لفظتهم عاصمة بلادهم، عودوا من حيث جئتم، أو ارحلوا لمخيمات في الجوار، وفي أحسن الأحوال افترشوا الأرصفة والحدائق، وحقيقة كل ذلك يحصل، نسبة الفقر والتسول في دمشق وصلت مستويات ما عهدتها البلاد يوماً، البلاد التي كانت مقصداً لمواطني جوارها لانخفاض أسعار كل شيء فيها، ليس بدءاً من الثياب ولا الطبابة ولا وصولاً إلى العقارات، اليوم، تغيّر كل شيء، من يعرف دمشق قبل 2011، لن يعرفها اليوم.
إذن، هي الحرب مرتان: مرة على أرواح السوريين، ومرةً على جيوبهم، وفي المرتين لا ينفك الناس يقدمون الأضاحي والنذور على نية خلاص بلادهم، أو خلاصهم من بلادهم، حدود بولندا تشهد على نظرية الخلاص بأكبر الأثمان، يقول عجوز قارئ نهم لـ “صالون سوري”، “لو كان سعيد عقل حياً، لقال لدمشق: شآم ما الوجع؟، أنت الوجع لم يغب. انت القسوة والقهر”.

سوريا… ثلاث “دويلات” وجحيم واحد

سوريا… ثلاث “دويلات” وجحيم واحد

خمسة عناصر مفتاحية خيّمت بظلِّها على سوريا وأهلها، حيثما كانوا، في السنة المنصرمة. جميع الخيوط، ليست بذات الأهمية، لكنّ تشابكها ومآلاتها ستترك أثراً في مستقبل البلاد والعباد خلال السنة المقبلة أو السنوات اللاحقة، كما أنها ستترك آثارها في قرارات «اللاعبين» الخارجيين والجيوش الخمسة (روسيا، وإيران، وتركيا، وأميركا، وإسرائيل) والتأرجح بين التسويات والصدامات على أرض الشام.

«دويلات» ودولة
للسنة الثانية، بقيت خطوط التماس ثابتة في الدولة السورية بين مناطق النفوذ الثلاث أو «الدويلات السورية»: واحدة تحت سيطرة الحكومة بدعم روسي وإيراني، وتشكّل تقريباً ثلثي مساحة سوريا البالغة إجمالاً 185 ألف كلم مربع، وسط البلاد وغربها وجنوبها، كانت قبل سنوات تسمى «سوريا المفيدة»، إلى أن تم اكتشاف أن سوريا المفيدة حقاً تقع في الضفة الأخرى من نهر الفرات، وهي تشكل المنطقة الثانية من حيث الثروات والمكونات والجيوسياسيات التي تختزن معظمها، وتمثل من حيث الجغرافيا أقل من ربع مساحة البلاد، وتقع هذه المنطقة تحت سيطرة التحالف الدولي بقيادة أميركا وحلفائها في «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية – العربية، وتقع عموماً شرق نهر الفرات، مع جيبين في منبح بريف حلب شمالاً وفي التنف جنوب شرقي البلاد، قرب حدود الأردن والعراق.
في اللعبة الكبرى، يقع «الجيب الكبير» في زاوية الحدود السورية – التركية – العراقية. ولهذا معنى كبير. يضاف إليه جيب جيوسياسي آخر، يقع في الزاوية السورية – العراقية – الأردنية، في قاعدة التنف. يضاف إليه عنصر آخر، وهو أن هذه القاعدة هي «العين الساهرة»، التي تستفيد من طاقاتها إسرائيل في الإطلالة استخباراتياً على سوريا والعراق… و«معاقل إيران».
أما منطقة النفوذ الثالثة فهي تقع تحت سيطرة فصائل سورية أو «مهاجِرة» مختلفة، مدعومة بدرجات متفاوتة من الجيش التركي، وتضم ثلاثة جيوب: واحد بين رأس العين وتل أبيض شرق الفرات، وثانٍ في عفرين وجرابلس والباب بريف حلب شمال سوريا، والثالث في إدلب وأقسام من أرياف حماة واللاذقية وحلب، في شمال غربي البلاد.
وتشكل هذه الجيوب نحو عشرين ألف كيلومتر، أي ضِعف مساحة لبنان. وتضم بشرياً نحو 3.5 مليون شخص، يضاف إليهم عدد مماثل يقيمون لاجئين في تركيا، التي «تحتضن» أكبر عدد من المقترعين السوريين في حال أُتيحت لهم ذات يوم فرصة الاقتراع. إنهم حقاً «خزان بشري».
ومع لمسة مبالغة، يذكّر واقع «الدويلات الثلاث» تحت المظلة الروسية منذ 2015 بـ«دويلات سوريا» خلال فترة الانتداب الفرنسي في العقود الأولى من القرن الماضي، إذ منذ الاتفاق بين الرئيسين الروس فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب إردوغان في موسكو في 5 مارس (آذار) من عام 2020 لم يطرأ تغيير كبير على هذه الخطوط بين «الدويلات». وقد سعت دمشق، بل وعد موالون للسلطات، بشن حملة عسكرية للتقدم نحو إدلب، لكن الجانب الروسي كان ينصح ثم يردع هذه الرغبات، التزاماً بتفاهماته مع تركيا. وهي التزامات مرتبطة بلعبة أكبر بين بوتين وإردوغان تخص ليبيا وناغورنو قره باغ وأوكرانيا ومصير «حلف شمال الأطلسي»، وصفقات اقتصادية وعسكرية وجيوسياسية بين أنقرة وموسكو. في ظرف كهذا، مسكينة دمشق وإدلب عندما ترتميان على طاولة «القيصر» بوتين و«السلطان» إردوغان.
الجروح ليست أقل عمقاً عندما تشرَّح الخريطة السورية على طاولة البيت الأبيض والكرملين. إذ تعززت خطوط التماس في السنة الماضية لدى تسلم الرئيس جو بايدن الحكم، والانسحاب الكارثي من أفغانستان، حيث اتخذت واشنطن قراراً بعدم الانسحاب العسكري من شمال شرقي سوريا، وأبلغت ذلك إلى الروس وحلفائها الأكراد السوريين، بحيث بدا أن الوجود العسكري الأميركي باقٍ على حاله، على الأقل إلى نهاية ولاية بايدن بعد ثلاث سنوات.
هذا الثبات الأميركي، لم يعد رهن تغريدة من «المغرد الكبير» دونالد ترمب، إذ يعود ثبات الخطوط أيضاً إلى تفاهمات عسكرية روسية – أميركية تضبط العمليات بين الجيشين منذ منتصف 2017، وجرى تأكيدها في نهاية 2019 بعد الانسحاب الجزئي الأميركي بقرار أو تغريدة من ترمب، ودخول قوات روسية وسورية وتركية إلى منطقة النفوذ الأميركية.
أمام الثبات في الخطوط، فقد حصل تغيير وحيد في جنوب غربي سوريا، إذ إن الجانب الروسي قاد أو فرض عملية مصالحات، تضمنت «انقلاباً» على تفاهمات سابقة أميركية – أردنية – روسية في منتصف 2018، وقضت وقتذاك بعودة قوات الحكومة مقابل خروج إيران وتخلي المعارضة عن السلاح الثقيل. التسويات الجديدة قضت بتخلي المقاتلين المعارضين عن جميع أنواع السلاح، بما فيه الشخصي، وعودة كاملة لدمشق إلى درعا «مهد الثورة» التي انطلقت في ربيع 2011، ذاك الربيع الذي لا يحبه بوتين، واكتوى بنيرانه في دول الكتلة الشرقية قبل عقود.
قَبِلت قوى إقليمية، تقدم العربات الروسية إلى جنوب سوريا، على أمل، أو رهان، بأن يؤدي ذلك إلى إبعاد إيران عن حدود الأردن وخط فصل الاشتباك في الجولان مع إسرائيل. لم لا، ما دام أنه ليست هناك ضمانة أخرى لـ«حماية أمن الحلفاء» جنوب سوريا، غير الجرأة الروسية؟

غارات إسرائيل
هذه «الجرأة» بدت في الغطاء الذي قدمه بوتين لإسرائيل في ملاحقة إيران عسكرياً في سوريا. فعلاً، شيء لافت أن يسمح بوتين لإسرائيل بقصف مكثف للإيرانيين، حلفائه في سوريا وغيرها.
في العام المنصرم، حصلت في سوريا بعض المناوشات هنا أو هناك. فقبل قمة الرئيسين بوتين وإردوغان في نهاية سبتمبر (أيلول) الماضي، قامت طائرات روسية بقصف فصائل محسوبة على تركيا في ريفي إدلب وحلب، كما استمر القصف المدفعي عبر «الجبهات»، لكن لم يحصل تغيير جوهري على مكان الخطوط.
التغيير الوحيد، أو ربما الثابت الوحيد عسكرياً، هو استمرار القصف الإسرائيلي في جنوب سوريا وشمالها وشرقها ووسطها وغربها. قد يكون هذا بين الأمور القليلة التي تحظى بدعم الكرملين والبيت الأبيض: أمن إسرائيل. استمرت الغارات الإسرائيلية على «مواقع إيرانية» امتداداً لـ«حرب الظل» الإيرانية – الإسرائيلية في البر والبحر والجو في منطقة الشرق الأوسط. ومنذ تدخل روسيا في سوريا نهاية 2015، حصل رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو، على «حرية الحركة ضد إيران في سوريا» من الرئيس فلاديمير بوتين. ورغم حصول بعض التوترات، لكن قاعدة حميميم بقيت ملتزمة بعدم الرد وعدم تشغيل منظومات الصواريخ المتطورة من «إس 400» و«إس 300» ضد الطائرات الإسرائيلية لدى استهدافها «مواقع لـ(حزب الله) في الجولان، وقواعد عسكرية إيرانية، ومصانع أو مخازن صواريخ باليستية».
خضعت هذه التفاهمات لاختبار لدى تسلم نفتالي بنيت موقعه رئيساً للوزراء في يونيو (حزيران) الماضي. وبالفعل، سعت روسيا إلى «تقييد» حركته في سوريا، إلى أن التقى الرئيس بوتين في سوتشي في 22 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وقبل اللقاء، استهدفت مسيرات إيرانية قاعدة التنف الأميركية جنوب شرقي سوريا، «رداً» على قصف إسرائيل قاعدة إيرانية في ريف حمص، ضمن مساعي طهران للضغط على موسكو قبل لقاء بنيت – بوتين. لكنّ هذا اللقاء استمر لخمس ساعات، وكان «حاراً وسرياً ودافئاً»، وعاد رئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد إلى تل أبيب بـ«أفضل مما كان في جعبة نتنياهو». جرى تفعيل آلية التنسيق العسكرية بين قاعدة حميميم وتل أبيب، وصعّدت إسرائيل من غاراتها في سوريا، بل إنها استخدمت صواريخ أرض – أرض لقصف ريف دمشق في أكتوبر، ثم قصفت للمرة الأولى ميناء اللاذقية على البحر المتوسط.
وقبل أن يطوي العام أيامه الأخيرة، كشفت مصادر إسرائيلية عن استهداف عشرات الأهداف لـ«حزب الله» في جنوب سوريا خلال السنوات الثلاث الماضية من دون رد إيراني أو من «حزب الله». وكان آخرها أمس، عندما استهدفت إسرائيل مطار اللاذقية على بُعد عشرين كيلومتراً من قاعدة حميميم الروسية، وذلك للمرة الثانية في أقل من شهر.

المساعدات الإنسانية
منذ وصول بايدن إلى الحكم، تراجعت أولوية الملف السوري في أجندته، بشكل أكبر من تراجع ملفات الشرق الأوسط الأخرى. واكتفت الإدارة الأميركية بتحديد ثلاثة أهداف: تقديم مساعدات إنسانية إلى كل السوريين، ومنع عودة «داعش»، والحفاظ على وقف النار وثبات خطوط التماس.
وضمن الصورة الأوسع ثنائياً ودولياً، أبلغ بايدن بوتين لدى لقائهما في جنيف في يونيو الماضي، أن تمديد قرار مجلس الأمن للمساعدات الإنسانية «عبر الحدود» قبل انتهاء ولاية القرار في يوليو (تموز)، هو «الاختبار» لإمكانية التعاون حول ملفات أخرى تخص سوريا. وبالفعل، اتفق مبعوثو الرئيسين خلال لقاء سري في جنيف بداية يوليو على مسودة قرار جديد، تضمن مقايضة: روسيا توافق على تمديد قرار المساعدات «عبر الحدود»، مقابل موافقة أميركا على تقديم المساعدات «عبر خطوط التماس» وعبر دمشق، إضافةً إلى تمويل مشاريع «التعافي المبكر». الهدف الروسي من هذين البندين: توسيع الاعتراف بسلطة دمشق والالتفاف على «الخط الأحمر» الأميركي – الغربي – العربي بـ«عدم تمويل مشاريع الإعمار قبل تحقيق تقدم لا رجعة عنه في العملية السياسية وفق القرار 2254».
عُقد لاحقاً لقاءان آخران بين الروس والأميركيين في جنيف، لبحث تمديد القرار لستة أشهر أخرى في بداية العام المقبل وتوسيع المساعدات «عبر الخطوط» و«التعافي المبكر»، إضافة إلى تساهل واشنطن بتقديم استثناءات من العقوبات لدعم المشاريع الإنسانية ومواجهة «كورونا».
وبقي الملف الإنساني رئيسياً في جدول المحادثات من دون العبور إلى قضايا سياسية أعمق وأكبر، حتى إن المبعوث الأممي غير بيدرسن نجح بالكاد في عقد اجتماعات بسيطة للجنة الدستورية. لكنّ موقف إدارة بايدن هذا، وعدم اهتمامها بالملف السياسي، فتحا المجال للعنصر الرابع الأساسي في سوريا، الذي يتعلق بالتطبيع مع دمشق، خصوصاً في ضوء إلحاح وإصرار الجانب الروسي على العرب لإعادة دمشق إلى «الحضن العربي»، والاعتراف بـ«الأمر الواقع» وإعادة «الشرعية إلى الحكومة الشرعية»، وضخ الأموال لإعمار سوريا، و«عدم تكرار التجارب الغربية الفاشلة في تغيير الأنظمة في العراق وليبيا وغيرها».

التطبيع العربي
منذ نهاية 2011 اتخذ مجلس الجامعة العربية قراراً بـ«تجميد» عضوية سوريا فيه. وبقي الوضع على حاله سنوات، بل إن ممثلي «الائتلاف الوطني السوري» المعارض حضروا مؤتمرات للقمة العربية، وحظي باعتراف دول واسعة في الجمعية للعامة للأمم المتحدةـ. لكن الحكومة بقيت ممثلة في مؤسسات الأمم المتحدة، لأن مجلس الأمن لم يتخذ قراراً بتجميد العضوية.
ومع تغير الظروف في سوريا وتدخل إيران وتركيا وتغيير ظروف الإقليم والعالم خلال عقد، بدأت بعض الدول تدريجاً بإعادة فتح أبواب مع دمشق، حيث عادت سفارة الإمارات والبحرين للعمل جزئياً في نهاية 2018، وجرت زيارات أو اتصالات أمنية وسياسية، علنية وسرية، من مسؤولين عرب مع الحكومة السورية. لكن لم يكن هناك إجماع على عودتها إلى الجامعة وحضور القمم العربية.
ومع تسلم إدارة بايدن وغياب الدور القيادي الأميركي في الملف السوري وتخليها بوضوح عن سياسة «الضغط الأقصى» التي اتّبعتها إدارة دونالد ترمب ضد دمشق وطهران، ومع «تغييرات في الواقع»، إضافةً إلى إعلان إدارة بايدن بوضوح القطيعة مع مبدأ «بناء الأمم» و«تغيير الأنظمة» بعد فشل تجربة أفغانستان عقب عقدين، والعراق وليبيا بعد سنوات، مضت دول عربية بخطوات انفرادية أوسع نحو التطبيع، حيث تلقى العاهل الأردني الملك عبد الله في بداية أكتوبر اتصالاً من الأسد، الذي استقبل في نوفمبر (تشرين الثاني) وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد. وهاتان الخطوتان كانتا الأبرز في مجال التطبيع العربي منذ 2011، وإن كانت سبقتهما خطوات أخرى، تضمنت اتصالات من قادة عرب بالأسد بعد الانتخابات الرئاسية التي جرت في مايو (أيار) ولدى أداء القسم في يوليو.
لكن، بعد مرور أشهر على تلك الخطوات، لوحظ جمود في مسار التطبيع العربي، وانخفض سقف التوقعات باحتمال حضور سوريا القمة العربية المقررة في الجزائر نهاية مارس المقبل. وقيل إن السبب هو أن دمشق لم تقم بتقديم تنازلات للدول العربية فيما يتعلق بالعملية السياسية الداخلية، أو «خروجها من الأجندة الإيرانية»، أو محاربة تهريب المخدرات وتفكيك شبكاتها، أو محاربة الإرهاب وتبادل معلومات عنه.
وعليه، تلاشت آمال سوريين في تحسين الأوضاع الاقتصادية. وهذا هو العنصر الخامس البارز في سوريا في 2021.

أزمة وهجرة
مشهد السوريين يركبون «قوارب الموت» للهروب من الحرب عبر البحار إلى أوروبا، كان صادماً في 2015، وساد اعتقاد أنه انتهى، خصوصاً مع ثبات «خطوط التماس» وبعض الإشارات التطبيعية العربية والتغيير في مواقف دول غربية وعربية. لكن الأسابيع الأخيرة قدمت صورة مختلفة، حيث وصل السوريون إلى حدود بيلاروسيا مع بولندا «هرباً من الجحيم» في سوريا للوصول إلى «الحلم الأوروبي». كما تناقلت وسائل تواصل اجتماعي صور سوريين بالآلاف أمام مؤسسات الهجرة للحصول على جوازات سفر.
المحرك الرئيسي لموسم الهجرة في 2015 كان الحرب والأمان. والدافع الأساسي للموسم الجديد من الهجرة كان اقتصادياً، وغياب الأمل لدى فئة واسعة من السوريين، خصوصاً في منطقة سيطرة الحكومة. وظهر انطباع بأن «النصر العسكري» لم يُترجم إلى ملاءة اقتصادية ومكاسب معيشية وأخرى تتعلق بالأمان والعيش اليومي.
كان الرهان على رفع العقوبات بعد التطبيع العربي، وعودة الكهرباء والنور إلى دمشق وأخواتها، بعد إشارات وخطوات التطبيع وبيانات الدعم وإشارات الصمت ودعم إدارة بايدن لموافقة مصر على مد «أنبوب الغاز العربي» إلى سوريا ولبنان عبر الأردن. لكن سيف عقوبات «قانون قيصر» بقي مسلطاً ومتحالفاً مع شبكات الفساد في سوريا والترهل الإداري وغياب الخبراء، فبقيت دمشق في الظلمة، يعاني أهلها الفقر والجوع، أو يبحثون عن حلم وراء الحدود، وبقي أهلها وشبابها يطاردون الأحلام والأنوار في جغرافيا وضفاف أخرى.

مآلات وأسئلة
لا شك أن عام 2021 كان محطة في الصراع السوري بعد عِقد على اندلاعه، فتح عيون السوريين. فثبات خطوط التماس لم يُنهِ المعاناة، بل إن المعاناة عنوان يجمع السوريين حيثما كانوا، داخلاً أم خارجاً. فمن هو في الداخل يريد الهجرة، والمهاجر يريد توفير ظروف العودة. وعليه، سيكون العام المقبل محطة أساسية أخرى لفحص هذه التطورات التي تبلورت في السنة المنصرمة، والحصول على إجابات لأسئلة رئيسية: هل تبقى خطوط التماس ثابتة؟ وإلى متى؟ وهل مصير سوريا التقسيم أم اللامركزية أم العودة إلى «السيادة الكاملة»؟ هل ينعكس أي توتر في أوكرانيا على التفاهمات الأميركية – الروسية شرق الفرات من جهة، أو الترتيبات الروسية – التركية في إدلب من جهة أخرى، ويغيِّر حجم وحدود «الدويلات»؟ هل يبقى الضوء الروسي أخضر أمام إسرائيل في ملاحقة إيران في سوريا؟ وكيف سينعكس مصير مفاوضات الملف النووي الإيراني، اتفاقاً أم انهياراً في سوريا؟ هل تبقى «حرب الظل» الإسرائيلية – الإيرانية مضبوطة أم تفلت من أيدي «الساحر» بوتين؟ ما مصير التطبيع العربي وحدوده وبرنامجه الزمني؟ وهل تحضر سوريا القمة العربية في الجزائر؟ وكيف سيكون مسار التطبيع العربي وموقف واشنطن منه في حال فاز الجمهوريون بالانتخابات النصفية المقبلة؟ وأين سوريا في الحوار الروسي – الأميركي؟ هل ينجح المبعوث الأممي في مقاربة «خطوة مقابل خطوة» وتشكيل «مجموعة اتصال جديدة»؟ بين هذا وذاك، أين سيكون السوريون؟ هل يعود الموجودون في الخارج أم يغادرون «الكابوس»؟ أم بالفعل، يسمع الخارج نصيحة أهل الداخل، عندما قالوا: «لاتعودوا، نحن نريد الخروج من الجحيم»؟

* نقلا عن صحيفة “الشرق الأوسط”

صباحات دمشق دون فلافل وفول

صباحات دمشق دون فلافل وفول

“حتى الفلافل والفول خذلونا، وارتفاع الأسعار دبحنا، والتجار تبرر بسعر الدولار، تخيل الخس اللي بينحط ع سندويشة الفلافل صار سعرو مرتبط ببورصة الدولار!” يتنهد أبو عادل ( 40 عاماً) وهو يقف أمام محل لبيع الفول والحمص بمدينة جرمانا أكثر مدن ريف دمشق اكتظاظاً بالسكان، يشوح بعينيه بين المارة راثياً حال ما آلت إليه الأكلة الشعبية الأشهر أو اصطلاحاً أكلة الفقراء والتي للأسف لم تعد كذلك، في بلد فاخر وفاخر هو وجاره اللبناني بأنّهم صنّاع هذه الأكلات وأصلها وسببها ومصدرها، يقول ” منين بدنا نجيب مصاري وأكل، كنا نشتهي اللحمة، وهلأ صرنا نشتهي الفول والفلافل، ما بقي في شي ناكله، ال هم شبعنا، قلبنا من الحامض لاوي”.
أبو عادل يعمل موظفاً في مؤسسة حكومية يشرح لـ “صالون سوري” كيف بدأت أسعار المواد الغذائية والفواكه والخضروات بالارتفاع حتى لم يعد بمقدوره وأمثاله من الموظفين الحكوميين القدرة على تحمل تكاليف المعيشة بالنسبة لتأمين الغذاء له وأسرته، وكلمة أمثاله لا تعود فقط –كما اتضح- على الموظفين، بل تعود على شعب بأسره، إلا من رحم ربه وصار أميراً في حرب مزقت البلاد والعباد.

2010-2022
“مافي أمل. بتزيد الرواتب من هون، وبتزيد الأسعار بعدا، والكل عم يركض وما عم يلحق، القصة ما بدها علم، صارت واضحة للجاهل والمتعلم، الزيادة مندفعها من جيوبنا سلفاً”، يعلق الموظف شفيق خير على زيادة الرواتب التي أقرتها الحكومة مؤخرا بمقدار 30 بالمئة، لكن يبدو أنه غير متفائل أبدا بهذه الزيادة التي يتوقع منها حملاً إضافياً بارتفاع تكاليف المعيشة والمواد الغذائية، وبالتالي زيادة البؤس الحياتي لأصحاب الدخل المحدود، بات هؤلاء يتشابهون بكل تفاصيل المعاناة وثقل الأيام وعدم انتظار القادم الموعود مع شريحة الفقراء وهي الأعظم في البلاد، ولعل القادم المشرق الذي تعد به الحكومة بتحسين ظروف المعيشة للمواطنين يدور في مخيلتها فقط دون النظر لأحوال الناس والأرواح المتعبة والمتهالكة، الأمر واضح بالشارع، يضيف شفيق: “انظر نسبة التسول والتشرد في الشوارع، متى كانت سوريا هكذا، هل يصدق عاقل أن نسبة الجهل والأمية وصلت حدود صفر بالمئة عام 2010، كيف سنروي لأطفالنا هذه السيرة، سيفكروننا مجانين، وهم الذين تربوا على الفقر والحاجة والحلم بصحن الفول والحمص والفلافل، ونحن على أبواب عام 2022”.

القصة برمزيتها
“الله يرحم يوم الجمعة، فرقتنا الحرب وما عاد في طعم لأي شي”. تتحسر أم إياد (65 عاماً) على أيامها ما قبل الحرب حينما كانت تجمع هي وزوجها كل يوم جمعة أولادها وأحفادها بطقس شهير لدى كل السوريين. العائلات كانت تلتف حول بعضها البعض على مائدة إفطار واحدة، والطبق الرئيسي فيها أكلة الفول والفلافل والمسبحة”. تكمل لـ “صالون سوري”: ” كنت أتمنى لو أن أكلة الفول التي كنت أجمع أولادي وأحفادي عليها في يوم العطلة ستبقى تجمعني معهم إلى اليوم، راحت أكلة الفول وراحت ذكرياتها معها، متل ما راح كل شي حلو وأخدت هالحرب معها زوجي وولادي التنين”.
أم إياد التي نزحت من داريا قبل ثمانية أعوام جراء الحرب ودمار منزلها، كانت ككل الأمهات همها الوحيد في الدنيا إسعاد عائلتها و الدعاء لأولادها وزوجها بالرزق والصحة والهناء، اليوم بقي لها الدعاء لحسن ختام حياتها. هكذا تقول، تعيش منتظرة مساعدة أهل الخير لها لإعانتها على مرارة العيش وضيق الحال بعدما توفي زوجها وولديها.
الحرب فرقت وشردت الكثير من العائلات، وأكلة الفول لا تزال عالقة في أذهان من بقي حياً في هذه البلاد، لا طعم لها بعد اليوم عندما كان لها النصيب الأكبر في المائدة إما بسبب رحيل الأحبة أو بسبب الغلاء وسوء الحال و الفقر والجوع، تعددت الأسباب والمحنة واحدة!، قد يبدو الأمر بسيطاً قياساً بما عاناه السوريون من ويلات في سنوات خلت، ولكن القصة برمزيتها المغرقة بالذكريات، باختصار، طعام الفقراء ما عاد للفقراء.

بمنتهى التقنين
تقف “رولا خير” (19 عاما) طالبة جامعية أمام محل فلافل القريب من سكنها الجامعي وتسخر من الحال التي وصلت إليه أسعار الأطعمة والمأكولات، تقول: “سعر سندويشة الفلافل ألفين ليرة وإذا بدي أكلها كل يومين بدي 30 ألف بالشهر، وطبعاً هادا أرخص شي بالأكل، كيف بده يكفيني المصروف؟”.
رولا حالها كحال الكثيرين من أبناء المزارعين والفلاحين ومعدومي الدخل في سوريا، فإن كان التعليم الجامعي لازال متاحاً لهم، تبقى مصاريف الجامعة والمعيشة والتنقلات والطبابة تثقل كاهلهم وتزيد على أرواحهم غصة الألم والتحسر على أيام الطفولة التي عاشوها مطلع الحرب والقادم من الأيام حيث البطالة والشح وتفاقم سوء الحال، وخير المطالع صار تسليماً على الماضي الذي لن يعود.

نشرة أسعار
بداية شهر تشرين الأول (اكتوبر) الماضي حددت محافظة دمشق نشرة أسعار جديدة للفول والمسبّحة والفلافل والمعجنات، لتصبح سندويشة الفلافل بـ 1200 ليرة سورية، وكيلو المسبحة بـ 4200 ليرة، وكيلو الحمص المسلوق بـ 2400 ليرة سورية، وكيلو الفول المسلوق بـ 2000 ليرة، وصحن المسبحة بالزيت أو صحن الفول بالزيت أو صحن حمص حب بالزيت مع سرفيس وخبز (200 غرام) بـ 1800 ليرة”، وزبدية فتة بالسمن أو فتة بالزيت مع سرفيس 3 أنواع (500 غرام) بـ 2300 ليرة”، ولكن هل من ملتزم، تقول امرأة للتو اشترت من محل فلافل في المزة بأسعار تقارب ضعف التسعيرة الرسمية.
“نحنا نحاول الالتزام بنشرة الأسعار، لكن لا نستطيع دائماً بحكم كل شيء بيرتفع حولنا من أسعار، وطبعا بزيد عليها في كل طلب سعر السرفيس (مخلل) والخبز”. يشرح سامر الحمصاني صاحب محل للفول والفلافل وسط دمشق لـ” صالون سوريا” سبب زيادة الأسعار من قبل البائعين على نشرة الأسعار الأصلية المحددة من قبل محافظة دمشق فتختلف التسعيرة باختلاف طلب الزبون والمرفقات التي يحتويها كل طبق أو سندويشة وبخبز سياحي أو عادي، وطبعاً تنطبق تلك الزيادة على سعر سندويشة الفلافل التي تباع بزيادة قدرها 600 ليرة، تبعاً للمكونات الموجودة ضمن السندويشة كالمخلل والخضار، ولا تقتصر مضاعفة الأسعار تلك على أطباق الفول وسندويشة الفلافل، وتطال أيضاً سعر قرص الفلافل الذي يتراوح سعره في بعض المناطق من 100 إلى 150 ليرة، علماً أن نشرة الأسعار حددت سعر القرص بـ 90 ليرة.
بينما يحرص بعض البائعين على الالتزام بنشرة الأسعار الواردة من محافظة دمشق، لتذهب تلك الالتزامات أدراج الرياح لدى الكثير من أصحاب مطاعم الفول والحمص الذين يبيعون الفول والحمص بأسعار مضاعفة، ويؤكدون أن السبب في ارتفاع أسعار هذه المأكولات الشعبية هو زيادة سعر زيت القلي وارتفاع أسعار الحمص إلى أكثر من 4000 ليرة للكيلو غرام، و سعر كيلو الفول إلى نحو 5000.
” المواطن السوري لم يعد بإمكانه تناول حتى الفلافل بسبب الارتفاع الجنوني بأسعار الزيوت، وهذا أمر غير منطقي”. يعلق نائب رئيس لجنة التصدير في اتحاد غرف التجارة السورية فايز قسومة على حال ما وصلت إليه أسعار ما كانت تسمى بأكلة الفقراء، حيث أن السبب الرئيسي يعود لارتفاع أسعار الزيوت، كاشفاً وجود خمسة معامل تنتج الزيت النباتي وهي المسيطرة والمتحكمة بالسوق، ولهذا فأسعار الزيوت “عالية”. وبحسب قسومة فإن استيراد الزيت النباتي ممنوع حالياً في لحين إقناع “وزارة الصناعة” بموضوع الاستيراد، و في حال تم ذلك فإن الأسعار ستنخفص بمعدل 60 بالمئة.

انعدام الأمن الغذائي
في ختام زيارته إلى سوريا في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، حذر مدير برنامج الأغذية العالمي من التدابير القاسية التي يضطر الأهالي لاتخاذها بسبب الجوع والفقر، ونقلا عن الأمهات اللواتي التقى بهن خلال زيارته، يقول بيزلي إنهن، مع الشتاء القادم، “عالقات بين المطرقة والسندان فإما أن يطعمن أطفالهن، ويتركونهم يتجمدون من البرد، أو يبقونهم دافئين ولكن بلا طعام، إذ لا يمكنهن تحمل تكلفة الوقود والطعام معا”.
وبحسب بيان برنامج الأغذية العالمي، يعاني الآن حوالي 12.4 مليون شخص – ما يقرب من 60 في المائة من السكان في سوريا – من انعدام الأمن الغذائي ولا يعرفون من أين ستأتي وجبتهم التالية. وهذا أعلى رقم تم تسجيله في تاريخ سوريا بزيادة نسبتها 57 في المائة عن عام 2019.
تحذيرات أممية ربما ليست بجديدة حول خطورة الأمن الغذائي في سوريا تتصاعد عاماً بعد أخر منذ بدء الحرب في البلاد، أجراس الأمعاء الخاوية لدى السوريين باتت تدق ناقوس خطر المجاعة مع الفقر وسوء الأوضاع المعيشية.

الأكلة الشعبية للذكرى
بعد موجة الغلاء الكبيرة في أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية لجأ الكثير من السوريين إلى الاستغناء عن العديد من الأكلات والأطعمة المفضلة لديهم والاعتماد على الأكلة الشعبية الفول والمسبحة وسندويشة الفلافل المعروفة بطيب مذاقها ورخص ثمنها، لكن يبدو أنها بدأت تبتعد عن جيوبهم الفارغة يوماً بعد آخر، وباتت حلماً بعيد المنال عنهم أيضاً، بعد أن صار ثمنها، بعيدا عن متناول جيوبهم، بسبب استمرار ارتفاع الأسعار الجنوني. سندويشة الفلافل الأكلة الشعبية التي كانت قبل الحرب في متناول أغلب العائلات السورية، ربما ستدخل أخيراً في إطار “التراث غير المادي” لسوريا لتبقى ذكرى للأجيال القادمة!، مجدداً، تلك الأجيال التي لن تصدق يوماً أنّ بلدهم كانت بلد خير.

أتمنى لك شتاء دافئاً مضيئاً

أتمنى لك شتاء دافئاً مضيئاً

إذا كنتَ تريد شراء شجرة ميلاد لهذا العام، فعليك التفكير ملياً عزيزي السوري قبل الإقدام على تلك الخطوة المجازفة، لأنك بذلك تعرض عائلتك لخطر الجوع طوال أشهر.
تظهر علامات الدهشة واضحة على ملامح الشابة رنيم لدى سماعها سعر شجرة الميلاد التي وصلت إلى 550 ألف ليرة أي ما يعادل راتب موظف فئة أولى لمدة ثمانية أشهر. ينهال عليها البائع بسيل من عبارات الترغيب وميزاتها النادرة التي يتقنها البائعون عن ظهر قلب، تقول الشابة:” َساومتُ شجرة سرو بطول 210 أمتار بسعر 5500ألف نخب ممتاز ، بينما الأقل جودة بسعر 175 ألف ليرة سورية، فيما تراوحت أسعار كرات الزينة بين 1000 لغاية 3000آلاف للقطعة الواحدة، للأحجام الصغيرة، أما الحجم الكبير تصل إلى 25 ألف ليرة سورية”.
وعن سبب ارتفاع أسعار الزينة وشجرة الميلاد، يفسر أحد بائعي المحلات في باب توما وسط دمشق، لـ “صالون سوريا” :” قفزت أسعار الزينة وأشجار الميلاد خمسة أضعاف عن العام الماضي، فحينها كان الدولار الواحد يعادل 500 ليرة سورية، أما الآن فوصل إلى 3500، فالشجرة كانت تبلغ 90 ألف أما هذا العام تفوق نصف مليون، وكذلك الأمر بالنسبة للزينة وشرائط الإضاءة وسواها”، يعقب الرجل: “أنه يضطر إلى رفع أسعار بضاعته مع كل صعود للأرز والسكر والزيت، فإن لم يفعل ذلك، فكيف سيعيش” وعن نسبة الإقبال على شراء أشجار العيد هذا العام، يجيب البائع”: أجل، هناك إقبال جيد، نتوقف عن البيع بداية العام الجديد، والبضاعة المتبقية نبيعها السنة المقبلة حسب مزاج الدولار وهكذا”.

عروض مغرية
بائع آخر يقدم عروض مغرية على أشجار الميلاد في محاولة لجذب المزيد من الزبائن وسط تدهور الليرة السورية وانخفاض القدرة الشرائية، يردد الشاب على مسامع الزبائن أسعار الخصومات بالقول: “بدل 700 صارت 450 ألف، كل قطعتين زينة بـ 15 ألف، أكسب العرض”، على وقع أصوات الباعة التي تغص بشوارع سوق القصاع، تسأل جويل عن أسعار شجرة الميلاد لإشباع فضولها، تقول :”الحمد لله أنني احتفظت بشجرتي منذ عامين قبل غلاء الأسعار، كنت سأتهور وأتخلص منها لاهترائها قليلاً، لكن هذا أفضل من دفع نصف مليون”، حال ربا ليس بأفضل، فلم تتكبد أي نفقات هذا العيد، فهي ما زالت تدخر أغراض الزينة والشجرة من السنوات السابقة، تقول:” توقعت ارتفاع الأسعار، لذلك لم أفرط بها أبداً، أنزلتها من العلية ونظفتها وعادت جديدة”.
اما ميرنا، فتخلت كليا عن تقليد شراء شجرة الميلاد منذ سنوات عديدة مضت. يرجع ذلك إلى أسباب عديدة، منها، المادية والنفسية، توضح الشابة” لا نملك شجرة، ونسينا هذا الطقس منذ أكثر من أربع سنوات، قد يكون السبب نظرا لعدم وجود أطفال في المنزل، لكن لا شك في الأمر أنها أصبحت مكلفة جدا، لكن تكمن المشكلة بالجو العام المشحون والمتعب الذي ينعكس على نفسيتنا، لا أحد هنا سعيد، فالوضع الاقتصادي الخانق يؤثر على صحتنا النفسية”.

اريد عاما دافئا
فرضت سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية تغيرات عميقة على ممارسة طقوس عيد الميلاد في سوريا. ففي هذا العام بهتت بهجة العيد فاحتفل السوريين في عماء مظلم وبرد قارس، ما تسببت في بث أجواء من كآبة موحشة وفرحة مقننة. توضح ربى: “لم أشعر بجو العيد، الإنارات مطفئة في الشوارع والظلام يكسو البلاد وكأنها شبح، لم أهناً بمنظر الشجرة المزينة لأن الكهرباء مقطوعة على الدوام، ظلت شجرتي قابعة في زاوية منزوية بالمنزل يلفها حبال من الضوء تنتظر رحمة التيار الكهربائي، افتقد لعيد ميلاد قبل اندلاع الحرب في سوريا”.
“تحول العيد إلى زيارة الكنيسة وأداء واجب الصلاة فقط”، هكذا أصبح العيد بالنسبة لعائلة أم فادي، فيما صار إعداد الحلويات وشراء الشجرة وتزيينها ضمن اللائحة السوداء، تقول” هذا العام الثاني على التوالي، لا أقوم بإعداد البيض الخاص بالعيد والحلويات الآخرى، أصبح في عداد النسيان، كيف سأصنع الحلوى والكهرباء تأتي ساعتين في اليوم الواحد”.
تختصر أم فارس أمنياتها في عيد الميلاد لهذا العام بأن ” تتنعم بالكهرباء والدفء، بينما الأحلام الكبيرة وضعتها على الرف جانباً”، تعقب السيدة الخمسينية: “بدي كهرباء لأقدر شوف قدامي، ومازوت لدفي عظامي”، هذه الأمنية يتشاركها معظم السوريين الذين تحولت أحلامهم إلى كيفية تأمين سبل العيش وتحصيل رزقهم، بينما يبقى حلم السفر خيار وحيد للخلاص والنجاة من الحياة في بلادهم، تعبر الشابة فرح عن أمنيتها الملحة بالسفر” هو طوق النجاة لي، بت أفكر في مواعيد وصل الكهرباء بدل مواعيد امتحانات الجامعة، أرتب مواقيت استحمامي ودراستي على إيقاع التيار الكهربائي”.
تنشر سوزان على أحد مجموعات التواصل الاجتماعي على “فيسبوك” منشوراً تبحث فيه عن شجرة ميلاد مستعملة بسعر مقبول لا يتجاوز 100 ألف ليرة سورية، تقول الشابة لـ “صالون سوريا”: ” لا أملك المال لشراء جديدة، وفي الوقت ذاته لا أريد أن أتخلى عن فكرة الشجرة التي هي تجسد فرحة العيد ، لذلك فكرت بنشر إعلان لشراء واحدة مستعملة، أرسل العديد لي صورا مرفقة بالأسعار وسأختار منها ما يناسب ميزانيتي”، يتبادل أعضاء المجموعة أسعار الأشجار المتداولة في السوق التي وصلت إلى المليون ليرة سورية، تعلق إحداهن على ذلك بالقول:” أفضل قطع عدة أغصان من شجرة الصنوبر في قريتي على أن أدفع هكذا مبلغ”.